اللغة العربية وإعجاز القرآن الكريم

  • الدرس الأول: شرح الآيات 1–3
  • 2020-07-11

اللغة العربية وإعجاز القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة الأحباب: مع اللقاء الأول من لقاءات سورة يوسف عليه السلام، هذه السورة مكيةٌ، نزلت قبل الهجرة النبوية الشريفة، أجواؤها توحي بمكيَّتها، فأجواءها ملخصة في قوله تعالى:

وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة يوسف: الآية 21)

المسلمون في مكة كانوا يسامون سوء العذاب، فكانت هذه القصص القرآنية تسلّي نفوسهم، وتبين لهم حكمة الله تعالى فيما يجري، وتعرض عليهم نماذج لأنبياء آخرين عاندهم قومهم وآذوهم واضطهدوهم لكن الله تعالى في محصلة الأمر كتب لهم النصر والتأييد وخذل أعداءهم (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ) الناس لا يعلمون ذلك، لا يشعرون به، يظنون أن الغلبة لفلان أو لفلان أولفلان، لكن الحقيقة أن الله تعالى غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ.
خصوصية سورة يوسف
سورة يوسف هي السورة القرآنية الوحيدة التي ذكرت من مبتدئها إلى مختتمها قصةً واحدةً اكتفت بها، مع التعقيبات والعبر والدروس، ورد في سورتين اسم سيدنا يوسف عليه السلام، في الأنعام وغافر، ولم ترد قصة سيدنا يوسف عليه السلام إلا في هذه السورة.

الأحرف المقطعة في القرآن الكريم
قال تعالى:

الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
(سورة يوسف: الآية 1)

وردت الأحرف المقطعة في 29 سورة
(الر) هذه أحرفٌ مقطعةٌ، وردت في تسعٍ وعشرين سورةً من سور القرآن: (يس)، (طه) ،(الم)، (ق)، وقد وردت إما حرفاً واحداً في بداية السورة كقوله تعالى: (ن)، (ق)، (ص)، في ثلاث سور، وإما حرفان في تسع سور: (يس)، (طه)، (حم)، وإما ثلاثة أحرف كقوله تعالى: (الم)، (الر)، وإما أربعة أحرف (المر)، (المص) في سورتين، وإما خمسة أحرف في سورتين: سورة مريم: (كهيعص)، سورة الشورى: (حم * عسق)، والذي يلفت النظر أنه في كل السور ما عدا أربع سور جاء ذكر القرآن الكريم بعد الأحرف المقطعة، كقوله تعالى

طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
(سورة طه: الآية 1-2)

يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
(سورة يس: الآية 1-2)

حمٓ * تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ
(سورة الجاثية: الآية 1-2)

الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
(سورة يوسف: الآية 1)

إلا في أربع سور لم يُذكر بعد الأحرف المقطعة شيء يتحدث عن القرآن الكريم، وهي: سورة العنكبوت، والروم، والقلم، ومريم.

كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا
(سورة مريم: الآية 1-2)


ما يأتي بعد الأحرف المقطعة في القرآن الكريم
أيضاً مما يلفت النظر أنَّ ما يأتي بعد هذه الأحرف المقطعة هو في معظمه خبر، يخبر الله تعالى عن شيء.

الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
(سورة آل عمران: الآية 1-2-3)

الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
(سورة البقرة: الآية 1-2)

وفي سورة يوسف:

الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
(سورة يوسف: الآية 1)

هذه أخبار، يخبر الله عن شيء، لكن في سورة العنكبوت جاء بعدها استفهام إنكاري:

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(سورة العنكبوت: الآية 2)

وجاء أحياناً قسم كقوله تعالى:

يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ
(سورة يس: الآية 1-2)

يقسم تعالى بالقرآن، أو كقوله تعالى:

ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ
(سورة ق: الآية 1)

ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
(سورة القلم: الآية 1)

ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
(سورة ص: الآية 1)

فإما أن يأتي قسم أو استفهام إنكاري في سورة والباقي كلها أخبار يخبر الله تعالى في معظمها عن هذا الكتاب الحكيم المبين.

