العبرة من القصص القرآنية

  • اللقاء الثالث من تفسير سورة سبأ | شرح الآيات 14-19
  • 2024-07-08

العبرة من القصص القرآنية

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعَملاً مُتقبّلاً يا ربَّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القُربات.
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: فما زلنا نتدبر بمعيتكم سورة سبأ، وقيد بينَّا في لقاءاتٍ سابقة أنَّ هذه السورة هي سورة الحمد وسورة الشُكر، وافتُتِحت بقوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)
(سورة سبأ)

واختصَّت بقوله تعالى: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) فحمدَت الله تعالى في الآخرة.
وبينَّا أنَّ هذه السورة ذكرت في مطلعها نموذجين من الحامدين الشاكرين، وهما نموذج داوود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ونموذج سليمان عليه السلام، فهذان النبيان الكريمان آتاهما الله تعالى من فضله ونِعَمه الكثير، فكان ردّ فعلهما الشُكر، ونتعلم منهما قوله تعالى:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

فأن نجعل أعمالنا كلها شُكراً لله تعالى، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) أي اجعلوا أعمالكم شكراً لله تعالى، أو سخِّروا ما وهبكم الله تعالى من فضلٍ ونِعَم، سخِّروا ذلك في مرضاته، فشُكر العين أن تنظر إلى الحلال، وشُكر الأذن أن تسمع الحلال، وشُكر الرِجل أن تمشي إلى مجالس العِلم والمساجد، وشُكر اليد أن تقدِّم الخير والمعروف للناس، لا أن تُسيء إليهم أو أن تبطش بهم، وشُكر المال أن تُؤدَّى زكاته، وشُكر الولد أن يُربَّى على طاعة الله، وشُكر الزوجة أن تُعامل وفق شرع الله، فكل ما آتاك الله تعالى من فضلٍ فله شُكر، وهذا الشُكر شُكر العمل هو أرفع درجات الشُكر، فكم من إنسانٍ يشكر الله بلسانه ويقول الحمد لله لكنه لا يشكر له بعمله، فشُكر العمل أرفع من شُكر اللسان، والاثنان مطلوبان معاً (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، ربما تجد شاكرين لكن قلَّ أن تجد شكوراً، والشكور هو المبالغ في الشكر، الذي يُكثِر الشكر لله تعالى، يتذكر نِعَم الله تعالى عليه في كل شيء، يرى نعمة الله عليه في كل شيء.

النِعَم التي أعطاها الله للنبي سليمان عليه السلام:
فالنموذج الثاني الشاكر لله تعالى هو نموذج سليمان، وسليمان عليه السلام كما بينّا آتاه الله تعالى الريح غدوها شهرٌ ورواحها شهرٌ.

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
(سورة سبأ)

فجعلت الريح تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
(سورة ص)

فيقطع في يومٍ وليلة ما يقطعه الناس في شهر، يعني طائرة في العرف الحديث، لكن في زمنٍ لم تكن فيه تلك الاختراعات الحديثة، وأسال الله تعالى له عين القطر، (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) عين النحاس، أذاب له النحاس دون وسائل تذويب، فجعل يُنشئ منه الصناعات، وسخَّر الجن بين يديه فعملوا له ما يشاء.

لا يعلم الغيب إلا الله:
إلى أن قال الله تعالى:

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
(سورة سبأ)

والموت قضاءٌ من الله تعالى يقضيه الله في الوقت الذي يريد، قال: (مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) يعني دويبة صغيرة تأكل في الأرض(تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ) والمِنسأة هي العصا، وسُمّيت مِنسأةً من النَسَاء وهو التأخير.

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
(سورة التوبة)

