مال اليتيم - الكتب السماوية

  • اللقاء الثاني والعشرون من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 152- 157
  • 2024-05-04

مال اليتيم - الكتب السماوية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد فهذا هو اللقاء الثاني والعشرون من لقاءات سورة الأنعام، ومع الآية الثانية والخمسين بعد المائة، وهي قوله تعالى:

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
(سورة الأنعام)

هذه الآية تُكمِل الآية التي قبلها، وقد قلنا إنَّ هذه الآيات تتحدث عن ما يُسمّى الوصايا العشر في القرآن الكريم، فهي خمس وصايا في الآية مائة وواحد وخمسين من الأنعام:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
(سورة الأنعام)

الوصية الأولى التوحيد، عدم الشرك بالله، والثانية هي الإحسان إلى الوالدين، والثالثة فهي النهي عن قتل الأولاد من الفقر الذي يحلُّ بأهلهم، والرابعة وهي النهي عن أن يَقرَب الإنسان الفواحش ما ظهر منها وما بطَن، والخامسة النهي عن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ، وختم هذه الوصايا الخمس بقوله: (ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لأنَّ هذه الأفعال كان العرب يفعلونها، أو يفعلها بعضهم في الجاهلية كقتل الأولاد من الفقر، وغيرها كان يفعلها العرب فخاطبهم بمقتضى العقل السليم، فلو كنتم تعقلون الأشياء على حقيقتها، وتكيلون الأمور بميزانٍ منطقيٍ فحسب لما فعلتم ذلك.

الوصية السادسة الحرص على مال اليتم والنهي عن مقاربته:
الأمور الأربعة الآن هي (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) إذاً الوصية السادسة (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وما قال ولا تأكلوا مال اليتم، وإنما قال ولا تقربوا، فالنهي عن الاقتراب من الشيء أبلغ من النهي عن مقاربته، النهي عن مقاربته أي لا ينبغي أن يخطر لك ببال أن تأكل مال اليتم أو أن تأخذ منه، لأنَّ اليتيم ضعيفٌ لا سند له، فكان النهي أبلغ، النهي عن أموال الناس جميعاً مطلوب، لكن اليتيم لا سند له، ولا يستطيع أن يُحاسبك، أو أن يقوى على محاسبتك أصلاً، لصغر سنِّه وعدم خبرته ودرايته بالسوق، فلذلك كان النهي هنا بلا تقربوا.

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
(سورة الإسراء)

كما ورد في مكانٍ آخر من كتاب الله (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) لأنَّ الزِنا له مُقدِّمات، فمن اقترب من الاختلاط غير المنضبط، أو المصافحة، أو بالنظر المُحرَّم، فجاء النهي عن مُقدِّمات الزِنا، لأنَّ المعصية هنا لها ودش شديد يختطف الإنسان، كما تقول لا تقربوا التيار الكهربائي لأنه توترٌ عالٍ، ولا نقول لا تلمسه، هذا منهيٌ عنه من باب أولى، ولكن تنهى عن الاقتراب منه كي لا يجذِبُك إليه، هنا (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ) نهيٌ أبلغ من لا تأكلوا مال اليتيم، فالأكل مرفوض قطعاً، لكن ولا تقرب ماله أبداً.

الحرص على مال اليتيم بأن يحفظ له أصله ويُثمّر له فرعه:
قال: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولم يقل بالحسَن بل قال وإنما الأحسن، قوله تعالى:

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)
(سورة البقرة)

لكن عندما قال:

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
(سورة العنكبوت)