الغاية من الأحرف المقطعة في القرآن الكريم
القول الراجح في الأحرف المقطعة
ما هذه الأحرف المقطعة؟ اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً، ومنهم من ردَّ علمها إلى الله وقال: "هذه من المتشابه"، ومنهم من خاض فيها وقال: "ربما تكون أوائل لأسماء السور أو هي تعريف بالسورة" ليقال هذه سورة (المر)-(الم) فهي اسم للسورة، ومنهم من قال: "هي أحرف يراد بها كلمات" وهذا موجود في لغة العرب أن يطلق الحرف كأن يقال: (ق) والمقصود قف، مثلاً، ورد في بعض أشعار العرب ذلك، فذهبوا أيضاً فيها مذاهب شتى، ولكن أرجح ما قيل بناءً على ما تحدثنا به الآن مما يأتي بعدها، أرجح ما قيل فيها أن الله تعالى يقول للعرب: القرآن الكريم هذه مادته بين أيديكم وهي تلك الأحرف فاصنعوا منها إن استطعتم قرآناً، المادة الأولية بين أيديكم (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) مصوغٌ من هذه الأحرف العربية التي هي بين أيديكم جميعاً لكنكم عاجزون عن صنع كلامٍ يضاهي هذا الكلام العظيم المعجز، هذا أرجح ما قيل فيها، هذه المادة التي صيغ منها القرآن الكريم.

تقييد العلم بالكتابة
الكتابة أدعى للحفظ
(الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)، (تِلْكَ): (تِي) اسم إشارة ويأتي في اللغة العربية للبعيد، (ذي) للقريب، نقول: هذا الكتاب وذلك الكتاب، هذه الفتاة وتلك الفتاة، فالبعيد نشير إليه باسم الإشارة (تِي)، وهذا القرآن بعيدٌ، ليس في بعده عن الناس، وإنما في تعاليه عن دنيا الناس وعن أوحال البشر، فهو عظيم عالي القدر والمكانة، فتأتي الإشارة إليه هنا بقوله تعالى: (تِلْكَ) واللام للبعد والكاف للخطاب (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (آيَاتُ) الآيات جمع آية، والآية هي الجزء من السورة، وفي اللغة: الآية هي العلامة، فيقال: فلان آيةٌ في الجمال، أي علامةٌ في الجمال، ولما جُعلت الآية علامة على جزء من السورة سميت آيةً، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ)، (الْكِتَابِ) من كَتَبَ، والكتاب هنا معرف (بألـ) يشير إلى شيء معهود في الذهن وهو القرآن الكريم، فالكتاب هنا هو القرآن الكريم، أي المكتوب، فالقرآن مكتوبٌ في المصاحف، موجودٌ بين أيدينا مكتوباً، شاء الله تعالى ذلك لأن الكتابة أدعى للحفظ، ربنا تعالى يتعامل معنا كثيراً بمفهوم الكتابة يقول:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
(سورة البقرة: الآية 183)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
(سورة البقرة: الآية 180)

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
(سورة الأنعام: الآية 54)

فربنا جل جلاله يتعامل معنا بهذا المفهوم، مفهوم الكتابة، لأنه يريح النفس (كَتَبَ رَبُّكُمْ)، حتى في دنيا البشر لما تكون مع إنسان يقول لك: اتفاق شفهي، تقول له: لا يا أخي أرجوك دعنا نكتب بيننا كتاباً، الكتابة أوثق، وقد قال العرب:( كل ما ليس في القرطاس ضاع)، فالكلام الشفهي يذهب لكن عندما يقيَّد بالكتابة فإنه يبقى، يقول أنس رضي اله عنه:

{ قيِّدوا العِلمَ بالكتاب }

(أخرجه الطبراني بسند صحيح

وأنا أنصح لكم إذا كنت تتابع مثلاً يوتيوب قيِّد شيئاً مما تابعته ولو فكرة واحدة، ولو على هاتفك الجوال قيدها، قيد فكرةً، هذه تبقى، ثم تراجع الفكرة التي قيدتها، الباقي يبقى ثقافة عامة ويدوم نفعه، لكن المقيَّد تستطيع أن تتكلم به إذا جلست بمجلس لأنك قيَّدته بالكتابة فرسخ في الذهن، الكتابة بريد إلى الذهن.

