عبر وفوائد من سورة الضحى

  • 2021-10-25

عبر وفوائد من سورة الضحى

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


الغاية من سورة الضحى:
أحبابنا الكرام؛ أريد أن أتكلم اليوم إن شاء عن سورة الضحى، سورة الضحى سورة مكية نزلت قبل الهجرة، واسمها الضحى بالنسبة إلى بدايتها والقسم:

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) -وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
[ سورة الضحى]

مقصد السورة بيان رعاية الله تعالى لنبيه
وأما سبب نزولها فكما جاء في الصحيح أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، توقف الوحي فترة، فتلقّف بعض المشركين هذا الخبر، وجعلوا يهمزون ويلمزون، قالوا: إن ربه ربّ محمد صلى الله عليه وسلم قد ودعه أي تركه، وقال بعضهم: قد أبغضه، أي كرهه، لأنه تأخر في الوحي عليه، فجاءت هذه السورة الكريمة ومقصدها بيان رعاية الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وبيان رعاية الله عز وجل بعد ذلك لأوليائه جميعاً، فسورة الضحى فيها خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لكل مؤمن منها نصيب، فأنت إذا قرأت: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) وأنا يخاطبني ربي ويقول لي: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) وإذا قرأت: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) فإذا كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خطاب لي بالتبع، وإن الله تعالى كما في الصحيح:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّها الناس، إن الله طيِّب لا يقبلُ إلا طيباً، وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين }

[أخرجه مسلم والترمذي]

فالسورة خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي بعد ذلك خطاب لأمته من بعده، وبيان أن الله تعالى يرعى أنبياءه، ويرعى أولياءه، ويرعى المؤمنين ويحفظهم، ويؤيدهم، ولا يتركهم، ولا يبغضهم، هذا نسميه: مقصد السورة.

الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته:
أما شرح هذه السورة الكريمة فإنها تبدأ بقوله تعالى: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى).
المؤمن لا يحلف إلا بالله
(وَالضُّحَى) قسم، الواو واو القسم، يقسم الله تعالى بما يشاء من مخلوقاته، وأما العباد فلا يجوز لهم أن يقسموا إلا بالله تعالى، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو فليصمت، فالإنسان المؤمن لا يحلف إلا بالله، أما الله تعالى فيقسم بما شاء من مخلوقاته ليلفت نظرنا جميعاً إلى هذا الخلق العظيم الذي خلقه، فقال: (وَالضُّحَى) أقسم بالضحى، والضحى هو الوقت الذي تبزغ فيه الشمس، بعد بزوغ الشمس هذا وقت الضحى، هذا القسم الأول والضحى.
القسم الثاني بالليل: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) سجى؛ أي سكن وهدأ، هدأ الليل تماماً ودخل الليل، فيقسم بوقتين من الأوقات، وقت الضحى وهو وقت حركة، الناس عند الضحى تذهب إلى أعمالها، وتخرج إلى أمور معاشها، وإلى تحصيل رزقها، وأما إذا جاء الليل فقد هدأ الناس وسكنوا، فيقسم في وقتين هما طرفا الزمن، طرف الحركة الأول وطرف السكون، طرفا الحركة والسكون يقسم بهما، الضحى وقت انبثاق نور الشمس، والوحي نور، الحديث عن الوحي، فما المناسبة؟ الضحى وقت انبثاق نور الشمس (وَالضُّحَى) يوم تنبثق الشمس، ويصبح الوقت ضحى، ويرى الناس الأشياء في وقت الضحى، وما الوحي إلا نور ينير الله تعالى به الدنيا، فكما أن الشمس تضيء الدنيا بأشعتها فإن الوحي ينير الدنيا بتوجيهاته وهداياته، فالضحى نور والوحي نور.
ما علاقة الليل؟ الليل وقت القيام بالقرآن، شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس، الضحى أيضاً فيه صلاة الضحى.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن في سفر ولا حضر؛ نوم على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين بعد الجمعة، ثم إن أبا هريرة جعل بعد ركعتين بعد الجمعة ركعتي الضحى }

[أخرجه مسلم والدرامي وابن خزيمة ]

