وعود الله تعالى للمؤمنين

  • 2018-03-16
  • عمان
  • مسجد طارق بن زياد

وعود الله تعالى للمؤمنين


الخطبة الأولى:
يا ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذل في عزك؟ وكيف نُضام في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟ وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد فيا أيها الإخوة الكرام:

الآيات في موضوع الاستخلاف والتمكين:
آيات الاستخلاف وعد وليست أمراً
من منا لا يتمنى أن يرى أمته المسلمة في أحسن حال؟ من منا لا يرجو أن يرى نصر الله عز وجل للمسلمين؟ من منا لا تتوق نفسه إلى أن يمكّن الله لدينه في الأرض؟ وأن يستخلفنا كما استخلف الذين من قبلنا، هذا منى كل مسلم، وأمنية يرجوها كل إنسان يعتز بدينه وأمته، لكن أيها الإخوة، لو نظرنا في كتاب الله تعالى في الآيات الكريمة التي جاءت تتحدث عن الاستخلاف والتمكين في الأرض، لوجدنا أن كل الآيات في موضوع الاستخلاف والتمكين إنما هي وعد وليست أمراً، كيف ذلك؟ أعني أن هذه الآيات القرآنية لم تقل يا أيها الذين آمنوا استخلفوا أنفسكم في الأرض، ولم تقل اجعلوا لدينكم التمكين في الأرض ولكنها وعدت بذلك، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، انظروا إلى الآيات الكريمة، قال تعالى:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
(سورة القصص)

هذه إرادة الله.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(سورة النور)

قانون، هذا وعد.

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(سورة الحج)

(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) فالله هو الذي يمكّن للإنسان في الأرض، أما المطلوب منه (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) .

أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6)
(سورة الأنعام)

فالله هو الذي يمكّن في الأرض:

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
(سورة ص)

(إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) الله تعالى هو الذي يستخلف، موسى عليه السلام يقول لقومه:

قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
(سورة الأعراف)

الله تعالى يستخلف في الأرض، ثمود، قوم ثمود ماذا قال لهم صالح عليه السلام؟ قال:

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
(سورة الأعراف)

أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62)
(سورة النمل)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)
(سورة الأنعام)

هو الذي جعلكم خلائف في الأرض، ولا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، هذه الآيات كلها تبين أن الاستخلاف والتمكين في الأرض وعدٌ من الله عز وجل وليس أمراً، فما المأمور به إذاً؟ لأنه لا ينبغي أن نشغل أنفسنا بما وُعدنا به، وضُمن لنا ونتكاسل عما أُمرنا به والذي لا يتحقق موعود الله إلا من خلاله، انظروا ما المطلوب:

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
(سورة النور)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
(سورة النور)

أيها الإخوة الكرام، إذاً: موعود الله عز وجل بالاستخلاف والتمكين هو وعد من الله عز وجل لا يمكن أن يتخلّف به:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
(سورة النساء)


تحقيق موعود الله لنا:
لكن ينبغي أن نشغل أنفسنا بما يحقق موعود الله لنا وهو العمل بطاعة الله تعالى وبأمر الله تعالى، وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

{ عن خباب بن الأرت قال: شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. }

(صحيح البخاري عن خباب بن الأرت)

النصر والهزيمة من المتغيرات
(عن خباب بن الأرت شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له) جعل البردة وسادة له (في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا) اطلب من الله النصر لنا (ألا تَدْعُو لَنا؟) فاحمرّ وجهه صلى الله عليه وسلم، ما الذي حصل؟ لم يرفع يديه إلى السماء، والدعاء مطلوب، والاستنصار مطلوب، ولكنه لم يفعل ذلك في هذه الحادثة، لعله صلى الله عليه وسلم لمح من كلامهم أن اليأس بدأ يتسرب إلى قلوبهم، من لهجة كلامهم، يعني نعاني ما نعاني ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى إلى ما حلّ بنا؟ نظر إلى حالهم لا إلى مجرد مقالهم ففهم مرادهم فلم يقل يارب انصرهم، لا، أجابهم إلى ما في قلوبهم فنهض صلى الله عليه وسلم وقد احمرّ وجهه فقال: (قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَّطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ) لا يقبل أن يتنازل عن دينه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ) أمر الدين أمر الاستخلاف والتمكين (واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) هذا الذي لمحه صلى الله عليه وسلم في مقالتهم، لمح استعجالاً يؤدي إلى فتور في الهمة، يؤدي إلى قنوط من رحمة الله تعالى، يؤدي إلى يأس من نصر الله تعالى، فذكّرهم بالثوابت، ونهاهم عن الخوض في المتغيرات، فالنصر والهزيمة أيها الإخوة من المتغيرات والدليل:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