وضوح القرآن الكريم
القرآن الكريم واضحٌ في لفظه ومعناه
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (الْمُبِينِ): هو الواضح في لفظه وفي معناه، لو تكلمت معك كلاماً مبيناً ينبغي أن يكون معناه واضحاً ولفظه واضحاً، (الْمُبِينِ): هو الواضح في لفظه وفي معناه، والقرآن الكريم واضحٌ في لفظه وفي معناه، فإذا قرأت القرآن الكريم فهمت المقصد منه مباشرةً، ربما كلمات قليلة بسبب ضعفنا في اللغة لا نفهمها، لكن عموم القرآن أحكامه واضحة، بينة، ظاهرة، جليَّة، لا تخفى على إنسان، اقرأ القرآن الكريم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ
(سورة المجادلة: الآية 11)

آيات الأحكام:

فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
(سورة البقرة: الآية 230)

آيات بينة، واضحة، الأحكام واضحة، الأوامر واضحة.

وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
(سورة الحجرات: الآية 12)

الأوامر، النواهي، قصص القرآن واضحة بينة تعطي مدلولاتها بشكل واضح، فالقرآن مبين واضحٌ في لفظه وفي معناه، قال تعالى:

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(سورة يوسف: الآية 2)

(إِنَّا) المتكلم هو الله جل جلاله، والكلام هنا بضمير الجمع، ضمير العظمة، لكن الله تعالى إذا تحدث عن ذاته تحدث بضمير المفرد، قال:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
(سورة طه: الآية 14)


تنزيل القرآن الكريم
لكن عندما يتحدث عن أفعاله فبضمير الجمع: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، أُنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أُنزل على مدى ثلاثٍ وعشرين سنة مُنَجَّمَاً، متفرقاً، حسب الوقائع والأحداث ليكون أدعى إلى تثبيته في فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:

وقالوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا
(سورة الفرقان: الآية 32)

فالقرآن أنزل نزولين من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثٍ وعشرين سنة.

الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(سورة يوسف: الآية 1-2)

العربية إشارة إلى الوضوح في المعنى
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) قلنا: (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) هو الواضح الظاهر في لفظه ومعناه، قالوا: هذا تبيان لقوله: (الْمُبِينِ) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) فهو قرآنٌ فلذلك هو واضحٌ في لفظه، وهو عربيٌ لذلك فهو واضحٌ في معناه، فالقرآن إشارة إلى الوضوح والبيان في اللفظ، والعربية إشارة إلى الوضوح في المعنى، لأن القرآن في الأصل: قرأ، قرأ قراءةً وقرآناً، وقرأ في الأصل هو الجمع، قرأ الشيء إذا جمعه، وسمي القرآن قرآناً لأنه جمع بين دفتيه أو في آياته قبل أن يكون مصحفاً، في آياته جمع الأوامر، والنواهي، والعبر، والدروس، والقصص، ومظاهر الجنة، ومظاهر النار، وقصص السابقين، والإنباء عن المستقبل، والحديث عن الغيب، فجمع كل ذلك، فهو قرآن لأنه مجموع مقروء، فقرأ بمعنى جمع.
اللغة العربية هي لغة الفصاحة والبيان
فهو في قراءته واضح اللفظ وفي عربيته واضح المعنى، فهو مبين، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لماذا أنزله الله تعالى قرآناً عربياً؟ لماذا اختار الله تعالى اللغة العربية من بين كل اللغات ليكون القرآن مصوغاً من العربية؟ لماذا اختار الله العربية؟ الحقيقة في اللغة العربية نقول: "عَرِبَ الرَّجُلُ" أي صَارَ فَصِيحاً، فإذا تَكَلَّمَ إنسان بِرَأْيِهِ تقول: أعْرَبَ عنْ رَأيِهِ، ما معنى أعْرَبَ عنْ رَأيِهِ؟ يعني أفصَحَ عنه، بيَّنه، الإعراب: هو البيان، فاللغة العربية هي لغة الفصاحة والبيان، فهي تحقق (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) لأنها لغة البيان، فاختارها الله تعالى لأنها اللغة المناسبة لكلامه المبين جل جلاله، هو خالق اللغات وخالق كل شيء جل جلاله، لكن اختارها لأنها لغةٌ معجزةٌ فصيحةٌ تدلُّ على البيان والفصاحة.

خصائص اللغة العربية
1. اللغة العربية هي لغة الاشتقاق
أريد أن أتحدث عن بعض الأمور في اللغة العربية التي تجعل هذه اللغة تؤدي إلى أن نعقل القرآن الكريم، الأمور كثيرة لكن من أهمها: اللغة العربية هي لغة الاشتقاق، ما معنى لغة الاشتقاق؟ أن هناك جذراً أو يمكن أن نسميه مجازاً: جَدَّاً لكل المفردات التي تدور حول فلكٍ واحدٍ، مثلاً: إذا أخذت الجذر (ج ن ن) الآن لو جئت إلى الكلمات التي تندرج تحت هذا الجذر تجد أنها كلها تدل على شيءٍ واحدٍ وهو الإخفاء والسترُ:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
(سورة الأنعام: الآية 76)

فإذا قرأت:

مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
(سورة الناس: الآية 6)

الاشتقاق في اللغة العربية
(الْجِنَّةِ): هو عالم الجن الذي غاب عن أعيننا، الذي لا نراه، فإذا قلت الجَنَّة: فهي الأرض التي امتلأت بالأشجار التي تكاتفت أغصانها حتى سترت وجه الأرض، فإذا قلت: الجُنَّة: بِهِ جُنَّة: فقد خفي عقله واستتر، فإذا قلت الجنين: فهو الجنين في بطن أمه قد غاب عن الأنظار، فكل ما يكون من الجذر (ج ن ن) يدل على الخفاء والستر، هذه لغة الاشتقاق، بهذا المعنى: كل ما يبدأ بحرف (غ) غالباً ما يدل على الغياب، فتقول: غاب وغرس البذرة في الأرض، غيم، كل ما فيه راءٌ مشددةٌ يدل على التكرار كأن تقول: كرَّ، وجرَّ، ومرَّ، وسُرَّ، (ق) غالباً ما يكون فيها اصطدام، فتقول: لصقَ، وطرقَ، فهذه لغةٌ اشتقاقيةٌ وهذا من أروع ما فيها.

2. اللغة العربية ثابتة وراسخة ومحفوظة
رسوخ اللغة العربية
أيضاً من خصائص هذه اللغة: أنها ثابتةٌ، وراسخةٌ، ومحفوظةٌ، اللغة العربية قد تجاوزت خمسة عشر قرناً، هي من اللغات الساميّة وربما تكون هي أصل اللغات، لكن لن نتحدث في هذه الجدلية، لكن عندما نتحدث مبدئياً عن خمسة عشر قرناً فأنت تفهم شعر امرئ القيس، فاليوم يدرس طلابنا في الصف العاشر الشعر الجاهلي، ويقرؤونه ويفهمونه، وشرح مفردات بسيط من معاجم اللغة نفسها، لكن قبل ثلاثة قرون كان شكسبير فكتب باللغة الإنكليزية واليوم لا يستطيع متعلم اللغة الإنكليزية أن يقرأ من أدب شكسبير ويفهم ماذا يكتب لأن اللغة تغيرت، لم يبقَ منها إلا النزر اليسير، تطورت، أما اللغة العربية فراسخة ممتدة في الجذور، جذورها راسخة.

3. الترادف
من خصائص اللغة العربية: الترادف: فيمكن أن يعبر عن الشيء الواحد بألفاظٍ متعددةٍ، فيقال: الأسد، والليث، والغضنفر، وأسامة، وكلها تدل على شيء واحد وهو هذا الكائن (الأسد)، بلفظٍ واحدٍ.

4. التضاد
التضاد: كلمة واحدة تدل على معنيين بعكس بعضهما والسياق يدلك على أحد المعنيين؛ على المعنى المطلوب.

{ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ فَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ }

(أخرجه الطبري)

لغة التضاد
هذه المرأة الأنصارية التي وجدت زوجها مقتولاً بعد أُحد، وأباها وأخاها، وهي تبحث عن رسول الله وتقول: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلما وجدته قَالَتْ: "كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ"، أي هينة. وقد يموت إنسانٌ مهمٌّ فيخرج الخطيب فيقول: إنه لحدثٌ جللٌ، ويقصد بأنه مصاب عظيم، والجون: هو الأبيض والأسود، والسياق هو الذي يوضح، فهذه لغة التضاد، الكلمة نفسها تدل على شيئين والسياق يدلك، إعمال العقل، هذه لغة التضاد.

5. لغة الأصوات
أيضاً لغة الأصوات: نحن عندنا في اللغة العربية مخارج الحروف، علم التجويد، الاستعلاء والاستفال والتفخيم والترقيق والهمس، هذا كله أيضاً مهم.

