الحرية في الإسلام
الحرية في الإسلام
يا ربنا لك الحمد، ملأ السماوات والأرض، وملأ ما بينهما وملأ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى أصحاب نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد، وعلى ذريِّة نبينا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
الحرية قيمةٌ عالية ومطلبٌ مُحقّ لكل شعوب الأرض:
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: قبل أكثر من أربع عشرة سنة، خرج السوريون في بلادهم وفي محافظاتها شتَّى يطالبون بالحرية، والحرية كلمةٌ برَّاقة، تتوق إليها النفوس السليمة، ويرجوها أصحاب العقول الراجحة، ما أجمل أن تكون حراً، ما أجمل أن يكون قرارك بيدك، ما أجمل أن تملك قرارك ووطنك، الحرية قيمةٌ عالية، ومطلبٌ مُحقّ، لكل شعوب الأرض، ولكل أفراد الأرض، بل إنَّ الشريعة الإسلامية جاءت لتحرر الإنسان، لتعطيه حريته، بل لقد عدَّ العلماء الحرية مقصدٌ من مقاصد الشريعة الإسلامية، أن يُحرَّر الإنسان، أن يخرج من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد. |
أيُّها الإخوة الكرام: لقد جعل الله تعالى الإنسان حراً في اختياره، قال تعالى: |
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(99)(سورة يونس)
كيف يجعل الله الناس جميعاً مؤمنين؟ يسلبهم اختيارهم، يمنعهم حريتهم، فيختار الجميع الإيمان قسراً وعندها لا قيمة له، لأنَّ الإنسان لا يُثمِّن عمله ولا يعطيه قيمة إلا أنه مختار، يختار الإيمان فيسمو به، أمّا لو أُجبر عليه، لما ارتقى عند ربه، ولما استحق جنَّةً عرضها السماوات والأرض (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لا يستطيع إنسانٌ أن يُكره إنساناً ولو على الإيمان. |
الحرية مقصِداً من مقاصد الشريعة:
لذلك أيُّها الكرام: عدَّ العلماء الحرية مقصِداً من مقاصد الشريعة، فإذا أُكره الإنسان على شيءٍ، فإنه لا يُحاسب عليه عند ربه، قال صلى الله عليه وسلم: |
{ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تـجاوز لي عن أمتي الـخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه }
(رواه ابن ماجه والبيهقي)
فلا يُعدّ الإنسان مُحاسباً إذا أُكره على فعل شيءٍ، إلا ضمن حالاتٍ خاصة، يُفصّلها الفقه، كأن يُكره على قتل إنسانٍ، فإنه لا يجوز له أن يقتله، اليوم أن يخرج إنسان يقول كنت مُكرهاً! قتلت بناءً على أوامر، هذه الحالة لا يُباح فيها الإكراه حتى لو قُتلت. |
أيُّها الإخوة الكرام: الإكراه يرفع التكليف، أو يُخفِّف العقوبة، فهو مُحرَّمٌ في الإسلام، أن تُكره إنساناً على شيءٍ، يقول تعالى: |
مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)(سورة النحل)
هذا لا يُسمّى كفراً (أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) بل لقد جعل الله تعالى الكفَّارة لكثيرٍ من المعاصي، جعلها تحرير رقبة، أن تُحرِّر الإنسان أن تفك قيده |
جاء الإسلام ليحرر الرقاب وليجعل الإنسان حراً:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ(13)(سورة البلد)
أول شيء (فَكُّ رَقَبَةٍ) ثم: |
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14)(سورة البلد)
أول مقصدٍ يجعلك تقتحم العقبة وتتجاوزها إلى ربك، أن تفك رقبة، أن تُعتق إنساناً، أن تحرره، في الظِهار إذا ظاهر الإنسان امرأته فكفَّارته تحرير رقبة، كفَّارة اليمين تحرير رقبةٍ أولاً |
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)(سورة المجادلة)
القتل الخطأ تحرير رقبة، إذاً جاء الإسلام ليحرر الرقاب، ليفك الرقاب، ليجعل الإنسان حراً خالصاً لربه. |
