مقاصد الحج وأهمية الذكر
مقاصد الحج وأهمية الذكر
المحاورة هناء المجالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمداً كثيراً طيّباً، حمداً يوافي نِعمه ويكافئ مزيده، الحمد لله على نِعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، الحمد لله على تمام النِعم وكمالها، وخير الصلاة وأتمُّ التسليم على الحبيب المُرتضى والشفيع المُرتجى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. |
مُستمعينا حيَّاكم الله إلى هذا الكلم الطيِّب من برنامجكم أُذُن خير، على صاحبها أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم. |
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)(سورة البقرة)
مقدمة:
كم هو عمرك يا إبراهيم؟ هِجراتٌ ثلاث، وسنواتٌ مُمتلئةٌ بالتضحيات، وبناءُ بيتٍ لله، ومشاهد لا تُحصى من مواقف الثبات، بهذا تُقاس الأعمار يا سيدي، بعمقها وليس بطولها، رَفعتَ بيتاً لله فرفع الله لكَ ذِكرك ورفع مقامك، فلم يلقكَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلا في السماء السابعة، مُسنِداً ظهرك إلى البيت المعمور، وحدك دون الخلائق امتلكت هذا الشرف الجليل، من عُمرك انبثقت يقظة الإنسان، فأنت من تنزع الحُجبَ عن العقل، وعلَّمتنا كيف يكون الإيمان مُبصِراً واعياً، كانت آمالُك كل مساءٍ تتبخر إلى السماء، تجمعها لك إرادة الله، وتكتُب لك بها مواعيدك مع غيثٍ سترتوي منه البشرية جمعاء. |
مُستمعينا ونُكمِل نفحات العيد وأنوار العيد والحجيج مع ضيفنا فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أستاذ التفسير والإعجاز العلمي في القرآن الكريم، المدير والمشرف العام على أعمال العالم الجليل الدكتور محمد راتب النابلسي، وهو العضو في رابطة علماء الشام. |
حيَّاكم الله دكتور ومرحباً بكم مرةً أُخرى. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وحفظكم وكل عامٍ وأنتم الخير |
المحاورة هناء المجالي:
وأنت الخير كله يا دكتور، دكتور ونحن في أعظم أيام الله ونتفيأ ظلال العيد وشعيرة الحج، فإننا في رحاب آيات الحج، فالآية السادسة والثلاثين تناوَلت بعضاً من أعمال الحج وهي البُدن يقول تعالى: |
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ۖ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ۖ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)(سورة الحج)
كيف نغفل دكتور عن هذه الآية الكريمة، ونُقدِّم الاحتياجات الدنيوية على القيام بهذه الشعيرة، مع أنَّ الله ربطها بالتقوى وجعل فيها الخير، كيف نوائم بين احتياجاتنا الدنيوية وبين ما هو مطلوبٌ منّا ومكلَّفون به من رب العالمين، تفضَّل. |
الإسلام دينٌ متوازنٌ لا يطلب من الإنسان ترك الدنيا ولكن يطلب منه ترك الحرام:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الإنسان تُنازعه رغبات الأرض وأوامر السماء، وكلما كان أكثر أيماناً وأعظم بركةً وخيراً، استجاب لأمر ربّه، وهذا معنى عيد الأضحى، واسمه الأضحى من التضحية، ولكن هذا لا يعني بحال أن يتخلَّى نهائياً عن نوازع الأرض، فإنَّ الله تعالى يعلم حاجة العبد إلى ما يُصلحه في دنياه، بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بصلاح الدنيا وصلاح الدين وصلاح الآخرة، فالإسلام دينٌ متوازنٌ، لا يطلب من الإنسان ترك الدنيا، ولكن يطلب منه ترك الحرام، فرقٌ بين أن نترك الدنيا أو أن نترك الحرام، فرقٌ بين أن نعمل في الدنيا أو أن نعمل لها، الإسلام يريدنا أن نعمل في الدنيا لا أن نعمل من أجلها، نعمل للآخرة في الدنيا، هذا التوازن مهم جداً في حياة المؤمن. |