الأيام دول، متداولة، ينتصر حيناً ويُهزم حيناً، حتى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مع أشرف الخلق وحبيب الحق لم يُكتب لهم النصر في أحد، ولا في حنين، لماذا؟ لأن سنة الله في الحياة أن الأيام دول، يتداولها الناس، صحيح أنهم في أُحُد خالفوا أمراً تكتيكياً إن صح التعبير من أوامر المعركة فأراد الله عز وجل أن يبين أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة، وأن النصر لا يكون إلا باتخاذ كافة الأسباب، وصحيح أنهم في حنين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة فاعتدّوا بعددهم فلم ينتصروا، لكن في محصلة الأمر أراد الله عز وجل أن يعلمنا أن الأيام دول، فالنصر والهزيمة من المتغيرات، لكن الإيمان بالله تعالى من الثوابت، لكن أن تلقى الله عز وجل وهو عنك راضٍ من الثوابت:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
(سورة البروج)

يمدحهم تعالى، لقد انتصر أصحاب الأخدود مع أنهم حُفر لهم حفرة عظيمة وأُلقوا في النار في داخلها ثم إن الله تعالى يثني عليهم بأنهم حققوا النصر، أي نصر حققوه؟ حققوا نصراً أنهم ماتوا وهم ثابتون على مبادئهم، لم يموتوا على كفر ولا شرك ولا نفاق، وإنما ماتوا موحدين وكفى بهذا نصراً أن تكون في طاعة الله، وأن يكون عدوك في معصية الله، وهذه ليست دعوة للتطاول أو الخنوع أبداً ولكنها دعوة لفهم السنن الكونية في الأرض.

الإنسان يحب الشيء العاجل:
أيها الإخوة الكرام، يقول تعالى:

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(سورة الأنبياء)

الإنسان يتعلق بالعاجل وينسى الآجل
طبعه أنه يحب الشيء العاجل، لماذا الناس يتعلقون بالدنيا وينسون الآخرة؟ لأن الدنيا عاجل، والآخرة آجل، فهو يرى أمامه اليوم مركبة فارهة، ويرى أمامه امرأة فاتنة، ويرى أمامه بيتاً واسعاً، فيتعلق بما هو عاجل وينسى ما هو آجل، متى يسعد الإنسان ويرقى عند الله؟ عندما يخالف طبعه العاجل ويتعلق بما سيأتي بما وعده الله عز وجل به في قرآنه (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) ثم يقول الله تعالى: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) الآيات قادمة ولكن لا تستعجلوا.
لذلك أيها الإخوة الكرام، هل تصدقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، وسيد ولد آدم ربما لا يُتاح له أن يرى مصير الطغاة والمشركين، والدليل: يخاطبه تعالى فيقول:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

يا محمد صلى الله عليه وسلم، (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فقد لا يُتاح لك أن ترى النتيجة النهائية لأعمالك التي قضيت عمرك من أجلها، ولكن حسْبُك أن تموت وأنت على الحق، حسبك أن تموت ثابتاً على مبادئك وقيمك لا تتنازل عنها.
المعركة بين الحق والباطل تطول أحياناً حتى تكون أطول من عمر الإنسان كله، مثال: لو أن رمضان يأتي كل ثلاث وثلاثين سنة في الصيف مرة، وعاش الإنسان خمسين سنة فرضاً هل يتاح له أن يعيش مرتين رمضان في الصيف؟ لا، مرة واحدة، دورة رمضان أطول من عمر الإنسان، هذا نموذج، دورة الحق والباطل قد تطول لمئة سنة، والإنسان يعيش سبعين سنة أو ثمانين مثلاً فلا يُتاح له أن يرى مصير الطغاة، لا يُتاح له أن يرى نتائج المشركين، لا يُتاح له أن يرى الحق وقد أحقه الله بكلماته، لكن حسْبه أنه جندي في خدمة الدين.

