التفكير خارج الصندوق

- خطبة جمعة
- 2025-09-26
- سورية - دمشق
- مسجد عبد الغني النابلسي
التفكير خارج الصندوق
يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
مقدمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: أحياناً يقع الإنسان في مشكلةٍ ويظن أنه لا حلَّ لها، ثم يأتيه من يطرح عليه فكرةً، فيُلهمه الله حلّاً لم يكن ليخطر له على بال، أو يظن أنَّ الأبواب كلها مغلقةً، ولا سبيل له لتقديم شيءٍ لنُصرة دينه أو مساعدة أهله، ثم يفكِّر مليّاً فإذا بطريقةٍ تخطُر على باله، يُلهمه الله إيَّاها ويرضى عنه بها، يُقال عن مثل هذا بالتعبير الحديث، التفكير خارج الصندوق، أصل الفكرة أُحجيةٌ بسيطة، يرسمون تسع نقاطٍ على شكلٍ مربع، ثلاث ضرب ثلاث، ثم يطلبون من الناس أن يَصلوا بين جميع هذه النقاط، بأربع خطوط مستقيمة فقط، دون رفع القلم عن الورقة، يعجز الكثيرون عن الحل، لأنهم يُفكرون داخل هذا الإطار ولا يخرجون خارجه، التحدّي هدفه أن نُفكِّر خارج الصندوق، فالنتيجة إذا أخرج الخطوط خارج الإطار الموهوم الذي رسمه، يستطيع أن يرسم أربعة خطوطٍ مستقيمة، دون أن يرفع يده عن الورقة، ويصِل بين النقاط جميعها. |
يقولون التفكير خارج الصندوق، بمعنى أن يبحث الإنسان دائماً، عن حلولٍ عمليةٍ إبداعية غير مسبوقة، ويُفكِّر مليّاً ثم يجد حلّاً أو فُرصةً، حلّاً لمشكلةٍ أو فُرصةً من الفُرَص لفعل شيءٍ ما، يُقال عن مثل هذا الرجُل: يُفكِّر خارج الصندوق، هذا أصل الفكرة. |
سأُحدِّثكم اليوم عن صحابيةٍ جليلة، كانت تُفكِّر بطريقةٍ إبداعية، فيما يخدم أُمتها، وينصُر دينها، ويُصلِح أُسرتها، نتعلَّم منها كيف نُفكِّر في أمور ديننا خارج الصندوق، لا أقصد في أمور ديننا في الوحي معاذ الله، هذا تفكيرٌ دائماً ضمن الصندوق، لأنه وحيٌ من الله تعالى، فنحن لا نخرُج عنه قيدَ أُنمُلة، أتحدث عن الوسائل، كيف ننصُر ديننا؟ كيف نعمل عملاً صالحاً؟ كيف نتقرَّب إلى الله؟ كيف أَحلُّ مشكلةً؟ كيف أجد فرصةً لنُصرة أهلنا في غزَّة؟ كيف أفعل؟ هذا تفكيرٌ خارج الصندوق. |
يجب أن نُفكِّر دائماً خارج الصندوق لنصرة ديننا:
الحُباب بن المُنذر رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبيل غزوة بدر، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم موقعه، وانتشر الجيش في الموقع، انظروا إلى هذا الأدب ماذا قال: |
{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأصحابهِ: أشيروا عليَّ في المنزلِ، فقال الحُبابُ بنُ المُنذِرِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أرأيتَ هذا المنزِلَ أمنزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه؟ أم هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ، قال : فإن هذا ليس بمنزِلٍ، انطلِقْ بنا إلى أدنى ماءِ القومِ }
(أحكام القرآن لابن العربي)
إذا كان وحيّاً من الله لا أتكلم ولا كلمة انتهى الأمر، أمّا إذا كان رأياً وحرباً ومكيدةً فقُل لي، فكَّر الحُباب خارج الصندوق، يمكن أن نجلس في مكانٍ آخر، فنشرب ولا يشربون، فيكون ذلك عوناً لنا في الانتصار، فنحن ضمن الوحي لا نُفكِّر إلا ضمن الوحي فقط، لا نخرُج عنه قيدَ أُنمُلة، كما في الخُطبة الماضية، مركزيتنا الوحي، لكن عندما يكون الأمر متعلقاً بحياتنا، بنصرة ديننا، بوسائلٍ فعَّالة لعملٍ صالحٍ نفعله، يجب أن نُفكِّر خارج الصندوق. |
القصة الأولى للصحابية الجليلة أم سُليم في تفكيرها خارج الصندوق :
هذه الصحابية الجليلة فكَّرت فيما يُصلِح أُسرتها، وفيما ينصُر دينها، وفيما يخدم أُمتها، إنها أُم سُليم الرُميصاء أو الغُميصاء، روايتان الغمص أو الرمص المعنى نفسه، وهو ما يتشكل في موق العين، فهي الغُميصاء أو الرُميصاء، وهي بنت ملحان الأنصارية من بني النجار، هذه المرأة كانت زوجةً لمالك بن النضر، أسلمت بعد زواجها وبقي زوجها مالك مُشركاً لم يُسلِم، عانت معه ما عانت، امرأة تعيش في كنف زوجٍ مُشركٍ، وهي مُسلمةٌ تريد أن تُربّي ابنها على الإسلام، عانت معه ما عانت، ثم ذهب مالك بعيداً عنها وتوفي، وكان لهما غلامٌ اسمه أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الغلام كانت تُربّيه على التوحيد منذ أن كان عمره خمس سنوات، تقول له: قُل أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمد رسول الله، وزوجها مالك يقول لها: اتركيه لا تُعلّميه، تُعاني مع زوجها في بيتٍ واحد، تريد أن تُربّي ابنها على التوحيد. |
الهدية لرسول الله ليست هديةً لشخصه الكريم بقدر ما هي هديةٌ للدعوة إلى الله تعالى :
بعد وفاة زوجها مالك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، وبدأ الأنصار يُتحفونه بالتُحف والهدايا، كلٌّ يُقدِّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثمَن ما عنده، والهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليست هديةً لشخصه الكريم، بقدر ما هي هديةٌ للدعوة إلى الله تعالى، فهو يُقدِّمها من أجل أن يُعين النبي صلى الله عليه وسلم على مُهمته، على إطعام الفقراء والجائعين، على النهوض بمسؤولياته صلى الله عليه وسلم، محبَّةً به وإكراماً له ولمن معه من المهاجرين، فكان كلٌّ من الأنصار يُتحِف النبي صلى الله عليه وسلم بتُحفةٍ أو هدية. |
هُنا فكَّرت أُم سُليم خارج الصندوق، هي لا تملِكُ شيئاً، زوجها غائبٌ وكان مشركاً، وما معها مال، وما معها تُحف، وبيتها متواضع، فماذا تُقدِّم؟ فماذا صنعت أُم سُليم هُنا؟ أخذت أنس وعمره ثماني سنوات، وجاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أنسٌ رضي الله عنه يروي الحكاية بعد أن شبّ، يقول: |
{ فعن أنس، قال: قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وأنا ابن ثمان سنين، فأخذَتْ أمِّي بيدي، فانطلَقتْ بي إليه، فقالت: يا رسول الله، لم يبقَ رجل ولا امرأة مِن الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة، وإنِّي لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخُذه، فليَخدُمك ما بدا لك، قال: فخدمتُه عشرَ سنين، فما ضرَبني، ولا سبَّني، ولا عبس في وجهي }
(رواه أبو يعلى وغيره في سنن الترمذي)
صدق الله تعالى: |
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)(سورة القلم)
أيُّها الإخوة الأحباب: أُم سُليم لم تجد بين يديها إلا أنس، قدوتها في ذلك مريم عليها السلام عندما قالت: |
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35)(سورة آل عمران)
قدَّمت أم سُليم أعظم مما قدَّمه الجميع وخلدَ ما قدَّمته في ذاكرة الأُمة:
فقدَّمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل التُحف التي قُدِّمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعلمُ عنها شيئاً، إلا هذه التُحفة العظيمة التي هي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيَت خالدةً مُخلدةً إلى يوم القيامة، عُمِّرَ أنس بن مالك مئة عامٍ، وما زال الناس يقولون: هذا خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. |
فكَّرت أُم سُليم خارج الصندوق، لم تقُل ما عندي ما أُقدِّمه، انتهى، أنا معذورة لا أستطيع، لا أملِك مالاً، ولا بيتاً، ولا جاهاً، ماذا أفعل؟ ماذا أُقدِّم؟ وما عندي منصِب لأقدِّمه، فكَّرت خارج الصندوق، وقدَّمت أعظم مما قدَّمه الجميع، وخلدَ ما قدَّمته في ذاكرة الأُمة إلى يوم القيامة. |
أيُّها الإخوة الكرام: يُذكّرني أنسٌ هُنا بصحابيٍ آخر وهو ربيعة بن كعب الأسلمي، هذا الرجُل سُمّيَ خادم وَضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدَم الدعوة في جُزئية، بحث له عن مكانٍ لنُصرة دينه، أنس بن مالك أخذ الخدمة الكاملة، ربيعة بن كعب الأسلمي كان خادم وَضوء رسول الله، الوَضوء هو الماء الذي يتوضأ به الإنسان يُسمّى وَضوءاً، الوضوء هو عملية الوضوء، أي أن يغسل الإنسان وجهه ويديه إلى المرفقين، هذا الوضوء، أمّا الوَضوء فهو الماء الذي يتوضأ به الإنسان، ربيعة بن كعب كان خادم وَضوء رسول الله، ينتظره فيأتي له بالماء ليتوضأ، وضع له شيئاً هنا، كيف فكَّر ربيعة خارج الصندوق؟ ربيعة رضي الله عنه يتحيَّن الفُرَص. |
{ كُنْتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأتَيْتُهُ بوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَلْ فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ، قالَ: أوْ غيرَ ذلكَ قُلتُ: هو ذَاكَ، قالَ: فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ }
(صحيح مسلم)
أُريد أن أُكافئك، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: |
{ ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ }
(الألباني صحيح الجامع)
كل الناس كافأهم رسول الله، هذا موقف المؤمن، كافأه على صنيعه، قال: سَلْ ما بدا لك، هنا كان ربيعة قد فكَّر خارج الصندوق وأعدَّ الجواب، قال: (أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ) كل الناس قد يقول: زوجني، أعطني بيتاً، أجلسني في مجلسك في الدنيا، إذا كان يُحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّا أن يقول له: (أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ) فهذا تفكيرٌ خارج الصندوق. |
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوْ غيرَ ذلكَ يا ربيعة؟) أي انتقِ شيئاً أخف من ذلك، أيُّ شيءٍ تريده للدنيا، قال: (هو ذَاكَ) فقط هذا الطلب الوحيد، قال: (فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ) هذه مرتبةٌ في الجنَّة، تحتاج منك أن تُكثِر من الصلاة والقيام، لتكون إن شاء الله رفيقاً لي في الجنَّة. |
قصة أم سُليم عندما جاءها أبو طلحة الأنصاري خاطباً:
أيُّها الإخوة الكرام: نعود إلى أُم سُليم، بعد وفاة زوجها مالك جاءها خاطِب، وهو أبو طلحة الأنصاري، وهو رجُلٌ ثري، له مالٌ كثير، وله جاهٌ كبير، لكنه مشركٌ، وفي المدينة حُرِّم زواج المسلمة من مشركٍ، جاءها خاطباً، فماذا قالت؟ انظروا الآن إلى أُم سُليم كيف تُفكِّر بطريقةٍ إبداعيةٍ غير مسبوقة، امرأةٌ تُفكِّر بطريقةٍ عجيبة. |