ومع ذلك يبقى عند التعارُض أن يتوجه الإنسان لأمر ربّه، فلو نازعته نفسه إلى شيءٍ من الدنيا، وطلب منه الله تعالى أن يفعل للآخرة، فإنه يجب أن يستجيب لأمر ربّه، وعندها يذوق حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما من الدنيا، عندما تتعارض مصلحته المُتوهَمة، أقول المُتوهَمة لأنَّ المصلحة في دين الله، لكنه قد يتوهم مصلحته خارج دين الله، فعندها نقول له: لا بُدَّ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليك من مصلحتك المُتوهَمة، فالآية الكريمة التي أشرتِ إليها جزاكِ الله خيراً (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) قال كثيرٌ من المُفسّرين خيرٌ في الآخرة، النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شاةً وجعل يوزِّعها، انتبهت السيدة عائشة إلى أنه استغرق في التوزيع وفي العطاء وفي الخير ولم ينتبه، فقالت له: |
{ عن عائشةَ: أنَّهم ذبَحوا شاةً، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما بَقِيَ؟ قالَتْ: ما بَقِيَ منها إلَّا كَتِفُها، قال : بَقِيَ كلُّها غيرَ كَتِفِها }
(صحيح الترمذي)
النبي صلى الله عليه وسلم صحَّح المفاهيم:
فصحَّحَ النبي المفاهيم، الذي يبقى هو الذي تُعطيه، الذي يبقى هو الذي تُهديه، الذي يبقى هو الذي تتصدَّق به، أمّا الذي تأكله وتشربه يفنى، فالخير في البُدن هو فيما يبقى عند الله أن نُقدِّمها لله تعالى، أن نضعها بيد الفقير |
{ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللهِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ }
(رواه الطبراني في الكبير)
قال صلى الله عليه وسلم: |
{ ما عمِلَ آدمِيٌّ مِن عمَلٍ يومَ النَّحرِ أحبَّ إلى اللهِ مِن إهراقِ الدَّمِ، إنَّها لتَأْتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها وأظْلافِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ بمكانٍ قبلَ أنْ يقَعَ مِن الأرضِ، فَطِيبوا بها نفسًا }
(أخرجه الترمذي)
تقديم: |
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)(سورة الكوثر)
الإحسان إلى الناس (إنَّها لتَأْتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها وأظْلافِها، وإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِن اللهِ بمكانٍ قبلَ أنْ يقَعَ مِن الأرضِ، فَطِيبوا بها نفسًا). |
الدم يقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض:
كيف يطيبُ الإنسان نفساً بصدقته، وهو يُقدِّم هذه الأُضحية لله تعالى، عندما يتخيَّل هذا المعنى، أنَّ الدم يقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، ثم يقول الله تعالى في الآية التي تليها فوراً: |
لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ(37)(سورة الحج)
اللحوم والدماء هذه لن يصل إلى الله تعالى منها شيء، هذه ستصل إلى الفقراء إلى عباد الله تعالى، الله لا يريد منك لحم الأُضحية ولا دمها، يريد منك تقوى القلوب، أن تتوجه القلوب إلى الله تعالى، وأن تدرك أنَّ ما عنده خير، وأن تتقي أسماء جلاله بأسماء جماله، وأن تتقي عذابهُ بطاعته، وأن تتقي نارهُ بجنَّته وهكذا... |
فالله تعالى يريد منّا التقوى، أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكَر فلا يُنسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر، وليس اللحم والدم. |
المحاورة هناء المجالي:
بارك الله بكم، إذاً دكتور وما زال الوقت كافياً لنُقرِّر ونعزِم على إراقة الدماء، وذلك تمثُّلاً لقول الله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وأيضاً لهذه الآية الكريمة والتي ذكرتَها (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى) إذاً هُنا تركيز مرةً أُخرى على التقوى، وهُنا يا دكتور المُتأمِل لقول الله تعالى: |
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203)(سورة البقرة)
نحن هُنا نتحدث عن أيام التشريق، نود بيان أحب الأعمال في هذه الأيام العظيمة، سواءً للحاج أو غير الحاج، ودلالة ذلك من الآية الكريمة بارك الله بكم. |
أحب الأعمال في هذه الأيام العظيمة سواءً للحاج أو غير الحاج:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم جزاكم الله خيراً، أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من شهر ذي الحجة، أي اليوم الثاني والثالث والرابع من أيام العيد، وهذه الأيام وردَ في فضلها آيات وأحاديث، منها ما أسلفتِ جزاكِ الله خيراً (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ) قال جمهور المُفسّرين كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: هي أيام التشريق لأنَّ الله تعالى قال بعدها: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهذه هي أيام التشريق، ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر من فضلها فقال: |
{ أيَّامُ التَّشريقِ أيَّامُ أَكْلٍ وشُربٍ وذِكْرٍ للَّهِ عزَّ وجلَّ }
(أخرجه ابن ماجه وأحمد)
ذِكر الله المأمور به في أيام التشريق أنواعٌ متعددة، منها عقِب الصلوات المكتوبات بالتكبير، فنحن نُكبِّر عقِب الصلوات إلى آخر أيام التشريق، وأيضاً ذِكره بالتسمية والتكبير عندما نذبح النُسُك، وقت ذبح الهدايا والأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق، أي حتى عصر رابع يوم من أيام العيد. |
{ كلُّ عرفات مَوقِفٌ، وارفَعُوا عن بَطْنِ عُرَنَةَ، وكل مُزدلفة موقِفٌ، وارفَعُوا عن مُحَسِّرٍ، وكلُّ فِجَاجِ مِنًى مَنْحَرٌ، وكلُّ أيام التَّشريقِ ذَبْحٌ }
(رواه أحمد والطبراني وابن حبان والبيهقي)
فنذكر الله تعالى أيضاً في التسمية والتكبير عند الذبح، ومنها ذِكر الله عند الأكل والشرب قال: (أيَّامُ التَّشريقِ أيَّامُ أَكْلٍ وشُربٍ) فيها فرحٌ وفيها سرور، والمؤمن يشكُر الله على نعمة الفرح، ونعمة الأكل، ونعمة الشُرب، وفي الحديث: |
{ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا }
(صحيح مسلم)
هذا أيضاً من الذِكر، ومنها أيضاً ذِكره بالتكبير عند رمي الجِمار، وهذا مُختصٌ به الحُجَّاج فيُكبِّرون الله ويرمون الجِمار. |
وأخيراً ذِكر الله تعالى المُطلَق، فيُكثَر منه في أيام التشريق، وعُمر رضي الله عنه كان يُكبِّر بمِنى في قِبَّته فيسمع الناس فيُكبِّرون فترتجُّ مِنى تكبيراً، قال تعالى: |
فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)(سورة البقرة)
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام التشريق:
فهذا أيضاً من ذِكر الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذه الأيام، أيام التشريق قال: |
{ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أمر عبدَ اللهِ بنَ حُذافةَ أن يطوفَ في أيامِ مِنى ألا لا تصومُوا هذه الأيامَ فإنها أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذكرِ اللهِ }
(الطحاوي شرح معاني الآثار)
الأصل في الحاج وفي غير الحاج ألا نصوم أيام التشريق، هذه لا يجوز صيامها، هذا من محاسن الشريعة، نحن نصوم عرفة لنكفِّر سنةً ماضية وباقية، ثم في اليوم الأول من العيد يوم النحر يحرُم الصيام، ثم في أيام التشريق أيضاً يحرُم الصيام، فيومٌ تؤَكَدُ سُنّية صيامه، وأيامٌ يحرُم صيامها امتثالاً لأمر الله تعالى (هذه الأيامَ فإنها أيامُ أكلٍ وشُربٍ وذكرِ اللهِ) العبادة فيها هي ذِكر الله تعالى وليس الصيام، فنحن نعبُد الله كما يريد الله جلَّ جلاله، فكل هذه المعاني في أيام التشريق للحاج ولغير الحاج. |
