أوصاف القرآن الكريم

  • محاضرة في الأردن
  • 2024-09-02
  • عمان
  • الأردن

أوصاف القرآن الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين.

كتاب الله تعالى عزيز:
أيُّها الإخوة الأحباب: وصف الله تعالى كتابه الكريم وقرآنه العظيم في كتابه الكريم بعدة أوصاف، منها أنه ذكر أنه كتابٌ عزيز، وأنه كتابٌ كريم، ومنها أيضاً أنَّ فيه شفاءً للناس، وهذه الأوصاف لو تدبرناها لوجدنا أنها تنطبق على كتاب الله تعالى بشكلٍ كامل، كيف لا والله تعالى صاحب الكلام هو الذي يصف كتابه بهذه الأوصاف، فكتاب الله عزيز، والعزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، والنادر الذي لا مثيل له، وكتاب الله تعالى عزيز فكم كُتِب من الكتُب، وكم أُلِّفت من المؤلفات وكان كل مؤلفٍ يستدرك في الطبعات اللاحقة الأخطاء، ويراجع العثرات، ويصوُّب الأغلاط، إلا أنَّ كتاب الله تعالى عزيز

لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
(سورة فصلت)

فلمّا كان المُنزِّل جلّ جلاله هو الله، فلن تجد في كتاب الله تعالى خطأً، أو شيئاً يحتاج إلى مراجعةٍ أو تعديل، وكلما حاول بعض المُبطلين أن يعبثوا بهذا الكتاب العظيم، ظهر عورهم، وانتصر عليهم كتاب الله، وبقي كتاب الله محفوظاً، وسيبقى إلى قيام الساعة لأن الله تكفَّل بذلك فقال:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
(سورة الحجر)

بينما ترك أصحاب الشرائع الأُخرى، ترك لهم أن يحفظوا كتبهم فقال:

إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
(سورة المائدة)

فلم يحفظوه، وحُرِّف، ونجد اليوم عشرات الأناجيل، العهد القديم والعهد الجديد وغير ذلك، لكن كتابنا هو الكتاب العزيز.

من أوصاف كتاب الله تعالى أنه كريم:
ومن الأوصاف أنه كتابٌ كريم، والكريم هو الذي يعطي، والقرآن الكريم كريم، بمعنى أنك كلما زدَّته تدبراً زادك عطاءً، فلو قرأت الآية مرةً تجد فيها معنىً، ثم تقرأها مرةً ثانية فتجد معنىً قد غاب عنك في الأولى، ثم تقرأها ثالثةً فتقول كأنني أقرأها لأول مرة، وهكذا، فهو كريم، تزيده تدبراً فيزيدك عطاءً وعلماً، وهو كريم لأنك تزيده روحانيةً في القراءة فيزيدك سكينةً في قلبك، فدائماً القرآن يعطينا أكثر مما نعطيه، نعطيه من وقتنا نصف ساعة فيعطينا سكينة يومٍ بأكمله، نعطيه ساعة من الوقت للتدبُّر فيعطينا علوم في اللغة و في الشرع وفي العلوم الحديثة وفي كل ما يخطر في البال، فهو كريم، هذا الكلام لأنه كلام الله كريم.
أمّا الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم هذه مقدمة هو أنه شفاء، الله تعالى وصفه بأنه شفاء، وما معنى الشفاء: الشفاء أن يكون الإنسان مريضاً فيأتي هذا العلاج فيشفيه، والله تعالى هو الشافي، من أسمائه الشافي، فالشفاء هو زوال المرض، كأننا اليوم بسبب ما حلَّ بالأمة من نكبات، بسبب ما يعانيه أهلنا في غزَّة من صعوبات، بسبب ما تكالبت علينا الأمم

{ عن الصحابي الجليل أبي عبد الله ثوبان بن مجدد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم :يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت }

(رواه أبو داوود)

