إرادة الله عز وجل - يوم الحشر

  • اللقاء السابع عشر من تفسير سورة الأنعام - شرح الآيات 125 - 130
  • 2023-11-04

إرادة الله عز وجل - يوم الحشر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللَّهم علّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين، وبعد:
هذا هو اللقاء السابع عشر من لقاءات سورة الأنعام ومع الآية (125) وهي قوله تعالى:

فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

الحقيقة أن هذه الآية الكريمة قد يُشْكل فهمها على غير طلاب العلم وأما على طلاب العلم فهي واضحة، ربنا -جلّ جلاله- له إرادة وإرادته تنقسم إلى قسمين؛ من صفاته أنه مُريد -جلّ جلاله- وإرادته تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية.
1-وأما الإرادة الشرعية: فهي ما يريده ويحبه ويرضاه كإيمان المؤمن وإحسان المحسن هذه إرادة شرعية.
لا يليق بملك الملك أن يقع في ملكه شيء لا يريده
2-وله إرادة كونية: هذه لا ترتبط بالضرورة بما يحبه أو يرضاه، فكفر الكافر يقع بإرادة الله لكن بإرادته الكونية وليس بإرادته الشرعية؛ لأنه لا يليق بملك الملك -جلّ جلاله- أن يقع في ملكه شيء لا يريده، قد يقع في ملكه بإرادته شيء لا يرضاه أو لا يحبه لكنه يريد أن يقع، ربنا -جلّ جلاله- يريد أن يقع الشر أحياناً؛ الشر النسبي الذي يوظفه الخالق للخير المطلق، ما يحدث اليوم على أرض غزة يحدث بإرادة الله، المشافي التي تُقصف تُقصف بإرادة الله لكن ليس بأمره ولا برضاه، هو لا يرضى عن ذلك-جلّ جلاله- ولا يأمر به لكنه يريده؛ بمعنى أنه يسمح لأعدائه المتكبرين المتغطرسين أن يُفرغوا حقدهم وغلهم، وأن يفعلوا ما يبدو للناس أنهم يفعلون ما يشاءون، وفي الوقت نفسه يتخذ من عباده المؤمنين شهداء يرفعهم إلى منازل عالية يكفّر عنهم خطيئاتهم ويرفع درجاتهم، فكل ما يحدث في الكون يحدث بإرادة الله، ولا يليق في ملك الملك أن يقع في ملكه شيء لا يريده(فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ) فهنا أراد الله تعالى الهداية بشخص فشرح صدره؛ بمعنى أنه وسّع صدره لقبول الحق، يوسع صدره لقبول الحق، يزين الحق له، يهيئه لقبول الحق، وبعد حين يجعل قلبه متعلقاً بالحق، كان بعض العارفين يقول:" يا رب، نخشى ألا تثيبنا على طاعاتنا لأننا نفعل ما تهوى أنفسنا" أي هو يقوم إلى الصلاة لشيء يحبه حاله "أرحنا بها يا بلال" فمن شدة ما شرح الله صدره للحق والخير أصبح يفعله حباً وكرامة لا تكليفاً، فأصبح يخشى على نفسه ألا يثاب عليه لأنه يفعل شيئاً يحبه، ومن هنا جاء في الحديث:

{ لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به }

(أخرجه ابن أبي عاصم، والخطيب، والبيهقي باختلاف يسيرعن عبد الله بن عمرو)

أي الإيمان الكامل المطلق، (حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به) يحب الخير، يحب الحق، يحب أهل الحق، فهذا منشرح الصدر أيضاً، فالله تعالى يهدي عباده، بدايةً يهدي كل عباده، كل العباد هداهم الله؛ بمعنى أنه دلهم على الطريق، الهداية بمعنى الدلالة هذه حصلت لجميع الخلق، قال تعالى:

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ (12)
(سورة الليل)

تكفّل الله تعالى بهداية خلقه
تكفّل الله بهداية خلقه، الآن الذين استجابوا هداهم هداية التوفيق وهي المعنية في هذه الآية (فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ) لماذا شرح صدر هذا للإسلام وجعل صدر هذا ضيقاً حرجاً، انتقاء؟ معاذ الله، حاشا لله تعالى أن ينتقي من عباده صنفاً يهديهم هكذا، وصنفاً يضلهم هكذا ثم يُدخل المهتدين الجنة والضالين النار، وعندها- والعياذ بالله- تكون للناس حجة على الله، يقول: "يا رب، هديته ولم تهدني"، لا، يهدي من أراد الهداية ويضل من أراد الضلالة، فالهداية منه والإضلال منه.

وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَىٰهُمْ تَقْوَىٰهُمْ(17)
(سورة محمد)

إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ (5)
(سورة الصف)

(فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) يهيئه لقبول الحق ثم يحبب الحق إليه ويزينه في داخله، فتجده منقاداً للحق، يحب الحق وأهل الحق، ومن يرد أن يضله لأنه أراد الضلالة وسعى إليها، فأراد الله له الضلالة ولم يأمره بالضلالة ولم يرضَ له الضلالة، كقوله تعالى:

إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُۥ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (7)
(سورة الزمر)

قانون الجاذبية يجذب الأشياء إلى الأسفل
فهو لا يرضى لعباده الكفر والضلال، ولكنه يريده لمن أراد الضلال فيريد الله له الضلال (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ) الصدر ضيق بمعنى أنه لم يعد في داخله متسع للهدى والخير، صدره بحجم صدر الآخر، الصدر كناية عن داخل الإنسان لا يختلف بين إنسان وآخر، كيف يضيق الصدر؟ أنت تتزوج، في بداية زواجك تأخذ بيتاً من غرفتين، تقول: يكفيني أنا وزوجي، يأتيك ولد صغير، تقول: البيت جيد، ولدان ثلاثة، تقول: ضاق البيت بي، البيت ما عاد يتسع لوجود أشخاص جدد في داخله، فعندما يمتلئ قلب هذا الإنسان بالضلال فيصبح صدره ضيقاً لا يقبل الحق، ويصبح حرجاً والحرج أعلى من الضيق، حرّج عليه كذا أي ضيّقه عليه وربما منعه منه، (ضَيِّقًا حَرَجًا) أي بدأ بالضيق ثم بالحرج كأنه قال: ضيقاً أشد ضيق ممكن، قال: (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ) أي كأنما يتكلف أمراً لا يطيقه، الإنسان لا يطيق أن يصّعد في السماء، يطيق أن ينزل إلى الأرض وفق قانون الجاذبية الإنسان إذا نزل عن السُّلم ينزل بسهولة، إذا أراد أن يصعد يصعد بصعوبة؛ لأن قانون الجاذبية يجذب الأشياء إلى الأسفل، فإذا خالف القانون وصعد فإنه يجد صعوبة في الصعود، وقال: (يَصَّعَّدُ) ولم يقل: يصْعَد، (يَصَّعَّدُ) أصلها(يتصعد) ثم قُلبت التاء صاداً و أُدغمت في الصاد الثانية، فأصبحت (يَصَّعَّدُ) للدلالة على أنه صعود بعد صعود؛ أي يتكلف الصعود يحاول بمشقة وكأن إنساناً يتسلق الجبل، انظر إلى هذه الصورة (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ) فهو غير قادر على قبول الحق كحال إنسان تكلفه شيئاً لا يطيقه، فإذا جلس في مجلس فيه خير، فيه علم يقول لك: ما استطعت أن أجلس يا أخي، هؤلاء يتكلمون في الغيبيات، إذا كان يقلب في الهاتف، و برز له مقطع فيديو يتحدث عن الآخرة يجاوزه لا يريد أن يسمعه، يشعر أن الخير شيء فوق طاقته، (كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ) فهذا أضله الله على علم، وأضله الله لأنه أراد الضلالة، وهذه الآية فيها إشارة علمية لو أردنا أن نفسرها تفسيراً علمياً إلى أن الإنسان عندما يصّعد في السماء فإنه يقل الأكسجين، الأكسجين كلما نزلنا إلى الأرض يكون أكثر، فإذا صعدت في مرحلة معينة ربما تنفجر شرايين الإنسان يصبح في حالة حرج شديد وضيق شديد، يبدأ نفسه بالتضيق إلى أن يصل إلى مرحلة عالية جداً، فإذا لم يكن هناك تدابير لازمة من الأكسجين كما يفعلون في الطيارات فيضغطون الطائرة بالأكسجين، فإنه يضيق صدره ضيقاً عظيماً حتى يفقد وعيه، ففيها إشارة علمية إلى أن الصعود في السماء عند انخفاض الأكسجين يؤدي إلى اختلال الضغط الجوي مما يؤدي إلى مشكلة الضيق والحرج في الصدر، وهذه لم تكن تُعلم وقت نزول الوحي، وإنما الذي فهمه الصحابة منها ومن بعدهم بأن الإنسان يتكلف شيئاً لا يطيقه عندما يرغب في الصعود، فكيف يصعد فيحمل نفسه شيئاً لا يطيقه، ومع ذلك فإن الله -عزَّ وجلَّ- لما ذكر موضوع التاركين للجهاد القاعدين عن الجهاد، قال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلْءَاخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا فِى ٱلْءَاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
(سورة التوبة)

فسمّى القعود في الأرض تثاقلاً، وهو أنه الأيسر على الإنسان أن يجلس في الأرض لأنه هو وفق قانون الجاذبية، ولكنه لما ترك معالي الأمور، لما ترك الخير، ترك كلمة الحق، ترك الجهاد بماله أو بنفسه فهو مُثّاقل إلى الأرض يريد الحياة الدنيا ولا يريد الحياة العليا، قال: (كَذَٰلِكَ) أي كحال هذا الذي يصّعد في السماء (كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ) أي العذاب (عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) بالله تعالى،(كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) أي كما أنه أضلهم وحجب عنهم الحق عندما رفضوا الحق فأصبحوا لا يطيقونه فبهذا السبب يستحقون العذاب من الله تعالى، واستحقاقهم للعذاب هنا دليل واضح على أنهم هم من أعرضوا عن الحق، وأن الله أضلهم تجسيداً لرغبتهم التي أرادوها وهي الضلال،(كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) ثم يقول تعالى:

وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَذَّكَّرُونَ (126)

الصراط هو الطريق السوي
أي إذا أردت أن تكون ممن شرح الله صدره للإسلام فاسلك الصراط المستقيم حتى يشرح الله صدرك للإسلام (وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) هذا يعني واضح، أي أنه واضح لا لبس فيه ولا غموض، والصراط هو الطريق السوي لكن مع استوائه أي إمكانية السير فيه قد يكون معوجاً، أما الصراط المستقيم فهو لا اعوجاج فيه، والمستقيم هو أقصر طريق بين بداية ونهاية، رياضياً المستقيم أقصر طريق بين بداية ونهاية، (وَهَٰذَا صِرَٰطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) أي يصل بك بأسرع ما تتصور إلى الحق، (قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ) أي قد وضحناها وبيناها بشكل لا لبس فيه ولا غموض، (قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ) سواء الآيات القرآنية، أو الآيات الكونية التي تدل على وجود الله، أو آيات الأفعال التي تدل على وجود الله من خلال أفعاله العظيمة في الكون، (قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍۢ يَذَّكَّرُونَ) والتذكر يدل على أن الإنسان عنده شيء مركوز في داخله فيذّكّره؛ بمعنى أنه يتذكر الفطرة التي فُطر عليها، قال:

لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127)