أيُّها الإخوة الأحباب: من يقول اليوم إنَّ الإسلام استعبد الناس، فهو لم يقرأ دين الله تعالى، الإسلام جاء والعرب وغير العرب يتعاملون بالعبودية، عبيدٌ وإماء، فوجد الواقع قائماً فألغاه، لكن لم يلغه دفعةً واحدة، لأن ذلك ليس من الحكمة في شيء، فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم في لحظةٍ، أعتقوا كل العبيد، لنشأ لدينا مجموعةً كبيرةً من الناس، الذين لا مأوى لهم ولا عمل لهم، سيُصبحون قطَّاع طرقٍ بغير إيمان، فعالج الإسلام هذه الناحية بحكمةٍ عظيمة، جفَّف المداخل، ووسَّع المخارج، حتى انتهت العبودية بعد حينٍ إلى غير رجعة، الإسلام جاء لتحرير العبيد، ولم يأتِ أبداً لاستعباد الناس. |
العبودية لله تعالى أعظم مظاهر الحرية:
أيُّها الإخوة الكرام: العبودية لله تعالى أعظم مظاهر الحرية، وسأُدلِّل على ما أقول: |
العبودية لله أعظم مظاهر الحرية، نعم، لأنه لا يوجد نظامٌ في الأرض عنده حرية مطلقة، لا في شرقٍ ولا في غرب، كل الأنظمة في العالم التي تقول لك حرية وديمقراطية، هي حريةٌ وديمقراطية وفق القوانين التي يضعونها، إذاً لن تجد مكاناً في الأرض، تكون فيه حراً مطلقاً تفعل ما تشاء، كل دولة لها مقدسات يُمنع المساس بها، لها قوانينٌ يُعاقَب مُخالفها، تنظم لنفسها حريتها التي تريدها هي، أمّا حرية مطلقة، هذا كلامٌ غير موجودٍ في الدنيا كلها. |
إذاً كل الناس عبيد، لكن المؤمن وحده جعل عبوديته لربه فقط، فهو الحر فقط، لأنه لا يستعبده أحدٌ في الأرض، لا يملك أمره إلا الله |
{ اعملْ لوجْهِ واحدٍ يكْفِكَ الوجوهَ كُلَّها }
(الألباني السلسلة الضعيفة)
قال صلى الله عليه وسلم: |
{ مَن جَعلَ الْهمومَ همًّا واحدًا همَّ المعادِ كَفاهُ اللَّهُ همَّ دُنياهُ ومَن تشعَّبت بِهِ الْهمومُ في أحوالِ الدُّنيا لم يُبالِ اللَّهُ في أيِّ أوديتِهِ هلَكَ }
(صحيح ابن ماجه)
تتشعب به الهموم، فيستعبده المال، وتستعبده النساء، وتستعبده الشهوات، وتستعبده الشُبهات، ثم (لم يُبالِ اللَّهُ في أيِّ أوديتِهِ هلَكَ) أمّا المؤمن وحده، فلا يحني رأسه إلا لخالقه، ولا يعبُد إلا ربه، فهو الحر الوحيد، وسواه عبيدٌ يعبدون الدنيا. |
لذلك أيُّها الكرام: يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ ، تعس عبدُ الخميصةِ ، تعس عبدُ الخميلةِ ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ }
(أخرجه البخاري)
يعبُد ثيابه، يلبس أجمل الثياب، يبيع دينه من أجل ثيابه، يؤذي الناس ويضرهم، من أجل أن يشتري أفخر الثياب ويباهي الناس بها، هذا هو العبد، أمّا المؤمن حرٌّ لأنه لا يعبُد إلا خالقه |
{ لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ }
(أخرجه الترمذي وابن ماجه)
هو يعبُد الله تعالى وحده. |
الحرية أن تخرج من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد:
أيُّها الإخوة الأحباب: أنت عندما تتوجه إلى الله تعالى وحده، فأنت حرٌّ، لأنك تحرَّرت من كل قيود الأرض، ومن كل المخلوقات، واتجهت إلى الخالق وحده. |
بعثَ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رسولاً إلى رستم قائد الفُرس، بعثَ إليه ربعي بن عامر، وربعي بن عامر دخل على رستم وقد زيِّنوا مجلسه بالنمارق المُذهَّبة، والزرابي المبثوثة هنا وهناك، من الحرير واليواقيت والآلئ الثمينة، قصر كسرى ملِك الفُرس، قائد الفُرس، والزينة العظيمة وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سريرٍ من ذهب، كما يروي ابن كثير، ودخل ربعيٌ بثيابٍ صفيقة، وسيفٍ وترسٍ وفَرسٍ قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف بساط القصر، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد. |