كأننا أُصبنا بمرض، مرض سمِّه إن شئت عند البعض غير المؤمنين الإيمان الكافي، الإحباط، وعند البعض مرض اليأس القاتل، وعند البعض مرض الملل والركون إلى الدنيا والعودة إلى مشاغل الحياة، واليأس من إمكانية التغيير، ومن إمكانية أن يحصل شيءٌ يوماً ما يُغيِّر حالنا، فتنوعت الأمراض، لكننا لو قرأنا كتاب الله تعالى حقاً، سنجد فيه أجوبةً لكل ما يدور في خلَدِنا من أسئلة، فيأتي الشفاء، أحياناً تسألني سؤالاً فأُجيبُك عليه جواباً شافياً، تقول لي هذا جوابٌ شافٍ، أرحتني، الموضوع شاغل بالي كثيراً، لمّا سمعت جوابك شعرت أنه قد شفا غليلي، هذا هو الشفاء، فالقرآن فيه شفاء، شفاءٌ للأرواح، شفاءٌ لتساؤلاتك التي أحياناً لا تجد جواباً، لماذا يحدث ذلك؟ لماذا لا ينتصر الله تعالى للمظلومين من الظالمين؟ لماذا لا يحقق الله تعالى معجزةً في هذه اللحظة وينتصر أهل غزَّة نصراً عظيماً، ويندحر الاحتلال إلى غير رجعةٍ، أسئلةٌ كثيرة تدور في خلَدِنا جميعاً وتبحث عن أجوبة، والأجوبة في كتاب الله تعالى، لكن لو أننا قرأناه بتؤدة، أنا سألت بعض الأسئلة وأجبت عنها، يا ربّ ما لهؤلاء الجبابرة يعثون في الأرض مفسدين؟ ما لهم يكيلون لنا العذاب، ما لهم يتآمرون علينا، ما لهم يكثرون من التنكيل بنا وكأننا لسنا ذا قيمةٍ في المجتمع؟ فيأتي الجواب الإلهي:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
(سورة إبراهيم)


الله تعالى عزيز سينتقم لعباده ولن يخلف وعده لرسله ولأتباع رسله:
أحياناً يكون مُعلِّمٌ في الصف، وهناك طالبٌ غير منضبط، يُصدر الأصوات، ويأكل شطيرة من تحت المقعد، المُعلِّم يعرف ما يجري، لكن يؤجله، فهو ليس غافلاً عنه ولكن قد يكون متغافلاً عنه، يريد منه أن يأخذ جميع أبعاده، حتى يُكمِل الذي يفعله، كي يعلم المشكلة بحجمها الكامل، حتى يفعل ما يريد بشكلٍ كامل، ثم بلحظةٍ مُعيَّنة ينقض عليه.
مُراقِب في الامتحان وهناك طالب يغش، تركه فظنَّ أنه غافلٌ عنه، المُعلِّم من اللحظة الأولى شاهده وهو يُخرِج الورقة من جيبه، لكن أجَّل العقوبة إلى وقتٍ مُعيَّن تحقِّق العقوبة فيها غايتها، هذا مع البشر، في عالم البشر، قال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) إياك للحظةٍ واحدة أن تظن أنَّ الله تعالى غفل عنهم (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).
يا ربّ هل تخليت عنا؟

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)
(سورة إبراهيم)

الأولى (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا) إذاً هو يرى فلماذا لا يتدخل لصالحنا؟ (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ) عزيزٌ لا يغالبه أحد، ينتقم لعباده، سينتقم، لن يُخلِف وعده لرسله ولأتباع رسله، يا رب إنهم يمكرون بنا لكن المكر شديد يا ربّ

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
(سورة إبراهيم)

مجموعة تظن أنها قوية في داخل دولة، والدولة قوية وأركانها قوية، ومؤسَّسة بشكل مؤسَّساتي قوي، ومجموعة ضبَّاط ظنّوا أنهم أقوياء، جلسوا في ليلةٍ ليلاء في قبو مُظلم، وضعوا ورقةً كبيرة وجلسوا يحدِّدون طريقة الانقلاب على الحكم القائم، ووضعوا أنت وزيراً دفاع وأنا أستلم الخارجية، وأنا أستلم الصحة، والبيان رقم واحد نصدره بتاريخ كذا، يمكرون فإذا بهم يتفاجؤون أنَّ هذه الورقة تماماً كما هي عند القائم على الدولة بشكلٍ كامل، نسخة كاملة منها، مؤامرتهم كلها عنده، كيف يكون حالهم؟
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) ما يمكرونه ليس خارجاً عن علم الله (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) تخيَّل أن يكون هناك مكرٌ يستطيع أن يزيل جبلاً من مكانه! قوى الأرض إذا اجتمعت اليوم أن تزيل جبلاً لن تستطيع، الجبل ما تراه بعينك هو ثلثه لأنه أوتاد، والثلثان تحت الأرض، كيف يسير الجبل؟ لا يسير، لا يُزال من مكانه، قال: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) مكرٌ عظيم، لكن عند الله مكرهم، فاطمئن لأن مكرهم بعلم الله وعند الله، وحسابه عند الله تعالى، يا رب لماذا حلَّ بنا ما حل؟ قال:

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
(سورة مريم)


إمّا أن تكون على صلةٍ بالله أو أن تكون مُتَّبِعاً لشهواتك:
وقد قال المفسرون إضاعة الصلاة لا تعني تركها بالضرورة، ولكن تعني تفريغها من مضمونها، يُصلّي لكن يُرابي، يُصلّي لكن ينطلق لسانه بالفحشاء، يُصلّي لكنه يظلم زوجته، أضاع الصلاة، لأنه لم تنهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر، أضاعها، فإضاعة الصلاة لغةً لا تعني تركها بالضرورة، تركها أعظم إضاعة، لكن من يأتي ويُصلّي ولا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فقد أضاع الصلاة، قال: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) والخلف في اللغة هو السيء، والخَلَف هو الصالح، فقال: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) بسكون اللام، أي أُناسٌ سيئون (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) لأنه إمّا أن تكون على صلةٍ بالله، أو أن تكون مُتَّبِعاً لشهواتك، قال تعالى:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
(سورة القصص)

لا يوجد حلٌّ آخر، إذا شخصٌ لا يريد أن يستجيب لرسول الله لماذا؟ ليس لأن الدعوة غير ملائمة له، ليس لأنه دقَّق فيها فلم يجد فيها بُغيته، لكن لأنه صاحب هوى، والدعوة ستصدّه عن هواه (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقد لقيَ المسلمون ذلك الغَي، إذاً ما الحل؟ قال:

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(سورة آل عمران)

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) فالحل: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) على المستوى الشخصي وعلى المستوى الأُممي.
على المستوى الشخصي: انظروا كم من الأشخاص ضرَّهم اليوم كيد الأعداء، أنا أقول ولعلّي إن شاء الله أصدُق ما أقول: كل إنسانٍ في غزَّة سواءً مات على التوحيد واستشهد في سبيل الله، أو جاءه من البلاء فصبر، أو جاءه من الإغراءات فلم يتنازل عن دينه وأرضه وعِرضه، أقول: هؤلاء نجوا، وما ضرَّهم كيد الأعداء شيئاً، لا القنابل العنقودية ولا الحارقة ولا الخارقة، ولا القصف ولا الصواريخ، لم يحصل ضرر، لأنهم نجوا أمام الله عزَّ وجل، وهناك شخصٌ مُنعَّم، يعيش في قصره وعنده عافية الدنيا ونعيمها، ويتابع هذه الأحداث على الشاشات وضرّه كيد الأعداء ضرراً شديداً عندما جعله يتنازل عن دينه، أو جعله يخذُل هؤلاء المجاهدين، أو جعله يتكلم سوء ظنٍّ بربه جلَّ جلاله، فالقضية ليست في الضرر أن تأتي قنبلة نسأل الله السلامة، فيقضي الإنسان إلى ربه

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
(سورة يس)

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
(سورة آل عمران)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ۗ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
(سورة الفرقان)

فالذي صبر وهو داخل غزَّة نجا وما ضرّه كيد الأعداء، والذي خذَّل وهو خارج غزَّة ضرّه كيد الأعداء، وجعله الله فتنةً فلم يصبر، أتصبرون؟ (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) قال:

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(سورة محمد)

الدنيا ابتلاء، ولا بُدَّ أن يبتلي الظالم بالمظلوم والمظلوم بالظالم، والذي تحت القصف بالذي خارجه، والذي يعيش في بلده بمن يعيش المأساة داخل بلدٍ آخر، (وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
(سورة محمد)


