• اللقاء الرابع من تفسير سورة سبأ | شرح الآيات 20-22
  • 2024-07-22

التوحيد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً وعملاً متقبّلاً يا رب العالمين.
حيّاكم الله جميعاً إخوتي الكرام، وحيّا الله شيخنا الدكتور علاء، جزاه الله خيراً على حضوره ومشاركته هذا اللقاء الطيِّب بكم وبعد:

مقدمة على ما قد سلف:
نحن مع اللقاء الرابع في تدبُّر سورة سبأ، وهذه السورة كما أسلفنا هي سورة الحمد، وسورة الشُكر لله تعالى، وقد افتُتِحت بقوله تعالى:

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ (1)
(سورة سبأ)

فهي سورةٌ من السور المُفتتحة بالحمد، وتميَّزت بأنها ذكرت الحمد لله تعالى في الآخرة (وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ) وله الحمد، هذا أسلوب قصر وحصر، وحده جلَّ جلاله يُحمد في الآخرة، على كل ما يكون، (وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ) ثم ذكرنا في اللقاء الثاني نموذجين من النماذج التي ذكرها المولى جلَّ جلاله للشاكرين من عباده، وهُما نبيا الله تعالى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، داوود وسليمان، وكان موطن الشاهد فيهما قوله تعالى:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

وهي الجملة المفتاحية في السورة إن صح التعبير، وهو أنَّ العمل كله ينبغي أن يكون شكراً لله، فتجارتك شكرٌ لله، ونظرك شكرٌ لله، وسمعك شكرٌ لله (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ ) أي اجعلوا نِعم الله تعالى عليكم مستثمَرةً في شكره، وهبك نظراً فلا تنظر إلا إلى ما أحلّه الله تعالى، أي استخدم نِعم الله تعالى في شكر الله، وسليمان عليه السلام أيضاً من نماذج الشاكرين لله تعالى.
في اللقاء الماضي تحدثنا عن مملكة سبأ ونموذج لغير الشاكرين، الذين لم يصرفوا النعمة في الوجوه التي أحلَّها الله تعالى، بل جعلوها فيما يخالف شرع الله تعالى، فمزَّقهم الله تعالى كل مُمزَّق، وجعلهم آيةً لكل صبّارٍ شكور، وتوقفنا هنا.

فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19)
(سورة سبأ)

واليوم نتابع الحديث في تعقيب الله تعالى على قصة سبأ، قال تعالى:

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
(سورة سبأ)


إبليس آيسٌ من رحمة الله تعالى:
(صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي أكّد ظنّه، إبليس مِن الإبلاس وهو اليأس، وإبليس والعياذ بالله آيسٌ من رحمة الله، الله تعالى خلق الإنس وخلق الجن، فكان منهم الشياطين، وهُم مردة الإنس ومردة الجن، فكل من تمرَّد على طاعة الله تعالى فهو شيطان، قال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
(سورة الأنعام)

قدَّم شياطين الإنس على شياطين الجن تقديم أهمية، لأنَّ شيطان الجن يخنس إذا ذُكر الله تعالى، بينما شيطان الإنس أو صديق السوء يأتيك من حيث لا تحتسب، فيوسوس لك وأنت تظنه من الناصحين.
فمردة الإنس والجن شياطين، وعلى رأس شياطين الجن إبليس، وسُمّيَ إبليس لأنه يائسٌ من رحمة الله، من أبلس إذا يئس، من الإبلاس وهو الإياس مع الحزن والندم، فهذا حال إبليس نعوذ بالله تعالى من حاله وحال الشياطين من الإنس والجن.
ما معنى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)؟ إبليس ماذا كان ظنّه؟ كان ظنّه أن يغوي عباد الله، كان ظنّه أن يقعد لهم صراط الله تعالى المستقيم.

