• محاضرة في الأردن
  • 2024-06-10

في ظلال العشر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين..
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: فنحن في أيامٍ من أفضل أيام الدنيا وهي أيام العشر، إنها الأيام التي أقسم الله تعالى بها في كتابه فقال:

وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)
(سورة الفجر)


فضل أيام العشر:
قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، هي أيام العشر، بل إنَّ أكثر المفسرين قالوا إنها أيام العشر من ذي الحجة، وقد جمع المفسرون بين عشرٍ هي العشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، فقالوا: أيام العشر هي الأفضل، أي أيام العشر من ذي الحجة، وليالي العشر الأخير من رمضان هي أفضل الليالي، فهذه الأيام هي أفضل الدنيا على الإطلاق، وفيها يوم عرفة التاسع من ذي الحجة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، وفيها يوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم النحر، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ أفضلَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ وقالَ أُتيَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ببدَناتٍ خمسٍ أو ستٍّ فطفِقنَ يزدلِفنَ إليهِ بأيَّتِهنَّ يبدَأُ فلمَّا وجبت جنوبُها قالَ فتَكلَّمَ بِكلمةٍ خفيَّةٍ لم أفهمْها فسألتُ الَّذي يليهِ فقالَ قالَ من شاءَ فليقتطِعْ }

(أخرجه أبو داوود)

وبالتالي أيُّها الكرام فهذه فرصةٌ عظيمة يسعى المؤمنون لاغتنامها، ويبذلون الجهد في سبيل مرضاة ربهم، فإن قلت لي ما هي الكلمة الجامعة لهذه الأيام؟ وما تعريفها؟ قلت لك: هي أيام الذِكر.

لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
(سورة الحج)

إنها أيام الذِكر، ذِكر الله تعالى، وذِكر الله تعالى أيُّها الكرام مفهومه واسعٌ جداً، الذِكر في الأصل ينطلق من أنك تذكُر شيئاً، عندك شيء كأنك نسيته أو غَفِلت عنه فيجب أن تذكُره، لأنَّ الله تعالى لا يُنسى ولا يُغفل عنه، كيف وأنت في كل لحظةٍ من حياتك مُفتقرٌ إلى إمداده، يعني مَن يغفل عن الله تعالى فهو من يَحقُّ أن يُسمّى غافلاً حقيقةً، مَن يغفل عن الله هو الغافل الحقيقي، لذلك " اللَّهُمَّ أَعِنَّا على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادتِكَ ولا تجعلنا من الغافِلين"
الغفلة: هي أن يغفل الإنسان عن ربه وكل ما سوى ذلك ليس بغفلةٍ أمام تلك الغَفلة العظيمة، فالإنسان في كل لحظةٍ مُفتقرٌ إلى ربِّه، بشُربة ماءٍ يشربها، بسيلان الدم في عروقه، بإخراج شُربة الماء التي شربها، بنظره في عينيه، بخاصية الدم في كليتيه، بوظائف الكبد العظيمة التي يقوم بها الكبد، ففي كل لحظةٍ نحن مع الله، فمن يغفل عن خالقه فقد غفِل أعظم غفلة، فالذِكر هو أنَّ هناك شيئاً ما كان ينبغي أن تنساه، فارجِع فتذكَّره، هو مركونٌ في أعماق فطرتك، كيف إذا أتينا بحجرٍ صغير وجئنا إلى بركة مياه راكدة، وألقينا الحجر فيها، من بؤرة الدوائر واضحة جداً، ثم تبدأ الدوائر تكبُر شيئاً فشيئاً ثم تتلاشى، فالذاكرة فيها بؤرة الشعور وفيها الحواشي، البؤرة هي الأشياء التي تؤكد عليها، وهناك في الحواشي أشياء لم تعد تركِّز عليها لكنها موجودة.
التذكُّر: هو أن تعيد هذه الأشياء التي في الحواشي إلى بؤرة اهتمامك، يعني مثل إنسان قرأ كتاب قبل سنوات وأصبح في حواشي الشعور يعني هو لا يذكره، جاء الامتحان والمادة المقررة هي هذا الكتاب الذي قرأه، فيبدأ بدراسته بمعنى أنه يستحضره ويتذكره، يعيده إلى بؤرة الشعور، فإذا نام وهو يقرأ الكتاب طوال الليل يَحلُّ المسائل التي في الكتاب، ويعيش معه لأنه أصبح في بؤرة شعوره، فكذلك ذِكر الله تعالى، الإنسان بسبب الحياة وما فيها، يصبح تركيزه كثيراً للأسف على الدنيا، فإذا أمضى يومه وهو يتابع أسعار الأسواق المالية العالمية، في الليل يرى أحلام حول أسعار الدولار، وارتفاع الأسهم وانخفاض الأسهم، وإذا أمضى نهاره بالسعي حول الشهادة الدراسية، أيضاً يراها في الليل فبكل لحظة يتكلم فيها، فينتقل الأهم إلى حواشي الشعور، فيأتي ذكر الله تعالى ليُعيد الأهم إلى البؤرة والاهتمام، لذلك يقول تعالى:

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ(152)
(سورة البقرة)

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)
(سورة العنكبوت)


الذكر هو العملية التي نعود فيها إلى أصل فطرتنا:
يحثُّنا على ذكر الله، ذِكر الله شيءٌ مركوزٌ في أعماقنا، ولكننا للأسف بغفلة الحياة تناسيناه فأصبح بعيداً عن دائرة شعورنا، فنُعيده، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم حثّنا على سبيل المثال قبل النوم أن نقرأ الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، ثم قال له: (واجعلهن آخر ما تقول).

{ إذا أتَيْتَ مضجَعَكَ فتوضَّأْ وُضوءَكَ للصَّلاةِ، ثمَّ اضطجِعْ على شِقِّكَ الأيمَنِ، وقُلِ: اللَّهمَّ أسلَمْتُ وجهي إليكَ، وفوَّضْتُ أمري إليكَ، وألجَأْتُ ظَهْري إليكَ، رَهْبةً ورَغْبةً إليكَ، لا مَلجأَ ولا منجَى منكَ إلَّا إليكَ، آمَنْتُ بكتابِكَ الَّذي أنزَلْتَ، وبنبيِّكَ الَّذي أرسَلْتَ . قال: فإنْ مِتَّ مِتَّ على الفِطرة، واجعَلهنّ آخرَ ما تقولُ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

يعني بعد الآيتين لا كلام، حتى تنام وأنت مُستحضِر لهاتين الآيتين، لأنَّ الإنسان يتابع في نومه ما أمسى عليه، فإذا كان آخر ما قاله: ما آخر أسعار العملات اليوم، فطوال ليله أسعار العملات، (واجعلْهن آخرَ ما تقولُ).
أيضاً أيُّها الكرام: الذِكر هو هذه العملية التي نعود فيها إلى أصل فطرتنا، نعود فيها إلى خالقنا، نعود فيها إلى الشيء الأهم الذي لا ينبغي أن نغفل عنه في حال، من هذه الزاوية يكون مفهوم الذِكر واسعاً بأوسع مدى ممكن، فهذا المجلس هو مجلس ذِكر، هناك مجلس دُنيا يجلس الناس يتداولون شؤون مباحات، وقد يكون والعياذ بالله مُحرّمات، لكن هذا مجلس ذِكر، نذكر فيه الله تعالى، نتذكر الله، نتذكر آياته، نتذكر آياته الكونية، وآياته القرآنية، نتذكر سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا ذِكر، التفكر في خلق السماوات والأرض أيضاً ذِكر، يعني إذا الإنسان نظر إلى هذه الشجرة وهذه الورود وهذه الزهور، فقال سبحان الخالق هذا ذِكر، القرآن ذِكر، إذا قرأت القرآن:

وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)
(سورة الزخرف)