هذه جملة اسمية(لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ) أصلها دار السلام لهم؛ دار: مبتدأ، ولهم شبه جملة: خبر، السلام: مضاف إليه أضيف إلى الدار، (دار السلام لهم) هذا أصل الجملة، ثم جاء الخبر قبل المبتدأ فقال -جلّ جلاله-: (لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ) وهذا إشارة إلى أن دار السلام لا يستحقه إلا المؤمنون، فالتقديم والتأخير يفيد التخصيص والحصر والقصر (لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ) كأنه قال: دار السلام لهم وحدهم، وهذا من بلاغة اللغة العربية الاختصار، لا داعي لأن نقول: دار السلام لهم وحدهم دون غيرهم،(لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ) إذاً وحدهم دون غيرهم، أما دار السلام لهم أي ولغيرهم إن لم تنص على خلاف ذلك، كما مر معنا قبل الآيات:

ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)
(سورة الأنعام)

كلمة الدار أوسع من البيت
أي لهم وحدهم دون غيرهم، فهذا التقديم والتأخير يفيد الحصر والقصر والتخصيص(لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ)، وهذه الدار أوسع من البيت، البيت يبيت فيه الإنسان فيسمى بيتاً، أما الدار فيها حياته ومبيته، يقول: هذه داري أي نشأت بها، تربيت بها، أعمل بها، أجلس مع أهلي بها وأبيت بها، فكلمة الدار أوسع من البيت وإن كان كل منهما يدل على الآخر، وهذه الدار دار سلام بمعنى أنهم يسلمون فيها على أنفسهم من كل مكروه، وهي دار الجنة، والله تعالى هو السلام، ومن أسمائه السلام، وأضاف السلام إلى هذه الدار ليدل على أنها دار لا نكد فيها ولا صخب، في الدنيا مهما كانت الظروف مهيأة للسلام في بيتك؛ المأكل، المشرب، الملبس، الزوجة، الأولاد، لكن شعور السلام الكامل مستحيل في الدنيا، يكفي أن هذه الدار قد تفارقك وقد تفارقها، لا يوجد إنسان في الأرض يستطيع أن يقول: هذه الدار لي إلى ما لا نهاية، إما أن تفارقك-نسأل الله السلامة- إن لم تفارقك ببيع أو شراء فإنها تفارق اليوم بعض الناس- نسأل الله لهم الحفظ -بقصف، بزلزال، فهذه ليست دار سلام، لا يسلم الإنسان فيها على نفسه مهما أعدّ فيها، باهتزاز بالأرض تصبح الآلاف المؤلفة من الأبنية قاعاً صفصفاً لا تجد فيها شيئاً، فهي ليست دار سلام في الدنيا مهما أعددت فيها من وسائل السلام، أما دار الآخرة سلام تسلم فيها لا أحد يطرق بابك ليراجعك بشأن بيع أو شراء الدار، ولا الضرائب، ولا زلزال، ولا قصف، ولا شيء، هذه دار السلام عند الله وهي الجنة، (لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمْ) هذه العندية إذا أحدهم قال: لك عندي مكافأة، فأنت تنظر في هذه الكلمة (عند)، عند من؟ عند من يقول، من هذا الذي تقول؟ إذا قال لك: عند الملك، غير أن يقول لك: عندي، فكلما عظم شأن ما بعد (عند) كان ما فيها أعظم، فكيف إذا قال لهم: دار الإسلام عند ربهم، الرب الذي يُمد ويُعطي، يمدهم بهذه الدار (وَهُوَ وَلِيُّهُم) وهو -جلّ جلاله-ناصرهم ومؤيدهم، الولي هو من ينصرك ويؤيدك ويعينك، (بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا استحقوا هذه الولاية من ربهم.