المحاورة هناء المجالي:
بارك الله بكم يا دكتور على هذا الربط العظيم، بين هذه الآيات وإخراج الجماليات التي كانت موجودة فيها. |
نعود الآن للحديث عن التقوى يا دكتور، وأنا أشرت إلى هذا الموضوع في حلقاتٍ سابقة، التقوى هي أعظم وصية وخير زادٍ ليوم المعاد، تكررت هذه الوصية في آيات الحج وفي سورة البقرة، وذلك مع الوعي الصحيح لحقيقة الحج ومغزاه، ومن أعظم مقاصد الحج وأعظم أهدافه، هي إخلاص العبودية لله وحده، وتوجيه القلوب إليه سبحانه، نوَدّ بيان هذه الإشراقات، ربطها ببُشرياتٍ ورَدت في هذه السورة الكريمة سورة الحج، هنالك في الآية الرابعة والثلاثين نهايتها: |
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)(سورة الحج)
وفي الآية السابعة والثلاثين: |
لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ(37)(سورة الحج)
إذاً كلها بُشريات وتقوى وزادٍ ونعيم، ما هذه الإشراقات العظيمة للحج؟ نوَدّ بيانها في هذا البرنامج وفي هذه الدقائق بارك الله بكم. |
الإشراقات العظيمة للحج:
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة كما تفضَّلتم العبادة في الإسلام لها مقصِد، والعبادات مُعلَّلةٌ بمصالح الخلق، كما يقول الشاطبي، فكل عبادةٍ في الإسلام لها مقصِد، الله تعالى جعل الصلاة: |
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)(سورة العنكبوت)
وجعل الصيام: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)(سورة البقرة)
وجعل الصدقات: |
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103)(سورة التوبة)
وجعل الحج هذه العبادة البدنية والمالية، التي فيها سفرٌ وفيها مال، فهي مشتركة بين دفع المال وبين الحركة البدنية والجُهد والمشقَّة، جعل هذه العبادة أيضاً لإظهار العبودية لله تعالى من جهة، وليعلم الناس أنَّ الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، قال تعالى: |
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(97)(سورة المائدة)
وهذا أساس التقوى، فيتحقَّق مقصِد التقوى بالحج من خلال تعظيم الله تعالى، يطوف بالبيت، يسعى بين الصفا والمروة، يستجيب لأمر ربّه، يتذكر أبانا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذه المعاني تُحقِّق في نفسه ذلك التعظيم، أنَّ الله يعلم، فإذا علم المؤمن أنَّ الله تعالى يعلم لا يمكن أن يعصيه، فإذا عصاه بادرَ إلى بابه فوراً، لأنه يعلم أنه لا ملجأ ولا منجا إلا إليه. |
اليوم أنا أقود سيارتي في شوارع عمَّان، أتوقف إذا وجدت الإشارة حمراء، لا أُتابع المسير، لماذا؟ لأنني أعلم أنَّ إدارة المرور تعلم أنني سأتجاوز الإشارة، إمّا من خلال الشرطي الواقف بسيارته قريباً من الإشارة، أو من خلال الكاميرا المُثبَّتة لتُراقبني، فأنا متى ألتزم بالتعليمات؟ عندما أعلم أنَّ الجهة التي تأمرني تعلم مُخالفتي، فالحج يُحقِّق هذا المقصِد العظيم، بأنني أعلم أن الله تعالى يعلم ما أفعله، ويعلم ما أُضمِره، وما أُخفيه، وما أُسِرُّه، وما أُعلِنه، فتتحقَّق التقوى. |
{ عَنِ ابنِ مسعودٍ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال أنْ يُطَاعَ فلا يُعْصَى وأنْ يُذْكَرَ فلا يُنْسَى وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ }
(أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير وأبو عبيد في الناسخ والمنسوخ)
المحاورة هناء المجالي:
نعم بارك الله بكم يا دكتور، وفي آخر محاور الحلقة وفي آخر دقائقها، كثيرٌ منّا يا دكتور يتمنّى الحج، ويؤدّي هذا الركن العظيم، فتحنُّ القلوب، وتهفو النفوس إلى حج البيت العتيق، ولكن لم يَحِنْ الموعد، كثيرٌ منّا يتمنّى أن يرزقه الله الحج ولكن عليه الصبر لم يَحِنْ الوقت، لا بُدَّ من أمورٍ وأعمالٍ تعدل في ثوابها الحج والعمرة، دُلَّنا عليها فضيلة الدكتور بلال، فلربما ارتاحت نفس الإنسان الصادقة في طلب هذه الفريضة، تفضَّل. |
أمور وأعمال تعدل في ثوابها الحج والعمرة:
الدكتور بلال نور الدين:
جزاكم الله خيراً على هذا السؤال، ودقة السؤال في أدهى تَعدِل، هذا ما يُسمّيه العلماء الجزاء وليس الاجزاء، أي يأخذ الجزاء وكأنه حجَّ أو اعتمر، لكن لا يُجزئه فيما لو استطاع وتمكن أن يحج، فيُعطيه جزاءً لا إجزاءً، الأعمال كثيرةٌ أوَلها صدق النية، فمن صدق في نيِّته مع الله أن يحُج كُتِبَ له جزاء الحج، النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاةٍ مع أصحابه، وهناك أُناسٌ لم يشاركوا في الغزوة، ثم يقول: |
{ لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ولا قطعتُمْ من وادٍ إلَّا وَهُم معَكُم قالوا : يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يَكونونَ معَنا وَهُم بالمدينةِ ؟ قالَ : حبسَهُمُ المرضُ }
(أخرجه البخاري)
فكل من نوى بصدقٍ أن يحج لو استطاع ثم لم يستطع، يُجزى على ثواب الحج إن شاء الله، من ذلك أيضاً المحافظة على صلاة الفريضة: |
{ مَن خرَجَ مِن بيتِه متطهِّرًا إلى صلاةٍ مكتوبةٍ، فأجْرُه كأجرِ الحاجِّ المُحرِمِ، ومَن خرَجَ إلى تسبيحِ الضُّحى لا يُنصِبُه إلَّا إيَّاهُ، فأجْرُه كأجرِ المُعتمِرِ، وصلاةٌ على أثَرِ صلاةٍ لا لَغْوَ بينَهما كتابٌ في عِلِّيِّينَ }
(شعيب الأرناؤوط تخريج سير أعلام النبلاء )
أيضاً صلاة الفجر في جماعة، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ مَن صلى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قَعَد يَذْكُرُ اللهَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ، ثم صلى ركعتينِ، كانت له كأجرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ }
(أخرجه الترمذي والبغوي في شرح السُنَّة)
أيضاً لو أنَّ إنساناً ما استطاع أن يحج، الأعداد محدودة: |
{ لَمَّا رَجَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن حَجَّتِهِ قالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الأنْصَارِيَّةِ: ما مَنَعَكِ مِنَ الحَجِّ؟ قالَتْ: أبو فُلَانٍ -تَعْنِي زَوْجَهَا- كانَ له نَاضِحَانِ، حَجَّ علَى أحَدِهِمَا، والآخَرُ يَسْقِي أرْضًا لَنَا، قالَ: فإنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أوْ حَجَّةً مَعِي }
(صحيح البخاري)
أيضاً الأذكار عقِب الصلوات المفروضة: |
{ جاءَ الفُقَراءُ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوالِ بالدَّرَجاتِ العُلا، والنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كما نَصُومُ، ولَهُمْ فَضْلٌ مِن أمْوالٍ يَحُجُّونَ بها، ويَعْتَمِرُونَ، ويُجاهِدُونَ، ويَتَصَدَّقُونَ، قالَ: ألا أُحَدِّثُكُمْ إنْ أخَذْتُمْ أدْرَكْتُمْ مَن سَبَقَكُمْ ولَمْ يُدْرِكْكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ، وكُنْتُمْ خَيْرَ مَن أنتُمْ بيْنَ ظَهْرانَيْهِ إلَّا مَن عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وتَحْمَدُونَ وتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، فاخْتَلَفْنا بيْنَنا، فقالَ بَعْضُنا: نُسَبِّحُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، ونَحْمَدُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، ونُكَبِّرُ أرْبَعًا وثَلاثِينَ، فَرَجَعْتُ إلَيْهِ، فقالَ: تَقُولُ: سُبْحانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ، حتَّى يَكونَ منهنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاثًا وثَلاثِينَ. }
