فضل الله تعالى على عباده

  • اللقاء السادس من تفسير سورة المؤمنون : شرح الآيات 74- 90
  • 2024-11-09

فضل الله تعالى على عباده

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
هذا لقاؤنا السادس من لقاءات سورة المؤمنون، ومع الآية الرابعة والسبعين من السورة وهي قوله تعالى:

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)
(سورة المؤمنون)


الإيمان دائماً يعطي سلوكاً صحيحاً وعدم الإيمان يؤدي إلى الانحراف:
يتحدث الله تعالى بدءاً بهذه الآية عن صنفٍ من الناس، سِمتهُم الأساسية أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ويربط جلَّ جلاله بين عدم إيمانهم بالآخرة وبين سلوكهم فيقول تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) لا يؤمنون بالآخرة هذه عقيدة (عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) هذا سلوك، ناكبون أي منحرفون، مائلون من صراط الحقّ إلى صراط الباطل، فنكَب عن الصراط أي مال عنه إلى طُرقٍ مِعوجَّة، ولمّا قال (الصِّرَاطِ) بأل التعريف، ففُهِم منها للعهد أنه الصراط المستقيم الذي يرتضيه الله تعالى لعباده، ولمّا قال (لَنَاكِبُونَ) إذاً هم متحوّلون إلى طُرقٍ مِعوجَّة، فالصراط هو الصراط المستقيم، فدائماً العقيدة تنقلب إلى سلوك، فلمّا تركوا الإيمان بالآخرة وما فيها من ثوابٍ وعقاب، تركوا الصراط المستقيم ومالوا عنه إلى الطُرق المِعوجَّة التي فيها هوى النفوس، وهذا متكررٌ جداً في كتاب الله تعالى، منه قوله تعالى:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)
(سورة الماعون)

أي انظر إلى سلوكه ستجده:

فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3)
(سورة الماعون)

لأنه يُكذِّب بالدين، فمادام ليس هناك منهجٌ يمنعه فليفعل ما يشاء، فإنه يدعُّ اليتيم، وهم (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:

{ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

هذه عقيدة وذاك سلوك (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) عقيدة، (فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)، (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) فإذاً الإيمان دائماً يعطي سلوكاً مستقيماً، وعدم الإيمان أو التكذيب يعطي سلوكاً منحرفاً، لذلك لمّا تركوا الإيمان بالآخرة وهو من الغيب، عاشوا عالم الشهادة كما تشتهي أنفسهم (وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ) أي مائلون ومنحرفون وذاهبون إلى الطرق المٍعوجَّة.

الأساليب التي يتَّبعها الله جلَّ جلاله في تربيته لعباده:
ثم يقول تعالى:

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(75)
(سورة المؤمنون)

ربنا جلَّ جلاله له مع الناس أساليب في التربية، الواحد منّا يتَّبِع مع أولاده أساليب في التربية، فيقول لك أحياناً أنا أُؤدِّب ولدي بالنظرة، فهناك من الأولاد من تنفع معه النظرة، فإذا شدَّ إليه والده نظره فهِم أنه قد أخطأ والحُر تكفيه الإشارة، والأصل أنَّ الإنسان لا ينتقل إلى المرحلة العُليا من التأديب إذا نفعت المرحلة الأدنى، وهناك من أنتقل معه من النظرة إلى العتاب فأُعاتبه، وهناك من أنتقل معه من العتاب إلى العقاب، وهناك من ينفع معه الثواب فأقول لك: هذا الطفل سبحان الله إذا عاقبته فإنه لا يُجدي ذلك معه نفعاً، فأنا غالباً أُشجِّعه، أقول له أنت فهيم، وأنت محترم، وأنت وأنت، ولك عندي كذا فينفع، لكن ولدٌ آخر يخشى العقاب وهكذا، فالإنسان له أساليب في التربية عند من يعولهم، سواءً كان معلماً، أو مربّياً، أو أباً، أو أُمّاً إلى أخره، ربنا جلَّ جلاله يتَّبِع كثيراً من هذه الأساليب التي نتَّبِعها في التربية في تعامله معنا جلَّ جلاله:

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11)
(سورة الشورى)

لكن للتشبيه، فربنا جلَّ جلاله من أساليبه أنه يرحم عباده حيناً، ويُعذِّبهم حيناً، ويُنزِل بهم المصائب حيناً، ويرفع عنهم المصائب حيناً، وهذا الأمر نعيشه جميعاً نحن، يعني أحياناً يمرض أحدنا فيشعر بضعفه فيلتجئ إلى ربه، وأحياناَ يُرزَق برزقٍ جيدٍ في عمله ما كان يتوقعه، فيُقبِل على الله تعالى ويشكر لله تعالى وهكذا.
من الأساليب الربّانية في التعامل مع عباده أنه يؤدِّبهم بالموعظة، فإذا قرأت في كتاب الله تجد تأديباً من الله بالموعظة:

وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53)
(سورة الإسراء)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ(12)
(سورة الحجرات)

هذه تربية، يُربّينا الله تعالى، أحياناً بالقصة يذكُر لنا قصص السابقين، وكيف اغترَّ بعضهم بالمال فأهلكه الله، إذاً الرسالة التي يريد الله إيصالها إلينا، لا تغترُّوا بالمال، ولا تتعالوا به على عباد الله، هذا جانب يؤدِّب الله تعالى به عباده، وقد يؤدِّب الله بعض عباده بالعقوبة الرادعة، وبالمصيبة أحياناً، وهذا طرفٌ من معاني قوله تعالى:

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)
(سورة السجدة)

العذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فينتفعون بهذه المصيبة، تحلُّ بهم مصيبة فيلتفتون إلى الله.

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)
(سورة البقرة)

وهذا أيضاً مما يؤدِّب الله تعالى به عباده، وهناك من يؤدِّبهم بالرحمات، فيُغدق عليهم نِعمه فيعودون إليه ويشكرون له عطاءه وكرمه جلَّ جلاله.
وهناك من يستدرجهم ربنا جلَّ جلاله، وهنا تبدأ المصيبة الكبرى والعياذ بالله، كما يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إذا رأَيْتَ اللهَ يُعطي العبدَ ما يُحِبُّ وهو مُقيمٌ على معاصيه فإنَّما ذلكَ له منه استدراجٌ ثمَّ نزَع بهذه الآيةِ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44، 45] }

(أخرجه الطبراني)

مُقيمٌ على معصية والله يوالي النِعَم عليه، ثم تلا قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) ما قال باب وإنما أبواب، وما قال شيء وإنما كل شيء (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) ثم يكون العذاب الشديد والعياذ بالله، فهذه سُنَن الله تعالى في التعامل مع خلقه، سمِّها الأساليب، سمِّها السُنَن، لكن التسمية القرآنية هي السُنَن، هذا أفضل تسمية له.

سُنَن الله تعالى في تعامله مع الذين نكبوا عن الصراط ولم يؤمنوا بالآخرة:
فالله تعالى في هذه الآيات بدءاً من الآية الخامسة والسبعين يتحدث عن بعض سُنَنه في التعامل مع من نكبوا عن الصراط ولم يؤمنوا بالآخرة، فقال تعالى: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ) أسلوب من الأساليب، يعني لو أنَّ الله تعالى رحمهم، أنزل رحمته عليهم ورفع ونزع عنهم الضُرَّ الذي أصابهم، قحط، جوع، تسلُّط عدو خارجي (وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ) ماذا ستكون النتيجة في علم الله تعالى الذي يعلم كل شيء؟ هؤلاء العباد الذين لم ينفع معهم هذا الأسلوب التأديبي لأنهم لا يؤمنون بالآخرة قال: (لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ) يعني لمّا يجدون نعم الله عليهم كثيرة، والضُرّ قد رفع عنهم، يتمادون في الطغيان، (لَّلَجُّوا) أي لتمادوا في طغيانهم، والطغيان هو مجاوزة الحد، ومنه سُميَّ الطاغية طاغيةً لأنه يتجاوز الحدود فيظلم عباد الله تعالى ويكفر بالله، فإذا تجاوز الحدود أكثر وأكثر سُميَّ الطاغوت، الطاغوت أعلى من الطاغية، (لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ) حتى الماء ربنا جلَّ جلاله وصفه فقال:

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ(11)
(سورة الحاقة)