ربعي بن عامر حرٌّ لا يستعبده أحد، دخل وربط فرسه بوسائد قائد الفُرس، فقال له رستم: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حينما دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق بعضها، فقالوا له ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنُخرِج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جير الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبِل ذلك قبِلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى موعود الله، فقال له: وما موعود الله؟ قال: الجنَّة لمن مات على قتال من أبى، والظفَر لمن بقي، إحدى الحُسنيين، فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر، انظروا إلى حرية ربعي وإلى عبودية رستم، هل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ فقال: كم أحب إليكم؟ أي الوقت، قال: أيوماً أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نُكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخِّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، ثلاثة أيامٍ لا يوجد غيرها، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدةً من ثلاث بعد الأجَل، فقال أسيِّدهم أنت؟! قال لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يُجير أدناهم على أعلاهم، أيُّ مسلمٍ يتكلم بهذه العزة؟! |
فاجتمع رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم قطُّ أعزَّ وأرجح من هذا الكلام؟! فقالوا معاذ الله أن تميل إلى شيءٍ من هذا، وتدع دينك لهذا الرجُل، أما ترى إلى ثيابه، فقال: ويلَكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة. |
أيُّها الإخوة الأحباب: هذا ربعي لخَّص القصة بكلماتٍ، إنَّ الله ابتعثنا لنُخرِج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، من جور الأديان إلى عدل الإسلام، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، هذه هي الحرية، أن تخرُج من عبادة العباد، وأن تصبح علاقتك مع الله فوراً بلا واسطة، وأن تجعل الآخرة دائماً في ناظريك، واستشرفوا الآخرة، من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، هذه هي الحرية أيُّها الكرام. |
لذلك رأينا في أهلنا في غزَّة، وفي قادتهم العظماء هذه الحرية، ورأينا في أعدائهم ذاك الذل والهوان، وهم رابع أقوى جيشٍ في العالم، وأقوى جيش في المنطقة، ودول العالم كلها وقفت معهم، وما زال أهل غزَّة أعزةً يرفعون رؤوسهم، ويشيِّعون قادتهم، وهم رافعوا الرأس، من أين جاءوا بها؟! من سلاحٍ لا والله، من عتادٍ؟ لا والله، لكنهم جاءوا بها من حرية الإسلام، من عزة الإسلام. |
أيُّها الإخوة الأحباب: كان عمر رضي الله عنه يقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". |
وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول: " لا تكن عبد غيرك فقد جعلك الله حُرَّاً". |
عبادة الأفكار ينبغي أن ننتهي منها:
أيُّها الإخوة: من العقوبات عليها، أين الحرية؟ أين العدالة؟ ما خرَج من صور قيصر المعروفة بصور قيصر، خمسة آلاف وخمسمئة صورة، ليس يُضلل، يُلمِّع فنُلمِّع، كم استعبدنا الإعلام؟ عبادة الأفكار ينبغي أن ننتهي منها، عبادة الشُبهات، نقلِّب في جوالاتنا فيخرج شخصٌ، لا نعرف لا دينه، ولا أين درس، ولا أين درج، ولا كيف وصل، إلى أن يصبح من المشاهير كما يقولون، ليلقي في رأسنا شُبهةً بأنَّ الإسلام يرعى الإرهاب، فتستعبُدنا الفكرة، ونصبح نتبرأ من ديننا بين الحين والآخَر، ونتنازل عن ديننا من أجل أن لا نوسم بالإرهاب. |
