• خطبة جمعة
  • 2025-04-11
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

ثقوا بالله

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى أصحاب نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد، وعلى ذريِّة نبينا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: لربما ذهب مريضٌ إلى طبيبٍ، فجلس بين يديه راضياً، وشنَّف آذانه للاستماع إلى توجيهات الطبيب، ثم أخذ الوصفة الطبيَّة شاكراً له، ومُنفِّذاً لتوجيهاته، لماذا؟ لأنه واثقٌ بعلم الطبيب.
ربما جلس طالبٌ بين يدي مُعلِّمه، يستمع إلى كلماته ويتلقفُها ويدوُّنها، ثم يتحدث بها في المجالس، لماذا؟ لأنه واثقٌ بمُعلِّمه.
ربما تجلس في الطائرة، وتستسلم لنومٍ عميق في رحلةٍ طويلة، وأنت مُطمئن، لماذا؟ لأنك واثقٌ من قائد الطائرة، ومن حنكته في القيادة، ومن الشركة الناقلة.
ربما وقع أحدنا في ورطة، فجاءه شخصٌ من أصحاب السلطة والقرار، وقال له: مُشكلتك عندي، ووضع يده على صدره، فينام صاحب المشكلة قرير العين، لماذا؟ لأنه واثقٌ من هذا القوي.
ربما ألقيت يوماً ابنك ذا السنتين في الهواء وهو يضحك، لأنه واثقٌ من أبيه، ويعلم أنَّ يديه لن تخذل ابنه، بل سيتلقَّفه ويضمّه، إنها الثقة، أتكون ثقة البشر بأمثالهم أكثر من ثقتهم بخالقهم جلَّ جلاله؟!

النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة علَّمنا دروساً في الثقة بالله تعالى:
أيُّها الإخوة الأحباب: النبي صلى الله عليه وسلم، في طريق الهجرة، علَّمنا دروساً في الثقة بالله تعالى، وفي الثقة بموعوده، وفي الثقة بنصره، وفي الثقة بكلامه، في بداية طريق الهجرة استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، يقول أبو بكرٍ رضي الله عنه، نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار

{ قلتُ للنَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ونحنُ في الغارِ لو أنَّ أحدَهم ينظُرُ إلى قدميْهِ لأبصرَنا تحتَ قدميْهِ فقالَ يا أبا بَكرٍ ما ظنُّكَ باثنينِ اللَّهُ ثالثُهما }

(أخرجه البخاري ومسلم)

لا تحزن إنَّ الله معنا هذه هي الثقة.
أرسلت قريشٌ بعد ذلك، من يأتي به قبل أن يبلغ المدينة، حيِّاً أو ميِّتاً وله مئة ناقة، تبعه أحد الفرسان المعدودين، سُراقة بن مالك، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت إليه ويقول: كيف بك يا سُراقة إذا لبست سواري كسرى.
مفاد كلامه أنني سأصل المدينة سالماً، وسأؤسِّس فيها دولةً، وسأُنشئ فيها جيشاً، وسأُحارب فيها أكبر امبراطوريةٍ وهي الفُرس، وستأتيني كنوزها، وسيكون لك منها سِوارا كسرى، وهذا ما كان، إنها الثقة.
تابع طريقه، التقى في طريقه ببُريدة الأسلمي، دعاه إلى الإسلام، هو مُطارد يريد أن يبلغ المدينة، وفي طريقه يدعو إلى الله، وينشر الخير، ويثق بموعود الله، فأسلم بُريدة.
قبل أن يصل المدينة بساعات، لقيَ لصّيَن لا يؤبه لهما، ومَن يُلقي بالاً للصّيَن في الطريق، قاطعا طريق، قال مَن أنتما؟ قالا المُهانان، سُمّيا المُهانان لهوانهما على الناس، قال: لا، بل أنتما المُكرمان، تعالا إلي، ودعاهما إلى الإسلام، وبثَّ فيهما الثقة بالله، فأسلما.

أخطر الهزائم أن يُهزم الإنسان من الداخل:
هذا طريق الهجرة، كله ثقةٌ بالله تعالى، وبموعوده جلَّ جلاله، إنَّ أخطر الهزائم أن يُهزم الإنسان من الداخل، أقسى الهزائم أن تموت الذات، أقسى الهزائم على الإنسان أن يموت داخله، وأن يُهزم من الداخل، فالمهزوم أمام نفسه، لا يستطيع أن يواجه نملةً في ساحة الوغى والمعركة، فكيف يواجه عدوُّاً؟ القوة لم تكن يوماً من الخارج، إنما هو قوة أصحاب العقيدة في داخلهم، يوم يحملونها همَّاً ويستعدون للتضحية بالغالي والرخيص في سبيلها.
أول عرضٍ من أعراض الهزيمة النفسية، كيف أنَّ المرض له أعراض، فلو ذهب مريضٌ إلى طبيبٍ، وقال له رأسي تؤلمُني، فلو قال له خُذ حبَّتي مُسكن فهو ليس طبيباً، لأنه يعالج العَرَض، وينبغي أن يعلم ما هو المرض ليعالجه، الهزيمة النفسية مرضٌ خطير، فتك بأمتنا على مدار عقود، بسبب الهزائم المتتالية، التي لم تكن لتكون لولا بُعدنا عن ديننا، هذه الهزيمة لها أعراض، فمن يتصف بهذه الأعراض، فعليه أن يُراجع حساباته، فلربما يكون مهزوماً من داخله، وهذه مُصيبة المصائب.

أول أعراض الهزيمة النفسية اليأس من إمكانية التغيير:
أول أعراض الهزيمة النفسية، اليأس من إمكانية التغيير، هلكنا لن تقوم لنا قائمة، هؤلاء الصهاينة قد جمعوا لنا، يريدون أن يحتلوا أراضينا، أمريكا هي من تحكُم العالم، نحن ذراتٌ في هذه المعركة الكبيرة، نحن وقودها، من نحن؟! هذا اليأس من إمكانية التغيير، هو أكبر أعراض الهزيمة النفسية.

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)
(سورة آل عمران)

يريدون أن يعبثوا بداخلهم، أن يهزموهم من الداخل (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).
اليأس عَرَضٌ خطير من أعراض الهزيمة النفسية، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إذا قال الرجلُ: هلك الناسُ فهو أهلَكُهم. }

(أخرجه مسلم)

قال النووي رحمه الله: هما روايتان، بالرفع وبالنصب، فهو أهلَكَهُم، أي فهو جعلهم هالكين، وهم ليسوا كذلك، الناس لم يهلكوا، (فهو أهلَكُهم) الرواية الشهيرة أي فهو هذا الذي يقول: هلك الناس هو أهلك الناس، لأنه يأس من إمكانية أن يُغيِّر، فلمّا قعد هو أهلك الناس، فالهلاك كل الهلاك أن نيأس.

العَرَض الثاني من أعراض الهزيمة النفسية أن ندافع عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام:
أيُّها الإخوة الأحباب: العَرَض الثاني من أعراض الهزيمة النفسية، أن ندافع عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام، هذا ربعي بن عامر، دخل على رستم، ورستم قائد جيش الفُرس، قال له رستم من أنتم؟ قال: "نحن قومٌ ابتعثنا الله لنُخرِج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
هكذا عرَّف الإسلام، بهذه العزِّة، وبهذه الأنفة، وهو في مجلس قائد جيوش الفُرس، واليوم بعض المسلمين للأسف الشديد، ما إن يسمع شبهةً تُثار حول دينه، إلا ويبدأ بالدفاع، لا من منطق القوة، وإنما من منطق الضعف والتنازل، وكأنه يقول لهم: هوّنوا عليكم، ديننا جيد، ديننا جميل، ليس فيه جهاد، ليس فيه قوة، نحن سلام وأمن واستقرار، من منطق ضعف لا من منطق قوة، لا يقول هذا ديني، حتى إنه إذا رفض أن يصافح امرأةً، فإنه يتعلَّل بعللٍ أُخرى، غير أن يقول ديني يأمرني أن لا أفعل، النظر إلى الإسلام على أنه ضعيف، نريد أن ندافع عنه لضعفه، هذه مصيبة، نحن ندافع عن ديننا نعم، ونردّ عنه كيد الكائدين، لكن ليس لأنه ضعيف، ولكن لأننا أقوياء به.
أيُّها الإخوة الأحباب: كل يوم على وسائل الإعلام، هناك شُبهة تُثار حول ديننا، تارةً يُقال لكَ ظَلَم المرأة، وتارةً يُقال لك يُبعدك عن الحياة، وتارةً يُقال لك الإسلام دين الإرهاب، يوم تمسَّك المسلمون بدينهم حقَّاً، ما أنتج الإسلام إرهاباً، أنتج حضارةً شهدت لها الدنيا كلها، أفيُنتج إرهاباً وأهله ضعفاء؟!
أيُّها الإخوة الأحباب: لا ندافع عن ديننا بالتنازل، من أجل أن نُرضي الآخرين، من أجل أن يرضى الغرب، ندخل إليهم ونحن نتنازل عن ديننا شيئاً فشيئا

إِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا(73) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)
(سورة الإسراء)

نحن لا نتنازل عن ديننا حتى يتخذنا الغرب أخلّاء، نحن نعتز بديننا إلى أبعد الحدود، وأمّا عندما نشعر بأننا ندافع عن الإسلام وهو في قفص الاتهام، فهذه هزيمةٌ نفسية.

العَرَض الثالث السلبية القاتلة:
العَرَض الثالث، السلبية القاتلة، مسلم سلبي لا يتحرك، لا يُحرِّك ساكناً، دع الناس، دع الشأن العام، دعهم وما يريدون، ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قطَّاع الرؤوس، دعك منهم لا نريد أن نتدخل، سلبية، أُصلَّي فقط في المحراب، لكن أنا ليس لي علاقة بالمجتمع، سلبيةٌ قاتلة، هذا عَرَضٌ من أعراض الهزيمة النفسية، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً، وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. }

(صحيح البخاري)

لا تكن سلبياً (بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً)، (بَلِّغُوا) تكليف، (عَنِّي) تشريف، (ولو آيَةً) تخفيف.
(بَلِّغُوا) تكليفٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت مكلَّفٌ أن تُبلِّغ الرسالة، (عَنِّي) تشريف، فالبلاغ شرفه من شرف المُبلَّغ عنه، وأنت تُبلِّغ عن رسول الله، فتقول قال الله كما جاءنا في الوحي عن رسول الله، وتقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولو آيَةً) تخفيف، لعلَّك مُنشغِل، لعلَّك لا تُتقن التبليغ كما ينبغي، آيةٌ واحدة، في بيتك، بين زوجك وأولادك، مع شريكك في العمل، مع إخوتك، (بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً)، تكليفٌ وتخفيفٌ وتشريف.
أيُّها الإخوة: يقول صلى الله عليه وسلم:

{ أَوَّلُ مَن بَدَأَ بالخُطْبَةِ يَومَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوانُ. فَقامَ إلَيْهِ رَجُلٌ، فقالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ، فقالَ: قدْ تُرِكَ ما هُنالِكَ، فقالَ أبو سَعِيدٍ: أمَّا هذا فقَدْ قَضَى ما عليه سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ. }

(صحيح مسلم)

لا تكن سلبياً، في عملك، في مكتبك، في تجارتك، في بيتك، غيِّر بيدك، أزِل المُنكر، لا تسمح بمنكرٍ في بيتك، لا تسمح بشاشةٍ مفتوحةٍ في بيتك دون انضباط، لا تسمح باختلاطٍ في معملك، هذا ميدانك بيتك وعملك، غيِّر بيدك، قال: (فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ) في مكانٍ عام لا تستطيع أن تُغيِّر بيدك، لكن لك أن تنصح زميلك في العمل، لك أن تنصح رجلاً في المسجد، في الشارع تعرفه، تعرف أنه يستجيب للنصح، (فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ) لا تكن سلبياً، ولو كان التغيير في داخلك (وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ).
يقولون اليوم في العُرف الحديث، إذا أرادوا أن يُعبِّروا عن أنَّ الأمة جميعها همٌّ واحد، وأملٌ واحد، وألمٌ واحد، يقولون: نحن في قاربٍ واحد، وقد سبق النبي صلى الله عليه وسلم فعبَّر عن هذا المعنى فقال، وانظروا في الحديث، قال:

{ مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا. }

(أخرجه البخاري والترمذي وأحمد)

القائم على حدود الله، رجُلٌ لا يسمح باختراق حدٍّ من حدود الله، بانتهاك حُرمةٍ من حُرمات الله، قال: (والواقِعِ فيها) الذي يقع فيما حرَّمه الله، (كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ) قُرعة، من يجلس في الطابق العلوي، ومن يجلس في الطابق السفلي، سفينةٌ ذاتُ طابقين، (اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ) ألقوا سهامهم قُرعة، (فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها) البعض كان نصيبهم في القُرعة الطابق العلوي، (وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا) نحن لن نتدخل في حصّتكم، نحن ضمن الحصة التي هي لنا، سنخرق خرقاً في السفينة حتى نأخذ من ماء البحر، (فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا) نحن في قاربٍ واحد، (وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا) أنت تُنجي أخاك عندما تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر، إمّا أن ننجو معاً أو أن نغرق معاً، هذه هي المعادلة، نحن في قاربٍ واحد.

من أعراض الهزيمة النفسية التقليد الأعمى:
أيُّها الإخوة الأحباب: ومن أعراض الهزيمة النفسية التقليد الأعمى، أنا لا ألوم الغرب في تخطيطهم، لكن ألوم المسلم المفتون.

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110)
(سورة آل عمران)

الغرب بنى مواطناً صالحاً، أنا لا أُنكر، مواطناً يصلح للمواطنة، يدفع الضرائب، لا يُلقي من نافذة السيارة المنديل، يقف على إشارة المرور لا يتخطَّاها، بنى مواطناً صالحاً، وهذه القيَم يجب أن نتمثلها ونأخذها لا حرَج، بل نُحب أن تكون بلادنا كذلك، لكنه لم يبنِ إنساناً صالحاً، فهو صالحٌ للمواطنة، لكنه لا يُصلِح علاقته بربّه، ولا بأخيه الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها.
غزَّة اليوم تُقصف، تُباد على مرأى العالم، أين الصالحون؟ أين الغرب؟ نعم خرجت بعض المظاهرات في الغرب، لكن أين الكلمة التي تُسقِط حكومات من أجل غزَّة؟ هم انتخبوا حُكَّامهم، يقولون: نحن ننتخب ونُسقِط، لماذا لا تُسقَط حكومات من أجل غزَّة التي تُباد؟! لأنَّ المواطن صالح لكن الإنسان ليس صالحاً، تتحرك فطرته أحياناً لا نُنكر ذلك، يهوله ما يرى من هول الإجرام، وفق صمتٍ عالميٍ، لا أقول مُريب، فهو واضح بأنها حربٌ على كل من يقول لا إله إلا الله، لكن لا يتحركون حركةً تؤدّي إلى إيقاف هذا الإجرام حقيقةً، وإنما هي مُجرَّد مُسكِّنات، حتى ينتهي هؤلاء الأوغاد من مشروعهم الغادر.
فالغرب بنى مواطناً لكنه لم يبنِ إنساناً، الإسلام بنى الإنسان الصالح، ليست المشكلة في أن أُلقي المنديل من نافذة السيارة، مع أنه غلط ولا نُحبُّه في بلادنا، ونرجو أن نلتزم بالنظافة، لكن منظومة متكاملة في الإسلام.

من أعراض الهزيمة النفسية النظرة الضيقة للزمان والمكان:
أيُّها الإخوة الأحباب: آخر الأعراض للهزيمة النفسية، النظرة الضيقة للزمان والمكان، نحن أيُّها الكرام أُمَّةٌ عشنا في ظل الإسلام زماناً، تُرفع راياتنا وتَخفُق، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد الخلفاء الأربعة، إلى عهد بني أُمية والعباسيين، ثم بعدهم العثمانيون، في كل تاريخ يوجد أخطاء، لا نقول إنَّ التاريخ وردي، ليس فيه خطأ نهائياً، كل الدنيا، لكن لمّا كنّا لنا دولة ولنا تاريخ ونحكُم الدنيا، حكمناها بالعدل.
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
{ سعد بن محمد التميمي }
لكن في المئة سنة الأخيرة تحديداً لم يعُد لنا دولة، ولم يعُد لنا قوةٌ نحتمي إليها، فتسلَّط علينا الغرب، وتسلَّط علينا الأعداء والصهاينة والأمريكان وغيرهم، بسبب ضعفنا، فأن ننظر إلى الزمان والمكان نظرةً ضيقة لا نخرج منها، كمن يضع يديه على عينيه وينظر هكذا، دون بُعدٍ تاريخي فيُصاب بالإحباط، نصيبنا أننا في هذه المئة عام، قَدرُنا، لعلَّ الله عزَّ وجل يريد أن نُظهِر أحسن ما فينا، أن يرقى بنا إليه، أن يُكفِّر عنّا من خطايانا، لكن تاريخنا ليس كذلك، ألف وأربعمئة سنة، ألف وثلاثمئة منها كنّا في أحسن حال، لكن لا ننظر إلى الزمان والمكان نظرةً ضيقة، هذه الأمة تعرضت لنكبات، وخرجت منها أقوى وأقوى.

النكبات التي تعرضت لها الأمة وخرجت منها أقوى:
التتار هجموا على المسلمين، لم تقُم صلاةٌ واحدةٌ في بغداد أربعين يوماً، المساجد أُغلقت لا يوجد صلاة، إلا من يُصلّي مُتخفّياً في بيته، أربعين يوماً، كان المسلم يقف أمام التتري فيقول له: انتظر حتى آتي بسلاحي، فينتظره حتى يأتي ليقتله، لهذا الحدّ وصلت الهزيمة النفسية، ثم غيَّر الله الواقع وبدَّل الحال.
الصليبيون هجموا على المسجد الأقصى، واحدٌ وتسعون عاماً، مُنع المسلمون من الصلاة في المسجد الأقصى، ثم هيّأ الله تعالى من حرَّره وأعاده إلى ديار المسلمين، وسيُهيّئ الله تعالى من يُحرِّره اليوم ويُعيده، هذه سُنَّة الله، وهذا وعد الله الذي لا يتخلَّف.
القرامطة هجموا على المسلمين وهم حول الكعبة، هجموا على المسلمين وهم يطوفون حول الكعبة بملابس الإحرام، فقتلوا منهم من قتلوا، ودخل أبو طاهر القرمطي، وليس له من الطهارة شيء، وانتزع الحجر الأسود من مكانه، ورفع رأسه إلى السماء يقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجّيل؟ يتحدى، ثم أهلكه الله، وبقي الحجر الأسود عشرين عاماً بعيداً عن الكعبة، ثم أُعيد إليها وعاد المسلمون ليطوفوا حول الكعبة.
أيُّها الإخوة: البعض يقول اليوم وصلنا إلى أسوأ حال، لا، الأمة فيها صحوة اليوم، فيها مساجد، فيها شباب، لسنا في أسوأ حال، لكن نحن في أسوأ حالٍ من حيث التخاذل، نحن من تداعي الأمم علينا في أسوأ حال، لكننا كأفراد وأُسر، والله لسنا في أسوأ حال، ولله الحمد والمِنَّة، نحن نعي الحلال والحرام، نخاف ربنا، نتعاون على الخير، فينا من الصفات ما فينا من الخير، نحتاج إلى أن نُنمّيها، لكن نحن في أسوأ حال، لأنَّ الأُمم قد تداعت علينا، ولهذا التخاذل غير المسبوق، من كل حكومات الأرض التي تخشى هذا الكيان الغاصب، الذي لو نفخوا عليه نفخةً واحدة لطار.
أيُّها الإخوة الأحباب:
لَئِن عَرَفَ التَّأرِيخُ أَوساً وَخَزرَجاً فَللهِ أَوسٌ قَادِمُونَ وَخزَرَجُ وَإِنَّ كُنـوزَ الغَيـبِ تُفضي طَـلائِعاً حُـرَّةً رَغـمَ المكـائِد تَـخرُجُ
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم عليك بعدوّهم فإنهم لا يُعجزونك.
اللهم احصهم عدداً واقتلهم بددا، ولا تغادر فيهم ومنهم أحداً.
اللهم مُجري السحاب مُنزِل الكتاب هازِم الأحزاب سريع الحساب، اهزم الصهاينة ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم يا رب، أهلنا في غزَّة أطعمهم من جوع، واكسُهم من عُري، وآمنهم من خوف، واجعل لهم من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، وألهمنا سبيلاً لعونهم وإغاثتهم والوقوف معهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلادنا أمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم.
وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.