الأنعام والتوحيد

  • اللقاء السادس عشر من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 118 - 124
  • 2023-10-07

الأنعام والتوحيد

السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللَّهم علّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين، وبعد: فهذا هو اللقاء السادس عشر من لقاءات سورة الأنعام ومع الآية الثامنة عشرة بعد المئة وهي قوله تعالى:

فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ (118)

قضية الأنعام متعلقة بالتوحيد
هذه سورة الأنعام، وسبب تسميتها بسورة الأنعام الحديث عن الأنعام، وقضية الأنعام متعلقة بالتوحيد لأن الذبح ينبغي أن يكون لله تعالى، وكان المشركون يستخدمون الأنعام لذبحها وتقديمها قرباناً لآلهتهم؛ أي يُهلّون بها لغير الله، فالقضية متعلقة بالتوحيد، قضايا العقيدة يظن الناس أنها متعلقة بالفكر وأنه لا علاقة لها بالسلوك، ولو كان الأمر كذلك لقلنا للناس: اعتقدوا ما شئتم، مادام العقيدة لا تؤثر على سلوكك اعتقد ما شئت، لكن ما من عقيدة تستقر في ذهن الإنسان إلا ويكون السلوك تبعاً لها، فلذلك العقيدة مهمة جداً لأنها أصل السلوك، لا يوجد عقيدة جامدة؛ يعتقد ثم لا ينطلق للتنفيذ أي إنسان، الإنسان الذي يجاهد في سبيل الله عقيدة، والذي يقاتل ليكون العز لفلان عقيدة، والذي يأكل على الأنصاب والأزلام عقيدة لأنه يعتقد أن هذه الأنصاب والتماثيل والأصنام تنفعه أو تضره، فيعتقد بها فيأكل ما ذُبح تقرباً لها، فمسائل العقيدة تدور مع الإنسان في كل شيء، هذه سورة الأنعام سميت الأنعام وهي تتحدث عن توحيد الله تعالى لأن الأنعام تعبير عن التوحيد أو عن الشرك، فالمؤمن ينسب النعمة للمنعم ويعتقد أن هذه الأنعام نعمة من الله -عزَّ وجلَّ-أنعم بها عليه فيأكلها وفق منهج الله، والمشرك يقدمها قرابين لآلهته ويأكلها شركاً فيأكلها حراماً، فالعقيدة ترتبط ارتباطاً شديداً ووثيقاً بالسلوك، فقال تعالى: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ) أي عند الذبح (إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ) ما معنى ذلك؟
الإيمان بالله يدفعك إلى الالتزام بمنهجه
معنى ذلك أن الإيمان بالله تعالى هو الذي يدفعك إلى الالتزام بمنهجه، فلا تسألوا عن حكمة ولا عن علة لهذا الأمر، مناسبة الآيات هنا أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين الذين رفضوا أن يأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه ورفضوا أكل الميتة والدم وكذا، كانوا يقولون لهم: ما الفرق بين الميتة التي تٌقتل أو بين الذبح الذي تذبحونه؟ أي إذا أنت ذبحته أصبح حلالاً وإذا مات وحده أصبح حراماً؟! كلاهما قد مات، هذا جهل لأنه حتى في القضية الإجرائية الميتة الدم في داخلها، والذبح يخرج الدم منها فالقضية مختلفة، لكن لو قلنا بذلك، حسناً إذا ذبحناها ذبحاً شرعياً للصنم معنى ذلك لا يوجد ضرر، ضرر جسدي لا يوجد، الدم خرج فلماذا لا نأكلها؟ هذه قضية توحيدية متعلقة بالعقيدة لأنني لا أقبل أن أنسب النعمة لغير المنعم؛ هذا شرك، فهؤلاء بدؤوا يثيرون هذه القضية، المشركون يثيرون هذه القضية، لماذا تأكلون هذا ولا تأكلون هذا؟ هذا مثل هذا، هذا يجوز هذا لا يجوز، من أين جئتم بهذا التحريم؟ فقال تعالى: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ) فالقضية قضية إيمان، فالذي يؤمن لا يسأل عن أسباب، لا يسأل عن علل، لا يسأل عن حِكَم وإنما يكفيه أن الله تعالى أمر حتى يأتمر، ويكفيه أن الله نهى حتى ينزجر(إِن كُنتُم بِـَٔايَٰتِهِۦ مُؤْمِنِينَ)، ثم يقول تعالى:

وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

وهذا استفهام إنكاري، أي ما الذي يمنعكم أن تأكلوا من الذبائح التي ذكر اسم الله عليها عند الذبح؟ فقيل: بسم الله، أوالله أكبر، أو أي ذكر لله تعالى يوحي بأن هذه الذبيحة إنما هي من الله وإلى الله -جلَّ جلاله-، قال: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) فصّل: أي بيّن ووضّح لكم المحرمات، فالله تعالى قال لك: هذا حرام وهذا حلال، فتأكل الحلال وتدع الحرام (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)، وقد فصل الله هذا التحريم في السورة نفسها في الآية (145) في قوله تعالى:

قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ فَإِنَّهُۥ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۚ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍۢ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145)

فالتوضيح موجود في السورة نفسها، وقد فصّله الله في السورة نفسها، وقال البعض: وقد فصّل ذلك أيضاً في سورة المائدة، والحقيقة أن سورة المائدة مدنية والأنعام مكية، فالأولى أن نقول: إن التفصيل في السورة نفسها، وقد بينه الله تعالى في السورة وبيّن المحرمات.
الضرورة تُقدّر بقدرها
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الضرورة هي أن تُلجئ الإنسان شيئاً خارجاً عن إرادته إلى أكل المحرم، لذلك هذه الآية وغيرها من مثيلاتها استنبط منها العلماء قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، واستنبطوا منها أيضاً أن (الضرورة تُقدّر بقدرها) فلا نتجاوزها؛ بمعنى أن الإنسان إذا لم يجد شيئاً يأكله إلا ميتة فإنه يحلّ له أن يأكل منها بقدر ما يدفع عن نفسه الموت ويرد عنه الجوع القاتل، لكن لا يأكل ويكثر من الطعام من الميتة، لذلك قال تعالى: (غَيْرَ بَاغٍۢ وَلَا عَادٍ) أي لا يتعدى الحد المسموح به ولا يظلم في ذلك، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) والحقيقة أن الضرورة مفهوم استخدمه بعض المسلمين في العصور المتأخرة بغير ما أُريد له، فأصبح أي إنسان يريد أن يرتكب حراماً يقول لك: الضرورات تبيح المحظورات، لكن مفهوم الضرورة ليس هو المفهوم الذي دائماً هو المفهوم الذي يفهمه الناس منها، نحن عندنا في السُّلّم: الضرورات والحاجيات و التحسينيات، فالضروريات مثل الهواء الذي نستنشقه، الطعام والشراب الأساسي الذي نأكله هذا ضرورة ، القمح ضرورة، لكن الحاجيات أن يكون الإنسان محتاجاً إلى الشيء مثلاً حتى بالشراء عندما تنزل إلى السوق إذا ضبطت دخلك دائماً أن تشتري الضروريات، وأن تنتقل إلى الحاجيات عند وجود فائض مالي معك، وألا تنتقل إلى التحسينيات إلا عندما تكون قادراً على ذلك ينضبط الدخل، أنا اليوم نازل إلى السوق عندي ضروريات، الضروريات هي الخبز، هي الرز، هي بعض الخضروات اليوم هي الضروريات، لكن أن تشتري مثلاً شيئاً هو حاجة لك لكنه ليس ضرورة مثل المكيف، المكيف حاجة خاصة بالصيف لكنه ليس ضرورة، يمكن للإنسان بمروحة يمضي الأمر مقبول، أما إذا أراد أن يشتري صنوبراً هذا تحسينيات، أما إذا أراد أن يشتري لوحة فنية يضعها في صدر بيته هذه تحسينيات أو كماليات.
الجوال من التحسينيات
فالإنسان دائماً يهيئ نفسه حتى بشرائه أن يدفع أولاً الضرورة ثم إذا فضل معه مال يأتي بالحاجيات، الحاجيات تستقيم الحياة دونها لكن تصبح أفضل بوجودها، وأما الكماليات فهي الأشياء التي وجودها أو عدمها سواء، فهي تضيف شيئاً جديداً لكن عدم وجودها لا يؤدي إلى أي خلل، فهي ضرورة وحاجة وبعد ذلك التحسينيات، فالناس اليوم كثيراً ما يجعلون الحاجيات في مكان الضروريات، وللأسف البعض القليل يجعل التحسينيات في مكان الضروريات، فمثلاً قد يقترض بالربا فيقول لك: أنا مضطر أن أشتري الجوال الجديد، والجوال تحسينيات، ربما يكون الجوال اليوم صار بالحاجيات كأصل الفكرة، لكن تغييره أو أخذ الطراز الأفضل هذا تحسينيات بلا خلاف، فتندفع الحاجة بأي جوال