لأنَّ المُخالف لك يربط فكرته بذاته، فإذا واجهته بغير ما هو أحسن، اشتدَّ تعلّقه بفكرته أكثر فأكثر، أمّا إذا انتقيت من الكلام أحسنه، فإنك تُلجِئه إلى قبول الحقّ الذي عندك، فقال:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، يعني لو كان هناك كلمتان كلتاهما حسنتان، لكن واحدةً منهما أحسن من الأُخرى، فخُذ الأحسن ودَع الحَسَن، وهنا قال: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني أحسن طريقة لتشغيل ماله، وهي أن تُحافظ على أصله وأن تُثمِّر فرعه، بأن تُنفق عليه لا من أصل المال وإنما من ثمرة المال، فبذلك يُحفَظ له أصل المال، أمّا لو لم تقرب ماله أبداً، ووضعته في صندوق، وأنفقت عليه منه، فإنك بذلك تقضي على ماله بعد حين، أو على جزءٍ كبيرٍ من ماله، فينبغي أن تقربه ولكن بالتي هي أحسن، وبالتي هي أحسن تشمل أيضاً أن لا تضعه في تجارةٍ يغلب على ظنّك خُسرانها، فتجعله رديئةً لمالك، يعني تتقي به تجارةً، يعني إن وجدت تجارةً غير مُتأكدٍ منها، بعيدة عن مجال عملك الذي أنت متقنٌ له من سنوات عديدة، وتأكل منه، جاءتك تجارة قلت أضع فيها مال اليتيم، ثم أنا بريء خسِرَت ماذا أفعل؟ لا لست بريئاً لأنَّ هذا ليس هو الأحسن، كان ينبغي أن تضع أمواله مع مالك الذي تستثمره ويربح، وتعلم أنَه غالباً يربح.
هذا من معاني (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) تثمير المال بحيث يبقى أصله، وتُنفق على اليتيم من أرباحه، أو من بعض أرباحه، بحيث تُنمّي له ماله، وعند جمهور الفقهاء تجِب الزكاة في مال اليتيم، لذلك كان يقول عمر رضي الله عنه " اتجِّروا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة" يعني إذا كل سنة ستدفع له اثنان ونصف بالمائة من ماله المُجمَّد فأكلت الصدقة المال، أمّا إذا اتجّرت به، فالآن تُخرِج الزكاة وتُطعمه منه، وقد يزيد له من الربح أيضاً، وتحفظ له أصل ماله، هذا من معاني (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

متى يبلغ اليتيم أشدَّه؟
قال:( حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ماذا يحصل؟ تدفع له ماله، يعني هنا كلام محبور، حتى يبلغ أشدَّه فادفعوا له ماله كما ورَد تفصيل ذلك في سورة النساء:

وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
(سورة النساء)

(حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) هذه القوة البدنية، (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا) خبرةً في السوق والعمل التجاري (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، لمّا نزلت الآيات في سورة النساء، شقَّ ذلك على الناس الذين عندهم أيتام، حتى من شدّة تنفيذهم لأمر الله عزلوا مال اليتيم عن مالهم، حتى عزلوا طعامه عن طعامهم، فصاروا يَدعون له طعامه فلا يأكله فيفسُد لكن لا يقربوه أبداً، فبيَّن الله تعالى أنَّه يجوز أن تخلط مالك مع ماله إذا كان في ذلك إصلاحٌ لماله، فقال تعالى: (وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا كنت تشغل وقتك في تثمير ماله، فكُلْ من ماله بالمعروف، يعني بالحدّ الأدنى الذي يُقيم حياتك وكأنك تأخذ أجرك، قال العلماء بالمعروف تأخذ أجراً مثل الأقل، يعني إذا كان بالسوق إنسان يُريد أن يُثمِّر هذا المال كم يأخذ؟ تأخذ المثل، أقل شيء ممكن.
(حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) يبلغ أشدَّه بالقوة البدنية (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ)، وبالقوة الفكرية العملياتية، خبرة الاثنان معاً بلغ أشدَّه بهما، ذهب الفقهاء ليُحدّدوا السن قال البعض: ثماني عشر سنة، قال البعض: بعد سن البلوغ، قال البعض: خمسٌ وعشرون سنة، الحقيقة أنَّ القرآن لم يُحدّد السنة لأنَّ الناس يختلفون، قد تجد شاب من الثمانية عشر سنة ممكن أن تدفع له ماله ويستثمره أحسن منك، عنده خبرة، فتدفعه، وممكن شاب صار عمره ثمانية عشر سنة وهو طالب ثانوية عامة، ودخل الجامعة وهو ما عنده خبرة في السوق، فتنتظر حتى يبلغ الخامسة وعشرين سنة وهكذا، فالأمر(وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ) يعني امتحِنهم، قل له: انظُر، لأنه إذا أعطيته ماله وبلغ النكاح، ولم يتزوج بعد وأعطيته ماله، بمجرد البلوغ قد ينفقه على شهواته، ولا يُبقِ شيئاً لنفسه منه، فتُرِك الأمر لك يا ولي اليتيم، أو للقاضي، أو للحَكَم، أو لمن يرتضيه أهل اليتيم حتى يتبيَّن أنَّ هذا الشخص بلغ مبلغ الرجولة، وأصبح قادراً على إدارة ماله بنفسه، وهذا يختلف باختلاف البيئات والظروف والأشخاص ( حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

