هم العدو فاحذرهم

- 2028-02-22
- سورية - دمشق
- جامع عبد الغني النابلسي
هم العدو فاحذرهم
يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: ففي جسم الإنسان غدةٌ صغيرة، وزنها عند الولادة خمسة عشر غراماً تقريباً، بجوار القلب اسمُها الغدة الزعترية أو التايموس، وهذه الغُدة لها مهمةٌ خطيرة في جسم الإنسان، ومُهمتها تدريب الخلايا اللمفاوية على معرفة العدو ومواجهته، وتكون هذه الغُدة كبيرةً في السنوات الأولى من عُمر الطفل، ثم تضمُر شيئاً وشيئاً بعد البلوغ، بعد أن تركت في الجسم ذاكرةً مناعيةً، يستطيع الجسم من خلالها، معرفة عدوّه ومهاجمته والقضاء عليه. |
هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(11)(سورة لقمان)
تكفَّل الله المُربّي جلَّ جلاله بجسمنا، أن يُعرِّفه أعداءه، حتى لا يدخل إليه جسمٌ غريب فيُعاديه وهو لا يدري، تكفَّل المُربّي ربُّ العالمين بأجسامنا، أن يُعرِّفها أعداءها، وكلَّفنا أن نعرف أعداءنا في الدنيا والآخرة، الذين يكيدون لنا ويريدون بنا شرَّاً، لنتقي شرَّهم وننجو بديننا ونستحق جنَّة ربِّنا. |
ليس هناك حياةٌ وردية خاليةٌ من الأعداء:
الحقيقة الأولى: ليس هناك حياةٌ وردية خاليةٌ من الأعداء، منذ أن خلق الله الخليقة، خلق حقَّاً وباطلاً، والحقّ والباطل يصطرعان، وهذا مفهوم العداوة، فإذا كنت على الحقّ فأنت عدوٌّ للباطل، ومَن كان على باطلٍ فهو عدوٌّ للحقّ، وهذه سُنَّة المُدافعة، من أول يومٍ خُلِق فيه آدم عليه السلام وإلى قيام الساعة، أمّا الحياة الوردية الخالية من الأعداء، سِلمٌ وآمان وليس هناك عداوات، فهي في أذهان الحالمين فقط، ليس لها وجودٌ على أرض الواقع، منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، بدأت عداوة الشيطان له من اللحظة الأولى، قال تعالى مُخاطباً آدم عليه السلام: |
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ(117)(سورة طه)
حتى ربُّنا جلَّ جلاله، مالِك المُلك، ربُّ العالمين، المُنعِم، المُتفضِل، الذي يُمِدُّنا بما نحتاجه من نعمة الإمداد، ونعمة الإيجاد، ونعمة الهُدى والرشاد، حتى ربُّنا الذي أعدَّ لنا جنَّةً عرضها السماوات والأرض، حتى ربُّنا الذي خلقنا ليرحمنا، حتى ربُّنا الذي خلقنا لنربح عليه لا ليربح علينا، وأعدَّ لنا جنَّةً عرضها السماوات والأرض له أعداء، قال تعالى: |
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19)(سورة فصلت)
وقال أيضاً: |
مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ(98)(سورة البقرة)
أردت من هذه المقدمة أن أقول: ليس هناك امرِئٌ إلا له عدوّ، يُروى والرواية هُنا للاستئناس لا للإثبات، أنَّ موسى عليه السلام ناجى ربّه في الليل فقال: "يا ربّ لا تُبقِ لي عدّواً، فقال له: يا موسى هذه ليست لي"، ليس هناك جهةٌ في الأرض لا عدو لها، هذه حقيقة. |
العداوة عداوتان عداوة حال وعداوة مآل:
أيُّها الإخوة الكرام: والعداوة عداوتان، عداوة حال وعداوة مآل، عداوة الحال عدوٌّ ظاهرٌ بيِّن يُريد بكَ شرَّاً، يكيد لكَ، يتأمر عليك، واضح، وعداوة المآل لا تظنّه عدوّاً لكن مآله من أشدّ الأعداء، قال تعالى: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(14)(سورة التغابن)