6. لغة الإعراب
الإعراب في اللغة العربية
هي لغة الإعراب: الإعراب: أنَّ الكلمة يتغير موقعها في الجملة بحسب العوامل المؤثرة فيها، مثال: الطالبْ، هذه ساكنة، تقول: قال، فتصبح: قال الطالبُ، تضع قبلها رأيت فتصبح: رأيت الطالبَ، تضع مررت بـ، فتصبح: مررت بالطالبِ، هذه لغة الإعراب، تتغير الوظيفة الإعرابية للكلمة من فاعل إلى مفعول به إلى اسم مجرور بحسب موقعها من الجملة، هذا معنى الإعراب.

7. لغة الإيجاز
ومن خصائص اللغة العربية أنها لغة الإيجاز:

أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
(سورة هود: الآية 28)

(أَنُلْزِمُكُمُوهَا): (أَ) حرف استفهام، (نُلْزِمُ) فعل مضارع، الفاعل: ضمير مستتر تقديره نحن، (ك) الكاف مفعول به أول، (م) الميم للجمع، (و): الواو حرف إشباع، (ه): الهاء مفعول به ثانٍ، فجملة مكونة من ستة أشياء جُمِعَت في كلمة واحدة، إذاً لغة الإيجاز.

8. الدقة في التعبير
أيضاً فيها دقة في التعبير عن المطلوب تماماً، فأنت عندما تقول: حدَّق تختلف عن حَدَّجَ، حَدَّجَهُ: نَظَرَ إِلَيْهِ نَظْرَةَ ارْتِيابِ، وحدَّق: يعني نَظَرَ مهتماً، نَظَرَ مع الحب، فتختلف، وتقول: نظر بعينيه، وقد تقول: رأى بقلبه، رأيْتُ اللهَ أكبرَ كلِّ شيءٍ،
رأيْتُ اللهَ أكبرَ كلِّ شيءٍ محاولةً وأكثرهم جنــودًا
{ الخداش بن زهير }
رأيتُ العلمَ نَافِعًا، هذه رؤية قلبية وليست رؤية بصرية فأخذت مفعولين، فهي دقيقةٌ في التعبير.

9. اللغة العربية لغة واسعة
أيضاً لغة واسعة جداً في جذورها مفرداتها كثيرة: يعني معجم العين للفراهيدي يعد الجذر، كثير منها غير مستخدم لكن هي اثنا عشر مليون جذر عربي.

10. اللغة العربية لغة بناء
العربية لغة بناء
ومن أمورها المهمة أيضاً: البناء، ما معنى لغة البناء؟ في اللغة العربية تقول: (كتبَ) أريد أن آخذ اسم الفاعل: على وزن فاعل (كاتب)، (قتل- قاتل، سمع- سامع) فهناك بناء لاسم الفاعل.
يعني كيف آخذ اسم الفاعل من الفعل؟ على وزن (فاعل) وقد آخذه على وزن (ميم مضمومة وكسر ما قبل الآخر): (عَلَّمَ - مُعَلِّم، عَلِمَ - عَالِم) فهذه لغة البناء.