(أخرجه البخاري ومسلم)
إذاً التسبيح ثَلاثاً وثَلاثِينَ، والتحميد ثَلاثاً وثَلاثِينَ، والتكبير ثلاثاً وثَلاثِينَ عقِب كل صلاة، يعدِل ثواب الحج والعُمرة. |
التبكير لصلاة الجمعة للرجال: |
{ إنَّ لكم في كلِّ جمعةٍ حَجَّةً وعمرةً، فالحجَّةُ: الهجيرُ للجُمعةِ، والعُمرةُ: انتظارُ العَصرِ بَعدَ الجمعةِ }
(الألباني السلسلة الضعيفة)
(فالحجَّةُ: الهجيرُ للجُمعةِ) يعني التبكير لها. |
قضاء حوائج الناس هذا أيضاً وردَ فيه حديثٌ صحيح يقول: |
{ من سعى في حاجة أخيه المسلم فاجتهد فيها، فأجرى الله قضاءها على يديه كتب الله له حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام وصيامهما، فإنْ اجتهد فلم يجر الله قضاءها على يديه كتب الله له حجّة وعمرة }
(الشيخ الكليني، الكافي باب السعي في حاجة المؤمن)
هذا أيضاً مما فيه أجر الحجة والعُمرة. |
بر الوالدين فيه أجر الحاج والمُعتمِر: |
{ أتى رجُلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: إنِّي أشْتَهي الجِهادَ ولا أقْدِرُ عليه، قال: هل بَقِيَ مِن والدَيْكَ أحدٌ؟ قال: أُمِّي. قال: فأسأَلِ اللهَ في بِرِّها، فإذا فعَلْتَ فأنت حاجٌّ مُعْتَمِرٌ. }
(أخرجه أبو يعلى والطبراني في المعجم الأوسط)
وحضور مجالس العِلم: |
{ من غدا إلى مسجدٍ لا يريدُ إلا أن يتعلَّمَ خيرًا أو يُعلِّمَه، كان له كأجرِ حاجٍّ، تامًّا حجَّتُه }
(أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم في حلية الأولياء)
وأخيراً للمرأة التي تقوم على بيتها وأولادها وتتبعَّل زوجها، هذا أيضاً فيه أجر الحج والعُمرة كما في الحديث الطويل: |
{ عن أسماء بنت يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل، أنها أتتِ النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم – نفسي لك الفداء – أما إنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب، سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع، إلا وهي مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا - معشر النساء - محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم - معاشر الرجال - فُضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا أُحرج حاجًّا أو معتمرًا ومرابطًا، حفظنا لكم الأموال، وغزلنا لكم أثوابًا، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر، يا رسول الله؟ قال: فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسنَ من مسألتها في أمر دينها من هذه»؟ فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها ثم قال لها: انصرفي أيتها المرأة وأعْلِمي مَن خلفكِ من النساء أن حُسْنَ تبعُّلِ إحداكن لزوجها، وطلبِها مرضاتَه، واتباعها موافقته تعدِل ذلك كله، قال: فأدبرت المرأة، وهي تهلل وتكبر استبشارًا }
(شُعب الإيمان للبيهقي)
فكل هذه الأعمال تجعلنا في بلادنا، نأخذ الأجور العظيمة التي تعدِل أجر الحج والعُمرة. |
المحاورة هناء المجالي:
نعم بارك الله بكم يا دكتور، إذاً المُتدبِّر لحديث القرآن الكريم عن الحج، يلمس عدداً من المقاصِد والأسرار التي ينبغي أن يتوقف معها المسلم، فاهتمامنا الفقهي فقط، أضعف أثر الحج في نفوس الناس، فهنالك جوانب ومقاصِد عظيمة للحج، فالتوحيد والإخلاص لله هو المقصد الأعظم، وأنتَ بيَّنتَ وأجملت هذه المقاصد بارك الله بكم، في هذه الحلقة وفي هذه الإشراقات والأنوار لركن الحج ولأنوار عيد الأضحى. |
بارك الله بكم دكتور بلال نور الدين، وزادكم الله من علمه ومن فضله شكراً جزيلاً لكم. |