وَلَـو كـانَ النِساءُ كـَمَن فَقَـدنـا لَفُضِّلَتِ النِساءُ عَلى الرِجالِ وَما التَأنيثُ لِاِسمِ الشَمسِ عَيبٌ وَلا الـتَـذكـيـرُ فَـخـرٌ لِلـهِلالِ{ المتنبي }
ماذا قالت له؟ |
{ خطب أبو طلحةَ، أمَّ سليمٍ، فقالت: واللهِ ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ، ولكنك رجلٌ كافرٌ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ، ولا يحلُّ لي أن أتزوجَك، فإن تُسْلِمْ فذاك مهري، وما أسألُك غيرَه، فأسلمَ فكان ذلك مهرَها }
(أخرجه النسائي والطبراني وابن حبان)
مَن يَرُد أبا طلحة؟ رجُلٌ له جاهٌ في قومه ومالٌ كثير، وأخلاقٌ عظيمة، أخلاق الجاهلية الموجودة عند العرب، من الكرم والمروءة والشهامة (ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ) أعطته مكانته، انظروا إلى الاستفتاحية: (ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ، ولكنك رجلٌ كافرٌ) انظروا إلى الحزم، هي لا تسبُّه بل توصِّفه، أنت رجُلٌ كافر لم تُسلِم، وأنا امرأةٌ مسلمة ولا يحلُّ لي أن أتزوج كافراً، العذر واضح، في دين الله لا يمكن أن نفكِّر إلا ضمن حدود الله تعالى. |
الآن هُنا ربما يقول قائلٌ انتهت مهمتها، أُم سُليم الآن تفتح الباب لهداية رجُلٍ تستشعر فيه خيراً، قالت: (فإن تُسْلِمْ فذاك مهري، وما أسألُك غيرَه) فتحت له باب الخير (فإن تُسْلِمْ فذاك مهري، وما أسألُك غيرَه) أنا غنيةٌ عن مالِك الذي جئت به، لا أطمع بمالِك، أنا أطمع بهدايتك إلى الله، قال: أمهليني، العرب ما كان عندهم إسلامٌ صوري، أي أحبَّ فتاةً فماذا أقول؟ قُل أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أسلمت، فتقول له: زوَّجتك نفسي، إذا لم يقتنع لا يُسلِم، قال: أنظريني، أعطني مهلةً، فأخذ وقته ثم جاء فقال: أشهد أنَّ لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالت لابنها فوراً: يا أنس قُم فأنكح أبا طلحة، ابنُها وليُّها، فكانت امرأةً في تاريخ المسلمين، وربما الوحيدة مهرها الإسلام وأكرِم به من مهرٍ. |
فكَّرت اُم سُليم بطريقةٍ إبداعيةٍ لم تُسبَق إليها، هدَت رجُلاً إلى الله وتزوجته، وكان بعد ذلك من أبنائها وأبنائه تسعةٌ كلهم من حُفاَّظ كتاب الله تعالى. |
القصة الثالثة لأُم سُليم كيف تُفكِّر خارج الصندوق:
القصة الثالثة لأُم سُليم كيف تُفكِّر خارج الصندوق، ولِدَ لها أولادٌ فتوعَّك أحدهم، مرض مرضاً شديداً، يروي القصة في الصحيح أنس رضي الله عنه يقول: |
{ اشتَكى ابنٌ لأبي طَلحَةَ وراحَ إلى المسجِدِ وتوفِّيَ الغُلامُ فهيَّأتْ أمُّ سُلَيمٍ أمرَ بيتِها ونشَرَت عشاءَها وقالَت لأهلِها لا يذكُرَنَّ أحدٌ منكُم لأبي طَلحَةَ وفاةَ ابنِهِ فرجَع أبو طلحَةَ ومعهُ أناسٌ من أصحابِهِ من أهلِ المسجِدِ فقالَ ما فعلَ الغُلامُ فقالَت أمُّ سُلَيمٍ خيرَ ما كانَ فقدَّمَت عشاءَه فتعشَّى وأصحابُهُ فلمَّا خرَجوا عنهُ قامَت إلى ما تَقومُ إليهِ المرأةُ فلمَّا كانَ مِن آخِرِ اللَّيلِ قالَت ألم ترَ يا أبا طَلحَةَ إلى آلِ فلانٍ استَعاروا عاريَةً فتَمتَّعوا بها فلمَّا طُلِبَت إليهِم شقَّ عليهِم قال ما أنصَفوا قالَت إن فلانًا لابنها كانَ عاريةً من اللهِ تعالى فقبضَه فاستَرجَعَ ثُمَّ غدا علَى رسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ باركَ الله لكُما في ليلتِكما فحمَلَت بعبدِ اللهِ فلَمَّا ولدَت ولدَت ليلًا فكرِهَت أن تحنِّكَهُ حتَّى يُحنِّكَهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال فغدوتُ بهِ وتمراتِ عجوَةٍ فأتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو يَهنَأُ أباعِرَ له ويَسِمُها فقلتُ يا رسولَ اللهِ ولدَت أمُّ سُلَيم الليلةَ فكرهتُ أن تُحنِّكَهُ حتَّى تحنِّكَهُ أنتَ قالَ معكَ شيءٌ قلتُ تمراتُ عجوَةٍ فأخذَ بعضَ ذلكَ التَّمرَ فمصَّهُ فجمَعَ بزاقَهُ فأوجَرَهُ إيَّاهُ فتلَمَّظَ الصَّبيُّ فقالَ حِبُّ الأنصارِ التَّمرُ قلتُ سّمِّهِ يا رسولَ اللهِ قال هوَ عبدُ اللهِ }
(أخرجه أبو يعلى وابن عساكر في معجم الشيوخ)
كل أُمٍّ في هذه اللحظة وهذا حقُّها نسأل الله السلامة، لا تتمالك نفسها، تنهار، ابنُها جاد بنفسه أمامها وهو صغير. |
أُم سُليم امرأةٌ تفكر دائماً بطريقةٍ إبداعية:
هذه أُم سُليم امرأةٌ تفكر دائماً بطريقةٍ إبداعية، تبحث عن حلٍّ لأي مشكلةٍ، وهناك أشخاصٌ يبحثون عن مشكلةٍ لأي حل، كلما وجدت حلّاً لنُصرة دينك لأمتك، يقول لك الموضوع منتهي، لن نستطيع أن نفعل شيئاً، لقد انتهينا، لن تقوم لنا قائمةٌ بعد اليوم، يبحث عن شيءٍ يُثبِّط الناس، بدلاً من أن ينهض ليحاول أن يُقدِّم ما بوسعه، العقلاء فقط هُم من يبحثون عن الحلول للمشكلات، والحمقى هُم من يبحثون عن مشكلاتٍ في الحلول. |
فكِّر دائماً خارج الصندوق:
أيُّها الإخوة الكرام: فكِّر دائماً خارج الصندوق، بعملٍ صالحٍ تلقى به الله تعالى، لا بُدَّ أن تجد مهما كنت ضيِّق الحال، قدَّمت أُم سُليم ابنها الأول خادماً لرسول الله، وقدَّمت ابنها الثاني مُحتسبةً الأجر عند الله، وقدَّمت زوجها مسلماً تلقى به الله، ضمن أُسرتها قدَّمت كل شيءٍ تملكه، ما قصَّرت في نصرة دينها، قال تعالى: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)(سورة المائدة)
ما معنى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)؟ أي قدِّموا عملاً صالحاً يرضى به عنكم، فيكون وسيلةً لرضا الله، لا بُدَّ أن نبحث عن عملٍ نعمله، النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا ذلك، سأله أحد الصحابة: |
{ يا رسولَ اللهِ أيُّ العملِ أفضَلُ؟ قال: إيمانٌ باللهِ وجهادٌ في سبيلِه قال: قُلْتُ: فأيُّ الرِّقابِ أفضَلُ؟ قال: أنفَسُها عندَ أهلِها وأغلاها ثمنًا قال: فإنْ لم أفعَلْ؟ قال: تُعينُ صانعًا أو تصنَعُ لأخرَقَ قُلْتُ: فإنْ ضعُفْتُ عن ذلك؟ قال: فدَعِ الشَّرَّ فإنَّها صدقةٌ تصَدَّقُ بها على نفسِكَ }
(أخرجه البخاري ومسلم)
تبحث عن رجُلٍ لا يستطيع أن يعبُر الشارع وحده فتساعده، لا يستطيع أن يذهب إلى عمله فتأخذه معك، ضعيف في شيءٍ ما، طالبٌ ضعيفٌ في مادة الرياضيات وأنت قويٌ فيها، تساعده (أو تصنَعُ لأخرَقَ) لعاجزٍ لا يستطيع، قال: (فإنْ ضعُفْتُ عن ذلك؟) أي وجدت نفسي ضعيفاً، قال: (فدَعِ الشَّرَّ فإنَّها صدقةٌ تصَدَّقُ بها على نفسِكَ) ستجد شيئاً، ولو إذا وصلت أن تقول: سأتصدَّق على نفسي بأني لن أؤذي مخلوقاً، عهد الله أني لن أؤذي أحداً، أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، لكن أستطيع أن أتوقف عن إيذاء الناس، لا بُدَّ أن تجد عملاً، فكِّر خارج الصندوق، فكِّر بمد يد العون للمحتاجين، لنُصرة الدين، لرفع راية الإسلام، استفِد من خبرات الآخرين. |