قد تكون الزوجة عدوّاً لزوجها، وقد يكون الزوج عدوّاً لزوجته، وقد يكون الأولاد أعداءً لآبائهم وأُمهاتهم، كيف ذلك؟ الزوجة التي تدفع الإنسان في الدنيا، أن يأكل المال الحرام من أجل أن يؤمِّن لها ما تحتاجه، هي عدوٌّ لزوجها، عداوة مآل، الزوج الذي يترك زوجته، تخرُج كما يحلو لها في الطرقات، دون لباسٍ شرعي، عدوٌّ لزوجته. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)(سورة التحريم)
وهو لم يفعل. |
الأولاد الذين يُلجِئون آباءهم، إلى أن يبيعوا دينهم من أجل أن يُعلِّموهم في مدارسٍ مُحدَّدة، يُلجِئونهم أن يفعلوا ما يحلو لهم، دلالاً على الأب، هُم أعداءٌ لوالديهم. |
أيُّها الإخوة الكرام: هذه عداوة المآل (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ) أي في المآل، (فَاحْذَرُوهُمْ) وجب التحذير من هذه العداوة، لأنها غير ظاهرة، ومن أعظم أعداء الإنسان الجهل، والجاهل يفعل في نفسه، ما لا يستطيع عدوّه أن يفعله به، العدوّ الحقيقي الظاهر لا ينال من الإنسان كما ينال منه جهله، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: |
{ طلبُ العِلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ }
(أخرجه الطبراني والبيهقي)
لأنَّ الجهل عدوٌّ من أعدى أعداء الإنسان. |
عدوّ الإنسان الأول الشيطان:
أيُّها الكرام: عدوّ الإنسان الأول الشيطان، وكلُّ من بعده تَبعٌ له، والشياطين نوعان: شياطين إنس وشياطين جن، قال تعالى: |
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)(سورة الأنعام)
لمّا ذهب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل: |
{ عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ(2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ }
(صحيح البخاري)
ما الذي يدفعهم إلى إخراجي من مكة؟ وأنا الصادق الأمين الذي ما جرَّبوا عليه كذباً أبداً، أنا ابن عبد المُطّلِب، أنا المعروف نسباً، أنا المعروف أمانةً وصدقاً. |
لا بُدَّ من أن يُعاديك الناس، أنت تريد أن تخرجهم من الظلمات إلى النور، وهم يرون أنك تريد أن تقضي على مصالحهم، فسيُعاديك الناس. |
الله عزَّ وجل قدَّم شياطين الإنس على شياطين الجن تقديم أهمية:
أيُّها الإخوة: قال تعالى: |
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112)(سورة الأنعام)
قدَّم شياطين الإنس على شياطين الجن تقديم أهمية، لأنَّ شيطان الجن لا يملِك إلا الوسوسة، ما عنده أسلحة، ولا قوَّات، ولا قنابل، ولا طائرات، ولا مُسيّرات، عنده وسوسة ويَخنس إذا استعذَت بالله تعالى: |
مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)(سورة الناس)
هذه إمكانياته، ما أعطاه الله إمكانيات فوق ذلك، لذلك يقول: |
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)(سورة إبراهيم)
لم يجعل الله له سلطاناً، لا يملِك إلا أن يوسوس، كمَثل إنسانٍ اشتكى إلى مخفر الشرطة، بأنَّ رجُلاً من الناس أساء إليه وأوقعه في حفرةٍ فكُسِرت أضلاعه، فلمّا مثَلُ بين يدي رئيس المخفر سأله رئيس المخفر: هل دفعك إلى الحفرة؟ قال: لا، قال هل أشهَرَ في وجهك مسدساً حتى تنزل مُكرهاً؟ قال: لا، قال فما الذي فعله إذاً؟ قال: قال لي انزل فنزلت، مُضحِك هذا الرجُل! هذا حال الشيطان مع الناس (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم). |
فشيطان الجن ليس له سلطان، يوسوس ويستجيب له المُغفَّلون، لكن شياطين الإنس أعظم خطراً، ففي أيديهم وسائل أُخرى غير الوسوسة، ويظهَرون بمظاهر مختلفة، ويضرّون الناس، وينافقون، ويكونون ذا وجهين، لذلك قدَّم الله شياطين الإنس على شياطين الجن (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ). |
عداوة الشيطان ظاهرةٌ جليَّةٌ ومع ذلك يتَّبِعه خلقٌ كثير:
أيُّها الإخوة الكرام: ومن أعجَب العَجَب أنَّ عداوة الشيطان ظاهرةٌ جليَّةٌ، ومع ذلك يتَّبِعه خلقٌ كثير، قال تعالى: |
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5)(سورة يوسف)
مُبين، ظاهر، لا تخفى عداوته، يريد أن يصل بالإنسان إلى النار حتى في الدنيا، لا تخفى عداوته، لأنه يأمر بالسوء والفحشاء، وأي عدوٍّ أعظم من أن يؤمَر الإنسان بسوءٍ أو بفحشاء، بمُنكرٍ في الأقوال والأفعال، فالشيطان عدوٌّ مُبين ومع ذلك يتَّبِعه خلقٌ كثير، قال تعالى: |
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ(61)(سورة يس)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)(سورة فاطر)
أمرٌ إلهي، لكن تخفى عداوته لأنَّ له أساليب، يتخفَّى من خلالها ويُخفي مكره، فما أساليب الشيطان؟ |
أساليب الشيطان في عداوته:
الأول: يظهَر بمظهر الناصح، لا يأتيك الشيطان ويقول لك أنا سأُضِلُّك، وإنما يأتيك ويقول أنا سأُصلِحُك، أنا أنصح لك، أنا أُريد بكَ خيراً، أنا أُريد لكَ المُتعة، أنا أُريد لكِ أيتها الفتاة الحرية في التبرُّج، يظهَر بمظهر الناصح، منذ عهد أبينا آدم عليه السلام: |
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21)(سورة الأعراف)
أقسَم قسماً بالله، أنا أنصح لكما، أنَّ أطيب شجرة هي تلك الشجرة التي مُنعتُما عنها، وذاك الحلال الكثير لا شأن لكم به، يظهَر بمظهر الناصح. |
ثانياً: يُزيِّن عمل السوء، لمّا يُريد من الإنسان أن يعمل سوءً يُزيّنه له، كأن نأتي بقمامةٍ لها رائحةٌ كريهة، ثم توضع في عُلبةٍ محكمة، ثم تُلَّف بورق الهدايا ويوضع عليها شريطٌ أحمر فتُزيَّن، لكنها قُمامة، يُزيِّن الشيطان للإنسان عمله، قال تعالى: |
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48)(سورة الأنفال)
يُزيّنه لا يقول له هذه سرقة، يقول له هذا حقك في المال، هُم لا يدفعون زكاتهم، الدولة لا تُعطيك حقَّك، خُذ الرشوة، يُزيّن له، هذا ليس زِنا هذا تراضي، هذه ليست فاحشة، واليوم هناك من شياطين الإنس من يخرجون على الشاشات، يُزينون المعاصي للناس. |
ثالثاً: يخطو بالإنسان خطوةً خطوة، حتى يقع في المحظور الكبير، فهو لا يأمُر الإنسان فوراً بالزِنا، لكنه يبدأ من إطلاق البصر، فإذا أطلَق بصره واستمرأها دفعه إلى المصافحة، ثم إلى الخلوة، ثم إلى الصداقة، ثم إلى الابتسامة، ثم الموعد، ثم اللقاء، ثم الزِنا، يتدرَّج به، لذلك قال تعالى: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21)(سورة النور)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(168)(سورة البقرة)
لا تمشِ وراءه لأنه سيوصلك إلى المعصية الكبيرة. |
الرابعة والأخيرة: يتبرأ من الإنسان بعد أن يقع في المعصية والمحظور، قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ) بهذه البساطة، يتبرأ من أتباعه في حركةٍ مُهينةٍ جداً لمتبوعيه، وخبيثةٌ وماكرة، يتبرأ بعد أن يوقعهم في المعصية والإثم والعياذ بالله. |
الشياطين نوعان: شياطين إنس وشياطين جن:
أيُّها الكرام: كما قلت لكم الشياطين نوعان: شياطين إنس وشياطين جن، وشياطين الإنس ينهجون نهج إبليس، أعداؤنا اليوم أعداء الأمة، الذين يريدون بديننا وببلادنا وبنا شرَّاً، يفعلون ما يفعله إبليس اللعين لأنهم أتباعه، ويقتفون أثره ويتَّبِعون أساليبه وحيَله، يتحدثون عن حقوق الإنسان، وقد داسوا بحوافرهم حقوق الإنسان، يُزيّنون اتفاقيات العار ويُسمّونها اتفاقيات أبراهام، وإبراهيم عليه السلام براءٌ منهم ومنها، تزيين يُزيّنون، يظهَرون بمظهر الناصح، الذي يريد سلاماً وأمناً ورخاءً واستقراراً، ويضمرون مكراً وخُبثاً وكيداً، ثم يتبرؤون ممن تبِعهم بعد ذلك، ووثق بهم، وأحسن الظنَّ بهم، بعد أن يحصلوا على مُرادهم منه. |
يجب أن نحذر أعداءنا شياطين الإنس كما نحذر شياطين الجن، النظام الشيطاني البائد نموذجاً لشياطين كُثُر، وقد مرَّت بنا أمس ذكرى مؤلمة، وما أكثر الذكريات المؤلمة في عهده، مجزرة الغوطة بالكيماوي، وكانت أشدّ ألماً فيما سمعت من وقتها على أهل دمشق، لأنَّ من قضوا لا يبعدون عنهم إلا مئات الأمتار، وهُم غير قادرين على الوصول إليهم، بل غير قادرين على الترحم عليهم علناً، بل غير قادرين على إنكار الجريمة أصلاً، لشدّة السطوة والبطش الذي كان. |
أيُّها الإخوة الكرام: هذا النظام الشيطاني غرَّ الكثيرين وهو يدَّعي أنه يحارب الإرهاب، كما تفعل الأنظمة العالمية، هو ليس بدعاً هو كان يُنفِّذ سياستهم في المنطقة، فكان يغرّ الكثيرين بأنه يحارب الإرهاب، وزيَّن جرائمه، كيف زينها؟ بالمُمانعة والصمود والتصدي والوقوف في وجه الإمبريالية والرجعية، زيَّن جرائمه، أنا أُدافع عنكم كما يفعل الشيطان، وخطى بأتباعه وبالمنفاقين له خطوةً خطوة، حتى أوقعهم في شرّ أعمالهم، ثم هرب وحده وتركهم مُتبرِئاً منهم ومن نفاقهم، تركهم يتجرعون الأسى والقلق والخوف، وحيدين لا ناصر لهم ولا مُعين، فشياطين الإنس أيُّها الكرام، يُشابهون شياطين الجن في أدواتهم وأساليبهم وحيَلهم، صدق الله تعالى إذ يقول: |
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(4)(سورة المنافقون)
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا. |
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا رب العالمين. |
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً يا أرحم الراحمين، واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا. |
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن. |
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وأنت لهم بالمرصاد، فصُبَّ عليهم صوتاً من عذاب. |
يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين، اجعل بلادنا أمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف عنها عداوة المُعتدين ومكر الماكرين، وتآمُر المُتآمرين، وكيد الكائدين، ووفِّق القائمين عليها للعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين. |