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلْإِنسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍۢ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِىٓ أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

المعشر هم الأشخاص الذين يعاشرون بعضهم
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) واذكر أيها الرسول لقومك يوم الحشر؛ يوم يجمع الله تعالى ويحشر الخلائق كلهم، يحشر الإنس ويحشر الجن، ثم يخاطب الجن ما الذي يحصل يوم يحشرهم، هذه ظرف (يوم) تحتاج إلى شيء مظروف يقع به الظرف، ما هو؟ هو يقول لهم بهذا المعنى يقول الله تعالى: (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ) والمعشر هم الأشخاص الذين يعاشرون بعضهم وقد يتفقون في شيء معين فيسمون معشراً، كأن يقال: يا معشر التجار، أو يا معشر الوزراء، وقد تكون أمة مختلطة فيها من فيها لكن يجمعهم شيء معين فيقال: يا معشر السوريين، أو يا معشر المصريين؛ فالعشرة هي الاختلاط،(يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ) اشتركوا في أنهم غابوا، الجن من الغياب، جن الليل غاب اختفى، الجن اختفوا عن أعين الناس فسموا جناً (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ) طبعاً هنا معشر الجن المقصود به مردة الجن شياطين الجن، وليس الجن المؤمنين بدليل (قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ) بالإضلال أي بالعامية أخذتم راحتكم (قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ) إضلالاً وغواية ووسوسة وبعداً عن الحق وحفلات ماجنة وطغياناً وفساداً، (قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلْإِنسِ) الذين أطاعوهم؛ الولاية فيها معنى الطاعة، فهؤلاء الذين أطاعوا الشياطين من الإنس ماذا كان جوابهم؟ قالوا: (رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍۢ) الاستمتاع كان من الطرفين، الجن استمتعوا بطاعة الإنس لهم والإنس استمتعوا بشهواتهم، فدائماً الاستمتاع يكون من الطرفين فالإنسان عندما يقول يوم القيامة: يا رب أنا فلان أضلني، وأنت ألم تستمتع بهذا الضلال؟! ألم تُصغِ له فؤادك؟! ألم تسعَ إليه؟! قالوا: (وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلْإِنسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍۢ) الجن بالإنس والإنس بالجن، الجن يستمتعون عندما يجدون كلمتهم نافذة فالشيطان إذا رأى مجموعة كبيرة من الناس في حفلة ماجنة هذا يسره، وإذا رأى الناس يقتل بعضهم بعضاً يسره، والإنس عندما ضلوا عن الطريق يظنون أنهم استمتعوا، هي حقيقة متعة لأن الدنيا متاع، ما يسعدون لكن يستمتعون، (رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍۢ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِىٓ أَجَّلْتَ لَنَا) هو يوم القيامة؛ الأجل أو الموت، أجل أول وهو الموت لكن دلالة الكلام هنا أن الأجل المقصود به هو يوم القيامة، (وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِىٓ أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَىٰكُمْ) النار مثواكم أي مكان إقامتكم، الإنسان اليوم تسأله أين تقيم؟ يقول لك: في حي كذا، ما شاء الله!! مثوًى راقٍ، فكيف إذا كان المثوى هو النار مكان الإقامة، ليس زيارة، ليس سياحة إقامة دائمة (قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَا) الخلود هو الاستمرار (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ)وهذه (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ) في كتاب الله عندما تأتي حتى مع أصحاب الجنة.

خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)
(سورة هود)

لا يوجد شيء في الكون إلا بمشيئة الله
الجنة والنار (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ) أشكلت على علماء التفسير، هنا دلالة الكلام أن هؤلاء ما داموا أولياء للجن وغير ذلك فهم مستحقون للخلود الأبدي في النار، فهل يُخرجون منها؟ وأيضاً في الجنة الخلود أبدي، لماذا جاء (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ)؟ الحقيقة هذا لبيان طلاقة القدرة الإلهية؛ أي لا يوجد شيء في الكون إلا بمشيئة الله، فهذا الاستثناء ليس المقصود منه أن تُخرج جزءاً من الكل، أي (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ)فيخرجهم، لا، هي كلها خاضعة للمشيئة، فلا تظنن أن شيئاً يحصل في الوجود إلا بمشيئة الله، وقال بعضهم: بل هنا (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ) هذا من مبعثهم من قبورهم إلى دخولهم النار هذا ليس مكان خلود في النار، قبل الدخول إلى النار من المبعث، الحساب، العرض على الله إلى أن يدخلوا النار هذا الوقت مستثنى من النار؛ هذا (إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ) والله أعلم، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) حكيم في تقديره -جلّ جلاله- وتدبيره، عليم بعباده وبمن يستحق منهم العذاب والعقاب.

وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضًۢا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129)

أي وكما ولينا المردة من الجن وسلطناهم على بعض الإنس (وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضًۢا) أي ليس الأمر مقتصراً على الجن والإنس؛ أي ظالمَين فإن كلاً منهما يتولى الآخر (بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) أي بسبب ما كانوا يكسبونه من المعاصي، فالظالم ولي للظالم يناصره ويؤيده ويحثه على الشر، والثاني يفعل ذلك نفسه.

يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ(130)

وقدم هنا الجن على الإنس لأنه خاطبهم قبل آية (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ) هو التقديم أيضاً تقديم زمني لأنه قد ثبت أن الجن خُلقوا قبل الإنس، قال تعالى:

وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ (27)
( سورة الحجر)

وقال تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
(سورة الذاريات )

لكن هنا (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ) التقديم له علاقة أيضاً بالحديث هنا عن الجن وفعلهم مردة الجن الشياطين، (يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) هذا استفهام تقريري ليقرر لهم الحقيقة، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) والرسل عند جمهور أهل العلم لا يأتون من الجن وإنما الرسل من الإنس، واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هنا مجال تفصيلها، فقالوا هنا: (رُسُلٌ مِّنكُمْ) أي من الإنس من أنفسكم من الإنس، وقد يكون مع شخص مئة دينار ومعه شخص آخر فتقول: معكما مئة دينار، والمقصود أن مع واحد منهما مئة دينار، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) أي من الإنس، والجن رسلهم هم رسل الإنس يسمعون ويبلغون كما حصل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:

قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوٓاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا (1) يَهْدِىٓ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا (2)
( سورة الجن)

الغرور أن ترى الشيء بأكبر من حجمه
إلى آخر الآيات، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ) القص هو تتبع الأثر، (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِى) أي من لدن آدم إلى يوم القيامة يقصون عليكم الآيات التي نزلت من الله تعالى، (وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا) يخوفونكم يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله، (قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَا) اليوم ليس يوم كذب، اليوم يوم تنطق الجلود، وتشهد الجلود، وتنطق الأرجل والأيدي بما كانوا يكسبون، (قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا) ما الذي دفعهم إلى تناسي اليوم الآخر الذي أنذره إياهم رسلهم؟ أن الحياة الدنيا غرتهم أي أعطوها أكبر من حجمها، ما هو الغرور؟ أن ترى الشيء بأكبر من حجمه فيغرك تقول: والله غرني مظهر هذه الوردة فلما اقتربت منها إذا هي وردة صناعية، والله غرتني، فالغرور هو أن تظن الشيء على خلاف ما هو عليه لو لم يكن أكبر من حجمه مثلاً:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ (6)
(سورة الانفطار)

ظن أن الله -عزَّ وجلَّ- لن يحاسبه اغتر، الله يحاسب، فظن الشيء على خلاف ما هو عليه فاغتر به ثم تبين له أنه شيء آخر، إنسان اغتر بقطعة تلمع في الأرض فظنها ألماسة فلما أمسكها بيده إذا بها حديدة جاء عليها ضوء الشمس فلمعت اغتر، (وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَٰفِرِينَ) شهدوا على أنفسهم بأنهم كفروا بالله وبرسله وبآياته فاستحقاقهم للعذاب كان بعد أن شهدوا على أنفسهم بالظلم وبالكفر وبإقرارهم بأنهم كانوا كافرين، والحمد لله رب العالمين.