11. القدرة على استيعاب المعارف الحديثة
المخترع هو الذي يسمي
وآخر شيء ولو أن الخصائص كثيرة، آخر شيء القدرة على استيعاب المعارف الحديثة: الكثير يظن أن اللغة العربية لغة قديمة واليوم المعارف الحديثة تحتاج للغات الحية الحديثة، وهي أكثر لغة قادرة على صياغة كلمات للمعارف الحديثة هي اللغة العربية، لكن مشكلتنا أن المخترع هو الذي يسمي، لكن نحن في سوريا عندنا كل الطب يدرس باللغة العربية، وفي بعض الدول العربية ومنها هنا يذهلون عندما يسمعون شخصاً يقول: قمت بصورة المرنان، أو الرنين المغناطيسي، هي كلها كلمات عربية وتعبر عن المقصود تماماً، معربة وتعبر فعلاً عن ماهية الصورة، وبألفاظ عربية فصيحة، لكن الذي اخترع جهاز الإيكو هو الذي يسمي الصورة، فعندما يأتي العربي ويريد أن يعربها يظهر بمظهر المنهزم أو مظهر من يضحك عليه، فمشكلتنا في ضعف أهل اللغة وليست في ضعف اللغة، نحن الضعفاء، اللغة تقوى بقوة أهلها، لكن اللغة هوية، فأنت عندما تجلس في مجلس وتتحدث باللغة العربية هذه هويتك، المهزوم والضعيف هو الذي يتكلم كلمة عربية وكلمة أجنبية حتى يوحي للآخر بأنه يفهم، هذه شخصية انهزامية، مهزوم، قد يُضطر لذكر بعض المصطلحات الأجنبية لا مانع، نحن لا نعادي اللغات الأخرى لكن أن يكون همه أن يُظهر للآخر وهو ينكر لغته التي يدين بها الله تعالى لأنها لغة القرآن، فالذي يكون همه إنكار لغته فهو ينكر هويته ينكر ذاته، فلما يقوى أهل اللغة تقوى اللغة، ولما يضعفون تضعف، هذه المشكلة، لكن هي قادرة على التعبير عن كل معطيات العصر، في الطب، في الاتصالات، في كل شيء لأنها لغة اشتقاقية واسعة جداً فممكن أن تُحدث لأي مصطلح تعريباً وتعطيه معنى ووزناً، لأنه عندنا في اللغة العربية ما يسمى المُعَرَّبْ يعني الذي أُدخل إلى العربية وأعطي وزناً من أوزان العربية وإن كان أصله في الأصل غير عربي، اللغة العربية تستوعب المُعَرَّب، على كلٍّ هذا ما تيسر بالحديث عن (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) فالبيان في (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) لأنه عربي.

معنى العقل
قال: (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) رجاء أن تعقلوا ولم يذكر مفعولاً به، (تَعْقِلُونَ) ماذا؟ تعقلون الأحكام والحكم والأسرار والقصص والفوائد ومظاهر الجنة والنار وما إلى ذلك، (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ولن نعقل القرآن بغير اللغة العربية، إذا فهمت العربية تعقل القرآن.

{ عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ:"‏اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ" }

(أخرجه الترمذي)

العقل في الأصل هو الربط
ما معنى العقل؟ لما قال: ("‏اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ")، قال: أَعْقِلُهَا أم أَتَوَكَّلُ؟ الناقة، أربطها أم أدعها وأتوكل؟ قال: اعْقِلْهَا هذا السبب، خذ بالسبب ثم توكل على الله، لا تَعَارُض بين العقل والتوكل، فالعقل في الأصل هو الربط، عقل الناقة: ربطها، وسمي العقل عقلاً، وعلى فكرة لم يذكر في القرآن الكريم مفردة العقل كجهاز، ذكر العقل أنه يعقل (لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ذكر الأدوات، لكن العقل لم يذكر، لكن اليوم العقل مصطلح معروف، ما هو العقل؟ هو الطريقة التي يدرك بها الإنسان ما حوله، كيف يعقل الإنسان؟ لأن العقل يربطه عن الوقوع فيما يسوؤه في دنياه وفي آخرته، فإذا وجدت إنساناً اليوم لا يتقي الله فهو غير عاقل، لأن عقله لم يمنعه من الوقوع في المحرمات، فهو يفكر ويحاكم وربما يخترع لكنه ليس عاقلاً، ولو كان عاقلاً لعقله فكره، ربطه فكره، عن أن يقع فيما يحرمه سعادة الأبد، فالعاقل هو من يطيع الله، والمجنون هو من يعصي الله، لأنه ستر عقله.
ففي الحديث الشريف الصحيح:

{ وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ }

(صحيح مسلم)

العقل يمنع الوقوع في المعاصي
خَمْسَةٌ من أَهْل النَّارِ، أولهم قال: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، أي ليس له عقلٌ يمنعه من الوقوع في المحرمات، كل ما يجد شهوة يقع فيها، هذا مجنون غير عاقل، أما إذا وجدت إنساناً قد سُتر عقله فهذا رفع عنه التكليف، فهذا في المصطلح مجنون لكن في الحقيقة لن يحاسب في الاصل، أما المشكلة فهي في من عنده فكر ثم لا يعقله فكره عن الوقوع في المحرمات أو عن الوصول إلى إله هذا الكون العظيم، فهذا الذي سيحاسب؛ فهو المجنون حقيقةً.
(لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فالقرآن عربي بألفاظ عربية مبينة واضحة من أجل أن نعقل معانيه وأن نفهم أبعاده وأن نفهم مقاصده، وأن نلتزم بما أمر وأن ننتهي عما عنه نهى وزجر.

تسمية سورة سيدنا يوسف بأحسن القصص
ثم يقول تعالى:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
(سورة يوسف: الآية 3)

سورة يوسف سميت (أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الله تعالى، بضمير الجمع للتعظيم، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) القص: هو تتبع الأثر

فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا
(سورة الكهف: الآية 64)

أحسن القصص قصص القرآن
والقاصُّ: هو الذي يتبع آثار الأقدام، ينظر أين سار فلان فيتتبع الآثار فيقول لك: مرَّ من هنا، هذا يقصُ الأثر، فهو في الأصل قص آثار مسيره، والقصة سميت قصةً، والقصص سمي قصصاً، لأننا نتتبع فيه أخبار القوم، ما الذي جرى بعد ذلك؟ ثم ماذا حصل؟ ثم ماذا فعل يوسف؟ هل خرج من الجب؟ يوم جاء إخوته إليه هل عرَّفهم بنفسه أم أخفى عنهم؟ هذا تتبع للأثر، فسميت القصة قصةً وجمعها قصص، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وأزيد فأقول: لا نتتبع فقط آثارهم بمعنى ما الذي حصل؟، وإنما نتتبع مع أخبارهم العبر التي ينبغي أن نستفيد منها، فالقصة نتتبع فيها أخبار القوم ونتتبع بعدها ونقتفي الدروس والعبر التي ينبغي أن تفيدنا، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يوجد عنا حسن ويوجد عندنا أحسن، أحسن اسم تفضيل هذه لغة الاشتقاق التي تحدثنا عنها، من المشتقات: اسم الفاعل واسم المفعول واسم التفضيل، فنقول: أطول، أكبر، أصغر، أقصر، هذا اسم تفضيل، فلان أطول من فلان، يعني يفضله في الطول، والتفضيل لا يقتضي الأفضلية انتبهوا، يعني إذا قلنا: فلان يفضل فلاناً بشيء ما، ليس دائماً الافضلية تعني أنه أفضل منه لكن هو يفضله بشيء، يزيد عليه بشيء، فإذا قلنا: فلان أكثر مالاً من فلان، أو أغنى من فلان، فهذا تفضيل، فلان معه مال أكثر من فلان، لكن هل هو أفضل منه بماله؟ لا، ليس بالضرورة، إذا كان أتقى لله منه فهو أفضل، وإذا كان لا يتقي الله في ماله فهو أسوء منه، لكن يوجد تفضيل بينهما بالمال فهذا أكثر مالاً من هذا فقط، هذا توصيف، (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لأنها من عند الله ولأن الله تعالى عندما يخبرك بالقصة يخبرك بما يفيدك منها، وعندما يُنَبِّئُكَ بالقصة يُنَبِّئُكَ بها كما حصلت تماماً

وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
(سورة فاطر: الآية 14)

لو نَبَّأكَ إنسانٌ بقصةٍ ما فقد يزيد أو ينقص وقد ينسى ويتذكر، لكن الله تعالى يعطيك القصة كما جرت، ثم إذا أخبرك إنسانٌ ما بقصةٍ قد يزيد فيها أشياء لا تعنيك فيطيل عليك الكلام وتمل منه، لكن الله تعالى إذا أخبرك بالقصة جاء لك بما ينبغي أن تعلمه منها فإذا سألت في نهاية سورة يوسف وهل تزوج بعد ذلك يوسف من امرأة العزيز؟ قلت لك: لا أدري ولا يعنيني ولو كان الأمر يعنيني لأخبرني الله تعالى به، لكن لما يقصها عليك إنسان بشكل درامي يريد أن يزيد وينقص من أجل أن يستثير عواطفك أو يكثر من الكلام بغير فائدة، فأحسن القصص عند الله أنها تأتيك بالقدر الذي ينبغي أن تعلمه وبما يفيدك في دنياك وآخرتك، وهي (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) لأنها مرويةٌ بأدق الكلمات، التعبير دقيق جداً جداً، ليس هناك حشو ولا زيادة، بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ بينةٍ، كل ذلك ينطوي تحت (أَحْسَنَ الْقَصَصِ).

القرآن الكريم ينطق بالحق
الاكتفاء بما جاء في القرآن
(بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ) أي بإيحائنا لك هذا القرآن، يعني هذه القصص نقصها عليك بالوحي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليعلمها لولا أنه أوحي إليه، وحتى إنها نزلت في مكة قبل أن يخالط النبي صلى الله عليه وسلم اليهود أو أصحاب الثقافات الأخرى ليحدثوه بشيء، وإنما يحدثه الله تعالى بها صافيةً، لذلك نحن عندما نتعلم من القرآن ينبغي ألا نأخذ من الإسرائيليات في القصص، بمعنى أنه ما الذي حصل؟ وروي، وروي.. نحن لدينا كتابٌ ينطق بالحق، يكفينا ما جاء به.

مستويات المعرفة
(أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) والغفلة هنا ضد العلم، يعني وإن كنت من قبله يا محمد صلى الله عليه وسلم غافلاً عن هذه الأحداث لا تعلم عنها شيئاً، لأن النبي بشر لا يعلم الغيب إلا أن يُعلمه الله تعالى به، وهذا من غيب الماضي ما الذي حصل وقتها، في سورةٍ أخرى قال له:

وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
(سورة آل عمران: الآية 44)

أنت ما كنت معهم، لكن أَخبرك الله تعالى بما كان، ولأنه

وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
(سورة النساء: الآية 87)

اليقين العقلي لا يملكه إلا العقلاء
فأنت تؤمن بإخباره مئةً بالمئة، وكأنك تراه بعينك، آخر ما أريد أن أقوله في هذا الشأن (وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) مستويات المعرفة عند البشر إما أن تكون باليقين الحسي وهو أن يرى الإنسان الشيء بعينه أو يسمعه بأذنه فيقول: هذا صوت الأذان، ويقول: هذا محمد، لأنه رآه بعينه يعرفه، فهذا يقينٌ حسي لا يختلف فيه عاقلان بل لا نختلف فيه عن بقية الكائنات فحتى القطة ترى وتسمع، فلا يكن هم الإنسان أن يرى الشيء بعينه أو يسمع بأذنه، لأن هذا من أدنى مستويات المعرفة، أدنى مستوى نشترك به مع بقية المخلوقات، وبعد اليقين الحسي يأتي اليقين العقلي وهذا لا يملكه إلا العقلاء من البشر، فنستدل على شيءٍ لا نراه بأعيننا وإنما نرى آثاره فنستدل على وجوده، فنقول: في هذه القاعة كهرباء لأننا نرى المصباح يُضيء، ووراء هذا الحائط نار لأننا نرى الدخان من خلفه، ولا دخان بلا نار، وهناك خالقٌ لا نراه بأعيننا لكنه موجودٌ بشكلٍ صارخٍ من خلال مخلوقاته، هذا الاستدلال العقلي وهذا لا يتقنه إلا العقلاء، ثم يأتي بعد ذلك الاستدلال الخبري أن يأتيك حديثٌ عن شيءٍ لا تملك إلا الخبر، لا عقلك يستطيع أن يخدمك في هذا الأمر ولا حسك يستطيع أن ينبئك بشيءٍ منه ولكنه يأتيك بالخبر كمثل قصة يوسف عليه السلام، فهنا لا تملك إلا أن تقول: آمنت به لأنه من عند الله تعالى وكأنني أراه بعيني بل أشد مما أراه بعيني، قال أحد السلف: لقد رأيت الجنة والنار عياناً، فقالوا له: انظر فيما تقوله يا رجل؟ من رأى الجنة والنار عياناً؟ "قال: والله لقد رأيتهما عياناً، لقد رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيتي لهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني، لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى وأما بصره صلى الله عليه وسلم فما زاغ وما طغى.
فنحن هذه الأخبار كنا غافلين عنها؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم غافلاً عنها لولا أن أخبرنا الله بها، لكن لما جاءنا الخبر من الخبير، العظيم، الجليل (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) أخذنا الخبر وكأننا نراه بأعيننا فنؤمن بما جاء من غيب من الجنة والنار وما سيكون بعد الموت وما كان في الماضي السحيق وما سيكون في المستقبل البعيد نؤمن به إيماناً يقينياً أشد من إيماننا بالشيء الذي نراه بأعيننا لأنه خبر الله تعالى.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
(سورة يوسف: الآية 3)

والحمد لله رب العالمين.