فصلاة الضحى أيضاً في وقت الضحى، فعندنا صلاة نافلة في وقت الضحى، وصلاة نافلة في وقت الليل وهي قيام الليل، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل حتى تتورم قدماه، وكان المشركون يسمعون صوته، وبعضهم كان يأتي في الليل متخفياً ليسمع القرآن الذي كان يأخذ بالألباب، لذلك قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) لأنه عند سكون مكة كانت تنطلق أصوات القرآن في مكة بالمصلين، بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فالليل وقت القيام بالقرآن، والضحى أيضاً وقت صلاة الضحى.
الليل فيه وحشة:

وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
[ سورة الفلق]

يستعيذ الإنسان من شر الغاسق، من شر الليل، لأن فيه وحشة، وقت الضحى فيه أنس.

المعاني الجميلة لكلمة الضّحى:
الآن عندما فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في وحشة فلما جاء الوحي من جديد جاء الضحى والنور، هذه المناسبة، انظر كيف يخاطب القرآن الكريم نبيه (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي كما أن الضحى بعد الليل، يجلو ظلمة الليل، ويجلو وحشة الليل، فيأتي الضحى وينير الدنيا، أيضاً هذه الفترة التي فيها بعد عن الوحي سيأتي بعدها ما ينير الدنيا بالوحي من جديد، وهذا يعلمنا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستأنس بالوحي، النبي صلى الله عليه وسلم لماذا ضاق صدره لما فتر الوحي عنه؟ لأنه يستأنس بالله عز وجل، يخاطبه الله، ينزل عليه:

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
[ سورة المزمل]

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
[ سورة المدثر]

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
[ سورة العلق]

فيستأنس، نحن اليوم بعد ألف وأربعمئة سنة وأكثر نستأنس بوحي السماء عندما نقرؤه، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتنزل عليه مباشرة من خالقه ويخاطبه مباشرة يا محمد؟ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فهذا الوحي والخطاب لرسول الله كان يؤنسه ويدخل السرور إلى قلبه، ويملأ قلبه بالحب والخير، فكان إذا فتر عنه يشعر بالوحشة، فجاء الليل للوحشة، والضحى للأنس، كما أنه بعد فتور الوحي سيأتي من جديد ما يضيء الدنيا بنور الوحي.
أيضاً من المعاني الجميلة؛ الضحى كما تعلمون هو الساعة التي كلم موسى بها ربه، وهو الساعة التي أُلقي السحرة سجداً، فكأن الله تعالى يذكر نبيه بهذه الساعة المباركة، ساعة الضحى التي نصر الله فيها موسى على أعدائه، وكأنه يقول له: يا محمد سننصرك على أعدائك ونحقق مرادك، أيضاً هذا مما ذكره المفسرون.

أروع التدبر في القرآن الكريم:
البحث عن الصلة بين جواب القسم والمقسم به
دائماً أحبابنا الكرام؛ في القرآن الكريم من أروع التدبر أن تبحث عن الصلة بين جواب القسم والمقسم به: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) الآن المقسم عليه (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) ما ودعك؛ أي ما تركك، وما قلى؛ أي ما كرهك، ما أبغضك، الله لم يتركك كما يقول البعض، ولم يبغضك كما يقول البعض الآخر، ففتور الوحي ليس ذلك أبداً، وإنما سيعود الوحي إلى سابق عهده، وإنما هي حكمة من الله تعالى في فتور الوحي أحياناً، ثم عودته، فيواسي نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلمنا كيف نحب نبينا، لأنه إذا كان الله تعالى يحب نبيه بهذه الطريقة فيواسيه لأي شيء مسه فالأولى بنا أن نذوب حباً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من أتباعه.
فالمناسبة بين المقسم به والمقسم عليه، فالقسم كما قلنا: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) أي كما أن الضحى يأتي بعد الليل فإن الوحي سيأتي ليمحو وحشة الغياب، كما أن الضحى يمحو وحشة الليل فالوحي ينير الدروب، ويهدي العباد، يزيل الظلمة، ويعود لينير دروب الناس، هذا التواصل بين المقسم والمقسم عليه.
أيضاً ربنا عز وجل قال:

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
[ سورة الأنعام]

فهو فالق الظلمة جلّ جلاله.