أعظم الأذكار في العشر كلمتا الاستجابة والتعظيم:
القرآن ذِكر، وذِكر اللسان، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، لا إله إلا الله، أيضاً من الذِكر، فالذِكر بهذا المعنى مفهومه واسع، بمعنى أنَّ كل شيءٍ يُذكِّرك بالله تعالى فهو ذِكر.
ومن أعظم الأذكار التي تكون في هذا العشر كلمتان، الأولى أُسمّيها كلمة الاستجابة، والثانية كلمة التعظيم، الحُجّاج في الديار المقدسة يقولون: لبيك اللهم لبيك وهذه كلمة الاستجابة، ونحن في ديارنا نتجاوب معهم فنقول: الله أكبر، الله أكبر، وهي كلمة التعظيم، والجامع بين الكلمتين أنَّ إحداهما سببٌ للأُخرى، وأنَّ الثانية نتيجةٌ حتميةٌ للأولى، فالتعظيم يؤدي إلى الاستجابة، فأنت لن تقول لبيك اللهم لبيك حقَّاً، إلا إذا قلت الله أكبر حقَّاً، ما معنى أن يُلبّي الإنسان؟ لبيك يعني استجيب لك يا رب، كأن الله تعالى يقول تعال يا عبدي، تعال لأُريحك من هموم الدنيا، لبيك اللهم لبيك، تعال لأمسح عنك تعب الأيام، لبيك اللهم لبيك، تعال لأنقلك من عالم المادة إلى عالم الروح، لبيك اللهم لبيك، تعال لأنقلك من بيتك المُكيف إلى المشاعر التي في بعضها لا يوجد تكييف، ازدحام شديد وحرارة مرتفعة وجبال سوداء، لكن أُنسٌ بالله، تعال لبيك اللهم لبيك، فهذه هي الاستجابة، وامتحان الحج كله هو امتحان استجابة، منذ أن دعا إبراهيم عليه السلام ابنه ليذبحه:

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102)
(سورة الصافات)

ومنذ أن دعا إبراهيم عليه السلام ليُسكن من ذريته بوادٍ غير ذي زرع، فقال لبيك يا رب، وأخذها وابنها ووضعهما وعاد، ومنذ أن أمره برفع القواعد من البيت:

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)
(سورة البقرة)

فكل الحج هو امتحان الاستجابة لله تعالى من عهد إبراهيم عليه السلام، مفاده أن يا عبدي تعال استجب لي:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)
(سورة الأنفال)


جوهر الحج والتلبية هو الاستجابة لله تعالى:
ربنا جلَّ جلاله عندما نستجيب له نستجيب لحياتنا، لِمَا يُسعِدنا، لِمَا يُحيينا، لحياةٍ حقيقة، حياة الإيمان، الصلاة استجابة لأمر الله، الصيام استجابة، أداء الزكاة استجابة، لكن الحج تحديداً فيه مُفارقة للأهل، فيه بَذل للمال، فهو عبادة تجمع بين الَبَدَن والمال، عبادةٌ بدنيةٌ مالية، الصلاة بدنية، الصيام بدنية، الزكاة مالية، الحج وحده يجمع بين عبادة البدن، تعب الجسم، المُنفرد عن بقية العبادات، وإنفاق المال في سبيل ذلك، نفقة السفر ونفقة العيال في غياب المُعيل.
فالحج هو امتحانٌ حقيقي للاستجابة لأمر الله تعالى، ومبدأه كما قلت لكم عندما أسكن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام من ذريته بوادٍ غير ذي زرع، عند بيت الله تعالى المُحرَّم، قبل أن يرفع القواعد في مكان البيت:

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26)
(سورة الحج)

فالبيت هو أول بيتٍ وضع للناس، لكن إبراهيم عليه السلام أعاد بناءه في المكان الذي أمره الله تعالى ببنائه، فمنذ أن غادر إبراهيم عليه السلام، ووضع ابنه الرضيع مع زوجه ومعهما جِرابٌ فيه تمر، يعني مؤونة يوم، وسقاءٌ فيه ماء، يومٌ واحد وغادر، فصاحت السيدة هاجر و قالت: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي لا نبت فيه ولا إنسَّ ولا شيء؟! لا يوجد طعام ولا شراب ولا أحد يؤنسنا، فجعل لا يلتفت نبي الله إبراهيم لعلّه خشيَّ أن تُنازعه نفسه، عواطف الأبوَّة والزوجية، فيعود فيترك تلبية أمر الله تعالى، فجعل لا يلتفت، وهي تقول له: إلى من تتركنا، إلى أن فهمت القضية، فقالت له: يا إبراهيم ألله أمرك بهذا؟ فأشار بنعم، فقالت: إذاً لا يُضيعنا.