الصبر مع التقوى سبيل النصر:
القرآن شفاء يا أحبابنا، (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) ولا شيء، فالصبر مع التقوى سبيل النصر، النصر المبدأي الفردي، كل واحد فينا الآن وقف من غزَّة الموقف الصحيح، ولم يخذِل ولم يتكلم سوءاً لا بحق دينه، ولا بحق ربّه جلَّ جلاله، ولا بحق أهل غزَّة، كل من استجمع هذا الأمر فقد انتصر نصراً مبدئياً، يشبه نصر أصحاب الأخدود، أصحاب الأخدود شُقَّ لهم الأخدود وأُلقوا فيه في النار وماتوا، لكن الله تعالى امتدحهم مدحاً عظيماً، قال العلماء انتصروا نصراً مبدئياً، أنه ثبت على مبدأه، لم تُثنه سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، انتصر، هذا نوعٌ من أنواع النصر، وهو أن يثبُت الإنسان على مبدأه، ويُغيظ الأعداء بثباته، هذا نصر، (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا).
وعلى مستوى الأمة: إذا الأمة استجمعت قواها بصبرٍ وتقوى، هذا طريق النصر، أمّا إذا توفر الصبر وليس هناك تقوى، يعصي الله ويقول لك أنا صابر! هذا طريق القهر ثم القبر، يقول أنا صابر ويضع أمامه كأساً من الخمر من أجل أن ينسى والعياذ بالله، ويقول لك صابرين، فهذا ليس صبر وإنما قهر، أمّا الصبر مع التقوى مع مخافة الجليل، صابرون على طاعة الله عزَّ وجل، وعن معصيته وعلى قضائه وقدره (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).
يا رب ما هي وعودك وكيف السبيل إليها؟ قال:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(سورة النور)


إن لم يُمكَّن ديننا فمعنى ذلك أنَّ الله لم يرتضِه لنا:
فإن لم يُمكَّن ديننا، فمعنى ذلك أنَّ الله لم يرتضِه لنا، إذا كان الدين فلكلور، الآن شهر المولد قادم، يعني من المولد للمولد نقيم حفلاً، أنا لست ضد حفل المولد، لكن ضد أن يكون فقط حفل المولد، طوال السنة يفعل ما يشاء، بشهر المولد يدعو الناس ويقيم الحفل بالمولد وانتهت مهمته عند ذلك، لكن مطعمه حرام ومشربه حرام، وفي صدر المحل التجاري يضع:

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1)
(سورة الفتح)

لكن البضاعة مغشوشة، وفي مدخل البيت:

وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29)
(سورة المؤمنون)

لكن عندما يدخل إلى البيت، لا يوجد تربية للأولاد على طاعة الله، ولا توجيه في البيت لطاعة الله عزَّ وجل، ولا صلاة تقام في البيت.

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
(سورة طه)

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا (80)
(سورة الإسراء)

كلام، فلكلور، حلوى توزَّع، وأناشيد، إذا أصبح الدين كذلك فهو غير مرضيٍ عند الله، فقال: (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) الدين الذي وعد بتمكينه هو الدين الذي ارتضاه لعباده، والله لا يرتضي ديناً فلكلورياً، يرتضي ديناً يجعل الإنسان يقيم شرع الله، يجعل الإنسان لا يؤذي الآخرين، يجعل الإنسان لا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا الدين الذي يرتضيه الله لعباده (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) فإذا أخلَّ الطرف الآخر بما عليه وهو أن يجعل حياته معبدةً لمنهج الله تعالى، فإن الله تعالى في حلٍّ من وعوده، لأن هناك شرط: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا).
أحبابنا الكرام: فكيف إذاً نسلك إلى الله؟ قال:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)
(سورة الذاريات)


الفِرار مرتبة من مراتب السالكين إلى الله:
هذه مرتبة من مراتب السالكين إلى الله، وهي مرتبة الفِرار إلى الله، والله تعالى على قدر الهدف يجعل السعي، فلمّا ذكر المولى جلَّ جلاله، الرزق قال:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
(سورة الملك)

الرزق يحتاج إلى مشي، الناس اليوم تفرّ إلى الرزق، انعكست الآية! اليوم ففروا إلى رزقكم، إذا قلت له هناك تجارةً رابحة يسافر إلى أقاسي الدنيا، ويُسرع إليها، طبعاً لا مانع من ذلك، ويجب على الإنسان أن يسعى إلى رزقه، لكن ربنا سمَّاها (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فلمّا ذكر ذِكره جلَّ جلاله، قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
(سورة الجمعة)