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
[ سورة الفلق]

الفلق؛ تفسيره هو أن الله عز وجل يفلق الإصباح، أي من الليل المظلم يشع نور الحياة من جديد (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ) فكما أن الله تعالى يفلق ظلمة الليل فيأتي ضوء النهار فكذلك هو الذي فلق ظلمة الجهل بنور الوحي جلّ جلاله، فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي، كان الناس يعيشون في ظلم، وفي شرك، وفي جهل فجاء الوحي.

الاستنارة بنور الوحي لأنه مطلق من عند الخالق:
من نعم الله علينا نعمة البصر
أحبابنا الكرام؛ من نعم الله علينا نعمة البصر، نحن الآن ننظر إلى بعضنا، يوجد أناس خلقهم الله غابت عنهم حاسة البصر، نسأل الله السلامة، فأكرمنا الله بهذه الحاسة لو لم يكن هناك ضوء، لو تخيلنا أن الله لم يخلق ضوءاً، إذاً لاستوى الأعمى مع البصير.

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
[ سورة الأنعام]

لكن لو لم يكن هناك ضوء، أي وسيط يتوسط بين الرائي والمرئي، فهل هناك قيمة للعين التي ترى والعين التي لا ترى؟ يصبح الأعمى كالبصير، لأنه لا يوجد نور، لا يوجد ضوء، كما أن الضوء هو الوسيلة التي نرى بها، وهو الوسيط الذي نرى به الأشياء، فالنور الذي لا يمكن للعين أن تبصر به الحق، وتبصر به الباطل إلا من خلال الوحي، فأنت بعقلك فقط، يقول لك: أنا اليوم عقلاني، ماذا يعني عقلاني؟ أي أنا بعقلي أعرف الخير والشر، والحق والباطل، إذا قال لك عقلك: الربا حق، ماذا تفعل؟ أرابي، وإذا قال لك عقلك: الزنا، إذا كان بالتراضي لا يوجد مشكلة، والعياذ بالله يزني الإنسان، وهذا عقلهم قادهم إلى ذلك، في بعض البلدان الغربية من أيام نزلوا سن الزنا بالتراضي، صار خمس عشرة سنة، قالوا: إذا كان عمر البنت خمس عشرة سنة فزنت بالتراضي فلا تحاسب، الاغتصاب شيء والتراضي شيء، هذا عقلهم، فالعقل عندما يبتعد عن الوحي لا يبصر الأشياء، يصبح في ظلمة، اليوم العقل يزين للناس أشياء يندى لها الجبين كما يقال، فإنسان يقول لك: عقلي، والثاني يقول لك: أخي عاداتنا، ما معنى عاداتنا؟ أي عاداتك هي التي تقول لك هذا الشيء صح أو غلط؟ لا يوجد شيء اسمه العادات، الذي تراه أنت خطأ في بلدك إذا سافرت لبلد آخر يقولون لك: هذا مطلق الصح عندنا، هذا شيء خير عندنا، فالعادة ليست حكماً، إذاً ما الذي يحتاجه الإنسان؟ لا يمكن أن يستنير إلا بنور الوحي، لا يمكن أن ينظر إلا بنور الوحي، لأن الوحي مطلق، لأنه من عند الخالق.

إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
[ سورة فاطر]

أنت اليوم إذا اشتريت جهازاً عظيم النفع، غالي الثمن، جهاز كومبيوتر عظيم النفع غالي الثمن، ودفعت ثمنه آلاف الدنانير، وأحببت أن تتعلم طريقة تشغيله، وطريقة صيانته فهل تذهب إلى صديق لك أو جار لك تحبه وتطلب أن يعلمك عليه أم تذهب إلى الجهة الصانعة؟ الصانعة لأنها الجهة الخبيرة، فأنت اليوم عندما تقول لي: أنا أريد أن أتعلم الأمر، الوحي، لأنه هو الذي خلقك، فهو الذي يعلم ما يصلحك وما يفسدك، وهو يعلم ما يسعدك وما يشقيك، وهو يعلم ما يدخلك الجنة وما يدخل الظالم والعياذ بالله النار.
إذاً أحبابنا الكرام؛ نور الوحي هذا المقصود (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) لن يتركك الله دون وحي، لأن الوحي هو كالضحى الذي ينير ظلمة الليل ومن دون الوحي فأنت في ظلام دامس أيها الإنسان، لن تستطيع أن تبصر شيئاً، كالأعمى والبصير إذا غاب الضوء فهما متساويان.