{ لَمَّا كانَ بيْنَ إبْرَاهِيمَ وبيْنَ أَهْلِهِ ما كَانَ، خَرَجَ بإسْمَاعِيلَ وأُمِّ إسْمَاعِيلَ، ومعهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ، فَيَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، حتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِن ورَائِهِ: يا إبْرَاهِيمُ إلى مَن تَتْرُكُنَا؟ قالَ: إلى اللَّهِ، قالَتْ: رَضِيتُ باللَّهِ، قالَ: فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، حتَّى لَمَّا فَنِيَ المَاءُ، قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا، قالَ فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا فَنَظَرَتْ، ونَظَرَتْ هلْ تُحِسُّ أَحَدًا، فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، فَلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِيَ سَعَتْ وأَتَتِ المَرْوَةَ، فَفَعَلَتْ ذلكَ أَشْوَاطًا، ثُمَّ قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ ما فَعَلَ، تَعْنِي الصَّبِيَّ، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هو علَى حَالِهِ كَأنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ، فَلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُهَا، فَقالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ، لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا، فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا، فَنَظَرَتْ ونَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا، حتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قالَتْ: لو ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ ما فَعَلَ، فَإِذَا هي بصَوْتٍ، فَقالَتْ: أَغِثْ إنْ كانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِذَا جِبْرِيلُ، قالَ: فَقالَ بعَقِبِهِ هَكَذَا، وغَمَزَ عَقِبَهُ علَى الأرْضِ، قالَ: فَانْبَثَقَ المَاءُ، فَدَهَشَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، فَجَعَلَتْ تَحْفِزُ، قالَ: فَقالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو تَرَكَتْهُ كانَ المَاءُ ظَاهِرًا. قالَ: فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ المَاءِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، قالَ: فَمَرَّ نَاسٌ مِن جُرْهُمَ ببَطْنِ الوَادِي، فَإِذَا هُمْ بطَيْرٍ، كَأنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَاكَ، وقالوا: ما يَكونُ الطَّيْرُ إلَّا علَى مَاءٍ، فَبَعَثُوا رَسولَهُمْ فَنَظَرَ فَإِذَا هُمْ بالمَاءِ، فأتَاهُمْ فأخْبَرَهُمْ، فأتَوْا إلَيْهَا فَقالوا: يا أُمَّ إسْمَاعِيلَ، أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ معكِ، أَوْ نَسْكُنَ معكِ، فَبَلَغَ ابنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمُ امْرَأَةً، قالَ: ثُمَّ إنَّه بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقالَ لأهْلِهِ: إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قالَ: فَجَاءَ فَسَلَّمَ، فَقالَ: أَيْنَ إسْمَاعِيلُ؟ فَقالتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، قالَ: قُولِي له إذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ، قالَ: أَنْتِ ذَاكِ، فَاذْهَبِي إلى أَهْلِكِ، قالَ: ثُمَّ إنَّه بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقالَ لأهْلِهِ: إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، قالَ: فَجَاءَ، فَقالَ: أَيْنَ إسْمَاعِيلُ؟ فَقالتِ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقالَتْ: أَلَا تَنْزِلُ فَتَطْعَمَ وتَشْرَبَ، فَقالَ: وما طَعَامُكُمْ وما شَرَابُكُمْ؟ قالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وشَرَابُنَا المَاءُ، قالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لهمْ في طَعَامِهِمْ وشَرَابِهِمْ، قالَ: فَقالَ أَبُو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَرَكَةٌ بدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عليهما وسَلَّمَ قالَ: ثُمَّ إنَّه بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ، فَقالَ لأهْلِهِ: إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِن ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا له، فَقالَ: يا إسْمَاعِيلُ، إنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ له بَيْتًا، قالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قالَ: إنَّه قدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عليه، قالَ: إذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كما قالَ: قالَ فَقَاما فَجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 127]. قالَ: حتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ، وضَعُفَ الشَّيْخُ عن نَقْلِ الحِجَارَةِ، فَقَامَ علَى حَجَرِ المَقَامِ، فَجَعَلَ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويقولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [البقرة: 127]. }