يؤدي الغرض للتواصل مع أهلك في غيابك، فهو حاجة لكن تغييره بشكل مستمر هو تحسين، فقد يقترض بالربا ويزعم أنها ضرورة من أجل شيء تحسيني لكن هذا قليل، معظم الناس يخلطون بين الحاجات والضروريات، فمثلاً يقول لك: أنا ما عندي بيت، فأنا سآخذ قرضاً ربوياً من أجل البيت، حسناً البيت هو ضرورة صح لكن شراء البيت أن يكون البيت ملكاً لك هو حاجة وليس ضرورة تتحقق أي تندفع الضرورة ببيت مستأجر تدفع أجرته، والله يغنيك عن أخذ القرض الربوي، فليست كل حاجة ضرورة، لكن قال الفقهاء: قد تتنزل الحاجيات منزلة الضرورات، أي أحياناً الفقيه قد ينظر إلى حاجة من الحاجات فيجدها قد أصبحت عند هذا الشخص بمنزلة الضرورة، كمثل إنسان يريد سيارة ليعمل عليها، فهي في الأصل السيارة حاجة يمكن أن يعيش الإنسان دونها لكن حياته أفضل بها، لكن بمرحلة معينة المفتي نظر إلى أن هذا الإنسان تحديداً بسبب إعاقة عنده مثلاً أو بسبب أن عمله على السيارة، فإذا كان لا يملك سيارة لا أحد يشغله فسيُخرج من البيت في نهاية الشهر لأنه لا يملك الإيجار، فقد يجد المفتي حالة الشخص أن هذه الحاجة عنده أصبحت تتنزل منزلة الضرورة، فالضرورة مفهومها محدد لكن (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) تعريفها باختصار الضرورة: هي الشيء الذي لا تقوم الحياة إلا بها، أو تلحق الإنسان مشقة شديدة بفقدها، لا تقوم حياته إلا بها، كأن تفوت حياته فهي ضرورة، إنسان جائع سيموت أو يأكل ميتة؛ هذه ضرورة، أو إنسان إن ترك هذا ستلحقه مشقة شديدة، ربما لا يموت لكن يفقد عضواً أو يتلف عضو من أعضائه، بلغ عطشاً شديداً جداً وليس أمامه مثلاً إلا شربة خمر يشربها، فلحقته مشقة شديدة فهذه هي الضرورة، أما أن ننزل الحاجيات منزلة الضرورات بغير ضوابط، أو بغير سؤال أهل العلم والتخصص فهذا من الرقة في الدين، أي أن يكون دين الإنسان هيناً عليه، فكلما وجد شيئاً يقول لك: يا أخي، الضرورات تبيح المحظورات، مضطرون لأخذ قرض ربوي، ومضطرون يترك زوجته بلا حجاب في بلد معين، يقول لك: صارت ضرورة، لأني أخاف عليها أو تريد أن تشتغل، والمشفى يمنعونها بالحجاب فأنا مضطر، حسناً أين الضرورة؟ أنت تعمل وتنفق ويكفي، لا من أجل أن نحسّن وضعنا، فتنزل زوجته إلى العمل بغير حجاب لأنها في بلد يمنع دخول المحجبات إلى أماكن العمل، يقول لك: ضرورة، لا ليست ضرورة، تجلس في البيت ولا تتخلى عن حجابها وعن دينها وزوجها يكفيها، هي ما وصلت إلى مرحلة إن لم تعمل ماتت حتى نقول: قد اضطرت وهكذا.
مفهوم الضرورات ينبغي أن ينضبط وفق ضوابط الشريعة
فمفهوم الضرورات ينبغي أن ينضبط وفق ضوابط الشريعة، فقال تعالى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا) أي كثير من الناس أو من المشركين (لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ) الضلال قد يكون ضلال هوى، وقد يكون ضلال عدم معرفة الطريق، إذا أنت كنت في مكان ولم تدرِ أين الطريق الذي تسلكه، هذا الذي يودي إلى المدينة الفلانية أم هذا الذي يودي؟ فسلكت الطريق الخطأ لأنك لا تعلم، ولا يوجد لافتة توضح أين تذهب، فذهبت في الطريق الآخر، فأنت ضللت الآن الطريق بسبب عدم وجود المعلومة، لكن إذا كنت تعلم أن هذا هو الطريق الذي يودي إلى المدينة، لكن لهوًى في نفسك تريد أن تخالف الطريق وأن تذهب ثم تقول: والله ضللنا الطريق، تأخرنا عليكم، وأنت عندك حاجة في المدينة الثانية فهذا ضلال بالهوى وليس ضلالاً مبنياً على نقص المعلومات، فقال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم) أي بسبب هوى النفس يضلون الناس عن شرع الله حتى هم يحققوا هوى النفس الذي عندهم، (بِغَيْرِ عِلْمٍ ) وطبعاً أي ضلال بالهوى فهو ليس علماً وإنما هو جهل مطلق أن يضل الإنسان بهواه، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) أي بالمتجاوزين للحدود الذين هنا في الآية يأكلون مما حرّم الله عليهم فيتجاوزون الحدود، أو هو أعلم بالمعتدين والعدوان: هو تجاوز الحد في أي شيء.

وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120)

الابتعاد عن ظاهر الإثم وعن باطنه
(وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) هذه الآية كنا ندرّب الطلاب على الحروف اللثوية من خلالها؛ لأن هذا الجزء من الآية يحوي الحروف اللثوية الثلاثة التي غالباً أهل الشام لا ينطقونها، فيجعلون الذال زاياً والضاد ظاءً والثاء سيناً، فيقول عن الإثم: إسم، وقد سأل أحدهم مدرسه قال: يا أستاذ ما هذه اللغة المعقدة بمخارج الحروف، تحتاج أن تضع لسانك بين فكيك حتى تنطق الحرف اللثوي؟ فقال له أستاذه: أتحب أن يقال لك: كسّر الله أمثالك أم كثّر الله أمثالك؟ فشتان بين أن يكسر الله أو يكثر الله، فهذه اللغة عندنا فيها الحروف اللثوية، وهذه الآية تحوي الثلاثة (وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) ذروا: أي اتركوا و ابتعدوا عن ظاهر الإثم وعن باطنه، قالوا: ظاهر الإثم هو علانيته وباطنه هو سريرته، فالذي يُسرّ شيئاً في داخله إثم فهذا باطن الإثم، والظاهر هو أن يرتكبه علانية، فإن ارتكبه خفية فهو باطن، وإن ارتكبه علانية فهو ظاهر، وقيل: ظاهر الإثم هو الآثام التي تجري على الجوارح، وباطن الإثم هو الآثام التي تجري في القلوب، فالحسد إثم باطن، والنظر الحرام إثم ظاهر، والكلام البذيء الفاحش إثم ظاهر، ولكن الكبر إثم باطن، والله تعالى يأمرنا أن نترك ظاهر الإثم وباطنه، والحقيقة أن كل التشريعات الأرضية قد تُعنى ببعض ظاهر الإثم لكنها لا تصل إلى باطنه، فما من تشريع أرضي يمكن أن يضبط باطن الإثم، كل التشريعات الأرضية تُعنى ببعض ظاهر الإثم وليس كله أصلاً، تنهى عن بعض الإثم الظاهر لكنها لا تستطيع أن تنهى عن الإثم الباطن، لكن الله تعالى لأنه عليم بذات الصدور فإنه يدخل إلى داخلك ويأمرك أن تترك باطن الإثم.
(وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) عندنا كسب، وعندنا اكتساب، وقد ميزنا بينهما سابقاً، قال تعالى:

لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

الإثم تحمّل نفسك ما لا تطيق
فالاكتساب غالباً يأتي في القرآن للإثم، والكسب للخير فيكسب الخير ويكتسب الشر؛ لأن الاكتساب فيه مزيد بحرفين الهمزة والتاء(اكتسب، كسب) والزيادة في المبنى زيادة في المعنى، فالإثم تحمّل نفسك ما لا تطيق، والإثم دائماً يحاول الإنسان أن يفعله بالخفاء وألا يظهره أمام الناس فهو يكتسبه اكتساباً بينما الخير يكسبه، لكن هنا قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْسِبُونَ ٱلْإِثْمَ) وما قال: يكتسبون، قال بعض أهل العلم لأن الإنسان عندما يكثر من اكتساب الإثم يصبح أخذه هيناً عليه فيصبح كسباً، فالأصل الاكتساب لكنه قد يصبح عند بعض الناس كسباً، فأنت اليوم قد تقول لإنسان: يا أخي هذا الذي تفعله لا يجوز، يقول لك: أنا أفعله أمام الناس، يجاهر بالمعصية وكأنه يكسبه لا يكتسبه، (سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) أي سيجزون على ما اكتسبوا من الإثم.

وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

ينهانا الله تعالى هنا أن نأكل من اللحوم أو الذبائح التي لم يذكر اسم الله تعالى عليها ويسميها بالفسق، والفسق هو الخروج عن منهج الله تعالى وعن طاعته، التمر عندما تفسق الرطبة يخرج غلافها عنها فتفسق، فالخروج عن منهج الله هو الفسق، فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه فسق، والحقيقة أن العلماء اختلفوا في الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، فالإمام مالك -رحمه الله- يقول: "إن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله سواء فعل ذلك الذابح عامداً أو ناسياً"، أي إذا الذبيحة لم تعلم يقيناً وقفت أمامه لما ذبح لم يذكر اسم الله عليها ناسياً أو عامداً فعند المالكية لا تؤكل عملاً بظاهر الآية (وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ)، وأما الحنفية ففصلوا، فقالوا: إن ترك ناسياً، أو الجمهور قالوا: إن ترك ناسياً فتؤكل الذبيحة لقوله صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ، والنسيانَ، وما اسْتُكرِهوا عليه }

(أخرجه ابن ماجه واللفظ له، والطبراني، والبيهقي عن عبد الله بن عباس )

رفع الأثر المترتب على النسيان
أي رُفع الحكم يعني الخطأ، النسيان لم يرفع فكلنا نقع في النسيان، لكن رفع الأثر المترتب على النسيان، ورفع الحكم منها فأجازوا الأكل ممالم يذكر اسم الله عليه نسياناً، وحرموا الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه عامداً، وأما الشافعية فقد قالوا: إن ذكر اسم الله على الذبيحة مستحب وليس واجباً، فلو تركه عامداً أو ناسياً فإنه يؤكل، هذا كخلاف فقهي، والحقيقة أن الراجح في المسألة مع وجود هذا النهي أن الأصل أنه لا يجوز أن يؤكل مما لم يذكر اسم الله عليه عمداً، ولكن إذا نسيه فـ(وضع عن أُمَّتي الخطأَ، والنسيانَ) عملاً بالجمع بين الأدلة، ولكن ماذا يصنع الإنسان الذي لا يعرف أهذه الذبيحة ذكر اسم الله عليها أولم يذكر؟ هذا ما علمنا إياه صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: تأتينا الذبائح لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لم يذكر، فما قال لهم اذهبوا فاسألوهم: كانوا ذكروا أم لم يذكروا؛ لإن الإسلام يريد أن يغلق هذا الباب الذي فيه شك ووسواس، فقال:

{ سَمُّوا اللَّهَ عليه وكُلُوهُ }

(صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين)

مع أن هذه التسمية ليست تسمية الذبح لأن الذبح قد تم وانتهى، ولكنها تسمية الأكل، وقال بعض العلماء أصلاً بوجوب التسمية قبل الأكل لعموم الأدلة التي تأمر بأن يسمي الإنسان بالله تعالى قبل أن يأكل، فقال: (سَمُّوا اللَّهَ عليه وكُلُوهُ)، فالذبائح التي تأتينا اليوم نحن لا نشهدها، لكن إن شهدها الإنسان ينبغي أن ينتبه إلى أن الذابح قد ذكر اسم الله عليها، أما التي تأتيه جاهزة مذبوحة، فما دامت مذبوحة وفق الشريعة مذكاة فيأكل منها من غير أن يسأل إن كان قد ذكر اسم الله عليها أو لم يذكر، والحقيقة أيضاً أن الأمر الذي ينبغي أن يذكر هنا أن الأكل من الذبائح يحتاج إلى شرطين: الشرط الأول: أن يكون قد ذكر اسم الله عليها، والشرط الثاني: أن تكون مذكاة؛ أي قد ذُبحت وفق شرع الله تعالى، فقطعت أوداجها و لم يُقطع رأسها كاملاً، أو لم تُصعق، أو لم تُقتل، أو لم تكن متردية أي تردت من شاهق، أو نطيحة نطحتها أختها حتى ماتت، أو موقوذة قد ضُربت بالعصا حتى ماتت:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلْأَزْلَٰمِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)
(سورة المائدة)

أي إذا وجدناها ميتة قد أكلها السبع فلا يجوز أن تؤكل إلا إذا كان كلباً معلّماً على الصيد يأخذها كما تؤخذ الذبيحة تماماً إلى آخره من أحكام الذبائح، فطريقة الذبح لها جزء من الموضوع، وذكر الله له جزء من الموضوع، ذكر الله عليها نحن اليوم تأتينا الذبائح فنأكلها وأحل لنا الشرع ذلك، قال: (سَمُّوا اللَّهَ عليه وكُلُوهُ)، لكن الثانية هي طريقة الذبح، وهذا الذي وقع به بعض الخلل عند بعض الناس، خاصة المقيمين اليوم في الغرب، فيقولون: يا أخي إن الله تعالى أحل لنا ذبائح أهل الكتاب فقال:

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ ۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِىٓ أَخْدَانٍۢ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ (5)
(سورة المائدة)

