تأملات في سورة العلق

  • تدبر القرآن الكريم
  • 2025-05-05

تأملات في سورة العلق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبَّلاً يا رب العالمين.
أيُّها الإخوة الكرام: من تدبُّراتنا في كتاب الله تعالى، نتحدث اليوم عن سورةٍ كريمةٍ، هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وهي سورة العَلَق التي ابتدأها المولى جلَّ جلاله بقوله:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)
(سورة العلق)


آيات سورة العلق أول ما نزل على قلب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم:
وتعلمون أنَّ هذه الآيات الأُوَل من سورة العلق، كانت أول ما نزل على قلب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتعبَّد الله تعالى في غار حِراء

{ عَنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فقالَ: {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا ، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا . ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ }

(صحيح البخاري)


الله تعالى يخاطب النبي بقدرته ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يُجيبُه بقدرته البشرية:
والحقيقة أنَّ الله تعالى كان يخاطبه بقدرته، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يُجيبُه بقدرته البشرية، فقدرة الله شيء وقدرة البشر شيء، هذا يُشبه تماماً ما بشَّر الله به زكريا، وقد بلغ من الكِبَرِ عِتيّا، فبشَّره بيحيى واستغرب؟!

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40)
(سورة آل عمران)

ومريم عليها السلام استغربت؟!

قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا(20)
(سورة مريم)

فالله تعالى يخاطب عباده بقدرته، وقد يتحدثون هُم عن قدرتهم، وهذا شيءٌ طبيعي، قدرة الله لا يحدُّها شيء أمّا البشر إمكانيات، فالبشر تحدُّهم القوانين، لكن القوانين لا تحكُم واضعها جلَّ جلاله، فقوانين البشر أنَّ الأسباب تؤدّي إلى النتائج، فالذي يتعلَّم يقرأ، الذي لا يتعلَّم القراءة كيف يقرأ؟ الإنسان إمّا أن يقرأ من شيءٍ مسطورٍ أمامه، أو أن يقرأ من شيءٍ يحفظه في ذهنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أنا بقارِئٍ) والله تعالى قال:

وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)
(سورة العنكبوت)

لو كنت قارئاً لارتاب المُبطلون، ودخلت الريبة إلى قلوبهم وأدخلوها إلى قلوب الناس، بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اكتتب هذه الآيات، وقرأها من محفوظاته ومن معلوماته، وأنكروا عليه أن هذا وحيٌ من الله تعالى.
وقال: (لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) لأنَّ غير المُبطِل الذي لا يريد الباطل، يعلم أن هذا الكلام ليس كلام بشر، لكن المُبطِل يجدها طريقةً للعبَث، ولتشكيك الناس بأحقية القرآن الكريم، وأنه كلام الله تعالى.

الله تعالى لينظِّم الكون جعل الأسباب تؤدّي إلى النتائج:
فالنبي صلى الله عليه وسلم أجاب: (ما أنا بقارِئٍ) انطلاقاً من بشريته، والله تعالى قال له اقرأ انطلاقاً من قدرة الله المُطلقة، التي لا تحتاج النتائج فيها إلى الأسباب، والله تعالى لينظِّم الكون جلَّ جلاله، جعل الأسباب تؤدّي إلى النتائج، فالإنسان إذا أراد الأولاد يتزوج، لأنَّ الزواج سبب للأولاد، لكن ربنا جلَّ جلاله أحياناً يجعل الأسباب موجودةً، ثم لا تؤدّي إلى النتائج، فيتزوج رجُلٌ من امرأةٍ، ويطول زواجهما ولا يأتي الولد، وربما ذهبا إلى الطبيب، وفحص الطبيب كليهما وقال: أنتَ تستطيع الإنجاب، وأنتِ تستطيعين الإنجاب، حتى بالمُعطيات، وكم جرى ذلك، ثم يُطلِّقها، فتتزوج غيره فتُنجِب ويتزوج غيرها فيُنجِب.
فربنا جلَّ جلاله قد يجعل الأسباب موجودةً ولا تؤدّي إلى النتائج، والعكس من دون أسباب تكون النتائج، وهذه مريم عليها السلام، حملَت ووَلَدت دون أن يمسَّها بشَر لماذا؟ لأنَّ الله تعالى يريد أن يوصل رسالةً إلى خلقه مفادُها، أنَّ الأسباب لا تخلُق النتائج، ولكنها تؤدّي إليها بقدرة الله وبإذنه، فإذا لم يأذَن الله لم تفعل الأسباب فعلها، فالنار لا تُحرق إلا بإذن الله، والسكين لا تذبح إلا بإذنه، فالنار لم تُحرق إبراهيم وقد وضِع داخلها، والسكين لم تذبح إسماعيل رغم أنها وضِعت على رقبته، فمفاد ذلك أنَّ الأسباب لا تخلُق النتائج، الله هو الذي يخلق السبب والنتيجة، وعندما يريد يعطِّل الأسباب، لكن هذا يكون بحالاتٍ نادرةٍ جداً، لأنه لو لم تكن الأسباب في الأعمّ الأغلب المُستفيض المُشتَهَر، تؤدّي إلى النتائج، لما استقامت حياتنا، فالمعادن تتمدَّد بالحرارة قانون لا يتغير، لو أنَّ الله غيره يوماً وأعاده يوماً، ما استقام بناء ولا نشأ بناء، لأنه لم يعُد هناك قواعد للبناء، فشاء الله تعالى أن تكون الأسباب مرتبطةً بالنتائج برحمته وحكمته، لكنه يُعطِّلها أحياناً، ليلفِت نظرنا إلى أنَّ الأسباب لا تؤدّي إلى النتائج بذاتها، وإنما بقدرة الله تعالى.

معنى: (اقْرَأْ) (ما أنا بقارِئٍ):
هذا معنى: (اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ) أي ما أنا بقارئ ببشريته صلى الله عليه وسلم، لكن الله تعالى جعله لا يقرأ فقط لقومه، وإنما يقرأ للأُمة وللعالمين، ولا يقرأ في زمانه، وإنما يقرأ إلى يوم القيامة، بكتابٍ خالدٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنبي أُميِّ وأُميَّته وسامُ شرفٍ بحقِّه، لأن الله تولَّى تعليمه فما احتاج إلى علوم البشر كلها، فاليوم طالب الدكتوراه في كلية الشريعة، يدرُس بضع أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُعطى عليها شهادة الدكتوراه، لأنه درَسَ كلاماً قليلاً من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَن الأعلم الذي يقرأ ويكتب أم الذي لا يقرأ ولا يكتب؟
فيا أحبابنا الكرام:
قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) القراءة تكون في كتاب وتكون في الكون، الكون هو كتاب الله المنظور، والقرآن هو كلام الله المسطور، فأنت تقرأ إمّا في كتاب الكون، وإمّا في كتاب الله في آياته قراءة، اليوم الغرب والشرق يقرؤون في كتاب الله المنظور، كل المعارف التي نشأت في البشرية، هي قراءةٌ في كتاب الله المنظور، قراءة في البحار، علوم في البحار، وعلومٌ للفُلك التي تجري في البحر، قراءةٌ في الفضاء، وصلوا إلى ما وصلوا إليه، واكتشفوا السنوات الضوئية، هي كلها قراءة في خلق الله، في كتابه المنظور، ونحن نقرأ في كتاب الله المسطور، نحن المسلمين لنتعلَّم ديننا ولنتعرَّف إلى ربنا، فالقراءة تكون في الكتاب المنظور أو وفي الكتاب المسطور، كلاهما قراءة.

الغرب اليوم يقرأ في الكون لكن لا يقرأه باسم ربه وإنما يقرأه باسم الحداثة والتطور:
فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) والباء هنا هي باء الاستعانة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي مُستعيناً بالله تعالى، أي لا تقرأ في الكون إلا وأنت تستحضر أنَّ هذا الكون هو خلق الله تعالى، لأنَّ الغرب اليوم يقرأ في الكون، لكن لا يقرأه باسم ربه وإنما يقرأه باسم الحداثة والتطور، والحرب والطغيان، والتجبُّر والتكبُّر، والأسلحة والقنابل، والطائرات، فيقرأه قراءة بعيدة عن الإيمان، فلذلك قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) القراءة باسم الله ليست قراءة تبرُّك فقط، نحن عندما نقرأ القرآن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الموضوع ليس تبرُّكاً فقط، لا شكّ أنَّ أي شيء تفعله باسم الله يتبارك، إذا شربت:

{ عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ - أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ }

(رواه الإمام أحمد في المسند)

فأنت تشرب بسم الله، وتأكل بسم الله، وتكتب بسم الله، عندما تُمسك قلماً لتكتُب تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، أي أكتُب مُستعيناً بالله، هذه اسمُها باء الاستعانة في اللغة، فهذا تبرُّك لا شكّ، أيُّ شيءٍ يبدأ باسم الله فيه بركة، والشيء الذي لا يبدأ باسم الله فيه قطع، فهو أبتر مقطوعٌ عن الله، لكن الموضوع ليس مُجرَّد تبرُّك فقط، الموضوع هو حقيقةٌ واقعة، لأن هذه المخلوقات التي تراها في الكون، أنت ما الذي تفعله عندما تقرأ في الكون؟ أنت حقيقةً تكتشف الترابط بين العناصر الموجودة في الكون فقط.
الطبيب عندما يداوي باسم الله تعالى، المرض خلق الله، والجسم خلق الله، والدواء خلق الله، فهو عملياً ماذا يفعل الطبيب؟ يحاول أن يكتشف القوانين، يركِّب الجسم مع المرض، يكتشف المرض الذي أصاب عضو من أعضاء الجسم، ويبحث عن الدواء الذي هو أيضاً من خلق الله تعالى، كي يجمعهم مع بعضهم فيكون الشفاء بإذن الله، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأَ بإذْنِ اللهِ عزَّ وجلَّ }

(صحيح مسلم)

هو قانون، الطبيب يكتشف، اليوم عندما تُصنع الطائرة، إذا قرأتها (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فالله هو الذي خلق الهواء، وهو الذي خلق الحديد، وهو الذي خلق البلاستيك، وهو الذي خلق ثروات الأرض، وهو الذي خلق الطيار، وربنا عزَّ وجل هو الذي جعل في الهواء خاصية، أنه يحمل هذه الأثقال، والإنسان عندما قرأ، قرأ باسم ربه الذي خلق، فجمعهم مع بعضهم فطارت الطائرة في الهواء، أمّا ربنا عزَّ وجل لو شاء أن لا يكون هناك خاصية في الهواء، أن يحمل تلك الأثقال لما حملها، ولو لم يخلِق له العصفور يطير، لما اهتدى إلى أنه يمكن أن يطير بالهواء كما يطير العصفور مثلاً.

كل شيءٍ تقوم به في الكون هو قراءة بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ:
فكل شيءٍ تقوم به في الكون هو قراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أنت تقرأ باسم الله، لا تقرأ باسم العِلم ولا باسم الشعب، تقرأ (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) هو الذي خلق القانون، وهو الذي خلق الشيئين، وأنت من خلال القانون الذي خلقه الله، تربط بين شيئين خلقهم الله، فتقول المعادن تتمدَّد بالحرارة، فالمعادن خلق الله، والحرارة خلق الله، والتمدُّد خلق الله، وأنت اكتشفت فقط أنَّ المعادن تتمدَّد بالحرارة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) انتبه!! هو الذي خلق وليس أنت من خلقت.

خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)
(سورة العلق)

ثم لفت نظره إلى أقرب شيءٍ إليه، إلى جسمه، يعني قبل أن تقرأ في الكون كله، اقرأ في جسمك، أنت انظر إلى نفسِك، تجد العين تتألف من: قرنية وقزحية وشبكية وماء العين، وخلايا تتغذَّى بالحلول وليس بالشعريات، حتى لا ترى وكأنك دائماً من خلال منخُل، فجعل كل خلية تأخذ غذاءها وغذاء جارتها.
الشَعر: مئة أو مئتي ألف شعرة وسطياً، كل شعرة لها غدة دهنية، وغدة صبغية، وشريان ووريد، وعضلة، وأُذُنان تلتقطان مصدر الصوت وجهة الصوت:

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ(8)
(سورة البلد)

وأنف فيه ذاكرة شمّية عجيبة، بحيث إذا شممت الكمون كيف عرفت أنه كمون؟ دَخَلت المادة والكمون له شيفرة، انتقلت إلى الدماغ وتعرَّف عليها، ثم أعطاك من آلاف المواد التي شممتها في حياتك بأنَّ هذه كمون، والتذوُّق نفس الشيء، وفلان من الناس يتصل بك، ومنذ فترةٍ طويلة لم تسمع صوته، عاد صوته وتعرَّف في ذاكرة الأصوات عندك، وعرفت بأنه فلانٌ من الناس، وكذلك اليدين والرجلين والكبد الذي يقوم بآلاف الوظائف، والكليتين اللتين تُصفّيان الماء في اليوم عدد كبير من المرات، ووو إلى آخره...
هذا الخلق كله الذي بين يديك ما أصله؟ قال: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) قطعة دم غليظة رطبة، علقت بجدار الرحم، لأنها لا تستطيع أن تقوم بغذائها بنفسها، تستمد غذاءها من جدار الرحم، هنا بدأ الخَلق، قبله النطفة، لكن الحقيقة بدأت عندما علقت بجدار الرحم، فأصبح هناك خَلق فقال: (مِنْ عَلَقٍ) جاء بهذه المرحلة.

الله تعالى في القرآن يُعلِّمنا إذا قرأنا في الكون أن نتفكر في الشيء وأصله وفي الشيء وعدمه وفي الشيء وخلاف ما هو عليه:
إذاً هذا كله من أين أتى؟ شعر وأظافر وعدسة كله من أين أتى؟ من عَلق لأنه علق في جدار الرحم (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) لذلك ربنا جلَّ جلاله في القرآن يُعلِّمنا إذا قرأنا في الكون أن نتفكر في الشيء وأصله، وفي الشيء وعدمه، وفي الشيء وخلاف ما هو عليه، في الشيء وأصله هذه الآية (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) شيء يجعلك تُعظِّم الله وتُحبّه، عندما تنظر إلى ابنك فتقول: كان علقة وأصبح إنسان.
وأن تتفكر في الشيء وعدمه لو لم يكن موجوداً قال:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ(30)
(سورة الملك)

الآن يوجد ماء، لكن لو لم يكن هناك ماء؟!!
الحالة الثالثة في الشيء وخلاف ما هو عليه: شيء موجود لكن بطبيعة ثانية أيضاً مشكلة:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)
(سورة القصص)

والعكس بالعكس، الماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، هذا وضعه الطبيعي، لو كان الماء موجود لكن بخلاف ما هو عليه، يعني على فرض أنَّ لونه زهري، لصبغَ الدنيا باللون الزهري، إذا أردت أن تمسح الأرض يُصبِح لونها زهر، لم يعُد الماء يُستخدم وسيلةً للتنظيف، لو كان له طعم، يُحبّه بعض الناس ولا يُحبّه الآخرون، لو له رائحة شيء وخلاف ما هو عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) هذه القراءة الأولى نُسمّيها قراءة الإيمان، يعني لا تقرأ في الكون قراءةً، ولا تقرأ في القرآن قراءةً، إلا من دافعٍ إيماني، أن تكون هذه القراءة باسم الله، إذا باسم الله تقودك هذه القراءة إلى تعظيم الله ومحبة الله، كثيرٌ من الغرب قرأوا في الكون أكثر مما قرأ المسلمون، ولكن ليس باسم ربك الذي خلق، سوف يأتي في نهاية السورة، ما الذي أدت به هذه القراءة البعيدة عن الإيمان.
القراءة الثانية هي قراءة الشُكر:

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)
(سورة العلق)

ما قال الكريم هنا، قال الأكرم، ربنا من أسماءه الكريم ومن أسماءه الأكرم، الأكثر كرماً، أكرم في صفاته، أكرم في آياته، أكرم في خلقه

اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)
(سورة العلق)


العلوم تنتقل بالمُشافهة:
العلوم تنتقل بالمُشافهة

خَلَقَ الْإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)
(سورة الرحمن)

تكلم، هذا البيان نعمةٌ من نِعم الله، حتى الكائنات الأُخرى ربنا جعل طُرقاً للتخاطب بينها

حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(18)
(سورة النمل)

لكن نحن ما عُلِّمنا منطق الطير، لكن هُم يتخاطبون، لكن نحن عُلِّمنا البيان، أرقى مستوى في التخاطُب، لغة، العربية وغيرها، هناك بيان

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(31)
(سورة البقرة)

الأشياء لها مُسمّيات، لكن البيان واللغة ينتهي بنهاية الإنسان، بنهاية المجلس، لكن ما الذي يجعل البيان ينتقل من قومٍ إلى آخرين، بالقلم، تُصبح ثقافة أي أمة ليست حكراً عليها، وإنما هي لمجموع الناس، تقول: أقرأ كتاباً لفلان من الناس مُتوفى من مئة سنة (عَلَّمَ بِالْقَلَم) والترجمة تنقلها من قومٍ إلى قوم، تقول: قرأت كتاباً مترجم عن الإنكليزية، فبالبيان المُشافهة، وبالقلم تنتقل العلوم من أشخاصٍ إلى أخرين، عبر البُعد الزماني والمكاني، وبالترجمة تنتقل ليس من جيلٍ إلى جيل، وإنما من قومٍ إلى قوم، هذا كله أجمله الله قال: (عَلَّمَ بِالْقَلَم).

عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)
(سورة العلق)

هذه قراءة الوحي والإذعان.
القراءة الأولى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) قراءة الإيمان، هذه أصل القراءات.
القراءة الثانية: قراءة الشُكر (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ما الذي يقابل أنه كريم؟ أن تشكره، تقول: فلان كان كريماً معي جداً، وأنت ماذا صنعت؟ شكرت له.
القراءة الثالثة: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) قراءة الوحي والإذعان، أي أنت مهما بلغت من البيان والقلم والقراءة في الكون، هناك أشياء لا تعلمها لا بُدَّ أن يُعلّمك الله تعالى إيّاها، هذا الجانب الغيبي هو الجانب الذي غفل عنه الغرب وكثيرٌ من الشرق، أنت مهما بلغت، في مكانٍ مُعيَّن، سيُعلِّمك الله وتأخُذ العِلم مباشرةً، من غير أن تبحث أنت، لأنه مهما بحثت في الكون، لن يقودك هذا البحث وحده، إلى أنَّ هناك يومٌ آخِر، ولا إلى أنَّ هناك ملائكة، ولا إلى أنَّ هناك صراط وقنطرة، وجنَّة ونار، وحساب وعقاب، هذه كلها يُعلِّمك الله إيّاها، فأنت ما دمت قرأت قراءة الإيمان وقراءة الشُكر والعرفان، إذاً ينبغي أن تُدرك تماماً، أنَّ هناك أشياء لا تعلمها سيُعلِّمك الله إياها.

ميّزة المؤمن أنه بلحظةٍ مُعيَّنة يستسلم ويستقبل الوحي:
هذه ميّزة المؤمن، أنه بلحظةٍ مُعيَّنة يستسلم ويستقبل الوحي، أمّا اليوم قد تجد إنساناً يقول لك أتُحدثني عن الغيبيات، والجنَّة والنار، والناس أصبحوا في القرن العشرين، أو يضعوا صورة في الانترنت لطلاب بوكالة ناسا للفضاء، يتعلمون عن الفضاء وعلوم الفضاء، وطلاب بجامعةٍ خليجية يُعلِّموهم دفن الميِّت، يقول لك انظر أين هُم وأين نحن؟ ما هذه المُقاربة الفاشلة؟!! هُم لن يموتوا نهاية المطاف، هناك نقطة آخر شيء، هناك غيب عند المؤمن، هناك مكان (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) في مكانٍ سيقول لك ربنا عزًّ وجل، هكذا طريقة الدفن، وهكذا طريقة الصلاة، وهكذا طريقة العبادة، تقول له سمعاً وطاعةً يا رب، هذه ميّزة المؤمن، فالكون ليس مُجَّرد قراءةً عابرة، من أجل أن نستفيد منها ستين سنة وتنقضي الدنيا، الذي لا يُدرِك بأنَّ هناك أشياء يُعلِّمه الله تعالى إيّاها، من غير النظر والتأمُّل الذي جعله الله تعالى مُهماً جداً لعِمارة الأرض، وأمَرَ الناس أن يقوموا به، عنده قراءة ناقصة (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) إذا لم يقرأ الإنسان هذه القراءات بهذه الطريقة، بطريقة الوحي، بطريقة الإيمان، ما النتيجة؟ قال:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(6)
(سورة العلق)

تُصبح قراءته قراءة طُغيان في الأرض، يستخدم كل ما يصل إليه من خلال قراءة الكون بإفساد الكون، ونرى اليوم في الأرض هذا الفساد العريض، الذي يحصُل من قراءاتٍ غير إيمانية، سواءً الفساد على المستوى الفردي، فساد النساء، فساد العلاقات، فساد المعاملات، سواءً الفساد العظيم في الأرض، اليوم تُصنع أعتى الأسلحة، من أجل قصف شعبٍ لا يملِك من أمره شيئاً، يُقصَف بالقنابل العنقودية، والانشطارية، والقنابل الذكية، والقنابل الخارقة، والحارقة، والمتفجرة، هذا ما صنعه الإنسان عندما قرأ الكون بمعزلٍ عن قراءة الإيمان وقراءة الوحي والإذعان، تكون هذه هي النتيجة، قال:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ(7)
(سورة العلق)

طاعة الله واستغنى عن الله، يعني عندما يقول في ذاته، أو نسمع ذلك موجود في مجتمعات اليوم كثيرة، نحن استغنينا، نحن اليوم نقوم بأمرنا لا حاجة لنا للإله، هكذا بكل وقاحة، هذه هي النتيجة (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ(6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) يعود ربنا جلَّ جلاله ليُذكرنا، بأنك إن نسيت هذه الحقيقة الكبرى، فلا يمكن أن تتغافل عن أن الرجعى إليه جلَّ جلاله.

إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ(8)
(سورة العلق)


افعل ما شئت لكن اعلم أن المرجع إليه جلَّ جلاله وستُحاسَب على كل فعلٍ:
أنت افعل ما شئت، لكن اعلم أن المرجع إليه جلَّ جلاله، وستُحاسَب عن طغيانك، ستُحاسَب عن استخدامك للكون في إفساد الكون، ستتحاسَب عن النفوس التي أُزهِقت، إلى أخره... (إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ) هذا النصف الأول من السؤال.
النصف الثاني:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ(9)
(سورة العلق)

قصة أبي جهل المعروفة، بأنَّ أبا جهل منع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة واستهزأ به، النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ عليه، فقال أبو جهل: إنَّ عندي نادياً، أي مجلس عظيم يفعل ويفعل، فاعتزَّ بعشيرته وناديه ومجلسه المعروف، هذه أصل القصة، لكن القرآن لا يأتي بالقصة فيقول أبو جهل قال، حتى لا تُصبح القصة تاريخ، الموضوع هو قانون وليس تاريخ، فجاء بها لتَصلُح لكل زمانٍ ولكل مكان.
قال: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ) انظر إلى هذا السلوك، انظر إليه، انظر إلى طغيانه، انظر إلى أفعاله:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ(9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ(10)
(سورة العلق)

انظر إليه

أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ(11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ(12)
(سورة العلق)

هذا المَنهي عن الصلاة (أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ) مهتدياً إلى الله (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَىٰ) ويدعو الآخرين إلى تقوى الله تعالى.
ثم:

أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ(13)
(سورة العلق)

الناهي عن الصلاة، الناهي عن العبادات، الناهي عن الطاعات:

أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ(14)
(سورة العلق)

فنحن أمام نموذجين:
نموذج ملتزم بأمر الله، قائم بشعائر الله، يؤدّي ما افترضَ الله عليه، ويدعو الآخرين إليه.
ونموذج مُفسِد في الأرض، يمنع الآخرين من القيام بشعائرهم، ومن الدعوة إلى الله تعالى.

انظر إلى الرسول وانظر إلى أبو جهل كم يلعن اللاعنون أبا جهل وكم يُصلّي المُصلّون على رسول الله:
انظر إلى هذا وانظر إلى هذا، وربنا عزَّ وجل ما قال لك ماذا سترى، أنت انظر وحدك، اليوم انظر إلى رسول الله وانظر إلى أبو جهل، كم يلعن اللاعنون أبا جهل، وكم يُصلّي المُصلّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذهب إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قف أمام قبره وانظر، كم يُصلّي ويُسلِّم عليه الناس في كل لحظةٍ وفي كل آن، يمرّ ملايين الناس في كل عام ليقولوا: السلام عليك يا رسول الله، وينعمون بهذا السلام، هؤلاء الذين يصلون، والذين لا يصلون آلاف الملايين حول العالم، يُصلّون كل يوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُسلِّمون عليه، ويرجون رؤيته، ويطيرون شوقاً إليه، ويستيقظ الواحد منهم مُنتشياً لأنه رأى رسول الله في منامه، وانظر إلى أبي جهل من يترضَّى عنه اليوم، أو مَن يذهب ليبحث عن قبره في المدينة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ)، (أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) ماذا أرى يا رب؟ أنت انظر إلى النتائج..
ربنا عز وجل بسورة الماعون قال:

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)
(سورة الماعون)

هو نفسه الذي لا يؤمن بيوم القيامة، بالحساب وبالجزاء، انظر إلى معاملاته، انظر إلى طبعه، وانظر بالنتيجة إلى من يؤمن بيوم القيامة، فهذه كلمة (أَرَأَيْتَ) في القرآن هي دعوةٌ لك في النظر والتأمل في المآل، في العاقبة، لمّا نزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن فعل أبو جهل ذلك، ربما أبو جهل بضيق أُفقه، بكفره، بجهله، ما نظر بالمآلات، لو نظر بالمآلات وكيف القرآن يُخاطبه وهُم أرباب اللغة، كان أسلم، الله عزَّ وجل يقول له: (أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ(13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ).
أنت اليوم إذا كنت في أي موطن، أو في أي مكان، وحدَّثتك نفسك بشيءٍ لا يرضي الله تعالى، تذكَّر (أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ) إذا كان الله يرى فلا تفعل، وإذا كان الله يرى فإن فعلت فبادر إلى التوبة فوراً، لأن الله يراك.
قال:

كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ(15)
(سورة العلق)

هذا الذي يمنع الناس من الخير، يمنع الناس من الحق، يمنع الناس من أداء واجبهم تجاه الله تعالى وتجاه خلقه (كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته، والناصية هي الشَعر في مُقدِّم الرأس، أي لنأخذن بها، يُقال سفعت بيده أي أخذت بيده (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) أي لنأخذن بناصية رأسه.
وقال تعالى:

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ(41)
(سورة الرحمن)

يعني تُجمع ناصيته مع قدمه فيُلقى في نار جهنم (لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) ثم قال تعالى:

نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)
(سورة العلق)


في الناصية يكون مركز الأفعال والأقوال:
هنا في الناصية يكون مركز الأفعال والأقوال، فالقول كذِب والفعل خطأ، ماذا في الناصية؟ إمّا أنك تُفكِّر أن تفعل، أو تتكلم، فإذا تكلم فهو كاذب، وإذا فعل فهو مُخطئ، ففِعله خطأ وكلامه كذب، ماذا بقي له؟ قال:

نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17)
(سورة العلق)

عشيرته، مجلسه، أقرانه، من يقف معه (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) انظر إلى التحدي الرباني:

فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18)
(سورة العلق)

قارن بينهما، وازن، ربنا ماذا عنده وما هو النادي الذي عنده؟ يعني إذا أراد الإنسان أن يقف في موقف مُعادي للحق، فاعلم من هو الطرف المقابل الذي يقف لك، ربنا عزَّ وجل قال بسورة التحريم:

إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ(4)
(سورة التحريم)

لزوجَتَي رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) يعني كل واحدة تقف بظهر الثانية ليكيدوا لرسول الله، هي غيرة نساء فقط وليست عداوة حق.
(وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ) سند، كما لو أنَّ جنديان بأرض المعركة تمرَّدوا، هل هذا بحاجة لقائد الجيش وقائد الدولة؟! ليعلم من يقف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يقف مع رسول الله، أي إنسان يُفكِّر أن يُعادي الحق، حتى تعلم من هو وراء الحق.

معنى الزبانية:
فهنا قال: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) تهديد (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) والزبانية هُم ملائكة العذاب، وهذه تبدأ من لحظة خروج الروح، يدعو الله الزبانية، وتمتد إلى نار جهنم والعياذ بالله، والزبن في الأصل في اللغة هو الدفع، زبنه أي دفعه، والزبون الذي يأتيك في الدكان لأنه يدافع كثيراً ويفاصل، سُمّيَ زبوناً، فالزبن هو الدفع، والزبانية يدفعون المُستحقين النار في نار جهنم (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ).

كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ۩(19)
(سورة العلق)

كلا أداة ردع وزجر، أي ننهاك بقوةٍ أن تطيع من ينهاك عن الحق، أو أن تطيعه في معصية الله تعالى، لا تُطِعه واسجد لله تعالى، واقترب منه جلَّ جلاله، فهو الذي يحميك ويعصمك من الناس.

الدعاء:
اللهم نصراً لإخواننا في غزَّة عاجلاً غير آجل.
اللهم إنّا نسألك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، أن تُفرِّج عنهم ما نزل بهم، وما أهمَّهم وما أغمَّهم، وأن تُنزِّل عليهم من الصبر أضعاف أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، سريع الحساب، هازِم الأحزاب، اهزم الصهاينة المعتدين ومَن والاهم، ومَن أيَّدهم، ومَن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم إنَّا نسألك يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، أن تُطعِم جائع أهل غزَّة، وأن ترحم شهداءهم، وأن تكسو عريانهم، وأن ترحم مصابهم، وأن تؤوي غريبهم، وأن تغفر لنا تقصيرنا معهم يا أرحم الراحمين، فإنك أعلم بالحال، وأن تُهيئ لهذه الأُمة أمر رشدٍ يُعزّ فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويُذَل فيه الطغاة والمجرمون، ويؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المُنكر، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.