لا يبقى الإنسان بالفراش حتى الأذان الثاني ويركض، إمّا أن يلحق الصلاة، وإمّا أن يلحق الدعاء، (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) فلمّا ذكر الجنَّة قال:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
(سورة آل عمران)


من يعرف الله أكثر هو الذي يُسرع الخُطى إليه أكثر:
سارعوا، مُسارعة وكأن هناك سباقاً تخوضونه، وكل واحد يُسرع أكثر من الثاني، لكنه لمّا ذكر ذاته العليَّا قال: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) والفِرار كأن شخصاً وراءك يركض خلفك وبيده سكين، يريد أن ينال منك فكيف يكون سِراعك؟ فِرار، قال: (فََفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) فإذا نظرنا إلى الفِرار إلى الله تعالى، وجدنا أنَّ هناك صفات يجب أن تجتمع في من يُسرع الخُطى إلى مولاه.
والصفة الأولى أنَّ من يفرُّ إلى ربِّه ويسرع الخُطى إليه يعرفه، فأنت لا تذهب إلى جهةٍ لا تعرفها، هب أنك اليوم، أسأل الله أن لا يُحيجنا إلا إلى ذاته العليَّا، هب أنني اليوم احتجت إلى معاملةٍ تحتاج توقيعاً مهمّاً، ففوراً أُفكِّر في من أعرفهم، أقول فلان صاحب نخوة، إذا ذهبت إليه لديه القدرة والرغبة، عنده القدرة بأن يساعدني، وعنده رغبة، فأذهب إليه، والله تعالى متى قال: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) بعد أن قال: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) يعني بقوة، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) نظرية التوسُّع في الكون من أحدث النظريات العلمية (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) من الذرَّة إلى المِجرَّة، نظام الزوجية في الكون (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) فمتى أمرك أن تفرَّ إليه وتُسرع الخُطى إليه؟ بعد أن عرَّفك بذاته العليَّا، فمن يعرف الله أكثر هو الذي يُسرع الخُطى إليه أكثر، أمّا الذي لا يعرف الله لن يخطو إليه خطوةً واحدة.
ثم إنَّ الله تعالى قال: ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الخوف، لذلك لا يمكن أن نعبُد الله بالرجاء فقط، أصل العلاقة معه أن تحبه، أصل العلاقة معه أن ترجوه، لكن لا بُدَّ من الخوف، هكذا خلَق الله، اليوم أنت عندما تُربّي ولدك على الرجاء فقط والحب فقط، في لحظةٍ مُعيَّنة تجد أنه قد أفلت منك، لا بُدَّ من لحظةٍ مُعيَّنة تعاقبه وتخوُّفه بشيء، إن لم تفعل سأفعل، اليوم هناك نظريات تربوية حديثة جداً، لكن غير واقعية، يتحدثون في الإعلام عن شيءٍ غير واقعي! لا بُدَّ في لحظةٍ مُعيَّنة أن يعاقَب الولد، هناك خوف، ليست العقوبة المؤذية ولا العقوبة الجارحة ولا الإهانة، لكن لا بُدَّ في لحظةٍ مُعيَّنة أن تقول له أنت لم تُحصِّل النتيجة إذاً ليس لك مصروف، كلنا نفعل ذلك، فالخوف مطلوب مع الرجاء، لا بُدَّ من الجناحين معاً، فلا يطير الطائر بجناحٍ واحد، والرجاء والخوف جناحان.

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(سورة الأنبياء)

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(56)
(سورة الأعراف)

فالخوف مهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من خاف أَدْلَجَ، ومن أدلج بلَغَ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة }

(رواه الترمذي)