(صحيح البخاري)

فجوهر الحج وجوهر لبيك اللهم لبيك، أنه مادام الله تعالى هو الآمر فهو الحافظ والضامن، الآمر ضامن يضمن لك، الذي أمرك بغض البصر يضمن لك النتائج، والذي أمرك بطاعته يضمن لك جنته، والذي أمرك بتحرّي الرزق الحلال، يضمن لك رزقك ورزق أولادك بالحلال، الآمر ضامن، ففي كل موقف نحن مُعرَّضون لامتحان الاستجابة، جاءك مبلغ فرفضت أخذه لأنه من حرام، ألله أمرك أن لا تأخذه؟ نعم، إذاً لا يضيعك، المُعلِّم في صفه ألله أمرك أن تُعلِّم، تُربّي، تبذل كل جهدك؟ قُل نعم، الله لا يضيعك، المرأة ألله أمرك أن تتعففي، أن تلتزمي أمر الله تعالى في بيتك، في أولادك، في التبعل لزوجك؟ قولي نعم، الله لا يُضيعكِ، الطبيب في عيادته ألله أمرك أن لا تبتز المرضى؟ أن لا تطلب منهم أشياء لا يحتاجونها من أجل نِسَب تتعامل بها مع غيرك؟ قل نعم الله لا يُضيعك، المحامي ألله أمرك أن لا توهِم المُراجع بأنَّ القضية رابحة وأنت تعلم يقيناً أنها خاسرة، لكنك توهمه بربحها، حتى تبتز أمواله خلال فترة مُعيّنة؟ قل نعم إذاً لا يُضيعك.
فامتحان الاستجابة يعني أنَّ الله تعالى الذي أمر يحفظ ويضمن، مادام الله تعالى هو الآمر فإنه الحافظ والضامن، أنت في دنيا البشر، إذا قال لك إنسان افعل كذا وفعلت وصارت مشكلة، ترجع إليه فتقول له: خلصني من هذه المشكلة، أنت قلت لي افعل كذا، فالمفهوم العقلي عند البشر أنَّ الآمِر ضامن، والله تعالى هو أعظم مَن أمر جلَّ جلاله، ومَن ملك هو مالك المُلك، فعندما يأمرنا بأمرٍ فالنتائج مضمونة إن شاء الله، لا يوجد إنسان يُطيع الله ويخسر، كما أنه لا يوجد إنسان يعصي الله ويربح، لا والله، ولو توهَّم ذلك، ولو بدا ذلك، يبدو ذلك حيناً من الزمن أنه عصى الله وربح، فتقول والله أمواله كلها حرام ولم يحدث شيء! هذه الأموال سوف تحرقه، هذا على الشبكية نجا، ولكن في الحقيقة عقوبته شديدة عند الله في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)
(سورة البقرة)