لا بد من تحري اللحم الحلال
فنحن اليوم نأكل من طعامهم، ونسوا أن ما يباح هو ذبائح أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب يذبحون ذبائحهم أي يذبحونها وفق شريعتهم، لذلك اليوم إذا كان إنسان في الطائرة وأراد أن يأكل لحماً مذبوحاً كما يذبح في الشريعة الإسلامية فإنه يطلب طعام يهود ويأكل منه لأنهم يذبحون حتى الآن، لكن الذين لا يذبحون اليوم في بلاد الغرب لا تؤكل ذبيحتهم أولا تأكل ميتتهم لأن الميتة يحرم أكلها سواء قتلها مسلم أو قتلها غير مسلم، فالقضية هي في طريقة الذبح، فالذي ذُبح يؤكل ولو ذبحه أهل الكتاب، والذي مات حتف أنفه أو بصعق أو بكهرباء أو إلى آخره فإنه لا يؤكل بغض النظر في أي مكان، فلا بد من تحري اللحم الحلال، والذي جُهل حاله يؤكل سواء جُهل حاله أذكر اسم الله عليه أو لا، أو جُهل حاله بأنه مذبوح أو ميتة أي جاءك لحم لا تدري، فالأصل أنه مذبوح مثلاً فتأكل، أما إذا كنت في بلاد معروف انها تنهى عن الذبح ولا تقوم به وإنما يقتل الحيوان قتلاً فعندها لا يجوز أكله لأنك تعلم أنه ميتة.
الوحي هنا هو الوسوسة
(وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ) الوحي هنا هو الوسوسة، لأن الوحي في الأصل هو الإعلام بخفاء، فالوسوسة يطلق عليها الوحي من هذا القبيل، (وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ) وهم مردة الجن (لَيُوحُونَ إِلَىٰٓ أَوْلِيَآئِهِمْ) أي من يوالونهم من المشركين (لِيُجَٰدِلُوكُمْ) أي ليجادلوكم في أكل الميتة كما قلنا في أسباب النزول أن هذه ميتة وهذه ميتة الاثنان ماتا، لماذا تأكلون هذه ولا تأكلون هذه؟ نقول لهم: لأن هذه ماتت حتف أنفها، وهذه سمح الله بها لأننا ذكيناها وذبحناها، حسناً لماذا تأكلون ما لم يذكر اسم الله عليه مع أنه ذُبح ذبحاً؟ نقول: هذا موضوع متعلق بعقيدتنا وبتوحيدنا، فنحن لا ننسب النعمة إلى غير الخالق ثم نأكل منها، النعم تنسب إلى المنعم -جلَّ جلاله-، فقال: (لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وهذا نص بأن الإنسان عندما يتّبع المشركين في أفعالهم فإنه يوسم بالشرك، وإن قال: أنا لست مشركاً أنا موحد، لكنه اتبع المشركين في أفعالهم، وفعل أفعالهم وهو يعلم حرمتها في دينه فإنه يُسمى باسمهم (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِۦ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍۢ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)

هذا تشبيه، عندنا ميْت (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا) والميْت هو الذي مات؛ أي انتهى، والميّت هو الذي سوف يموت، فكلنا ميّتون.

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)
(سورة الزمر)

الحياة هي حياة الإيمان
فإذا قضى الإنسان سمي ميْتاً انتهى، (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا) لا حراك به، لا حياة فيه (فَأَحْيَيْنَٰهُ) بالهداية، كان ميتاً بالضلال، والضلال موت والحياة هي حياة الإيمان(فَأَحْيَيْنَٰهُ)، وبعد أن أحييناه بالهداية (جَعَلْنَا لَهُۥ نُورًا يَمْشِى بِهِ)، هذا النور هو المنهج لأنه إن كان حياً دون نور يمشي به فهو ليس حياً، هو يعيش لكنه لا يحيا، فكان ميتاً بضلالته فأحياه الله بالهداية ثم جعل له منهجاً يسير عليه حتى يحقق حياته وفق منهج الله، قال: (كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ) في ظلمات الضلال، ظلمات البعد عن الله ، ظلمات الشقاء، وكما تلاحظون الأول جعل له ما قال: أنواراً، وإنما قال: نوراً، والثاني في الظلمات يتخبط بين ظلمة النفاق والشك والريب، وظلمة الكفر، وظلمة الفسق، (كَمَن مَّثَلُهُۥ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍۢ مِّنْهَا) وهذه الباء للتأكيد، هذه الباء تدخل في خبر ليس للتوكيد، فنقول: ليس الجو صحواً، يقول: ليس الجو بصحوٍ للتوكيد (لَيْسَ بِخَارِجٍۢ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الشياطين تزين للكافرين أعمالهم فتحسنها وتظهرها على أحسن الصورة وإن كانت سيئة (كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)

(وَكَذَٰلِكَ) تشبيه أي كان هناك أمثال دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
(سورة الفرقان)

أي سنة الله تعالى في الأنبياء أن يجعل لكل نبي عدواً؛ هذه سنة، فإذا إنسان دعا إلى الله وقال: لا أريد أن يكون لي عدو، فهو لا يفقه سنن الله، سنة الله أن النبي عندما يأتي يدعو إلى الله تعالى يريد الخير بالناس، ينهض إليه أناس تتعطل مصالحهم وأهواؤهم، فيبدؤون بمعاداته وصرف الناس عنه حتى لا تتعطل مصالحهم، فقال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا) كل قرية فيها مجرمون، والجرم في الأصل هو القطع، يجرم اللحم يقطعه، فالجرم هو القطع في الأصل، والمجرم عندما يرتكب جرمه ينقطع عن مجتمعه ويعزل نفسه عن مجتمعه بإجرامه، فسمي مجرماً لأنه انقطع بإجرامه، فالخير وَصْلٌ والإجرام انقطاع، (أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا) هذا إنسان قال لك: أنا من أكابر القرية، قل له: وهناك من أكابر مجرميها، فليس الأكابر دائماً مدحاً، فالإنسان يكون كبيراً بخلقه، ودينه، وعفته، وطهارته، وصدقه، وعفافه، وأمانته، لكنه لا يكون كبيراً بإجرامه، فقال: (أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا) أي هم من الكبراء، ليسوا أناساً عاديين لكنهم أكابر المجرمين -والعياذ بالله-، قال: (لِيَمْكُرُواْ فِيهَا) فإذا بهم يمكرون ويعيشون في الأرض فساداً بحيل وكيد في دعوتهم الناس إلى سبيل الشيطان، قال: (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) مكر الإنسان يعود عليه، عندما يكيد للآخرين إنما هو يكيد نفسه، وعندما يمكر يمكر بنفسه، (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).

وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124)

الله تعالى لا يُسأل عما يفعل
عندما تأتي هؤلاء الأكابر الكفار والمجرمين آية من الآيات التي ينزّلها الله تعالى على أنبيائه قالوا: لن نؤمن حتى يعطينا الله مثل ما أعطى الأنبياء من النبوة والرسالة، أي نحن ما الذي ينقصنا حتى نكون أنبياء ورسل (لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ) أجابهم المولى -جلَّ جلاله-: (ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) فالله تعالى لا يُسأل عما يفعل -جلَّ جلاله- فهو أعلم حيث يجعل الرسالة في محمد -صلى الله عليه وسلم- أو في غيره من الأنبياء والرسل- صلوات ربي وسلامه عليهم جميعاً-.
(ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ) صغار أي ذلة ومهانة، (سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ) أي ذل ومهانة بتكبرهم عن الحق، وعذاب شديد بسبب مكرهم الذي كانوا يمكرونه (بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ) هذه باء السبب؛ أي بسبب مكرهم سيصيبهم ذل ومهانة وعذاب شديد من الله، عندنا عذاب مهين في القرآن، وعذاب آليم، وعذاب عظيم، وعذاب شديد، -والعياذ بالله-فالعذاب الأليم أي يحدث ألماً كبيراً.

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
(سورة النساء)

وهناك عذاب مهين، ليس الأمر متعلقاً بقوته لكن متعلق بطبيعته، فإذا إنسان له مكانة كبيرة في المجتمع وجاءه شخص قام بسبه وشتمه أمام الناس فهذا عذاب لم يؤلم جسده ولكنه أهانه؛ عذاب مهين، وهناك عذاب عظيم بحجمه، والعظيم إذا قال عن العذاب عظيماً فما عساه يكون؟! وهناك عذاب شديد فيه شدة على الجسد وشدة على النفس؛ أي الشديد تشمل الأليم والمهين فيه شدة على الإنسان على نفسه وعلى جسده، فالعذاب عند الله يوصف بالأليم والمهين والشديد والعظيم، نسأل الله السلامة، هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.