فكل شيءٍ يبقى في حدّه تستقيم فيه الحياة، فإذا طغى أي تجاوز حدّه المرسوم له من الله تعالى حصلت الفتنة في الأرض، لو أنَّ كل إنسانٍ التزم حدوده، لالتزم الكون حدوده فتوقفت المشكلات، لكن ربنا جلَّ جلاله يطغى أحياناً الأرض فتُزلزل، ويطغى الماء فيُغرِق، ويطغى الماء أي يتجاوز حدوده فتحدث الفيضانات والسيول، وهذا من أعظم أسبابه أو من أكثر أسبابه، طغيان الإنسان نفسه، إذ أنه يتجاوز حدوده التي رسمها الله تعالى له في التعامل مع الكون، وفي التعامل مع الحياة، وفي التعامل مع أخيه الإنسان، وفي التعامل مع ربه، يطغى يتجاوز حدوده، قد يتجاوز عبوديته، فيتأله والعياذ بالله، فالطغيان أساس كل مشكلةٍ في الكون فقال: (لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ) أي لتمادوا في تجاوز الحدود التي رسمها الله تعالى لهم، بأنهم عبادٌ لله تعالى يجب أن يلتزموا منهجه.
(يَعْمَهُونَ) أي يتخبطون ويتحيرون يعني من العَمَه، وهو ما يشبه العمى ولكن من التخبُّط والتحيُّر، هذا أسلوب وهو أسلوب الرحمة ورفع الضُرّ.
ثم قال:

وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76)
(سورة المؤمنون)

يعني الأسلوب الثاني أيضاً لم ينفع معهم، أخذهم الله تعالى بالعذاب أي شدّد عليهم قبل ذلك بالعذاب، من القحط، من الجوع، ونقص الأموال إلى آخره (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ) يعني لا تنفع معهم الرحمة كما أنه لا ينفع معهم العذاب.
(فَمَا اسْتَكَانُوا) أي ما خضعوا لربهم (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي لا يتذللون له بالدعاء، ويطلبون منه كشف العذاب، ويجأرون إليه بالدعاء، وكأن الله تعالى يقول لعباده، إذا حصلت الرحمة وكشف الله تعالى الضُرَّ عنكم، فيجب أن تشكروا له وأن تقيموا منهجه في الأرض، لا أن تطغوا في الأرض.
وإذا أخذكم ببعض المصائب بذنوبكم، فيجب أن تتوبوا وترجعوا إليه وتجأروا إليه بالدعاء، لكن هذا لم يحصل عند هؤلاء المُنكرين للبعث، لا عند الرخاء ولا عند الشدَّة ، فجاء العقاب الأخير:

حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77)
(سورة المؤمنون)

يصوُّر المشهد وكأن هناك باباً قد وضِع العذاب خلفه ينتظرهم، فلمّا فُتح الباب انهال عليهم العذاب وصُبَّ فوق رؤوسهم صباً، وعذاب الله شديد والله تعالى هو القوي.
قال: (إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي أصبحوا متخبّطين يائسين، لا يرجون رحمةً ولا يعرفون نجاةً، فإذاً ربنا جلَّ جلاله رحمهم فما استجابوا، وأصابتهم المصائب فما رجعوا إلى ربهم، ففتح عليهم باب العذاب الشديد، أيضاً بدلاً من أن يعودوا إلى ربهم ويصطلحوا معه، إذا بهم يائسون قانطون من رحمة الله.

الله تعالى امتنَّ على عباده بنعمة الحواس وأهمها السمع والبصر:

وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(78)
(سورة المؤمنون)

ما الذي جعلهم يُنكرون العذاب، يُنكرون العقاب، يُنكرون الآخرة، ينكبون عن الطريق المستقيم؟ أنهم لم يستخدموا ما أعطاهم الله تعالى إياه، من السمع والأبصار والأفئدة، لذلك امتنَّ الله على عباده بعد ذلك فقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ) الله تعالى هو الذي خلق للإنسان (السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) السمع والأبصار هي جزءٌ من الحواس الظاهرة، العلماء يقولون الحواس الظاهرة وأُحب أن أُضيف دائماً لفظ الظاهرة، لأنَّ هناك حواساً غير ظاهرة يُدركها الإنسان، لكنه إلى الآن لا يُدرك كيف يُسمّيها، أو يعرف كيف يشعر بها الإنسان.
أحياناً يُسمّونها الحاسة السادسة عند الأم مثلاً، أو الشعور بشيءٍ يجري في مكانٍ آخر، يقول لك: أحسست بهذه اللحظة أنه جرى شيء، انقبض قلبي، هناك حواس، أحياناً حاسة اللمس تدرك فيها مثلاً النوع، لكن أحياناً هناك تقبُّل السميك والرقيق وأنت مُغمض عينيك، فهناك حواس غير ظاهرة إلى الآن لا يُدرك كُلها، فسبحان من أعطى الحواس للإنسان، تظهر جليّةً أحياناً بالأعمى، ما الذي يجعله يُحس بأشياءٍ لا يُحس بها إلا المُبصِر افتراضياً لكنه يعرفها.
أنا أعرف شخصاً أعمى رافقته مرةً فدلَّني على بيته، كنت إذا أصل إلى مكانٍ فيقول لي خُذ يمينك بالسيارة، هناك شيء لا يوجد في الإنسان أنه يعطي الله تعالى من الحواس للإنسان، خاصةً الذي فقد شيئاً من حواسه الظاهرة ما نعجز عن إدراكه، فنقول الحواس الظاهرة، فالله تعالى لمّا أعطى الإنسان الحواس الخمس الظاهرة التي أدركناها، وهي السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، هذه الحواس الخمسة الظاهرة، أهم حاستين فيها هما السمع والبصر، للإدراك والمعرفة، لإدراك الأشياء العالية، وليس أن يشم فيعرف أن هذه رائحة الكمون مثلاً، لا، الأشياء المهمة نحتاج إلى إدراكها سمعاً وبصراً، والسمع أهم من البصر، لأنه أولاً مخلوق قبله، فالجنين يسمع في بطن أمه، لكنه لا يُبصِر إلا بعد فترة من ولادته، ولا يكتمل بصره إلا بعد فترةٍ أطول كرؤية كاملة، بينما هو يسمع وهو في بطن أمه صوت أمه، فالسمع أقوى من البصر، يعني مخلوق أولاً، لذلك يُقدِّمه الله تعالى في معظم الآيات إلا في الآخرة

وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ(12)
(سورة السجدة)


السمع مُقدَّم على البصر في الخلق:
لأنهم رأوا بأعينهم أولاً، لكن السمع مُقدَّم على البصر في الخلق

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ(23)
(سورة الملك)

(الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) أيضاً السمع لا يمكن حجبه حتى بالنوم، فالإنسان إذا نام لا يرى لكن يستيقظ على السمع، البصر من اتجاهٍ واحد، لكنك لا تُبصِر ما هو وراءك، أمّا السمع فهو من الجهات الست، فحاسة السمع في الإدراك هي أهم من حاسة البصر، لذلك تجد من ابتلاهم الله تعالى بفقدان البصر، من تعلموا ووصلوا إلى الدرجات العُليا بالسمع، لكن الذي يفقد سمعه ابتداءاً يفقد نطقه، فمن لا يسمع لا يتكلم، فعنده مشكلة في التعلُّم كبيرة جداً بخلاف الأعمى، طبعاً البعض يتحرَّج من كلمة الأعمى، وربنا عزَّ وجل ذكر:

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ(1) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ(2)
(سورة عبس)

هي وصف يعني ليس فيها مشكلة، وأن نستبدلها بالضرير أو الكفيف لا، الأعمى هو الذي ولد بلا بصر لغةً، والضرير هو الذي لحقه ضررٌ مُعيَّن في بصره فأصبح في الرؤية مشكلة، والكفيف هو الذي كُفَّ بصره بعد عُمر، ربما بالأربعين أو الخمسين كُفَّ بصره عن الرؤية، فهي كلها صحيحة لغةً، لكن الأعمى الذي ولد لا يرى فهو أعمى، لكن أعمى البصيرة أشد من أعمى البصر، فالسمع مُقدَّم على البصر لهذه الاعتبارات، لذلك ربنا جلَّ جلاله لمّا تحدث عن أصحاب الكهف قال:

فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)
(سورة الكهف)

العيون مُغمضة نائمون، لكن ما الذي سيوقظهم أو سيقلقهم أو سيُعطِّل النوم العميق الذي يجعلهم لا يستيقظون؟ السمع، فضرب الله على آذانهم فما عادوا يسمعون شيئاً، لذلك بدأ بالسمع لأنه هو الأهم بالإدراك، فإذا تعطَّل السمع، أي لم يعد هناك مدخلات عن طريق السمع لا يسمع، لا يسمع ليس حقيقةً، لكنه لا يستجيب لما يسمعه، إذاً هو لا يسمع، يعني إذا إنسان لا يسمع وتقول له انتبه هناك حفرةً ستقع فيها، هو لا يسمع حقيقةً أصم، فوقع في الحفرة هذه مشكلة، لكن إذا كان إنسان يسمع وقلت له هناك حفرةً إياك أن تقع فيها، فقال لك أنت لا تتدخل فأكمَل ووقع فهو لا يسمع، لأنه لو سمع لاستجاب، فالنتيجة واحدة، فعندما نقول إنسان لا يسمع بمعنى لا يستجيب، فهو لا يسمع فعلاً، لأنه إذا السمع لم يُحقِّق النتيجة منه فالأمر سيان، فالله تعالى قال: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ) من أجل أن تسمع فتنتفع فتستجيب، (وَالْأَبْصَارَ) من أجل أن تستدل من خلال ما خلقه الله تعالى على وجوده، وعلى أنه سيبعث الناس ويُحاسبهم (وَالْأَفْئِدَةَ) التي هي القلوب، جمع فؤاد، والفؤاد هو القلب، والفقه والعقل يكون في القلب، كما تحدثنا سابقاً.