ابتلاء الله تعالى للمسلمين في غزوة الأحزاب:
أيها الإخوة الكرام، في معركة الأحزاب يوم تحزّب الأعداء ضد المسلمين تماماً كنموذج مُصغر لما يشبه حالنا اليوم، ذكر الله تعالى هذه المعركة، هذه الغزوة فقال:

إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
(سورة الأحزاب)

انظروا أيها الإخوة، (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) متى هنالك؟ ثلاثة أمور حصلت قبل هذا الابتلاء:
(إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ) كناية عن تحزّب الجميع ضد المسلمين، حرب عالمية ثالثة معلنة كانت تحت الطاولة فأصبحت فوق الطاولة جهاراً نهاراً (مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ) أحاطوا بكم، هذا الأول.
(وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ) ملامح الوجه تغيرت من شدة الخوف والهلع والقلق (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) حركات القلوب واهتزازاتها، انظروا إلى هذا التصوير العظيم في كتاب الله تعالى.
أعظم هزيمة هي الهزيمة من الداخل
الثالثة (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) وهذا أعظم شيء، وهذا يحصل اليوم أحياناً من بعض ضعاف الإيمان، في معركة الأحزاب، في غزوة الأحزاب مُعتِب بن قُشير أحد الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال؟ قال: كان محمد – انظروا في كل كلمة- لم يقل رسول الله، قال كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، لما اشتد الخطاب ولما عظم الخطب ظنوا أو ظن بعضهم بالله الظنون، يعدنا صاحبكم -في رواية- أن تفتح علينا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط، ما هذا الوعد؟ قالها مستهزئاً (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) من ظن أن الله تعالى لا ينصر عباده المؤمنين الموحدين فقد ظن بالله ظن السوء، مَن ظنّ أن الله عز وجل قد تخلى عن دينه فقد ظن بالله ظن السوء، مَن ظن أن الله تعالى لا يُحِقُّ الحق بكلماته فقد ظن بالله ظن السوء، من ظن أن الله تعالى لا يُعلي قدر الشهداء عنده ولا يرفع مكانتهم في جناته وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون فقد ظن بالله ظن السوء، مَن ظن أن هذه الأمة قد انتهت إلى غير رجعة فقد ظن بالله ظن السوء، وأعظم هزيمة يُهزَمها المسلمون أن يُهزَموا من الداخل، وهذا ما يريد أعداؤنا أن نصل إليه، أن نظنّ أننا قد انتهينا.

{ أنا عندَ ظَنِّ عَبدي بي ؛ فَلْيَظُنَّ بي ما شاءَ }

(صحيح ابن حبان عن واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة)

كما في الصحيح، ظُنّ بالله ظن الخير، ظُنّ بالله ظن الحق لا ظن السوء.
أيها الإخوة الكرام، إذاً: لما تكالب الأعداء واجتمعوا (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ) ولما بلغ الخوف منتهاه (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) ولما بدأ ضعاف الإيمان يتهاوى إيمانهم (وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)(هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) زلزال، زالزال إيماني، هنالك زلزال في الدنيا:

أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
(سورة الملك)

وهناك زلزال في الآخرة:

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
(سورة الزلزلة)

وهناك زلزال في الإيمان، في كل لحظة يمتحنك الله عز وجل بها، زلزال إيماني (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)
أيها الإخوة الكرام، وفي هذا الشهر شهر آذار يستذكر المسلمون عموماً، وأهل الأردن الطيب خصوصاً معركة الكرامة التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، فقد كان عام 1967 عاماً كئيباً حزيناً على الأمة المسلمة، احتُلت فيه أراضٍ ما يزال معظمها محتلاً حتى اليوم في بلاد الشام وفي مصر، لكن أراد الله عز وجل أن يعطي عباده جرعة منعشة، ويبين لنا دائماً أن النصر يتعلق بالإيمان والإعداد، لا بقوة السلاح والجبروت والطغيان، فأعطانا جرعة منعشة لأنه جل جلاله موجود في كل زمان ومكان، ينصر عباده المستضعفين:

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
(سورة الأنفال)


الخطبة الثانية:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزَن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكَيِّسُ من دان نفسَه وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ من أَتْبَعَ نفسَه هَوَاها وتَمَنَّى على الله الأماني، استغفروا الله. .

الدعاء:
الحمد لله رب العالمين، والشكر لله لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب ومجيب للدعوات، اللهم برحمتك عمّنا، واكفنا اللهم شرّ ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم أكرم لهذه الأمة أمر رُشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُبلى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمهم وما أغمهم، اللهم أطعمْ جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، اللهم فرج عن إخواننا في الشام ما ألمّ بهم يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل عليهم من البلاء بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائنا يا أرحم الراحمين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، أنت وليّنا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخيّاً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.