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(سورة الأعراف)

فهُم لمّا تركوا شُكر الله تعالى، كأنهم قدّموا تصديقاً لظن إبليس بهم، نحن المؤمنين ولله الحمد، نقدِّم ما ظنّه الله تعالى بنا، نكون إن شاء الله تعالى عند ظن الله تعالى بنا، أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، فليظن بي ما شاء.

{ أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. }

(أخرجه مسلم)

فنحن نظن بالله تعالى أنه يرحمنا، ويغفر لنا، ويتجاوز عنّا، فنطيعه ونلتزم أمره، لكن هؤلاء والعياذ بالله صدَّقوا ظن إبليس بهم، إبليس قال: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) لم يقل لأقعدنَّ لهم في الملاهي الليلية، ولا في البنوك الربوية، وإنما على الصراط المستقيم، الذي يريدون سلوكه إلى الله فأمنعهم منه، إبليس قال: (لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يعني من الحداثة والتطور وعصر العِلم، ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين، وأنت ما زلت تتحدث عن الرِبا، الآن كل النظام ربوي دعك من هذا الكلام، (مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ)، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) الآبائيّة، من أين أتيت لنا بهذا الكلام؟! نحن نشأنا على ذلك، تربيّنا على ذلك، كنّا نعيش مع بعض بهذه الطريقة، جئت لنا الآن لتغيِّر نمط الحياة، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ).
(وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ) يأتيه في صلاته، في وضوءه فيوسوس له، كان بعض الناس إذا فقدَ شيئاً من حاجاته ولم يجده، يُقال له قُم فصلِّ، ليس لتدعو الله من أجل أن تجده، ولكن لأنك إذا دخلت في الصلاة جاءك إبليس وجعل يذكّرك بمكانه، فهو يأتيك في الصلاة (وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ).
(وَعَن شَمَائِلِهِمْ) من المعاصي والآثام وما فيها من معصية الله تعالى، لكن لم يأتيهم لا من فوقهم ولا من تحتهم، لأن فوق هي جهة السماء، وبينك وبين الله إذا كنت مع الله لا يحول بينك وبين الله أحد، وتحت هي جهة الخضوع لله، وإذا كنت في قمة خضوعك لله وسجودك بين يديه، فالشيطان آيسٌ منك، يبتعد عنك إبليس، هو يريد أن يحاصر بني آدم من الجهات الأربع، وقال في النهاية (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) فسبأ لمّا أعرضوا، ولم يطيعوا الله تعالى، ولم يستثمروا نِعم الله تعالى في طاعته، صدّقوا على إبليس ظنه، انظر إلى البيان القرآني، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) هو ظنَّ أن يغويهم، فأكّدوا له ذلك، هو ظنَّ ألّا يشكروا (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).

الظن هو مرتبة فوق الشك وتحت اليقين:
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الظن هو مرتبة فوق الشك وتحت اليقين، مراتب المعرفة تبدأ بالوهم، الوهم عشرين ثلاثين بالمئة، كأن أقول لك رأيت فلاناً في مركز التسوق، يعني توهّمت أنه هو، يبدو أنه ليس فلاناً، لكن يشبِهه كثيراً، هذا وهم، بعد الوهم يأتي الشك، الشك عند استواء الطرفين، أي خمسين بالمئة وخمسين بالمئة، بعد الشك الظن، الظن أصبح عندي سبعين بالمئة، غلبة الظن تسعين بالمئة، لكن اليقين الذي هو الإيمان والحق من الله تعالى، هو مئة بالمئة، اليقين لا يأتيه الشك، ولا يتطرَّق إليه الظنُّ، ولا يكون وهماً بحال، والإيمان يقين، وربنا عزَّ وجل سمَّى الموت يقيناً، قال:

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
(سورة الحجر)

وربُّنا جلَّ جلاله قال:

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
(سورة التكاثر)

وقال:

وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
(سورة الحاقة)

وعِلم اليقين، وعين اليقين

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
(سورة التكاثر)