العقل من يقوم بالربط بين المدخلات والمخرجات:
فلمّا لم يُدخِل من سمعه ولا من بصره، يعني عطَّل المدخلات، فهو عملياً عطَّل المعالجة الصحيحة فعطَّل المخرجات، لأنَّ العقل تحدثنا سابقاً أنه الربط، فهو عملية المعالجة التي إذا صحَّت المدخلات، وصحَّت المعالجة، تخرج المخرجات صحيحةً، البصر يرى نار مُتَّقدة ويرى يده، وضَع اليد على النار احترقت، العقل يربُط، يقول لك هذه النار تحُرِق اليد، فالعقل هو ربط بين الأمور، لذلك قال له:

{ قال رجُلٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: اعقِلْها وتوكَّلْ }

(أخرجه شعيب الأرناؤوط وابن حبان)

أي اربطها، فعملية الربط بين الأمور هي العقل، وأوضح مثال عليها هو بعِلم المنطق، كنّا نقول دائماً مقدمة كبرى وصغرى ونتيجة، لمّا تقول كل الموجودين في هذه القاعة أطباء، سامر موجود في هذه القاعة، المدخلات صحيحة، المُخرَج سامر طبيب، المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى، والعقل عمل بينهم ربط فقط، فهذه مهمة العقل أن يقوم بالربط، لكن لمّا جعل أصحاب المدرسة العقلانية العقل هو المدخلات، وقعت الطامة، لمّا قال لك عقلي يقول لي! عقلك لا يقول لك، الشرع يقول لك وعقلك يفهم الشرع، فنحن لا نُعطِّل العقل، ولكن نضعه في مكانه الذي ينبغي أن يوضع فيه.
قال: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) يعني عاب عليهم أنهم يشكرون قليلاً فكيف بمن لا يشكر أصلاً؟! هذا يشكر لكنه قليل الشكر، النِعم كبيرة والشكر قليل.

كل شيء في الكون يدل على وجود الله الواحد وأنه سيُحاسِب وسيُعاقِب:

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79)
(سورة المؤمنون)

أي بثَّكم ونشركم في الأرض (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يعني تفريقكم في الأرض لا يعيّيه ولا يتعبه أن يُعيد جمعكم إليه للحساب (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(80)
(سورة المؤمنون)

فلا مُحييَ غيره ولا مُميت غيره (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار) يختلف الليل والنهار طولاً وقِصراً نوراً وظلاماً، أحياناً يستوي الليل مع النهار في يومٍ مُعيَّن في السنة، في الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي، ثم يطول الليل ويقصر النهار أو بالعكس، فاختلاف الليل والنهار بالطول وبالقِصر، اختلافهم عند الغروب يبدأ يتسلل:

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۚ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(6)
(سورة الحديد)

ليس كغرفة مظلمة يضغط على الزر فتضيء أو العكس، لا، لكنه إيلاج، يُدخل الليل في النهار ويُدخل النهار في الليل بلطف.
(وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يعني ألا تستخدمون هذه المعطيات التي بين أيديكم، من أجل أن تعقلوها فتصلون إلى أنَّ الله عزَّ وجل موجود، وواحد، وكامل، وسيُحاسِب، وسيُعاقِب، هذا (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

أكبر مصيبة أن يحتكم الإنسان إلى العُرف وليس إلى الشرع:

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ(81)
(سورة المؤمنون)

لم يتَّبِعوا مرجعية الشرع، اتَّبعوا مرجعية الآبائية (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ) هذه مصيبة كبرى عند الناس، عندما يقول لك وجدنا آباءنا، تقول هل يوجد الآن أحد يقول وجدنا آباءنا؟! ما أكثرهم ولكن بصيغٍ مختلفة، يعني تبدأ بوجدنا آباءنا، أنا هكذا أبي ربّاني أنا لا أستطيع أن أُغيِّر، نحن حفلاتنا دائماً مختلطة أنت لا يمكن أن تُغيِّر العائلة، نحن طول عمرنا نجلس مع بعض، هذه مثل أختك، وهذه مثل أمك، لا يوجد مشكلة، لا تُفرِق العائلة بالحجاب وكذا، نحن هكذا، أنا أعرف عائلات ممنوع الحجاب فيها، يعني أعرف أُناساً معرفةً بعيدة، لكن أعرفهم الحجاب ممنوع لأننا تربينا هكذا، نحن لا يوجد عندنا بالعائلة أحد يتحجب، نحن نُصلّي ونتصدَّق لكن لا أحد يتحجب مثلاً، لأن هذه فكرة الآبائية، وتنتقل إلى مراحل متقدِّمة فكرة الآبائية فيصبح العُرف هو المجتمع، يعني أبي، قبيلتي، عشيرتي، نحن نأخذ حقنا بيدنا، نحن إذا قُتِل واحد نقتل عشرة.

قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ(74)
(سورة الشعراء)

هذه مصيبة أن يحتكم الإنسان إلى العُرف لا إلى الشرع، يعني نحتكم إلى القانون ليس صحيحاً، ولكن يبقى هناك شيءٌ يحكمه، أمّا الاحتكام فهو للشرع، لأنَّ المرجعية إمّا تكون شرعاً أو عُرفاً أو قانوناً، دقِّق في الناس كلها، إذا جلست مع شخص مثلاً شريكك واختلفتم، أول خلاف بينك وبين شريكك بالعمل إذا قال لك أنا أُخرِج العقد، هذا يعني مرجعيته القانون، هناك محاكم قانون، لنرى المحامي قانون.
إذا قال لك دعنا نرى تجار السوق ماذا يفعلون، هذا عُرف، دعنا نرى العُرف ماذا يقول، أنا في حياتي لم أدخل تجارةً كهذه، أنا طول عمري أعمل هكذا، هذا عُرف، طبعاً ليس كل العُرف غلط، وليس كل القانون غلط، انتبهوا أنا أوصِّف كيف يحتكم الناس، أحياناً هناك أعرافٌ صحيحة توافق الشرع، على العين والرأس، وأحياناً يوجد قوانين صحيحة وعقدٌ صحيح، وهو من ضمن الشرع، والعقد ما لم يخالف نصَّاً شرعياً فهو شريعة المُتعاقدَين، لكن نحن نتكلم كيف الناس تتبعه، أمّا من يقول لك دعنا نسأل الشيخ الفلاني، دعنا نرى الشرع ماذا يقول، ألا تسمع ربنا عزَّ وجل يقول كذا، كلام الله، سيرة رسول الله، هذا مرجعيته الشرع، نحن دائماً يجب أن نُعزِّز المرجعية الشرعية، العُرف والقوانين تابعة للشرع، فما يوافق منها الشرع نأخذ به، لكن مرجعيتنا الشرع، لكن أسوأ انتقائية بالشرع هي:

وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)
(سورة النور)

يعني عندما يكون الحقّ معي وأعرف أن الشرع يحكُم لي، فأقول لك نحن كتاب الله وسُنَّة رسول الله، وإذا كنت أعرف أنَّ الشرع ليس معي، أقول لك أنا القانون يحكم لي، هذه انتقائية هذه غير منطقية، وخيرٌ منها أن يقول لك أنا مع القانون، من أن يتَّبِع الشرع إذا وافق هواه، وأن يتركه إذا لم يوافق هواه.

ما معنى الأساطير؟

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ(81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82)
(سورة المؤمنون)

مثل حال يقول آباؤنا، بعد الموت هناك بعث؟!

وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)
(سورة يس)

لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ(83)
(سورة المؤمنون)