أدلج: أي مشى في الدُلجة أي الظُلمة، ربنا يعطينا الجنَّة، يجب أن تمشي وتُسرع الخُطى، فلذلك: (إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) إشارةً إلى أنَّ إسراع الخُطى إلى الله يحتاج بين الحين والآخر أن تتذكر عظمته، وتهابه وتخاف من عقوبته إن أنت عصيته أو أضررت بعباده (إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).
قال: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) أنت في دنيا الناس، اليوم إذا ذهبت وكلَّمت شخصاً في شيءٍ تحتاجه منه، يقول لك في نهاية المقابلة لا تُكلِّم أحداً غيري، كما يقال: إن كثُرت الأيادي احترقت الطبخة، العبد يغار، يقول لك: ألم أقل لك الموضوع عندي لماذا كلّمت فلان؟ ربنا جلَّ جلاله أغنى الأغنياء عن الشك، فإذا ذهبت إليه فلا تذهب إلى أحدٍ معه، اذهب إلى أحد واسطة أو سبب، أمّا في القلب تعلَّق بالله تعالى وحده، (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).
ولمّا قال: (فَفِرُّوا) جاءت واو الجماعة، هذا الدرس وهذا اللقاء الطيِّب بكم، يشجعني ويشجعكم على المشي معاً إلى الله تعالى، على تدبُّر كتاب الله معاً، لأن الإنسان وحده ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه، فلذلك قال: ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) بواو الجماعة، الذي يسير إلى الله تعالى لا تعنيه الطرق الفرعية، ولا يعنيه الاختلافات الضيَّقة، حدَّد وجهته، يسلُك إليها أقصر طريق وأسلم طريق، وأقصر طريقٍ بين نقطتين هو المستقيم، لذلك:

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
(سورة هود)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
(سورة الفاتحة)

أقصر طريق أو خط يمر بين نقطتين هو المستقيم، لذلك ربنا عزَّ وجل، قال:

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(56)
(سورة هود)

جعل وهو الغني عن عباده جعل نفسه على صراطٍ مستقيم، (إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) بداية الآية:

مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55)
(سورة هود)

تحدي، استجمِعوا أمركم وكيدوني (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) أي لا تمهلوني، لا تعطوني وقت (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ) أي شيءٍ يدبّ على الأرض (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) إذا كانت مجموعة من الوحوش قد توجهت نحوي وتريد أن تفترسني، ولم تأكل من شهر، فكيف يكون خوفي منها؟ لكن هناك جهةٌ حكيمةٌ عادلةٌ (عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) تُمسِك بأزِمَّتها، فهل علاقتي مع الوحوش أم مع من يُمسكها؟ مع من يُمسكها، لأنه إن شاء أرخى لها الحبل فوصلت إلي، وإن شاء أمسك الحبل فمنعها عني، فالله تعالى قال: (مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) كله بيده، وهو على صراطٍ مستقيم جلَّ جلاله، لا يحابي أحداً، ولا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يكافئ من لا يستحق المكافئة، ربنا جلَّ جلاله على صراطٍ مستقيم، عدل، فلا تخف من الوحوش، خَف ممن يملك الوحوش، أن تعصيه فيفلتها عليك، (إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
فالفِرار إلى الله في هذا الزمن الذي نحن فيه، نسأل الله تعالى أن يُفرِّج و يُعجِّل بالفرَج، هو حل أن يأوي الإنسان إلى ربِّه وأن يُكثِر من مناجاته، وأن يُكثِر من العلاقة المباشرة معه، أن يكلمه، يطلب منه، يسأله، يفتح كتابه، قالوا: إذا أردت أن يُحدِّثك الله فاقرأ القرآن، وإذا أردت أن تُكلِّم الله فادعُه، الدعاء هو توجه من العبد إلى الله، والقرآن هو كلام الله إلى العبد، فنحن بين أن ندعوه فنُناجيه ونطلب منه، وبين أن نقرأ في كتابه فنجد الشفاء لما في صدورنا ولا سيما في هذه الأوضاع.
اللهم فرِّج عن أهلنا في غزَّة فرجاً عاجلاً، اللهم اجمعهم على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منهم يا أرحم الراحمين، اللهم ثبِّتهم وسدد رأيهم وسدد رميهم، اللهم عليك بأعدائهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم اجعل دائرة السوء تدور على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين.
اللهم مجري السحاب منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب، اهزم الصهاينة المعتدين ومَن والاهم ومَن وقف معهم ومَن أيَّدهم، وأعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، واجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منّا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم بارك الديار وأهلها، اللهم اجعل هذه الديار ديار خيرٍ وبركة عامرةً بالذكر والإيمان والطاعات، وأنزِل على أهلها وساكنيها الخير والنور والسرور يا أرحم الراحمين، وصُب عليها وعلى ديار الحاضرين الخير صبّاً صبّا، ولا تجعل عيشنا كدّاً كدّا، والحمد لله رب العالمين.