طرفا الزمن هما الحركة والسكون:
الزمن هو البعد الرابع للأشياء
(وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) الآن آخر شي بهذه المناسبات، المناسبات كثيرة والقرآن بحر، كما قلنا: (وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ) هما حركة وسكون، طرفا الزمن، الزمن ما هو؟ كيف يتشكل الزمن؟ حركة وسكون، لو كان لا يوجد حركة لا يوجد زمن، كما تعلمون جميعاً، وأنتم أعلم مني بذلك، كل شيء له ثلاثة أبعاد، الطول والعرض والارتفاع، فإذا تحرك شكل زمناً، البعد الرابع، لماذا نقول: الزمن هو البعد الرابع للأشياء؟ لأنه عندما يتحرك الشيء فيشكل زمناً، فيقال: مضى على هذا الدرس ربع ساعة، كيف عرفنا الزمن؟ فهو ربع ساعة مثلاً، كيف مضى؟ بالحركة، لا يوجد حركة لا يوجد زمن، فالزمن هو البعد الرابع للأشياء.
طرفا الزمن هما الحركة والسكون، الليل يمثل السكون، والضحى يمثل الحركة والحياة، الحياة ضحى، والليل سكون، فكما أن الله تعالى خلق الحركة والسكون فإنه لن يدعك، ولن يبغضك، لا يوجد ليل، ولا يوجد نهار، لا يوجد حركة، ولا يوجد سكون (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).

الله تعالى متكفل بعباده لا يمكن أن يتركهم:
الآن: (مَا وَدَّعَكَ)؛ ما تركك كما قلنا، (قَلَى)؛ أبغض، أو كره (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ) ما قال: ما ودعك الله، ما قال: ما ودعك خالقك، اختار هنا الربوبية (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ) لأن الرب هو المتكفل بشؤون خلقه، فالمتكفل بشؤونك لا يمكن أن يتركك، ولا يمكن أن يبغضك فهو معك، لأنه متكفل بك جلّ جلاله، أنت عندما تقول: فلان رب الأسرة، ما معنى رب الأسرة؟ لا يمكن أن يتركها، أيعقل أن يترك رب الأسرة أولاده جياعاً ويخرج ويسافر دون طعام؟! هذا ليس رباً للأسرة، رب الأسرة يحضر لأولاده الطعام قبل أن يخرج، يؤمن عليهم قبل أن يأكل هو، فالرب يعتني، يتكفل، رب العزة جلّ جلاله لا يمكن أن يدع خلقه، يربيك، يتابعك، يؤدبك أحياناً، أحياناً يبعث لك مصيبة، الرب قد يبعث مصيبة مثل الأب رب الأسرة قد يعاقب ابنه، لا يوجد مانع، تربية، التربية متنوعة، لا نستطيع أن نقول: الرب دائماً كما تريد، لا، أحياناً يحتاج الأمر إلى تربية؛ مرض، افتقار، غنى، يعالجنا ربنا عز وجل لأنه رب، فقال: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ) لأنه ليس من شأن الرب أن يترك خلقه، كيف يتركك وهو الرب جل جلاله؟

الله تعالى لا يبغض أتباع محمد ما داموا محبين له ساعين إلى تطبيق سنته:
قال: (وَمَا قَلَى) لماذا لا يقول: وما قلاك؟ ما ودعك وما قلاك؟ طبعاً مناسبة الفاصلة القرآنية مهمة، القرآن فيه فاصلة، يسمونها موسيقا، أنا لا أحب أن أسمي بالقرآن موسيقا، لكن هي فاصلة قرآنية، نغم، أي (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) لو قلنا: وما قلاك هذا الجرس الموسيقا، لو قلنا: قلاك، تغير الجرس، لكن هناك أيضاً فائدة بلاغية، أول شيء هو لا داعي للتكرار، يغني عنها (مَا وَدَّعَكَ)، الأمر الثاني ما أراد ربنا جلّ جلاله أن يواجه نبيه بكلمة وما كرهتك، (وَمَا قَلَى) أخف على النفس، مع أنها نفي للبغض، رغم أنها نفي للبغض لكن ما واجهه بها، يعلمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الآخر: عندما قال: (وَمَا قَلَى) كأنه قال: ما قلاك، (وَمَا قَلَى) أصحابك (وَمَا قَلَى) أتباعك ، أي أطلقها، فعمت الخلق من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ما خصصها به، قال: (وَمَا قَلَى) الله تعالى لا يبغض أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ما داموا محبين له، ساعين إلى تطبيق سنته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، محبين، متبعين، (وَمَا قَلَى) أبداً.

الحرص على تعمير دنيانا بالطاعات دون أن ننسى آخرتنا:
الدنيا دار الممر
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) الآخرة يوم القيامة، والأولى الدنيا، فالله تعالى هنا سمى يوم القيامة: الآخرة، وسمى الدنيا: أولى، (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) وخير لنا من الأولى، يخاطبه لك للتخصيص يا محمد صلى الله عليه وسلم، ويخاطبنا من بعده بأن الآخرة خير من الدنيا، لأنها دار المقر، والدنيا دار الممر، وتزودوا من ممركم لمقركم، ولأنها تغر وتضر وتمر، الدنيا تغر، وتضر، وتمر، تغر؛ تظهر بحجم أكبر من حجمها بكثير، إذا أراد الإنسان أن يتزوج فإنه قبل الزواج بشهر يشعر أنه أسعد إنسان بالأرض، ويظن أن سعادة الدنيا كلها ستكون في الزواج، بعد الزواج بشهر يقول لك: والله شيء عادي، الحمد لله استنتج أنه شيء عادي، أقل من عادي، وإذا أراد أن يحصّل شهادة يقول لك: عندما آخذ الشهادة سأصبح ملك الزمان ثم يحصّل الشهادة وتنقضي، فتغر، هي تظهر بأكبر من حجمها، إذا أخذ سيارة جديدة، أول أربعة أيام أو خمسة كل دقيقة يخرج إلى الشرفة وينظر هل أحد أصابها بشيء، وبعد سنة لم يعد يحصي عدد الضربات الموجودة بها، هذه طبيعة الحياة تغر، تظهر أكبر من حجمها ثم تصغر، وتضر لأن فيها ابتلاء، الله تعالى جبلها على الابتلاء، وعلى الكدر.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
[ سورة الملك]

وتمر؛ لأنها ما إن تبدأ إلا وتنقضي، الأيام بيننا، تقول: والله البارحة كان رمضان واليوم سيأتي رمضان، وهكذا، هذه هي الدنيا تغر وتضر وتمر , فلذلك: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) لأن الآخرة دوام، واستمرار، وأبد، أما الدنيا فمؤقتة وزائلة، ومهما حصل الإنسان فيها من الطيبات فإنها ستنقضي، ومهما حصل فيها من المآسي فإنها ستنقضي، لكن الإنسان يعتني بدنياه لأنها مطيته للآخرة، لا نقول: يترك دنياه، بل يعتني بها دون أن ينسى آخرته، لأنه كلما اعتنى بدنياه أكثر ربما يكون قادراً على العمل الصالح أكثر، إذا إنسان قال لك: أنا تركت الدنيا، أنت كنت تدفع زكاة مالك، الآن حرمتنا من اثنين ونصف بالمئة من أجل أن تترك الدنيا، لا تترك الدنيا، نريد ألا ننسى الآخرة، هذا الذي نريده، ترك الدنيا ليس مطلوباً، إن تركناها أخذها غيرنا، وغيرنا قد لا يدفع زكاة ماله، وقد يسيطر علينا، ونصبح عمالاً عنده، نحن نريد أن نعمر دنيانا لكن بالطاعات دون أن ننسى آخرتنا.

وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى كرامة رسول الله على الله تعالى:
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) تخيلوا كيف نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وربه يقول له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) سنرضيك، وقد جاء بالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: اللهمَّ أُمَّتي أُمَّتي، وبكى فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إِلى محمد - وربُك أعْلم - فَسَلْه: ما يُبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله؟ فأخبره بما قال - وهو أعلم - فقال الله: يا جبريل، اذهب إِلى محمد، فقل له: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ ولا نَسُوؤُكَ }

[أخرجه مسلم ]

عطاء الله عز وجل قد يتأخر فلا تبتئس
هذه كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) لكن هنا قال: سوف، باللغة العربية عندنا سين، وعندنا سوف، أنا لو تأخرت على هذا المجلس، فلو اتصل بي أحد وقال: أين أنت؟ إذا قلت له: سآتي، معنى هذا أنني سأصل بعد دقائق، لو قلت له: سوف آتي، فليعلم أني ما زلت بعيداً، لأن سوف للمستقبل البعيد، والسين للمستقبل القريب، فلما قال له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) هذه إشارة لنا، لأن عطاء الله عز وجل قد يتأخر، فلا تبتئس، ما دام قائماً فلا تبتئس، نحن كثيراً نستعجل.

{ عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شَكَوْنا إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو [ الله ] لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار فيوضَعُ على رأْسه، فيُجْعَلُ نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ، لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون }

[أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي]

كما قال صلى الله عليه وسلم.

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
[ سورة الأنبياء ]

كما قال الله تعالى (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) انتظر، لأن الفرج يأتي بالوقت الذي يريده هو لا بالوقت الذي تريده أنت، ولأنه يجيبك إلى سؤلك في الوقت المناسب، حكمته ليست في الوقت الذي يناسب تسرعك (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) العطاء قادم، وعطاء الآخرة أكبر، قال له: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) أي لو أن العطاء تأخر سوف يأتي، وسوف يرضيك بالآخرة، وقد يرضيك في الدنيا قبل الآخرة (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) فقال: سوف للإشارة إلى أن العطاء قد يتأخر (يُعْطِيكَ رَبُّكَ) أعاد اللفظ (رَبُّكَ) لأن الرب يعطي، لأنه مرب، ممد يمدك (فَتَرْضَى) الفاء للترتيب على التعقيب، ما قال: ثم ترضى بعد حين (فَتَرْضَى) فوراً (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) للتعبير على أن لا وجود لفاصل بين العطاء والرضا، فالرضا حاصل لا محال، أما العطاء فقد يتأخر قليلاً (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى).

عطاء الله لا يعد ولا يحصى:
ثم يمتن الله تعالى على نبيه، ويمتن على كل واحد منا، قال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) انظر إلى عطاء الله الآن، سأذكرك يا محمد ببعض عطاياي، وانظروا رتبها ترتيباً زمنياً، يوم نشأَ نشأ يتيماً، فآواه الله، وكفله الله، وضمه إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) وجعل لذلك أسباباً، جده، ثم عمه الذي كفله إلى أن شبّ، وتزوج خديجة، إلى آخره، فوجد الإيواء، ووجد الحماية لأسباب من الله، لكن الله هو الذي آواه، فأولاً اليتم.
الضلال هو الحيرة في العقيدة
بعد ذلك (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى) ووجدك حائراً، هنا الضلال ليس بمعنى الضلال الذي يوصف به الإنسان الذي يعرف الطريق ويضل عنه، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الضلال الابتدائي، أي يوم تكون حائراً كما كان إبراهيم يقول: من ربي؟ فتكون حائراً فيهديك، هذا معنى الضلال هنا، الحيرة في العقيدة، الوضع كان صعباً في الجاهلية، الناس تعبد الأصنام، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ماذا يصنع؟ فهداه الله (وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) عائلاً؛ أي فقيراً أغناك من فضله، أعطاك.
لماذا قال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى)؟ هل وجده الله يتيماً؟ هو جعله يتيماً أليس كله بأمر الله؟ هذا أيضاً أدب مع الله، لا تنسب إلى الله الشرور.

{ عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح الصلاة كبَّر، ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرتُ، وأنا أوَّل المُسْلِمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدنِ لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك }

[أخرجه مسلم وأبو داود وابن خزيمة ]

ويقول تعالى:

وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
[ سورة الشعراء]

أنا مرضت، ما قال: أمرضني (مَرِضْتُ).
فهنا قال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) (وَوَجَدَكَ ضَالّاً) (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله؟ لماذا لم يجعله ينشأ في كنف أبوين؟ أولاً: من أجل أن يعيش اليتم فيرفق بالأيتام والمستضعفين في الأرض، المعاناة أخواننا الكرام تولد إذا كانت مع تربية صحيحة، تولد ردة فعل صحيحة تجاه الآخرين، فالذي ما عاش اليتمَ ربما لا يحس باليتم، لكن لو عاشه ورأى يتيماً فإنه يحنو عليه.
نعمة الأبوين هي نعمة عظيمة
الأمر الثاني وهو الأهم: لو أن الله تعالى جعل له والدين ونشأ في كنفهما، لقال قائل من الناس: هذه تربية الوالدين ظهرت في محمد، وأراد ألا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم من الخلق منّة إلا الله، أبداً، فقط الله، فإذا وجدت خيراً، ووجدت خلقاً، ووجدت دعوة، ووجدت صبراً، فهذا لا يمكن أن ينسب إلى والديك، وإنما هو من الله تعالى وحده، ثم لما جعله يتيماً أبعد عنه الحاضنة الاجتماعية، فإذا أراد أن يلتجئ فإنه يلتجئ إلى الله وحده، الناس يعتزون بآبائهم، أنا أبي كان فلاناً، أما محمد صلى الله عليه وسلم فأدبه ربه فأحسن تأديبه فكان ذلك من الله مباشرة دون واسطة، نحن لدينا واسطة، والحمد لله على نعمة الأبوين فهي نعمة عظيمة، لكن لما جعله يتيماً - هذه الثالثة - كان قدوة إلى يوم القيامة، وجبراً لخاطر كل الأيتام، فإذا نشأ إنسان يتيماً تقول له: لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) عائلاً؛ أي فقيراً، له عيال كثيرة، من هنا جاءت (فَأَغْنَى) النبي صلى الله عليه وسلم لا كما يتوهم البعض ويوهم بعض الدعاة الناس أنه كان في مرحلة من الفقر المدقع الدائم المستمر، ليس كذلك، عاش النبي صلى الله عليه وسلم من حياته غنياً، أغناه الله بالغنائم، وبما فتح عليه من الفتوحات، وكان له سهم، وتاجر النبي صلى الله عليه وسلم، رعى الغنم، ثم تاجر بمال خديجة مضاربة، عمل النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمنا ذلك، نعم جاءت فترة من حياته عاش بها الفقر ليكون قدوة للفقراء، لكنه أيضاً عاش غنياً ليكون قدوة للأغنياء، فقال: (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى).

مقابلة عطاء الله باللطف والأدب مع الآخرين:
الآن يترتب على ذلك: يتيماً؛ آواك، ضالاً؛ هداك، عائلاً؛ أغناك، أنت ماذا ينبغي أن تفعل؟ اقتدِ بالله.

هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
[ سورة الرحمن]

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
[ سورة القصص]

فماذا ينبغي أن تصنع؟ ما ردة فعلك؟ قال: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) عشت اليتم وعلمته فلا تقهر اليتيم، إياك أن تقهره بكلمة، أو بفعل، أو تدخل إلى قلبه الحزن، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:

{ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، قال: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك }

[أخرجه الطبراني ]

فقط المسح، هذا قبل أن تطعمه، وكان يقول:

{ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين - وجمع بين السبابة والوسطى - والساعي على اليتيم والأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله والصائم القائم لا يفتر }

[أخرجه أبو يعلى والطبراني]

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) إذا جاءك من يسأل، وما قال سائل المال، السائل عموماً، قد يأتيك ليسألك من أمور الدين أو الدنيا (فَلَا تَنْهَرْ) إما أن تعطيه سؤله، أو أن تعتذر له بلطف وأدب، لكن ليس لك أن تنهره، النهر؛ بمعنى أن ترده بقسوة وتغلظ له بالقول، لا يوجد عندي شيء لك، اذهب، إن أردت أن تعتذر لسبب أو لآخر، لا تملك، أو لا تثق به، أو لا تعلم، أو لا تملك وقتاً، حاول جهدك أن تلبيه، فإن لم تستطع فاعتذر له بلطف، أعطاك الله، لا أعرف، أعتذر منك (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ).