آباؤنا هنا الآبائية (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ) أي البعث، لكن ما رأينا شيئاً، لم نجد إنساناً مات وبُعث (إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأساطير جمع أسطورة، والأسطورة هي ما يُسطَّر في الكتب، ولا تُطلق إلا على الشيء الذي ليس له حقيقة، فيُقال لك هذه العنقاء أسطورة غير موجودة، يعني لا يوجد مخلوق اسمه العنقاء، لكن سطَّروها فصارت أسطورة، أسطورة الإلياذة مع اليونان، يوجد مرض يُسمّونه اضطرد إن صحَّ التعبير، أو تسطير، أو جعل التاريخ أسطورة، الناس دائماً يُحبون أن يعتزّوا بالتاريخ كثيراً، فهناك أساطير كثيرة في التاريخ، فاليونان عندهم أساطير لم تحدث، يعني هذه القصة لم تحصل بهذا الشكل، لكن ليخلِّدوا أبطالهم فيجعلوهم أسطورة.
والبعض يتَّهم تاريخنا الإسلامي أن فيه أساطير فيقول لك: كيف سيدنا جعفر أخذ الراية بيمينه فقُطعت يمينه، ثم أخذها بشماله وضمَّها بصدره، ألم يتألم؟! كيف عروة بن الزبير قطعوا له قدمه وأغمي عليه، فقال خذوها وأنا أُصلّي حتى لا أشعُر؟!
سيدنا عمر يحكم بالعدل في البلاد ويقول: "لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عليها"، وفي الليل لا ينام الليل من أجل امرأة، ويذهب ويتجوَّل بالليل ويتفقَّد الرعية، وطهى في الليل! ما هذا الخليفة الذي عندكم؟! معناها أنتم أسطُر للتاريخ، نحن التاريخ عندنا ليس مسطوراً كتابةً، عندما يتحوَّل التاريخ إلى واقع عند المسلمين، فأُحب أن أهتم دائماً بالنماذج المُعاصرة، نحن عندنا قصصٌ معاصرة، عندنا بفضل الله عزَّ وجل ما يؤكد أنَّ تاريخنا ليس أسطورةً.
يعني أهلنا في غزَّة، ما الذي يفرق مشهد الرضا عن الله بالسابقين، "الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم" التي ممكن أن يظنُّ الإنسان أنها أسطورة، المرأة الفلسطينية اليوم التي في غزَّة، التي يقول لها ابنك وابنك فتقول الحمد لله رضينا عن الله، هذا ليس أسطورة، لكن الإسلام يصنع المعجزات حقيقةً وليس أسطورةً، الذي أخذ الراية، هناك مُجاهد أخذ الراية بيمينه وبقيَ يُجاهد حتى آخر لحظة بعدما قُطعت يده ولم يأكل من ثلاثة أيام، معناها نحن ليس عندنا أساطير، الإسلام يصنع المعجزات فعلاً، هي ليست أسطورةً، هو الإسلام يصنعها لأنَّ هذا إيمان.
وإذا توفَّر اليوم مُحسنين، يعني قرأت من فترة عن السميط الكويتي كم أسلم على يده من الناس! قال لزوجته من اللحظة الأولى عندما تزوج أنت عندك ضُرَّة وأنا متزوج! فقالت له: هذا كذب ليتك لو أخبرتني، ولكن سأُحسن لها، لأنَّ زوجته كانت امرأةً صالحة، فتكتشف أنه متزوج القضية، وأصبحت تسافر معه إلى إفريقيا هي وأولادها، وعاشوا في ضنك العيش وهم من الأثرياء الكبار، يذهبون ويعيشون في الخيام، وأمراض إفريقيا في ذلك الوقت، وما يحصل للناس، لا اتصالات ولا أي شيء لعدة أشهُر، نحن ليس عندنا أساطير، عندنا إيمان يُحقِّق تاريخ أشبه بالأساطير ولكنه ليس أسطورة.
فقال: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعني كلامٌ مكتوب ولكنه ليس بواقعٍ ولا حقيقة، يُخاطبهم الله تعالى الآن ويُقيم عليهم الحُجَّة بأسئلةٍ لا يمكن إنكارها، ولا يمكن أن يُجاب عليها إلا بالجواب الصحيح، إلا من الملحدين اليوم، الذين ليس لهم وزن وليس لكلامهم قوة.

الأرض ومن فيها ملكٌ لله وحده:
فقال تعالى:

قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)
(سورة المؤمنون)

هذه الأرض وما عليها وما فيها من المخلوقات، من الشركات، من الأبنية، مَن فيها؟

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)
(سورة المؤمنون)

يعني هي ليست مُلكك، أنت لم تنشئها، الأرض من أنشأها؟ (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) ألا يدعوكم ذلك إلى أن تستخدموا عملية عقلية وهي التذكُّر، بمعنى أن تعود إلى أصل فطرتك وإلى:

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ(172)
(سورة الأعراف)

تذكُّر عملية عقلية.

قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)
(سورة المؤمنون)

السماوات السبع، هم لم يروا إلا سماء، لكن ما قالوا وهي سماوات سبع، معناها في الكتب السابقة أو في معلوماتهم السابقة أنَّ السماوات سبع، يعني هم مُقرُّون بهذه الحقيقة.
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ) أيضاً العرش من الغيب، مخلوقٌ من مخلوقات الله، (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

المشركون لم يُنكروا الربوبية لكنهم لم يُحسنوا التوجه إلى الله:

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)
(سورة المؤمنون)

يعني ألا تتقون عذاب الله، ألا تتقون النار التي أعدَّها الله، مادام الله تعالى هو الربّ، الربّ من الربوبية، هو المالك، هو المعطي، هو المانع، هو الخافض، هو الرافع، هو المُمِّد، كل هذه المعاني في الربوبية، المشركون والمنكرون للبعث ما كانوا ينكرون الربوبية، يعني عقولهم قادتهم إلى أنَّ الله تعالى ربّ، لكن لم يحسنوا التوجه إليه، ولم يؤمنوا بالآخرة التي سيحاسِب الله الناس فيها، فما نفعهم إيمانهم، أن تقول أنَّ الشمس ساطعة وهي ساطعة، ثم لا تخرج فتتعرض لها لتشفى من المرض الجلدي الذي أصابك، يعني لن أقول المستويان كبعضهما تماماً لكن النتائج متقاربة، إن أنكرت سطوعها لن تنتفع بها، وإن أقررت بسطوعها ثم لم تتعرض لها فلن تنتفع بها، فالمشركون كان عندهم مفهوم الربوبية واضح، ربنا الله:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(25)
(سورة لقمان)

لكن كان عندهم مشكلة في التوجُّه إلى الله، ومشكلة في الإيمان بما أعدّه الله لمن أطاعه ولمن عصاه، فلذلك هم كافرون ومشركون.
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) طبعاً قد يكون صائب (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ) الجواب قل الله وليس لله، لله على تقدير، طبعاً يوجد قراءة قل الله، من رب السماوات والأرض الله، في قراءة حفص قل لله يعني الربوبية لله، المُلك لله، يعني على تقدير الشيخ، فكل واحدة تعطي معنى، كأن يُسأل العبد من مولاك؟ فيقول: لفلان لا يقول فلان، يقول لفلان يعني أنا مملوكٌ لفلان، هنا تقدير (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي الربوبية، المُلك، الخلق، التدبير لله وحده ( قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ).

الله جلَّ جلاله هو وحده ذو الملكوت وصاحب القدرة المطلقة:

قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)
(سورة المؤمنون)

هناك مُلك، وهناك مِلك، وهناك ملكوت، المُلك أن تملك الأشياء، والمِلك أن تملك الأشخاص ومن معهم، والملكوت هو أن يملك الأشياء غير الظاهرة لك، فربنا له الملكوت وحده، لأنَّ هناك أشياء كثيرة لا نراها، السماوات السبع نحن لم نراها هي ملكٌ لله، الكواكب التي لم نصل إليها هي ملكٌ لله، فكل شيء حتى الذي لا نراه هذا يُسمّى الملكوت.
(قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) يُجير يعني من الجار

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48)
(سورة الأنفال)

وسُمّيَ الجار جاراً لأنه يُجيرك إن طلبت جواره، وكانت العرب من يطلب جوارهم لا يخيبونه، فعندنا مُجير وهو الذي يُجير الشخص الذي جاء إليه، ومُجار وهو الذي يُجار من فلان، ومُجارٌ عليه وهو الذي يُمنع منه، فأنا أُجير فلاناً فأنا مُجير، وهو مُجار، وهناك مُجارٌ عليه، أجرني من فلان، فالله تعالى (وَهُوَ يُجِيرُ) يعني إن طلبت جواره أجارك، وإن طلبت غوثه أغاثك، وإن طلبت عفوه عفا عنك، مُجير.
(وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ) أي لا يُمنع منه، فإذا أراد بك شيئاً لا تستطيع جهةً أن تُجيرك من الله (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ)، نحن كلنا قد نُجير ولكن يُجار علينا حتماً، لأنَّ قدرتنا محدودة فيُجار علينا، لكن الله تعالى قدرته مُطلقة فلا يُجار عليه لكنه يُجير وهذا ليس إلا لله، هنا يُخاطب العرب الذي يعرفون معنى أن تُجير (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ(89)
(سورة المؤمنون)

يعني الجيرة لله وحده، والملكوت لله وحده (قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ) تسحرون أي تُصرفون عن الحقّ، السحر هو الوصول إلى الشيء بلطف، فسُمّيَ السحر سحراً (فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ) بمعنى أين تذهبون بعقولكم؟! كيف لا تستجيبون لربكم؟! كيف تُعرضون عنه بعد كل ذلك؟! لها معاني متعددة في القرآن (فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ) أي فأنَّى تُصرفون؟
قال:

بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(90)
(سورة المؤمنون)

بل حرف إضراب، يعني كل هذا الذي مضى منكم من الإنكار لا صحة له (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) الحق قائم والحقيقة واضحة، لكنهم يكذبون على الله، ويكذبون على أنفسهم، هذا والله تعالى أجلّ وأعلم.
اللهم فرجك ونصرك وغوثك لأهلنا في غزَّة، وفرجك عن عبادك المستضعفين في كل مكانٍ يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.