يخرُج علينا الآخَر ليوهمنا بأنَّ الإسلام لا يرعى حقوق المرأة، فتخرُج لنا المنظمات النسوية، لتُعيد للمرأة دورها وتحررها من حرية الإسلام، فنستمع لها، هذه الشُبهات، عبودية الشهوات، كم من شبابنا اليوم تستعبده الشهوة، يقول لك لا أستطيع، يُقلِّب الجوال، بعد ثوانٍ هذا الجوال الذكي، يكتشف ميول هذا الشاب، وأنه يهوى متابعة تلك المقاطع، فيبدأ يعرض له غيرها وغيرها، فيُصبح عبداً لجواله، العبودية اليوم لم تعُد سلاسل يُقاد بها الناس، هي سلاسل غير مرئية يُقاد بها الناس، إلى أن يُريدوا ما يريد الآخر، لذلك قالوا: كانوا يجبروننا بالقوة الخشنة، بالسلاح، على أن نفعل ما يريدون، ضع والعياذ بالله، مسدساً في رأس إنسانٍ، قل له افعل كذا، يفعل تحت التهديد، اليوم يجبروننا بالقوة الناعمة، الشهوات، على أن نريد ما يريدوه، لا أن نفعل ما يريدوه، بل أن نريد ما يريدوه. |
العبودية لله تُحررك من كل العبوديات:
فإذاً أيُّها الإخوة الكرام: العبودية اليوم تأخذ مساقاتٍ شتَّى، عبودية المال، عبودية البنوك، صدِّقوا أنَّ الغرب يعيش في عبوديةٍ تُسمّى عبودية القروض اليوم، لا يوجد شخصٌ في أميركا والغرب إلا وهو عبدٌ للبنك، الثلاجة التي في بيته قرضٌ من البنك، والسيارة التي يركبها، والبيت الذي يقطنه، وليتجرأ يوماً ويتأخر بالسداد، هو عبدٌ للبنك بشكلٍ كامل، يُمضي خمسة أيامٍ في الأسبوع، يعمل بلا كللٍ وبلا ملل، حتى يستمتع في ظنّه باليومين الباقيين، بالنساء وشرب الخمور، والخمسة أيام يعمل من أجل سداد البنك، فهو عبدٌ عند البنك، ويقول لك حرية الغرب! |
أيُّها الإخوة الأحباب: العبودية لله تُحررك من كل العبوديات. |
أيُّها الإخوة الكرام: عندما يتحرر الإنسان من تلك العبوديات المختلفة، تصبح الدنيا في يده لا في قلبه، فيتحكم بها ولا تتحكم به، وتنقاد له ولا ينقاد لها، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: |
{ اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصِيك، ومن طاعتك وما تُبَلِّغُنا به جنَّتَك، ومن اليقينِ ما يُهوِّنُ علينا مُصيباتِ الدُّنيا، ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحيَيتَنا، واجعلْه الوارثَ منا، واجعلْ ثأْرَنا على مَن ظلمَنا، وانصُرْنا على من عادانا، ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دِينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلغَ عِلمِنا، ولا تُسلِّطْ علينا من لا يَرحمُنا }
(أخرجه الترمذي والنسائي)
هي همٌّ من الهموم، من منّا ليس من همومه الدنيا؟ يريد أن يُدرِّس أولاده، وأن يُربِّيهم، وأن يُعلِّمهم أحسن تعليم، وأن يأكل ويشرب، ويركب مركبة، الدنيا همّ، ولكنها عند المؤمن ليست أكبر الهمّ، أكبر الهمّ هو رِضا الله، هو الآخرة، لذلك يتحرَّر من العبوديات الضيِّقة ويلتجئ إلى خالقه. |
الحرية أن تتصرف وفق القوانين التي تحفظ أمن الناس وكرامتهم:
أيُّها الأحباب: كانوا يقولون منذ أن كنّا صغاراً، تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، وهذا مبدأٌ صحيح، لكن في الشرع لا يكفي هذا المبدأ وحده، تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين نعم، وتنتهي حريتك عندما يكون هناك نصٌّ شرعي، المسلم يقول: تنتهي حريتي عندما يكون هناك نصٌّ شرعي، وعندما تبدأ حرية الآخرين حتى لا أؤذي أحداً، ولو كنت في مباح. |
الحُباب بن المنذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر، قال: |
{ أرأيتَ هذا المنزلَ، أمَنزلًا أنزلكَهُ اللهُ، ليسَ لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَ عنهُ، أم هو الرَّأيُ والحربُ والمكيدةُ ؟ قال : بل هوَ الرَّأيُ والحربُ والمكيدةُ. قال يا رسولَ اللهِ فإنَّ هذا ليس بمنزلٍ، امضِ بالنَّاسِ حتَّى نأتي أدنى ماءٍ من القومِ فنُعسكِرَ فيه، ثمَّ نَعورُ ما وراءَه من الآبارِ، ثُمَّ نَبني علَيهِ حوضًا فنملأه ماءً، ثُمَّ نقاتلُ القومَ َفنشربُ ولا يشرَبونَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ : لقد أشَرتُ بالرَّأيِ، ثم أمرَ بإنفاذِهِ، فلم يَجئ نصفُ اللَّيلِ حتَّى تحوَّلوا كما رأى الحُبابُ، وامتَلكوا مواقعَ الماءِ. }