يستحيل أن تعصيه وتربح، وأن تُطيعه وتخسر:
قانون، يقول لك: مُرابي لكن أموره جيدة، مستحيل، يعصي ربنا ويربح ولو بدا لك ذلك حيناً من الزمن، لماذا يبدو لنا حيناً من الزمن أنَّ العاصي قد يربح وأنَّ الطائع قد يخسر؟ لأنه حقَّق الاختيار، لأنه إذا كان الأمر واضح جداً، بأنَّ العاصي يخسر فوراً والطائع يربح فوراً.
مثال: لو أنَّ إنساناً قال: لا أريد هذا المبلغ من الحرام فنزل من السماء فوراً عشر أضعافه، فكل الناس سيقولون لا نريد هذا المبلغ من حرام، ولو أنَّ شخصاً أخذ مبلغ من رِبا وفي اليوم الثاني احترق معمله كله، دائماً يعني قانون، لا أحد سيأخذ المال الحرام، لكن أين الاختيار؟ كيف تكون الجنَّة والنار؟ لذلك ربنا جلَّ جلاله يترك العاصي ليتمتع حيناً، ويترك الطائع أحياناً ليتعب بطاعته حيناً من الزمن ولا يرى نتائجها، لكن بالنتيجة يستحيل أن تعصيه وتربح، أو أن تُطيعه وتخسر، ملك المُلك أمر بأمرٍ ليُعذِّب من أطاعه أو يُنعِّم من عصاه؟! حاشاه جلَّ جلاله.
فالكلمة الأولى هي كلمة الاستجابة لبيك يا رب، الكلمة التي سنتجاوب نحن معها في بلادنا الذين لم يُكتب لهم الحج، يقولون الله أكبر، من أول أيام العشر، ومن صباح يوم عرفة يزيدون ذلك فيجعلونه مُقنناً بعد كل صلاة، إلى آخر أيام التشريق، فهي أيام ذِكر، نقول الله أكبر، لأنَّ الاستجابة لله تحتاج إلى تعظيم لله، فالإنسان يُلبّي من يُعظِّمه، لماذا عندما يقول لك والدك يا بُني، تقول له سمعاً وطاعةً يا أبتِ؟ لأنه عظيمٌ عندك، ولو لم يعظم في عينك، لما قلت له لبيك يا أبي، ولماذا يقول لك ملِك من ملوك الأرض يا فلان فتقول له لبيك يا سيدي؟ لأنه عظيمٌ عندك، عظيم وتُحبُّه، يعني يوجد عظمة مع حُب، أحياناً ابنك الصغير يقول لك يا أبي فتقول له أمرك، هو صغير جداً لكن أنت تحبه كثيراً فتستجيب له، ولو لم يكن عظيماً في نظرك، لكن عندما يجتمع التعظيم مع المحبَّة أُعظِّمه وأحبُّه فاستجيب له.
فكلمة الله أكبر هي كلمة التعظيم، وأكبر هو اسم تفضيل، يعني أكبر من، لكن أُلصقت ولم تُقيَّد بشيء، لا نقول الله أكبر من أنفسنا، ولا من أزواجنا، ولا من أولادنا، ولا من أعمالنا، ولا من شهواتنا، وإنما نقول الله أكبر ونقف، ليكون المُطلق على إطلاقه فهو أكبر من كل شيء يخطر في بالك، فيسمعها العامل في عمله الله أكبر فيقول: الله أكبر من العمل الذي بين يدي، وما سيأتي من ربح في هذه الدقائق، لست بحاجةٍ له وإنما أنا بحاجة إلى أن أقف بين يدي الله فأُصلّي، ويسمعها الطالب وهو منهمكٌ في دراسته فيقول الله أكبر من صفحاتٍ أقرأها، وتسمعها الأم وهي تجلس في لهوٍ مُباحٍ فتقول: الله أكبر من هذا اللهو، فكل إنسان يسمع الله أكبر فيستجيب، لأنّ الله أكبر مما هو منشغلٌ به.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(14)
(سورة التغابن)


الله أكبر هي كلمة التعظيم فالله أكبر من كل شيء:
الله أكبر من أن أُرضي زوجتي في معصية الله، والله أكبر من أن أُجامل أولادي في معصية الله، الله أكبر من أولادي لا أُزاودهم في معصية، التكبير هو حالة التعظيم المُطلق للخالق جلَّ جلاله، الله أكبر من كل شيء، ومن قال الله أكبر بلسانه ثم أطاع المخلوق في معصية الخالق، فما قال الله أكبر ولا مرة ولو ردَّدها بلسانه ألف مرة، يعني الترداد باللسان أسهل شيء، ويُثاب عليه الإنسان على كل حال، والحمد لله، لأنه ذِكر للخالق، لكن ما مردوده العملي؟ مردوده العملي أن لا أطيع مخلوقاً في معصية الخالق، قاصداً، عامداً، يعني أنا أعلم ثم أُطيع مخلوقاً وأعصي الله، أُطيع شريكي وأعصي الخالق، يقول لك: لا أريد أن أفضّ الشركة معه، وهو له مبدأ مُعيّن فجاملته حتى لا أخسره، وتخسر خالقك وعلاقتك الطيبة به!
الله أكبر هي كلمة التعظيم، فعندما نقول الله أكبر فلا يمكن بعدها أن أنغمس بعملي وأنسى صلاتي، ولا يمكن أن أنغمس في شهواتي ومشاغلي وأنسى ذِكر ربي، لأن الله أكبر، أكبر من كل شيء.
فالتكبير هو ما جعله الله تعالى ذِكراً لمن لم يُكتب لهم الحج إلى الديار المقدسة، معناه كلمتان، التعظيم من جهة والاستجابة من جهةٍ ثانية، ثم يأتي يوم العيد ونُصلّي العيد افتتاحاً بهذه الطاعة، فكل أعياد المسلمين تبدأ بالطاعات، فنقرأ في صلاة العيد كما سنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، سورتي الأعلى والغاشية، أو نقرأ سورة ق في الركعتين، ونظرت في السور الثلاث فوجدت أنَّ بينها جامعاً مشتركاً وهو أنه فيها كلمة فذكِّر، ففي سورة الأعلى:

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى(11)
(سورة الأعلى)

وفي الغاشية:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ(21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ(22)
(سورة الغاشية)

وفي ق:

نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ(45)
(سورة ق)

فالسور الثلاثة يجمعها كلمة الذِكر، بمعنى أنَ العيد هو ذكرى للغافلين ولا ينبغي أن يكون غفلةً للذاكرين، فكم من إنسانٍ يُطيع الله في العشر أو يطيع الله في رمضان، ثم يأتي العيد وكأنه مناسبةٌ خارج نطاق التدريب، يعني الأعمال التي كانت مُحرَّمة أصبحت حلالاً في هذه الأيام، فهذا لم يفقه حقيقة العيد وحقيقة الذِكر، فذكر الله مستمر طيلة أيام العيد.

أهمية العمل الصالح في أيام العشر:
أيُّها الإخوة الأحباب النبي صلى الله عليه وسلم كما تعلمون يقول:

{ ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجل خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ }

(أخرجه البخاري)

يعني أيام العشر، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أحبَّ شيءٍ إليه، فينبغي للمؤمن أن يُكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام، منها صيام هذه الأيام استحباباً، وصيام التاسع سُنَّةً مؤكدةً يُكفِّر سنتين الماضية والباقية، ويأتي يوم عرفة في هذا العام يوم السبت ويُشوَش البعض بأنه لا يجوز صيام السبت، والصحيح أنه يجوز صيام السبت، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرِضَ عليكم }

(شرح مسلم لابن عثيمين )

وقد بيَّن كثيرٌ من أهل العِلم أنَّ في الحديث ضَعفاً، وعلى فرض صحة مَن صحَّحه، فجمهور الفقهاء بل جميع الفقهاء قالوا: إن المقصود أن لا يُصام السبت لأنه يوم السبت، فإذا وافق صوماً كان يصومه أو عادةً قد اعتادها فلا كراهةً في الصوم ولو أفرده، أي ولو لم يصوم الجمعة معه، ولو أفرده لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لا تصوموا يومَ الجُمُعةِ، إلا وقبلَه يومٌ، أو بعدَه يومٌ }

(الألباني صحيح الجامع)

والذي بعده هو يوم السبت، ويقول:

{ أَحَبُّ الصِّيَامِ إلى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كانَ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا، وأَحَبُّ الصَّلَاةِ إلى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويقومُ ثُلُثَهُ، ويَنَامُ سُدُسَهُ. }

(صحيح البخاري)

وبالتالي سيكون دائماً يصوم يوم السبت ومُنفرداً.
فالحديث على تصحيح من صحَّحه، المعنيُّ به أن لا يُصام يوم السبت تعظيماً له مخالفةً لليهود، أمّا أن يُصام لأنه وافق يوم عرفة أو يوم عاشوراء، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو أنه يصوم يوماً و يُفطِر يوماً، أو نحو ذلك، هذا لا كراهة فيه بلا خلاف، ولا أعلم في ذلك خلافاً سابقاً حتى عند المعاصرين، مثلاً ابن تيمية رحمه الله كان يقول: "أنه أجمع السلف أن يُصام يوم السبت إذا وافق عادةً يصومها" وغير ذلك، فصوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين سنةً ماضية وسنةً باقية.