النعم التي ينبغي التحدث بها:
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ربنا عز وجل بدأ بحقوق المخلوقين قبل حقه، قال: لأنه الغني عن عباده، وهم المحتاجون إليه، فبدأ بحقوقهم قبل حقه، تكلم عن اليتيم، وعن السائل بقي له: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
نعم الله التي نحدث بها هي النعم المشتركة
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) البعض يفهم هذه الآية بشكل غلط، يجلس في مجلس وهو غني وقد منّ الله عليه بما منّ عليه، ويجلس بمجلس فيه الفقراء من أهل بيته أو من أصدقائه، ثم يحلو له أن يحدثهم عن سفراته الرائعة، وعن الفنادق ذات النجوم الخمسة التي نزل بها، وعن المبالغ الطائلة التي صرفها، ثم يلتفت إلى البيت ويقول لهم: هذه الزينة التي في زاوية البيت كلفتني كذا، وهناك من راتبه لا يتجاوز مئتي دينار، وهذا كلفني كذا، فإذا قلت له ذلك يا أخي كسرت قلبه، أنت لماذا تحدثهم عن ذلك؟ اكتم، أنعم الله عليك ولله الحمد، حدث من هو في مستواك، لكن قال لك: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)؟ نعم الله التي نحدث بها هي النعم المشتركة، فتقول: الحمد لله على نعمة الصحة، الحمد لله على نعمة الهواء، على نعمة الماء، على نعمة أن منّ الله علينا بالأمن والأمان، حدث بالنعم العامة لا بالنعم الخاصة، لأن النعم الخاصة ينبغي أن يكتمها الإنسان، وقد قال بعض الصالحين: اكتم ذهابك وذهبك ومذهبك، ذهابك؛ أين ذهبت وأين رجعت، وذهبك؛ الأموال التي معك، ومذهبك؛ أي أنا من جماعة فلان، أو من جماعة فلان، فيتحزب الناس ضدك، اكتم ذهابك، وذهبك، ومذهبك.
أحبابنا الكرام؛ النعم التي نتحدث بها هي النعم العامة المشتركة بين الخلق، لا النعم الخاصة التي منّ الله بها عليك، فهذه إن أردت أن تحدث بها فحدث بها نفسك قبل أن تأوي بها إلى فراشك، وقد أمضيت يومين في نزهة لطيفة مع الأهل، حدث نفسك، قل: يا ربي لك الحمد على نعمك، والله لولا أنك أدخلت السرور إلى قلبنا لما سررنا، ولولا أنك أعطيتني مالاً لما أدخلت السرور إلى أهلي، حدث نفسك بالنعم الخاصة، وحدث الناس بالنعم العامة ليتذكروا فضل الله عليهم وعليك، أما أن تحدثهم بما منّ الله عليك من نعم خاصة فهذا فيه بعد عن الأدب مع الله، ومع الناس، الأصل أن يكتم الإنسان نعمه الخاصة إلا عن أقرب الناس إليه، والذين يعلم أنهم في مستواه المادي والمعيشي.
هذه سورة الضحى أحبابنا الكرام؛ فيها من الفوائد واللطائف ما فيها، وأهم ما فيها أن الله تعالى يعلمنا فيها حب نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلمنا فيها الأدب مع نبيه صلى الله عليه وسلم، وكأن فحواها هو: ما دمت أنا الخالق أتودد إلى نبيّ، وما دمت أنا الخالق أُسلي على نبيّ وأسري عنه ما أصابه، ولا أريد أن يدخل إلى قلبه شيء من الضيق فكيف بكم وأنتم أتباعه؟! فيجب أن تعزروه، وتوقروه، وتنصروه، وأن تتبعوا النور الذي أنزل معه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته