صفات القرآن الكريم

  • اللقاء السادس من تفسير سورة الزمر - شرح الآيات 23-29
  • 2022-03-12

صفات القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد.

فوائد كثيرة قي قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً:
1 ـ القرآن الكريم أحسن الحديث:
مع اللقاء السادس من لقاءات سورة الزمر، ومع الآية الثالثة والعشرين من السورة وهي قوله تعالى:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
[ سورة الزمر]

هذه الآية شرحنا بعضاً منها في اللقاء الماضي، لكن وجدت أن فيها من الفوائد ما فاتنا، سنعود إليها: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً) هذه الآية تتحدث عن القرآن الكريم، عن كتاب الله تعالى.
تعظيم لفظ الجلالة والابتداء به
أولاً قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ) هذه فيها ضمناً أي ولا أحد غيره، من أين جئنا بلا أحد غيره؟ التخصيص هنا جاء من تعظيم لفظ الجلالة والابتداء به، فما قال: نزل الله، وإنما قال: (اللَّهُ نَزَّلَ) فهذا يفيد التخصيص، وكأن الله تعالى يقول: الله وحده (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً) الحديث ؛ من الحدث، ويسمى الحديث حديثاً لأن الراوي فيه يقص أحداثاً حدثت واستجدت، شيء حدث، وجد، القرآن الكريم فيه خبر وفيه إنشاء، ما معنى خبر وإنشاء؟ اللغة العربية كلها إما أن تكون خبراً، أو أن تكون إنشاءً، كل كلام يحتمل التصديق والتكذيب فهو خبر، وكل كلام لا يحتمل أن تقول لقائله: أنت صادق أو كاذب فهو إنشاء، لو قلت: اليوم صار معي كذا، هذا خبر، قد يقوم قائم من الناس ويقول لي: كلامك غير صحيح، وقد يقول آخر: كلامك صحيح، لو قلت: اليوم صار حادث سير في الساحة الفلانية، هذا خبر، قد يقول لي قائل: هذا صدق، وقد يقول قائل: لا لم يحدث، أنا كنت هناك ولم أر شيئاً، مكتبي على الدوار، لم أر شيئاً، فكل كلام يحتمل التصديق أو التكذيب هو خبر، لكن لو قلت لإنسان: اكتب، هذا إنشاء، اكتب، إما أن يكتب أو لا يكتب، لكن لا يستطيع أن يقول لي: أنت صادق أو أنت كاذب، أو لو قلت له: يا محمد، هذا إنشاء، النداء إنشاء، لو قلت له: لا تلهُ، هذا إنشاء، النهي إنشاء، الأمر، النهي، الاستفهام، لو قلت له: هل ذهبت اليوم؟ هل يستطيع أن يقول لي: أنت كاذب أو صادق، هل ذهبت؟ سؤال، يحتاج إلى جواب، السؤال يحتاج جواباً، فكل كلام يحتمل الصدق أو الكذب فهو خبر في اللغة العربية، وكل كلام لا يحتمل الصدق أو الكذب فهو إنشاء.
القرآن الكريم فيه الخبر، وفيه الإنشاء، عندما يقول تعالى في قرآنه الكريم:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
[ سورة الفيل]

يخبرك خبراً عن شيء، طبعاً هنا جاء بصيغة الإنشاء والاستفهام لكن هو خبر أو عندما يقول تعالى:

وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
[ سورة القصص]

هذا خبر، يروي لك خبراً، لكن عندما يقول لك:

اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ (72)
[سورة المائدة]

هذا إنشاء، وعندما يقول لك:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
[ سورة الحجرات]

هذا إنشاء، لذلك يقول تعالى:

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
[ سورة الأنعام]

أي الأخبار صادقة، والأوامر والنواهي عادلة، لا يأمرك إلا بشيء عدل، ولا ينهاك إلا عن شيء عدل، أي يجب أن تنتهي عنه، والأخبار صدق (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) الأخبار صادقة، وكل الإنشاء عدل، أي ليس فيه تطرف وبعد عن الوسط، العدل هو الوسط.
الخبر هو الذي يسمى حديثا
هنا قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الحديث هو الأخبار، لأن الخبر هو الذي يسمى حديثاً، لأن هناك أموراً تحدث تخبر بها، أو تستجد فتخبر بها، لكن في القرآن الكريم قد نطلق أيضاً على الأوامر والنواهي حديثاً لأنها في حقيقتها إخبار عن الله، هي في اللغة إنشاء (اعْبُدُوا اللَّهَ) (وَلَا تَجَسَّسُوا) لكن في حقيقتها ما هي؟ إخبار عن الله تعالى، أن الله تعالى قال كذا، فكل القرآن يسمى حديثاً، قال تعالى:

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
[ سورة آل عمران]

وهنا قال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أي أحسن الأخبار، كل ما في القرآن من أخبار، ومن إنشاء فهو أحسن ما يتلى، و أحسن ما يقرأ، لا يوجد كلام في الأرض ولا حديث في الأرض يضاهي أو يستطيع أن يقترب أصلاً من كلام الله.

{ عن شهر بن حوشب رحمه الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ }

[أخرجه الدارمي ]

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) إذاً أولاً: أحسن الحديث.

2 ـ القرآن الكريم محفوظ في الصدور وفي السطور:
ثانياً: وصفه، قال: (كِتَاباً) أي مكتوباً مجموع السطور، القرآن الكريم في الصدور، وفي السطور، ونقل إلينا بالمشافهة، وبالتواتر، وهذا من باب حفظ كتاب الله تعالى.

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
[ سورة الحجر]

فحفظ القرآن في الصدور، ونُقل عن أئمة، وعن أئمة، إلى أن وصل إلينا، ونُقل في السطور، لذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر كتَّاب الوحي فيقول: اكتبوا هذه الآية في ذاك المكان، وضعوا هذه هنا، وهذه هنا، حتى جُمع، وهو كما عليه من عهد النبوة إلى يومنا هذا، بل برسمه، لذلك لا يجرؤ أحد حتى على تغيير رسم المصحف وفق قواعد الإملاء الحديثة، وهو يبقى كما رُسم، فهناك قواعد للإملاء، فكلمة رحمة في لغتنا العربية على سبيل المثال تكتب بالتاء المربوطة دائماً، لكن في كتاب الله أحياناً تأتي بالتاء المبسوطة، فتبقى كما هي، وفيها إشارات بالرسم، فعندما تأتي بالتاء المبسوطة تشير إلى السعة كما هي التاء المبسوطة، قواعد الإملاء لا تُطبق على كتاب الله تعالى، إلا أن يكون طالب يكتب في المدرسة فهذا شيء آخر، يكتبها بالإملاء العربي لا يوجد مانع، لكن المصحف الذي بين أيدينا كما هو، لم يتغير حتى بكتابته، فقال: (كِتَاباً) فمن ميزات القرآن أنه كتاب أي مكتوب.

3 ـ القرآن الكريم متشابه:
المتشابه هو القرآن الذي بين أيدينا
(مُتَشَابِهاً) الصفة الثالثة: (مُتَشَابِهاً) متشابهاً؛ إذا قرأت القرآن تجد فيه موضوعات أساسية، تجد مثلاً موضوع التوحيد، تقرأ آيات كثيرة في التوحيد، تشبه بعضها في الموضوع، كلها تتحدث عن التوحيد، لكن كل آية تأتي في سياق معين، وتؤدي غرضاً معيناً، فهي متشابهة من حيث الظاهر، لكنها تعطي مدلولات كثيرة من حيث الحقيقة، فالقرآن من ميزاته أنه متشابه.
ومن معاني المتشابه أيضاً أنه في الحسن سواء، فكانت العرب تقول عن فتاة حسناء: وجهها مقسَّم، ما معنى مقسم؟ أي مجزأ إلى أجزاء، لماذا يقولون مقسماً؟ أي كل قسم فيه يشبه القسم الآخر في الحسن، فلا تستطيع أن تقول: والله إن عينيها جميلتان لكن أنفها ليس كذلك مثلاً، فتقول العرب: وجه مقسم، أي كل جزء فيه يشبه في الحسن القسم الآخر، أو الجزء الآخر.
فالمتشابه هذا هو القرآن الذي بين أيدينا، لا تستطيع أن تقول مثلاً: والله قرأت السورة الفلانية مثلاً فوجدتها أكثر بلاغة من السورة الفلانية، لا تستطيع أن تقول ذلك، قد تقول: تأثرت بهذه السورة أكثر، أنا موقفي من الآية كذا، لكن لا يمكن أن تقول: إن هذه الآية أشد بلاغة من غيرها، لا تمايز، هذا التشابه، كله في البلاغة سواء، وفي الحسن سواء.
هذه إذاً الثالثة: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً).

4 ـ تكرر الموضوعات في القرآن أو تأتي مثنى مثنى:
الرابعة: (مَثَانِيَ) مثاني تأتي في القرآن على عدة معان، في كل موقع تأتي لها معنى، هنا (مَثَانِيَ) أن الموضوعات فيه تتكرر أحياناً، أو تأتي مثنى مثنى، أي:

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
[ سورة الانفطار]

مثان.

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
[ سورة المطففين]

بعد آيات:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
[ سورة المطففين]

هذا مثان، فالآيات فيه مثنى مثنى، ذِكر الجنة، وذِكر النار، ذِكر الخوف، ذِكر الرجاء، ذِكر التفكر والتأمل والتدبر، ذِكر القلب.

أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
[ سورة الانفطار]

قلب.

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
[ سورة الانفطار]

فكر، خاطب عقله، خاطب قلبه معاً في آيتين متتاليتين، هذا معنى المثاني.
في آيات أخرى:

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
[ سورة الحجر]

هناك المثاني قالوا: كل آية في الفاتحة تنثني على أختها فتفسرها.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
[ سورة الفاتحة]

وهكذا، أي تنثني الآية على أختها فتفسرها، هنا (مَثَانِيَ) موضوعات مكررة مثنى مثنى بشكل يأخذ بالألباب، فمن ميزاته المثاني.
اقشعرار الجلد لا يكون إلا عن خوف
قال: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) هنا أول شيء الاقشعرار؛ هو انقباض الجلد انقباضاً شديداً، إذا شعر شخص بالبرد، أو بالخوف يقشعر جلده، كل إنسان يحصل معه هذا الاقشعرار، هنا كنى به كناية عن الخوف والرهبة، لأن اقشعرار الجلد لا يكون إلا عن خوف، أو عن شيء يستدعي ذلك، فكنَّى به عن الخوف والرهبة، اللين؛ (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) اللين؛ كناية عن القبول والسرور، مثلاً قال تعالى:

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
[ سورة ق]

هنا (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) اقرأه على إنسان ليس عنده خشية من الله لا يقشعر جلده، ولا يشعر بالرهبة في قلبه، الاقشعرار كناية، المؤمن قد لا يقشعر جلده لكن قلبه يخشع، الآيات تتحدث عن عذاب يوم القيامة، وهو يخشى الله، ويخاف الله، فقلبه يشعر بالوجل والخوف (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)
هذه: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).

ميزات القرآن الكريم:
القرآن الكريم يأخذ بقلبك إلى الوجل والخوف
القرآن الكريم من ميزاته أنه يأخذ بقلبك إلى الوجل والخوف، ثم يعيده إلى القبول والسرور والانشراح، كلما قرأت جزءاً من كتاب الله، أو سورة من القرآن تجد به ما يقشعر جلدك، كناية عن خوف القلب، والرهبة، والجلال، ثم ينقلك إلى القبول، والسرور، والجمال، ففيه الجلال، وفيه الجمال، ولا تفاوت بينهما، كلاهما في أعلى مستويات البلاغة والتأثير.
جُبير بن مُطعم في أول إسلامه، صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الطور:

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
[ سورة الطور]

إلى أن بلغ قوله تعالى:

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
[ سورة الطور]

قال: كاد قلبي يطير فزعاً، قال: فذاك أول ما وقر الإسلام في قلبي، هذا جُبير بن مُطعم.
عُتبة بن ربيعة لم يسلم، لكنه ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد منه أن يكفَّ عن سبّ أصنامهم وآلهتهم، وتسفيه أحلامهم، يا محمد! دعك من آلهتنا، ومن أصنامنا، اتركنا، يريد منه ذلك، فلما قضى كلامه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو قد انتهيت؟ انتهى ما عندك؟ قال: نعم، قال: اسمع مني، بسم الله الرحمن الرحيم:

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
[ سورة فصلت]

قرأ بداية سورة فصلت، حتى بلغ قوله تعالى:

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
[ سورة فصلت]

فقام عُتبة ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أنشدك بالرحم إلا كففت، هذا غير مسلم، لكن لما سمع آية(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) وهو العربي الذي أعرض عن ذكر الله، وسمع ما عند الله من عذاب، قال له: أنشدك بالرحم التي بيننا أن تكف، وضع يده على فمه، لم أعد أستطيع أن أسمع.
والوليد بن المغيرة لما سمع:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[ سورة النحل]

قال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وهو المشرك.
القرآن الكريم هو كتاب الهداية
فالقرآن الكريم هذه ميزته (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) إلى ذكر الله؛ إلى القرآن الكريم، لماذا قال: إلى؟ نقول: هذا من التضمين في اللغة العربية، ضمنها معنى الاطمئنان والسكون، أي تطمئن إلى ذكر الله، وتسكن إليه، ضمّن اللين معنى الاطمئنان والسكون فقال: (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ) القرآن الكريم أحسن الحديث (هُدَى اللَّهِ) كيف لا يكون بهذه الصفات وهو الهدى من الله؟ لأن القرآن الكريم هو كتاب الهداية قل فيه إعجاز؟ نعم، قل: فيه عبر، قل: فيه دروس، قل: فيه قصص السابقين، قل ما شئت، بالمحصلة كل هذا لماذا؟ من أجل الهداية.

الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
[ سورة البقرة]

فهو كتاب الهداية (ذَلِكَ) واللام هنا للبعد، للدلالة على بعد القرآن المعنوي، وتعاليه في العظمة (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) ترتيب الهداية في القرآن الكريم، أو في أي شيء يعرض لك، هذا المجلس مجلس العلم هذا، تكلمت أنا كلاماً، بما فتح الله، وبما علمني الله، تكلمت، هذا هدى، من القرآن الكريم طبعاً (هُدَى) من القرآن، أنا أبين فقط، الناس الآن يقفون موقفاً من الهدى، خطبة الجمعة، درس العلم، يقرأ القرآن، يقرأ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، يحضر مقطع فيديو، هذا هدى جاءه، الناس إما أن يستجيبوا، أو يعرضوا، والله تعالى إما أن ييسر لهم ما استجابوا إليه، أو أن يضلهم لأنهم رفضوا الهدى، فهي ثلاث مراحل (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) بين ذلك هدى الله، ويهدي به من يشاء كسب الإنسان، اختيار الإنسان لأنه مخير، فإما أن يقبل الهدى فيهديه الله به، وإما أن يرفض الهدى فيضله الله به، الآيات نفسها، القرآن بين يدينا جميعاً، هذا الهدى موجود، بعض الناس قبلوه فهداهم الله، وبعضهم رفضوه فأضلهم الله، فقال: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) أي إذا كانت هذه الآيات بين يديه ولم يهتدِ بها فأضله الله على علم، مثل قبل قليل عتبة بن ربيعة كما قلت لكم، هل هناك أوضح من ذلك؟ سمع (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ) وتأثر، وأعرض (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) لأنه إذا كان هدى الله لم ينفعه فما الذي سينفعه؟

عدل الله المطلق يوم القيامة:
ستأتي الآن ثلاث آيات متتالية اعتراضية، نسميها باللغة معترضة، لأنه بعدها سيقول تعالى:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
[ سورة الزمر]

سيتابع الحديث عن القرآن، لكن هنا كأن سائلاً سأل: هذا الذي أضله الله وليس له هاد، ما مصيره؟ قال:

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
[ سورة الزمر]

هذا استفهام (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هناك محذوف، أي هل هذا يشبه كمن اهتدى بهدى الله؟ القرآن كما قلنا مثان، في السورة هنا مرّ معنا ثلاث آيات بالطريقة نفسها، قبل قليل:

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
[ سورة الزمر]

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كمن أضله الله؟ الصفحة التي قبلها:

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
[ سورة الزمر]

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) كمن اهتدى إلى الله؟ لا يستويان، فالسورة تجري على هذا النسق، تذكر لك نوعاً من الأنواع، وتترك لك النوع الثاني، وأنت مهمتك أن تقارن بينهما، هل يمكن أن يستويا؟ تقول: مستحيل، لا يستويان مثلاً.
الوجه أعز ما في الإنسان
قال: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الإنسان إذا جاءه العذاب أول ما يفعل أنه يقي وجهه من العذاب، أول شيء، لأن الوجه أعز ما في الإنسان، إذا هجم عليه شخص يريد أن ينال منه فإنه يحاول جهده ألا يضرب هذا الرجل وجهه، وإذا حصل حريق أمامه فإنه يغطي وجهه، ويحمي وجهه بكل سبيل ممكنة، فيوم القيامة تصور أن هذا الإنسان سيتقي العذاب بوجهه فكم هو الأمر مفزع؟ (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هل يشبه حال هذا الضال وقد وصل إلى الله عز وجل ضالاً مضلاً مفسداً في الأرض فاستحق العذاب فأصبح يحاول أن يقي نفسه من العذاب فيعرض وجهه لشدة هول ما يرى لقوله تعالى:

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
[ سورة الحج ]

بعض المفسرين قالوا: وهذا من باب التهكم، أي الإنسان (يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ) الذي أميل إليه، هذا من باب الفزع الأكبر، حتى إن الإنسان من شدة الهول يدفع العذاب بوجهه، وهو الذي كان في الدنيا يقيه فأصبح يدفعه بوجهه (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) هذه للماضي، قيل في الماضي وهي ستحدث في المستقبل، لم تحدث بعد، لكن الله عز وجل إذا أراد أن يعبر عن شيء سيقع لا محالة عبر عنه بصيغة الماضي.
يشبه تماماً إنساناً يقود سيارة بمنحدر شديد، وضع رجله على المكبح فوجد المكبح لا يعمل، انتهى زيت الفرام وهو لا يدري، فلما تأكد من ذلك قال لك: متنا، لم تمت بعد، تقول: سأموت، متنا، قوله بالماضي للدلالة على أن الحدث أصبح مؤكداً لا بدَّ منه، فالله تعالى عندما يعبر بالماضي فيقول:

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
[ سورة النحل]

إذاً لم يأتِ، لكنه أتى، لأنه من الله، وما كان من الله فهو محقق الوقوع.
فقال: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) وانتهى الأمر، وجاء بالظلم تشنيعاً عليهم لأن ما سيكون لهم لن يكون هكذا، ما قال للكافرين، مع أن الكافر يستحق، لكن جاء بما يلازم الكفر وهو الظلم ، لأنه لو كان الكفر لا يؤدي إلى الظلم لقال إنسان وكان له الحجة: ما الذي صنعته أنا؟ لا، الكافر ظلم نفسه، وظلم الآخرين، وظلم ربه بشركه، فهو ظالم.
(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الذوق يكون باللسان، واستعاره هنا للدلالة على العذاب، لأن أشد أنواع الذوق يكون باللسان (ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي المعنى ذوقوا العذاب بسبب ما كسبتم في الدنيا من آثام، لكنه جعل ما يكسبونه هو ما يذوقونه للتشنيع عليهم، والدلالة أن العدل الإلهي مطلق، فأصبح ما يكسبونه هو ما يذوقونه، أي هو في الدنيا ظلم الناس، وبغى، وطغى، ونسي المبتدأ والمنتهى، الآن ذق هذا نفسه، ما قال: ذوقوا العذاب بما كنتم كما في آيات أخرى، قال: (ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) جعل ما كانوا يكسبونه في الدنيا من الآثام هو ما يذوقونه اليوم يوم القيامة للدلالة على عدل الله المطلق، فهو سيجازيهم على أعمالهم (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

الحساب في الآخرة وليس في الدنيا:

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
[ سورة الزمر]

تعدد أشكال العذاب فيما مضى
هنا كأن سائلاً سأل: هذا القرآن يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على العرب، وهم يرون، كانوا في مكة يرون المشركين يتنعمون بينهم، كما نحن اليوم، يقول قائل: هؤلاء ظلموا، وبغوا، وكذا، وما زالوا يتنعمون بالدنيا يا أخي؟! فكأن سائلاً سأل: لكن أين هذا العذاب؟ لم يأتِ، لقد تأخر، أين هو؟ فجاء الجواب: (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قِس على ما مضى (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من القرون قوم نوح، وعاد، وثمود (فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) حيث؛ اسم مكان، أي من مكان لا يشعرون به، فمنهم بالزلازل والخسف، ومنهم من الجو بالريح، ومنهم بالصواعق من السماء، ومنهم بالغرق في الماء، ومنهم من أحاط به الماء كقوم فرعون، فرعون وأشياعه، فكل واحد أتاه العذاب من مكان، والمصيبة أنهم (لَا يَشْعُرُونَ)، وقالوا: من مأمنه يؤتى الحذر، فكم من إنسان تترس بالحراس، وقال لك: أنا لن يصلني أحد فوصل إليه العذاب.
ابن نوح عليه السلام قال:

قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
[ سورة هود]

(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) أنا أتسلق، وأصل إلى مكان (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) فلا شيء يعصم من الله تعالى، لكن الله يعصم من الناس.

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
[ سورة المائدة]

(فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) هذا في الدنيا، وكأن سائلاً سأل، انظر للقرآن كيف يجيبك على أسئلتك التي تنبع في داخلك، وكأن سائلاً سأل: لكن هناك من مات من هؤلاء ولم يأته العذاب، قال:

فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
[ سورة الزمر]

الحساب ليس في الدنيا، الحساب في الآخرة.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
[ سورة آل عمران]

وليس في الدنيا، لكن لما يذيق الله تعالى بعض العصاة والمذنبين العذاب في الدنيا فهذا لردع الباقين، لكنه ليس العذاب المطلوب، العذاب الذي توعد الله به هو في الآخرة (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ)، قال: (فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ) الهوان، الذل، وأذاقه له هنا كناية، أي تشبيه المحسوس بالمعقول، الذوق يكون لماذا؟ لشيء تأكله، ضع في فمك حلواً وتذوق هذا الذوق، لكن عندما يذوق الإنسان الخزي فهذا شيء معقول وليس محسوساً، لكن هنا استعارة، وكأنه ذاقه، ذاق الهوان والذل في الدنيا من هذا العذاب، قال: (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أكبر هنا تأتي بمعنى أشد، فهو أشد من حيث الكيف، وأكبر من حيث الكم، أي أشد إيلاماً، وأكبر حجماً (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)لكنهم لا يعلمون.

الأمثال من بلاغة القرآن الكريم:
الآن رجع للقرآن الكريم:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
[ سورة الزمر]

ضرب الأمثال أسلوب قرآني متبع، وربنا عز وجل الآن في هذه السورة سيضرب لنا مثلاً فوراً، يعطينا مثالاً، من بلاغة القرآن الأمثال، والمثل في الأصل هو تشبيه، هو الانتقال من الفكرة المجردة، المعقولة، إلى الشيء المحسوس.
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودِ
{ أبو تمام }
النار بالظاهر شيء سيئ، لكن لولا اشتعالها فيما جاورت من العود ما كان يعرف طيب عرف العود، رائحة العود لا تصدر إلا عن النار.
المثل هو انتقال من شيء مجرد إلى شيء محسوس
فالمثل هو انتقال من شيء مجرد إلى شيء محسوس، وهذا كثيراً ما يناسب الأطفال، الطفل كثيراً ما يسأل عن أشياء مجردة، مثلاً الطفل يقول لك: أين الله؟ هذا سؤال مشروع للطفل، الطفل تعود أن يرى شيئاً بعينه، أريد رؤية الله، أين الله؟ سؤال بريء من طفل، بعض الآباء يعنفون الأبناء عليه، لا يصح، لا بل يصح، الطفل ببساطته يسأل أين الله؟ فهو لا يرى بعينه، يقول لك: أريد أن أرى ربنا عز وجل، فمثلاً تنقل له المعنى لشيء من المحسوس إلى المعقول، تقول له: الكهرباء أين هي؟ يقول لك: لا يوجد كهرباء، كيف لا يوجد كهرباء؟ شغلنا الزر أنار الضوء، معنى هذا يوجد كهرباء، أين الكهرباء؟ لا أراها، كيف عرفت بوجودها؟ من الضوء، انظر من الشرفة، هذه الشجرة، وهذا القمر، وهذه الشمس، وهذه السماء، أين ربنا عز وجل؟ لا نراه بالعين، لكن هذا الذي خلقه الله تعالى يدلنا على أنه موجود، وإلا لما كان الوجود، فالمثل هو عبارة عن تشبيه شيء، أو الانتقال من شيء غير محسوس إلى شيء محسوس تراه بعينك حتى تدرك الشيء غير المحسوس، الله تعالى يضرب الأمثال في القرآن الكريم.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ) هنا لعموم الناس، أل الجنس أي كل الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل لكل الناس كافة (فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) جاءت بالتنكير وكل للدلالة على أنه حوى كل ما يفيدك من الأمثال (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
[ سورة الزمر]

هذا القرآن نزل عربياً، عربياً لاستقامة اللفظ، لأن اللفظ لا يستقيم إلا أن يكون عربياً، والعربية من الوضوح، والبيان، ومنه الإعراب، والإعراب هو الإيضاح والتمكين، وأعرب عن رأيه أي بيّنه، فالقرآن جاء بلسان عربي مبين، ألفاظه مستقيمة، واضحة لأهل العربية، فقال: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي لا عوج في معانيه، فقد يكون اللفظ مستقيماً، والمعنى معوجاً، أي قد يخرج إنسان ويخطب خطبةً بلغة عربية فصيحة ليس فيها أي خطأ لكن مضمونها فساد وإفساد، فالكلام معوج واللغة سليمة، فهنا قال: (قُرْآناً عَرَبِيّاً) للدلالة على استقامة اللفظ (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) لاستقامة المعنى، ليس في معانيه اعوجاج، أي بُعد عن الحق (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي برجاء أن تحصل لهم التقوى.
لماذا في الآية الأولى: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وفي التي تليها (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)؟ انظر إلى ختام الآيات، ضرب الأمثال يكون للعبرة، وأخذ الدروس والعظة، فناسب أن يكون معه التذكر، لأن الإنسان يكون في غفلة، فلما يتعظ من خلال المثل أو القصة يتذكر فيرجع عن غفلته، لما قال: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) القرآن فيه وعد وفيه وعيد، فإن التزمت بما يؤدي إلى وعده، وانتهيت عما يؤدي إلى وعيده، أي التزمت بما أمر، وانتهيت عما نهى عنه وزجر فقد حققت التقوى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فناسب أن تأتي التقوى مع القرآن لما فيه من وعد ووعيد، وناسب أن يأتي التذكر مع ضرب الأمثال لأنها لأخذ العبرة والعظة، والرجوع عن الغفلة، فالوعظ يؤدي إلى ترك الغفلة، والقرآن يؤدي إلى التقوى فقال: (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

المسلم يعمل لرضا الله فديننا دين التوحيد:
الآية التي تليها:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
[ سورة الزمر]

(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً) الآن سيبدأ بضرب الأمثال، وهذه الآية سنرجئها إلى اللقاء القادم إن شاء الله (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) رجل مملوك لعدة أشخاص، عبد مملوك له ثلاثة مالكين، ثمنه مئة وعشرون ديناراً، دفع كل واحد أربعين ديناراً، فالثلاثة يملكونه، استيقظ صباحاً قال له المالك الأول: اليوم أريدك من أجل حراسة الحقل، والمالك الثاني قال: اليوم أريدك لتنظيف البيت، والمالك الثالث: أريدك اليوم أن تخرج معي في التجارة، أراد أن ينام مساءً، المالك الأول قال له: الساعة الثامنة اذهب فنم، المالك الثاني قال له: لماذا نمت اليوم باكراً أريدك عندي عمل، المالك الثالث قال له: أنا الدوام عندي بالليل، أنا كل عملي بالليل (رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ) مختلفون، كل واحد يريد منه مطلباً.
(وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) الثاني له رجل واحد يديره، مدير واحد، صباحاً يقول له: دوامك عندي من الثامنة صباحاً للساعة السادسة، بعد السادسة أنت حر، اذهب نزهة ، ونم متى شئت، المهم من الثامنة صباحاً يبدأ عملنا، عندك من الثامنة إلى التاسعة تجهز به الفطور، الساعة التاسعة نخرج معاً، عندنا بعض الأعمال في الحقل، مساءً ترجع تجهز لي بعض الطعام، الغداء، ثم تذهب، وانتهى العمل (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) برنامجه واضح، عمله واضح، لا يوجد عنده ثلاثة يديرونه، بل عنده واحد يديره، (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً) الجواب: لا، الجواب حتماً لا، إذا كان الجواب لا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذا كان الجواب: لا حتماً فالله تعالى يقول له: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ماذا؟ على دين التوحيد، على أننا نحن المسلمين ليس فينا شركاء متشاكسون، على أننا نحن المسلمين نعمل لرضا الله تعالى وحده، على أننا لا تتنازعنا أهواء الدنيا، على أننا لا نريد أن نرضي أحداً في سخط الله، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أننا موحدون، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أن الله تعالى جعلك عبداً له، فأبعدك عن عبودية البشر، فكل الناس عبيد، لكن من يعبد الله فإنه موحد لا يعبد معه شيئاً، ومن يعبد غير الله فسيعبد معه مئة جهة وجهة، فيريد أن يرضي فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولن يرضَى فلان ولا فلان ولا فلان، وسيضيع بينهم كما يحصل مع رجل فيه شركاء متشاكسون (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
والحمد لله رب العالمين