فاليقين يبدأ بالعِلم، نحن الآن نعلم يقيناً أنَّ الله تعالى سيحاسبنا، وأنَّ هناك يوماً آخِر، نعلم يقيناً، فإذا رأينا بأعيُننا يوم القيامة الجنَّة والنار، أصبحنا في عين اليقين، الرؤية، فإذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة، أصبحوا في حق اليقين، وإذا دخل أهل النار النار، أصبحوا في حق اليقين، أنت تنظر إلى الجدار فترى دخاناً، فتقول لا دخان بلا نار، هذا عِلم اليقين، ثم تستدير خلف الجدار فتجد النار هذا عين اليقين، ثم تضع يدك قريباً منها فيُحرقُك لهبها هذا حق اليقين، قال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) وأنت في الدنيا، تنتقل من عِلم اليقين إلى عين اليقين، فتقول كما قال صلى الله عليه وسلم، كما في بعض الأحاديث، لمّا سأل أحد الصحابة، قال: أصبحت أرى الجنَّة عياناً والنار عياناً.

{ عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ ، ،أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ ؟ قَالَ : أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ، فَقَالَ : انْظُرْ مَا تَقُولُ ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً ، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ ؟ فَقَالَ : قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا ، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي ، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا ، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا . فَقَالَ : يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ . ثَلاثًا . }

(الطبراني في المعجم الكبير)

أي وكأنها أمامي، عين اليقين (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) يوم القيامة.

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(سورة التكاثر)

إبليس كان يظن أنه يغوي عباد الله، فهناك من صدَّق ظنه، وهناك من كذَّب ظنه، لكنه لم يتيقَّن، وقال:

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
(سورة ص)

لم يتيقَّن، لكن أحياناً إتماماً للفائدة يأتي الظن في القرآن بمعنى اليقين.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
(سورة البقرة)

هذه لها تفصيلٌ في اللغة لسنا بصدده الآن، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ) اتبعوا إبليس، (إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(سورة سبأ)


السلطان إمّا أن يكون بالقهر والغلبة أو أن يكون بالحُجة والبيان:
السلطان يا كرام، إمّا أن يكون بالقهر والغلبة، أو أن يكون بالحُجة والبيان، بالقهر والغلبة تفعل الشيء وأنت غير راضٍ عنه، اليد التي لا تعجبك قبِّلها وادعِ عليها بالكسر، كما يقول أهل الشام، وبالبيان والحجة تفعله حُبَّاً، مثل سائق يقود سيارته ووقف على إشارة المرور، لأنه يوجد ضابطة تضبطه وتخالفه، هو في أعماقه غير مقتنع بإشارة المرور، ويراها تقيّيداً لحريته وليست ضماناً لسلامته، لكن سلطان القهر والغلبة جعله يقف، وهناك شخصٌ آخر مرَّ الساعة الثالثة ليلاً، لا يوجد كاميرا ولا يوجد ضابطة، لكنه وقف حتى فتحت الإشارة، لأنه يرى أنَّ هناك سلطاناً عليه بالحُجة والبيان، قد يسير فتأتي سيارةً مسرعة فتضربه، فهذه وضِعت ضماناً لسلامته لا حدّاً لحريته، فإمّا أن يكون السلطان سلطان قهر، أو يكون سلطان حُجة، سلطان الحُجة أجمل، لأنك تفعل الشيء حُبَّاً وكرامةً، إبليس لم يجعل الله تعالى له سلطاناً على بني آدم، لا قهراً ولا حُجةً، ليس معه حُجة، لأنه يأمر بالمنكر، فأين الحُجة في ذلك، يأمر بالزِنا فهل الزِنا فيه خير؟! يأمر بالخمر فهل الخمر فيه خير؟! فالبيان والحُجة لا يوجد عنده، وقهر وغلبة، لم يجعل الله تعالى له سلطاناً، قال:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
(سورة الحجر)

وإبليس التقطها فقال يوم القيامة:

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
(سورة إبراهيم )

مثال للطُرفة: شخصٌ يرتدي ثياباً بيضاء، ومتعطِّر، وذهب ليحضر حفلاً مدعو إليه، على الطريق فجأةً لسببٍ أو لآخر، سقط في حفرة مياهٍ آسنة، فامتلأت ثيابه البيضاء اتساخاً، ذهب إلى المخفر ليشتكي، قال له رئيس المخفر: على مَن تشتكي؟ فقال على فلان، قال ماذا صنع بك؟ قال: أوقعني في الحفرة، قال له هل دفعك؟ قال لا والله، الكذب حرام لم يدفعني، قال له هل أشهَر في رأسك مسدساً حتى تنزل؟ قال: لا والله ما أشهَر مسدساً، قال هل آتى بأحدٍ وخيَّم على الحفرة حتى لا تراها؟ قال: لا والله، فما الذي حصل إذاً؟ قال أنا وأمُرّ قال لي انزل هنا فنزلت، فضحك رئيس المخفر وقال له اذهب، أين الشكوى؟! (إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ ) أنا ليس لي سلطان، قلت لك خُذ رِبا فأخذت، فما دخلي؟ هو لعين عليه لعنة الله (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ).
فقال تعالى:

وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(سورة سبأ)


الشيطان ليس له سلطان لكن له مهمة:
الشيطان له مهمة، هو ليس له سلطان لكن له مهمة، بمعنى أنه يُطلَب منه أن يكون هو الطرف المقابل، لأن الإنسان إذا لم يكن في داخله قدرة على الاستجابة لأوامر الخير ونوازع الشر، إذاً التكليف التغى نهائياً، لا داعي للتكليف، الطالب إذا لم يكن عنده القدرة على أن يدرس فينجح أو لا يدرس فيرسب، الكل ينجح بشكلٍ أوتوماتيكي، أو يرسبوا بشكلٍ أوتوماتيكي، أصبح لا معنى للجامعة، لكن لا بُدّ من أن يكون عنده قدرة على الاستجابة هنا وهنا، فقال: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ)، ربنا عزَّ وجل لا يعلم؟ حاشاه جلَّ جلاله، ولكن لنعلم عِلم وقوعٍ يستلزم منه المحاسبة.
هناك أستاذ من اليوم الأول أجرى امتحان بسيط للطلاب، قُم يا فلان فقام، قال له: كتب الطالب، ما إعراب الطالب؟ قال: مفعول به مرفوع، فقال الأستاذ: هذا طالب من الصف التاسع ويقول على الفاعل مفعول به وهو مرفوع، فهذا الطالب راسب، فحكم عليه بالرسوب، فإذا أرسل إلى أهله مباشرةً بطاقة رسوب بأنَّ ابنكم راسب، هل يقبل الأهل هذا الكلام؟ يقولون له قدِّمه للامتحان أولاً، هذا مع بني البشر ولله تعالى المثل الأعلى، فربنا جلَّ جلاله علمه يكشف ما يكون، لكنه جلَّ جلاله لعدله لا يحاسب على علمه بما سيكون، وإنما سيحاسبك على ما يقع منك، على الواقع، فقال: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)، حفيظ مبالغة اسم فاعل من حافظ، بمعنى أنه جلَّ جلاله حافظٌ للأرزاق، حافظٌ للأعمال، حافظٌ للنِعم، حافظٌ لأعمالك، حافظ لكل شيء جلَّ جلاله (عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).
ثم يقول المولى جلَّ جلاله:

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22)
(سورة سبأ)


المشركون يدعون من دون الله و أي شيءٍ يدعى فهو من دون الله:
أحبابنا الكرام: هؤلاء المشركون يدعون من دون الله، وكلمة من دون الله تشير إلى أنَّ أي شيءٍ يدعى فهو من دون الله، الله فوق كل شيء جلَّ جلاله، فالذي مع الله ما فاته شيء، والذي لم يصل إلى الله فاته كل شيء، فقال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ) أي ما دمت تزعم أيها المشرك، أنَّ هذا الصنم اللات أو العزة، أنه ربٌّ لك فادعه من دون الله، اسأله الولد، اسأله الرزق، اسأله الصحة، اسأله العافية.
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الذرَّة هي النملة الصغيرة، اليوم الذرَّة لها معنى فيزيائي متعلق بالعلوم الحديثة، لكن الذرَّة هي الشيء الصغير المتناهي في الصِغَر، حتى كان العرب تطلقه على النمل الصغير، نسمّيه الذرَّة، (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).

مفهوم الربوبية ومفهوم الألوهية:
أحبابنا الكرام: نحن عندنا مفهوم الربوبية ومفهوم الألوهية، وهذا تقسيم مدرسي، الربوبية والألوهية التوحيد واحد، لكن لبيان الموضوع، مشركوا العرب لم يكونوا ينكرون ربوبيته جلَّ جلاله، يعني لا تجد في المشركين من كان يقول إنَّ الله تعالى لم يخلقني، أو غير موجود، هذا الذي يحدث اليوم من الملحدين أو العلمانيين المغرقين في العلمانية أو غير ذلك، هذا ما سُبق سابقاً، لأنَّ العقل يقتضي أن يقول إنَّ الله خلقني، ورزقني ويعطيني، لكن الخلل كان دائماً في التوجه، أي إذا كنت تقول إنَّ الله هو الذي يرزق، لماذا إذا أردت الرزق تطلب الرزق من غيره! تناقض، فقال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أولاً ليس لهم شيءٌ من المُلك، المُلك لله، فأنت تدعو المالك أم تدعو المملوك؟
ثم قال: (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ) أي ليس لهم مُلك، وليس لهم شراكة.

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(سورة الأنبياء)

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
(سورة المؤمنون)

(وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) الإنسان له أعضاء، والظهر هو أشدّ الأعضاء قوةً، فيقول له أعطيني ظهرك، الأخ لأخيه ظهر، أي سند، فيستخدم الظهر دائماً للقوة في الإنسان، فالظهير هو المُظاهر، الموالي، ومنه يقال خرج الناس مظاهرةً، أي جعل كل منهما ظهره لأخيه، بحيث تظاهروا على شيءٍ مُعيَّن يدعون إليه.

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
(سورة الإسراء)

أي كلٌ منهم يدعم الآخر، قال تعالى مخاطباً بعض أُمهات المؤمنين:

إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ (4)
(سورة التحريم)

أي تتفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني آخر شيء الدعم من الملائكة، الله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة، يعني معقول إذا تمرَّد جنديان في أرض المعركة، أن يستنفر الجيش والقوات والقيادة العامة، كلهم يستنفرون من أجل تمرُّد عنصرين؟! هذا من أجل أن يقول لك المولى جلَّ جلاله، إذا أردت أن تقف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في وجه الحق، أو في وجه دين الله تعالى، فاعلم من هو الطرف المقابل، اعلم مَن تعادي.

مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98)
(سورة البقرة)

يجب أن تعلم إذا وقفت، ليس أنتم حاشاكم، لكن لمن يفعل ذلك، أن يعلم من يقف في صف العدوان على المسلمين، أو استباحة دمائهم، أو استباحة أعراضهم، أن يعلم مَن الذي سيخاصمه، ومَن الذي سيقف ضده، (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) فهذا من معنى قوله تعالى: (وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) ليس لهم مَن يظاهرهم على فعلهم هذا.
فهذه الآيات الآن تنطلق للحديث عن التوحيد، توحيد الله عزَّ وجل، لا سيما التوحيد المتعلق بالتوجه إلى الله تعالى وهو أصل التوحيد، أن تحسِن التوجه إلى الله تعالى، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والحمد لله ربِّ العالمين.