النحر شعيرة من شعائر الإسلام وهو من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله:
ومن أعظم الأعمال في هذه الأيام التقرُّب إلى الله بالأُضحية يوم النحر، وأيام التشريق كلها أيام ذبح، يعني أيام العيد الأربعة كلها أيام ذبح، حتى عصر اليوم الرابع من العيد، ويُسنّ لمن أراد أن يُضحّي أن يترك الأخذ من شعره وأظفاره من مطلع ذي الحجة، ولو فعل فأخذ، فأُضحيته صحيحة عند جمهور الفقهاء، فهي سُنَّةٌ مُستحبَّة وليست واجبة، والأصل ما يُتقرَّب إلى الله تعالى في يوم النحر الذبح، فلا يقول قائل اللحم أرخص فسأوزع لحم، أو أُعطي المبلغ إلى أُسرةً، فهذه شعيرة هذا وقتها، العام كله لك أن تتصدق بما شئت، سمح الله لك كل السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً، تصدَّق بما شئت، لكن في هذا اليوم، هو يوم النحر، هذه شعيرة من شعائر الإسلام، ليست في القضية اعتباطية أو اختيارية، هذه شعيرة من شعائر الإسلام، وما تُقرّب إلى الله في هذا اليوم بأحبّ إليه من الذبح، تنفيذاً لسُنَّة أبينا إبراهيم عليه السلام وتذكُّراً لهذه النعمة.

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)
(سورة الحج)

ويُستحب من خلال هذه الآية وما فهمه الفقهاء، أن يأكل الإنسان منها وأن يُهدي منها وأن يتصدَّق منها، أن يأكل ثُلثاً، ويُهدي ثُلثاً ويتصدق ثُلثاً، ومن فعل غير ذلك فهو صحيح، سواءً أكلها كلها، أو تصدَّق بها كلها فلا شيء فيه، يعني هذا من الاستحباب.
فهذه الأيام أيام ذِكر، أيام خير، أيام أعمال صالحة، وأفضل الأعمال الصالحة في هذه الأيام ما كان فيه نفعٌ مُتعدٍ للغير، يعني الصيام جيد جداً، والصلاة في أوقاتها، وأداء الفرائض طبعاً هذا أهم شيء، لكن بعد ذلك الأعمال الصالحة التي يكون فيها نفعٌ مُتعدٍ، فهي أفضل من النفع القاصر، يعني الصدقة، الإحسان، الكلمة الطيبة، مساعدة الناس، إغاثة الملهوف، إمداد إن كنت في غزَّة أو في غيرها بما يحتاجونه من مال، من طعام، الأعمال الصالحة التي يتعدى نفعها، يعني الإنسان يربح على الله في هذه الأيام، خلقنا لنربح عليه لا ليربح علينا، فجعل لنا مواسم خيرات يُضاعف بها الحسنات.
نسأل الله أن يُلهمنا الأعمال الطيّبة الصالحة في هذه الأيام.
اللهم فرِّج عن إخواننا في غزَّة، اللهم اجعل لهم من كل ضيقٍ فرجاً، ومن كل همٍّ مخرجاً، اللهم ارحم شهدائهم، واشفِ جرحاهم، وأطعم جوعاهم، وأكسُ عريانهم، وآوِ مريضهم، وارحم مُصابهم، واجعل لنا في كل ذلك عملاً مُتقبّلاً يا أرحم الراحمين.
اللهم مُجري السَحاب، مُنزل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزم الصهاينة المعتدين ومَن والاهم، ومَن أيّدهم، ومَن وقف معهم.
اللهم يا أرحم الراحمين كن لنا ولأهلنا عوناً ومُعيناً، وحافِظاً ومؤيداً ونصيراً.
اللهم أطعم من أطعمنا، واسقِ من سقانا، وأكرم من أكرمنا.
اللهم بارك أهل هذه الديار، اللهم اجعل ديارهم مباركةً عامرةً بالخير والذِكر والبِرّ والإيمان، وصُبَّ علينا رحماتك وبركاتك وصلواتك علينا صبَّاً صبَّاً، ولا تجعل عيشنا كدّاً كدّاً، وتقبَّل مِنّا الطاعات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.