الوصية السابعة الوفاء بالكيل والميزان والعدل فيهما:
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) الوصية السابعة من الوصايا العشر(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) الوفاء أن تُعطي الشيء كاملاً غير منقوص، الكيل للأشياء المكيلة المُعتمِدة على الحبوب مثلاً، الحليب، بعض السوائل، والميزان للأشياء التي تعتمد على الكثافة، إذاً في كُلٍّ وزنان، ويوجد المقياس الذي يعتمد على المتر، قماش مثلاً.
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل، والحاجة بحسبها يكون ميزانها، يعني إذا ذهبت لتشتري كيلو عدس، فالميزان المعروف يوزَن به، واليوم يوجد ميزان الكتروني أدق، وسابقاً كان ميزان عادي له كِفَّتان، إذا ذهبت لتشتري خروف، فكانوا يضعونه على ما يُسمّونه القبَّان، يعني هذا إذا كيليين زيادة أو كيليين نقصان، يعني الخروف أكل زيادة أو شرب قبل بيوم، فيزيد أو ينقُص بين الستين كيلو والاثنان والستين كيلو فهذا فيه تسامح، إلا أن يكون هناك شيءٌ مقصود من قِبل الراعي، كأن يُسمِّن العجل قبل ذبحه بماءٍ يشربه، هذا طبعا لا يجوز لأنه أصبح فيه نيِّة غشّ، فالميزان بحسب الموزون، إذا كان تريد أن توزِن ذهب، فتضع الميزان الدقيق جدّاً، وتضع حوله زجاج حتى لا يُؤثِر الهواء به لأنَّ الوزن بالغرامات، فكل موزون يوزَن بحسب قيمته ونفاسته، فقال: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) لكن رغم ذلك مع اختلاف الموازين، القِسط العدل التام، العدل المُطلق لله وحده، فقال: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) يعني استنفِذ وسعك في العدل، في الكيل والميزان، لكن أحياناً أجزاء من الغرام بالذهب ممكن أن لا تكون صحيحة لسبب أو لآخر، أجزاء من الغرام، بالكيلو ممكن غرامان، الوزن مائة كيلو ممكن كيلو، (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) تخفيفاً على الناس قال: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، لكن هذا الوسع ينبغي أن تستنفِذ الجهد فيه، وليس لإنسانٍ إذا كان الكيل له، فيضع المكيل ويضع فوقه الكيل ويمسكه بيده حتى لا يسقُط، وإذا كان بالعكس لا يهتم، بل تضعه كاملاً وبشكلٍ واضح، وتعتني بقوله تعالى:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
(سورة المطففين)

إذا كان له يقول له أُريده كاملاً.

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
(سورة المطففين)

انظُر كيف جاء اليوم العظيم مع التطفيف في حقوق العباد، التطفيف في حقوق العباد زيادةً أو نقصاً،(لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، لا تعني أبداً التهاون، وإنما تعني فتح باب الرحمة في الأمور التي لا يملكها الإنسان، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قضية الزواج، تعدد الزوجات قال:

{ اللهم هذا قَسْمي فيما أملِكُ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ - يعني القلبَ - . }

(أخرجه أبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد)

أنا لا أستطيع أن أعدِل بين زوجتين، بحيث أُكنّ لكل واحدةٍ منهما الحُبَّ نفسه، وأواجه كل واحدةٍ منهما بالكلام الطيِّب نفسه، هذا فوق طاقتي، لأنَّ الإنسان يميل قليلاً، لكن ما يستطيعه أن يبيت عند هذه ليلة وعند هذه ليلة، ما يستطيعه أن يُنفق مائة هنا ومائة هنا، ما يستطيعه أن يُهدي هذه و يُهدي هذه وإن كان يُحبُّها أقل من الزوجة الثانية، ما يستطيعه أن يدخل البيت في الحالتين باسِماً، لا يدخل هذا باسِماً وذاك مُكشِّراً، قال: (هذا قَسْمي فيما أملِكُ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ) فالعدل المُطلق عند البشر مستحيل لا يوجد عدل، العدل المُطلق عند خالق البشر جلَّ جلاله، أمّا نحن فنحرص على العدل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً،(لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

الوصية الثامنة العدل في القول:
الوصية الثامنة (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) العدل في القول، ولو كان الذي تتكلم الكلام بحقه، يعني تحكُم عليه لا له ولو كان قريباً منك، قرابةً نسبيةً أو صداقةً أو شريكاً هذه القرابة، (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) وأوصانا النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث:

{ أوصاني خليلي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخصالٍ مِن الخيرِ:أوصاني بألَّا أنظُرَ إلى مَن هو فوقي وأنْ أنظُرَ إلى مَن هو دوني وأوصاني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم وأوصاني أنْ أصِلَ رحِمي وإنْ أدبَرتْ وأوصاني ألَّا أخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ وأوصاني أنْ أقولَ الحقَّ وإنْ كان مُرًّا وأوصاني أنْ أُكثِرَ مِن قولِ: لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ فإنَّها كنزٌ مِن كنوزُ الجنَّةِ( }

(أخرجه ابن حبان في صحيحه)

(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ).

الوصية التاسعة الوفاء بعهد الإيمان بالله والطاعة له:
الوصية التاسعة (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) وأعظم العهود مع الله عهد الإيمان به، وعهد الطاعة له، ثم ما يكون بينك وبين الله من عهود، تُعاهده على الصلاة، تُعاهده على الاستقامة على أمر الله، ثم ما يكون بينك وبين عباد الله من العهود.
(ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ذلكم أي ما سبق، وجاء هنا تذكَّرون لأنَّ هذه الأمور كانت تعرفها العرب وتعرف أنها، بل كان بعض العرب يتباهون بصنيعها، فيعتنون بالأيتام، العرب عندهم عناية باليتيم، كان عند كثيرٍ منهم وفاء بالكيل والميزان، كان العربي يقول كلمة الحقّ ولو على نفسه، كان كثيرٌ من العرب يوفون بالعهود، وإن كان ليس العهد الإيمان والتوحيد الذي نريده، ولكن بشكل عام الوفاء بالعهد، فجاء ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، يعني هذه الأمور تفهمونها، تحتاجون إلى تذكُّرِها وتصحيح مسارها، أمّا الخمسة الأولى فتحتاج إلى العقل فقط، لأنكم لا تفعلونها.

الوصية العاشرة تقوى الله باتباع سبيله:
وأمّا الوصية العاشرة فجاءت بآيةٍ مُنفردة لتجمع ما سبق قال:

وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(سورة الأنعام)

جاءت بالتقوى، لأنَّ التقوى أعظم الأمر، وهذا ختام الوصايا، وهي الوصية الجامعة لِما سبق، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) قال بعض المفسرين: هنا يوجد لا المحذوفة، يعني ولأنَّ هذا صراطي مستقيماً، فاتبعوه ولا تّتبِعوا السُبل، وقال بعضهم بل هي تتمة لِما قبلها (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) من هذا الذي أتلوه (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)، والمعنيان صحيحان، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا)، كما في كتُب الحديث:

{ خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ }

(أخرجه النسائي وأحمد)

فجاءت السبيل مُفردة لبيان أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتعدد، ولو تعددت طُرق الوصول إليه لكنه واحد، وهو كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك حقّان، ولذلك قالوا: " الحرب بين حقّين لا تكون" لأنَّ الحقَّ واحد لا يتعدد، " وبين حقٍ وباطلٍ لا تطول" لأنَّ الله تعالى مع الحقّ فينصُره، " وبين باطلين لا تنتهي" لأنَّ الأمر متروكٌ إلى العُدَّة والعتاد، وكل طرفٍ يقوى فيُعيد الكَرّة على الأول وهكذا.
(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، السُبل جمع والسبيل مُفرد، (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذه هي الوصايا العشر التي قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما فيها: " إنه لم يأتِ شيءٌ من الكتب نسخها" يعني هذه جاءت في كل الكتب السماوية ولم تُنسخ، يعني هذه الوصايا لا تقبل النسخ، يعني لا يكون الأمر لا تقربوا مال اليتيم، ثم يأتي اقربوا مال اليتيم، هذه أوامر ثابتة في كل الشرائع، وقال: "هي من أُمِّ الكتاب"، وقال كعب الأحبار يوم أسلم قال: "هي في التوراة قرأتها في التوراة"، يعني جاءت في كل الكتب السماوية هذه الوصايا العشر، فمَن استكملها كما جاء عن ابن عباس دخل الجنَّة، وآخِرُها يجمع ما لم يرِد فيها، يعني كل شيء في صراط الله مُستقيم، الصِراط هو الطريق الواسع، (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

من تمام نعمة الله على عباده أنه آتى موسى الكتاب:
ثم يقول المولى جلَّ جلاله:

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
(سورة الأنعام)

هذه الثُمَّ في الأصل تُفيد الترتيب، ترتيب الحدث، يعني تقول جاء سامر ثم أحمد، يعني دخل سامر وبعد عشر دقائق الترتيب على التراخي دخل أحمد، سامر فأحمد يعني للترتيب على التعقيب، سامر وفوراً بعده أحمد، هذا ترتيب أحداث، فهُنا (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) موسى أوتيَّ الكتاب قبل محمد صلى الله عليه وسلم، هنا ليس الترتيب للأحداث، وإنما الترتيب للإخبار، كأن يكون هناك حدثان، واحد جرى السبت والآخر الأحد، فأخبرتك بالحدث الذي جرى الأحد، ثم أخبرتك بالحدث الذي جرى السبت، فأنا إخباري لك هذا ترتيبه، لكن الحدث ليس هذا ترتيبه، ثم تأتي لترتيب الأحداث، وتأتي لترتيب الإخبار بالأحداث، فهُنا الترتيب إخباري وليس لترتيب الأحداث، (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) تمام النعمة.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)
(سورة المائدة)

فمن تمام نعمة الله على عباده أنه آتى موسى الكتاب، أي التوراة هنا، الكتاب إذا أُطلِقت يعني القرآن الكريم، لكن إذا قُيَّدت بموسى فهي التوراة، بعيسى فهي الإنجيل.
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) هنا لطيفة من اللطائف، أنَّ هذه الوصايا العشر كما ذكرت لكم ورَدت في التوراة، كما قال كعب الأحبار، فجاء ذكر موسى عَقِب الوصايا العشر.
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يعني على المُحسنين، من تمام نعمة الله تعالى على المُحسنين المؤمنين به، لأنَّ الكتاب ينزل فيكون فيه شفاءٌ للمؤمنين.

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
(سورة الإسراء)

فهو نعمةٌ للمؤمنين به.

القرآن الكريم تمام النعمة والهداية وهو منهج كامل:
(تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) يعني لكل شيءٍ يكون فيه سعادة الناس في أمر دنياهم وأُخراهم، وليس كل شيء بمعنى أنه لو بحثت في التوراة عن عِلم الفلَك لوجدته، ولا في القرآن كما يتوهَّم البعض، أنَّ القرآن فيه تفصيل كل شيء، ليس المقصود كل شيء بمعنى أنه أُريد أن أبحث عن علوم الفيزياء، هناك إشارات علمية في القرآن الكريم ذكرها المولى جلَّ جلاله، إشارات إعجازية، لكن القرآن الكريم هو تمام النعمة والهداية وتفصيل كل شيء، يُقرِّبنا من الجنَّة أو يُبعدُنا عن النار، قال صلى الله عليه وسلم:

{ ما تركت من شيءٍ يقربُكم إلى الجنةِ إلا وقد حدثتكم به، ولا تركتُ من شيءٍ يبعدُكم عن النارِ إلا وقد حدثتكم به }

(الألباني إسناده صحيح)

فالقرآن بهذا المعنى يُفصِل كل شيء، والتوراة فصَّلت كل شيء، فمنهج الله كامل.
(وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) هُدى، يهديهم إلى طريق الرشاد، ورحمة يملئ قلوبهم سعادةً وسكينةً وحُبّاً، (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) فالقرآن يُذكَّرك بالبعث والوقوف بين يدي الله تعالى.

القرآن الكريم مبارك كَثُر خيره:

وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
(سورة الأنعام)

وهذا يعني القرآن الكريم، (مُبَارَكٌ) ما معنى مبارك؟ كَثُر خيرُه، هو كريم تزيدُه تدبُّراً فيزيدك عطاءً، تزيدُه قراءةً فيزيدك سَكينةً، ومُبارك بمعنى أنَّ خيره عميم، لا يَخرق على كثرة الرد، كلما أردت شيئاً وجدت بُغيتك في كتاب الله تعالى فهو مُبارك، كَثُر خيره، (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) اتبعوا القرآن واتقوا الله، لعلكم، أي رجاء أن يرحمكم الله تعالى بهذا القرآن الكريم.

نزل القرآن ليقطع الحُجَّة بأنه أُنزل على الذين من قبلنا:

أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
(سورة الأنعام)

(أَن تَقُولُوا) أي أُنزِل هذا الكتاب ليقطع عذركم وحُجَّتكم، لئلا تقولوا(أَن تَقُولُوا) يعني لئلا تقولوا (إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا) طائفتين كبيرتين وهما اليهود والنصارى، فأنزل الله عليكم الكتاب لئلا يقول قائلٌ منكم نحن قومٌ لسنا أهل كتاب، نحن قومٌ أُميِّون لم يُنزَّل علينا كتاب، الآن القرآن يدخل بأعماق النفس، النفس عندما تريد أن تترك الحقّ وأن تُعرِض عنه تتخذ أعذاراً، من أعذارها أن يقول قائل الكتاب أُنزِل على مَن كان قبلنا، أمّا نحن لسنا أصحاب كتاب، هُم أهل الكتاب، نحن لسنا أصحاب كتاب، فقال تعالى:(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) هذا منهجك بين يديك، مثل طفل يقول لوالده: أنت لم تشترِ لي حاسوب، لو اشتريت لي حاسوباً كنت درست، أخي أحضرت له حاسب فدرَس ونجح، أمّا أنا لم تشترِ لي، فقال له خُذ هذا حاسب، ادرُس وانجح.
(أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) عن دراسة كُتب هذه الجماعات التي قبلنا كُنّا غافلين، لم نقرأ كُتبهم.

القرآن الكريم أعظم الكتب وأشرفها:
أو تقولوا العذر الثاني:

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)
(سورة الأنعام)

هذا عُذر ثاني يصطنعه الإنسان، عندما يُقصِر يقول لك: أنا لو كان معي مال لكنت بنيت مسجداً أكبر من الذي بناه هو، هكذا الإنسان يُحب أن يُجادل.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
(سورة الكهف)

تقول له مثلاً أنت لماذا لا تقوم الليل؟ يقول لك أنا لو مثله ليس لدي عمل في الصباح باكراً لكنت صلّيت، يعني يضع عُذراً لتقصيره دائماً، فيقول تعالى هنا ليقطع العُذر على العرب، قال: (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، جاءكم، أرسل الله إليكم القرآن الكريم، بل هو أعظم الكتب وأشرفُها، وجاء مُهيمناً على ما قبله، وناسخاً لكل ما سبق، فأنتم الآن أصحاب الكتاب، هُم أهل الكتاب وأنتم اليوم من أهل الله، أهل القرآن وخاصته.
(فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ) بعد البينات، يعني لا يوجد من أظلم، هذا استفهام إقراري تقريري، بمعنى لا يوجد أظلم ممن كذَّب بآيات الله، البينات واضحة، القرآن بين يدينا، هُدىً ورحمةً وبيان وتفصيل لكل شيء.

التهديد والوعيد لمن انصرَف عن آيات الله وصَرَف الناس عنها:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) صَدَف عنها يعني أعرض عنها، انصرف عنها، أو صرف غيره عنها، يعني نحن عندنا الأفعال في اللغة العربية إمّا أن تكون لازمةً أو مُتعدِّية، اللازم يكتفي بفاعله، بمرفوعه، يعني لو قلت جلس زيدٌ، مفعول به لا يوجد، ممكن جار ومجرور على الكرسي، على الطاولة، لكن المعنى انتهى، جلس زيدٌ، لكن لو قلت ضرب زيدٌ، ماذا ضرب؟ الحائط، أخاه، صديقه؟ فضرب مُتعدٍّ ينتظر مفعولاً به.
الآن صَدَف، تأتي صَدَف عن الذِكر يعني أعرَض عنه، وتأتي صدف غيره عن الذِكر، يعني منع غيره من الذِكر، فصَدَف تأتي لازمةً ومُتعدِّية، فجاء القرآن بهذا الفعل بحيث يحمل المعنيين معاً (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) يعني صرف عنها الناس، أو أعرض هو عنها، إمّا أعرَض أو جعل الناس يُعرضون، (وَصَدَفَ عَنْهَا).
(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا) أي يُعرِضون عن آياتنا، أو يجعلوا الناس تُعرِض عن آياتنا (سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) هذه الباء باء السبب، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ) بسبب أنهم كانوا ينصرفون عن آياتنا، أو يَصرِفون الناس عن آياتنا، فهاتان الآيتان الأخيرتان، تُبينان عُذرين من أعذار الناس، وتقطع العُذرين معاً، فليس هناك عُذرٌ أن يقول قائل: الكتاب أُنزِل على غيرنا ونحن لا يعنينا الأمر، ولا من عُذر أن يقول: لو أنه أُنزِل علينا لكُنّا أهدى، لأنَّ القرآن جاء فقطع هذه الأعذار، فبعد ذلك من يَصرِف عن آيات الله سيكون له سوء العذاب، والحمد لله ربِّ العالمين.