(أخرجه الطبراني)
لكن انظر إلى الأدب، سأله أولاً إن كان الأمر من وحيٍ من الله |
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(36)(سورة الأحزاب)
أيُّها الإخوة الكرام: نشر الشائعات ليس من الحرية في شيء. |
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83)(سورة النساء)
نشر الشائعات ليس من الحرية في شيء، قال صلى الله عليه وسلم: |
{ كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يحدِّثَ بِكُلِّ ما سمِعَ }
(أخرجه مسلم وأبو داوود وابن حبان)
بكل ما سمع، اليوم يعبِّروا عنها بالواتس أب والفيس بوك بكلمة منقول، أنت ناقل، أنت نقلت الخبر، هو منقول، منقول عن من؟ عن صديقك، وصديقك عن والدته، ووالدته عن الجارة، والجارة من أين أتت به؟ نحن ديننا دين الأسانيد، نحن لا نقبل حديثاً، لماذا نقول صحيح وضعيف وموضوع؟ لأننا ندرس السنَد، يعني فلانٍ عن فلانٍ عن فلان، يجب أن يكون هناك اتصالٌ بالسنَد، ويجب أن يكون كل واحد عدل وضابط، أمين وقوي، ثم بعد ذلك نقبل الأخبار دون سنَد، من أين جئت بالخبر؟ هكذا قالوا لي، من قال لك؟ وهل هو ثقة؟ وهو من قال له؟ لا يُبرئك أن تنشر شائعةً تضر بالمجتمع وتكتب تحتها منقول، هذا ليس من الحرية في شيء. |
إطلاق العيارات النارية فرحاً أو حزناً، ليس من الحرية في شيء، لأنه مُحرَّم، لأن هناك أُناساً يُقتلون بسبب هذه العيارات النارية، وأُناساً يُروعون، ليس من الحرية، التدخين في الأماكن العامة ليس حريةً، قد يكون حريةً في مكانٍ وحدك، أو مع مُدخنين، نسأل الله يُعافي المدخنين، لكنه ليس حريةً في الأماكن العامة لأنك تضر بالناس، قيادة السيارة بعكس الاتجاه، كما أرى في بعض شوارع دمشق، ليس من الحرية، هذا من الجهل والتخلف، قطع الإشارة الضوئية ليس حريةً، هناك قوانين يجب أن نلتزم بها، نحن أَولى الناس بالالتزام بالقوانين، الإساءة إلى الناس ليست حريةً، عدم الاستجابة للأوامر ليست حريةً، الأوامر التي فيها النفع للمجتمع. |
فإذاً أيُّها الكرام: لا بُدَّ أن نعيَ أنَّ هذا المطلب العظيم الذي طالبنا به، والذي شاء الله تعالى أن يُحرِّرنا من تلك العبودية، التي كان يُستعبَد بها الناس في بلادنا، فله الحمد والمِنَّةُ على ذلك، لكن ينبغي أن نعرف تماماً ما معنى الحرية في الإسلام، تنتهي حريتك عند وجود النَص الشرعي، وتنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين، وليست الحرية أبداً في أن تتصرف كما تشاء، وإنما الحرية في أن تكون عبداً لله تعالى وحده، ولكن لابُدَّ من التصرف في الحياة، وفق القوانين التي تحفظ أمن الناس وكرامتهم جميعاً. |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله. |
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، ربنا تقبَّل منّا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا أنك أنت التواب الرحيم، واهدنا ووفِّقنا إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
اللهم أهلنا في غزَّة، كن لهم يا أرحم الراحمين، أعنهم على أعدائهم وثبِّتهم يا أكرم الأكرمين، انصرهم على عدُّوك وعدُّوهم يا رب العالمين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا، حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا. |
اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليه لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك، وبسُنَّة نبيَّك صلى الله عليه وسلم، واجعلهم خيراً على رعاياهم يا أرحم الراحمين، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين ولا تعاملنا بفعل المُسيئين، واجعلنا من الشاكرين لك الحامدين، وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. |