سلمان الفارسي فكَّر يوماً خارج الصندوق فكان في صحيفته غزوة الخندق:
سلمان الفارسي رضي الله عنه، فكَّر يوماً خارج الصندوق، فكان في صحيفته غزوة الخندق، سلمان استفاد من خبرة الفُرس، قال: كانوا يحفرون الخندق، استجاب النبي لفكرته وحُفِر الخندق، وكان سبباً رئيسياً في ثبات المسلمين ونصرهم على عدوِّهم، استفِد من خبرات الناس، اسأل ماذا أصنع؟ ماذا أفعل؟ ابتكر حلولاً تنظيميةً في عملك، نظِّم عملك لعلَّه يكون باباً لمالٍ يأتيك فتُعز به دين الله، وتنصُر به الإسلام، حوِّل نقاط الضعف التي فيك إلى قوة، كل نقطة ضعفٍ يمكن أن تصبح قوةً. |
أبو هريرة فكَّر خارج الصندوق فكان أكثر الناس حفظاً:
أبو هريرة رضي الله عنه كان ضعيف الحفظ، وقد يجهل هذه المعلومة كثيرون، أبو هريرة ضعيفٌ في الحفظ جداً، لا يحفظ، فكَّر كيف يفعل، أُريد أن أنقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأُمة، جعل يدعو الله تعالى أن يقوي حافظته، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: |
{ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أنْسَاهُ؟ قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ، قَالَ: فَغَرَفَ بيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ، فَما نَسِيتُ شيئًا بَعْدَهُ }
(أخرجه البخاري ومسلم)
فكان أكثر الناس حفظاً، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسة آلاف حديث، فكان الراوي الأول، وكانت في الأصل نقطة ضعفه أنه لا يستطيع أن يحفظ، كل عجزٍ يمكن أن يتحول إلى ميزةٍ إذا عالجته بوسائل مختلفة، أن نُفكِّر خارج الصندوق. |
أيُّها الإخوة الكرام: أردت من هذه الخُطبة أن أُحفِّز همَّتي أولاً، وهِمَمكم ثانياً، وهمَّة من يسمعنا عبر وسائل التواصل، بأن نفكِّر دائماً في شيءٍ نفعله، ألّا نستسلم لواقعنا، ألّا نصغُر أمام عظمة وكِبر أعدائنا، عظمتهم بمعنى العظمة المادية، أن نُفكِّر دائماً أن نفعل شيئاً ما لديننا، لنُصرة أهلنا في غزَّة، لنُصرة مقدَّساتنا، لإعلاء راية الله تعالى، والله تعالى يُلهمنا ويُيَسِّر لنا، وربما يكون القليل عند الله كثيراً. |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله. |
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا. |
اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل. |
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، ويسِّر لنا سبيلاً لنصرتهم والقيام بحقِّهم، واغفر لنا ما دون ذلك فإنك أعلم بحالنا يا أرحم الراحمين. |
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن. |
اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصُبَّ عليهم يا ربّي سَّوتاً من عذاب، إنك لهم لبالمرصاد. |
اللهم أنزِل من الصبر والتمكين أضعاف ما أنزلته من البلاء على أهلنا في غزَّة وفي فلسطين وفي كل مكانٍ يُذكر فيه اسمك يا الله، وأنزِل على قلوبهم الرضا بقضائك والسكينة بعده يا أرحم الراحمين. |
اللهم اجعل بلادنا أمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين. |