النسيء التأخير، والرِبا نوعان رِبا الفضل ورِبا النسيئة، ورِبا النسيئة هو الرِبا الذي يكون في القروض، بمعنى أن يقول له أقرضني مئة وأعطيك مئة وعشرون، فلما يحلُّ الأجل يقول له: لا أملك، فيقول له: أنسئني، أي أخّرني، نسيئة، فيؤخره سنةً أُخرى بمقابل عشرة بالمئة زائدة، هذا هو رِبا النسيئة وهو التأخير، فالمِنسأة من النسيء وهو التأخير لأنها في الأصل تُجعل ليؤخر الإنسان بها عن نفسه الأخطار، وليهُش بها على غنمه، فيؤخر الغنم ويبعدهم عنه، أو يُبعد عنه الأخطار بها، فسُمّيت مِنسأة على وزن مفعلة، اسم آلة، فهي العصا التي يتكئ عليها، فمن شدة هيبته وتسخير الجن له بين يديه، فما زالوا يعملون بين يديه (مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ) خرَّ أي سقط عليه السلام، وقد مات (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) وهذه الآية وغيرها كثير نصَّ في أن لا يعلم الغيب إلا الله، فالجن لا يعلمون الغيب، والذي يقول لك أنا أتعامل مع الجن فأخبروني أنَه سيكون كذا وكذا فهو يكذب، الجن عندهم قدرات خارقة قد تؤهلهم لمعرفة الغيب المكاني، الغيب النسبي، بمعنى أنني أنا الآن موجود هنا لا أدري ما يجري الآن في السعودية مثلاً، في حي من أحياء الرياض، لكن لو أنَّ أخي الذي يسكُن في الرياض يكلمني الآن وقال لي: ما يحدث الآن هو كذا وكذا، فأخي لا يعلم الغيب، هذا غيب بالنسبة لي ولكنه شهودٌ بالنسبة له، واليوم مع الهاتف أصبحت أسهل من الجن، يعني ما يحدث في أي بقعة من الأرض نعلم به في اللحظة نفسها عن طريق الأقمار الصناعية، فهذا أسرع من الجن، فالجن لا يعلمون الغيب لكن قد يعلمون شيئاً غاب عنك زماناً أو مكاناً فيأتونك بأخباره، كما حدث مع سليمان في سورةٍ أُخرى لمّا أخبر الله عن مملكة بلقيس

قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
(سورة النمل)

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
(سورة النمل)


الجن عندهم قدرات خارقة لكنهم لا يعلمون الغيب:
هذا ليس غيباً، هذا كان غائباً عنه لكن حاضراً عند من يستطيع الحركة الأسرع، كما يجري اليوم في وسائل التواصل الحديثة، فقال: (أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) إذاً هم لا يعلمون الغيب، هم عندهم قدرات مختلفة عن البشر لكنها لاتصل أبداً إلى أن يعلمون الغيب، بدليل أنهم لم يعلموا بموت سليمان عليه السلام، قال: (مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) ولماذا سُمّيَ العذاب هنا مُهيناً؟ لماذا الجن هنا عذابٌ مُهين؟ وهل من يعمل بين يدي نبيٍّ كريم، وفي قصره ومُلكه، يعني يسمّى عمله عذاباً مُهيناً؟! الحقيقة لها زاويتان، الزاوية الأولى يعني أنت عندما يكون هناك شخصٌ يملك شهادة في الدكتوراه، وتأتي به وتشغّله في قصرٍ مُنيف، وعند شخصٍ من أكابر القوم، لكن تجعله مستخدماً في هذا القصر، فهذا عذابٌ مُهين، لأنَّ هذا ليس موضِعه، فالجن بقدراتهم الخارقة أن يُسخَّروا لواحدٍ من الإنس فهذا بحدّ ذاته عذابٌ مُهين، لأنهم وُضِعوا في غير موضعهم.
وقال بعض المفسرين: بل إنَّ الذين كانوا بين يديه لم يكونوا من الجن المؤمنين، بدليل أنَّ الله تعالى وصفهم في آياتٍ أُخرى بأنهم شياطين، والشيطان يُطلَق على مَرَدة الجن، فعذابهم المُهين لأنهم كانوا يُسخَّرون بأعمالٍ شاقّة بين يدي هذا النبي الكريم، وهم ليسوا بمؤمنين.
فعلى كل حال سواءً هذا المعنى أو ذاك، فيتبيّن لماذا سمّاه الله تعالى عذاباً مُهيناً، هذا النموذج هو نموذج الشاكرين، أو نموذجان ضربهما الله تعالى في كتابه للشاكرين، نموذج داوود ونموذج سليمان.

الكفر قد يكون مقابل الشكر وقد يكون في مقابل الإيمان:
انتقل المولى إلى نموذج آخر للكافرين، بعكس الشاكرين، الكُفر يأتي في مقابل الإيمان و يأتي في مقابل الشُكر، قال تعالى:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
(سورة إبراهيم)

فالكُفر يأتي في مقابل الشُكر، ويأتي في مقابل الإيمان، هنا نتحدث عن الكُفر الذي يكون في مقابل الشُكر، فمن شَكر النعمة فقد أدّى حقّها، ومَن كفرها فقد ترك حقَّها.
ما مناسبة ذكر سبأ بعد سليمان عليه السلام؟ هناك ترابط تاريخي بين الأمرين، لأنَّ سليمان عليه السلام عاشر مملكة سبأ، وبلقيس كانت تابعة لمملكة سبأ، وجاءه العفريت من الجن بنبإٍ يقين، وجاء بها وأسلمت مع سليمان لله ربِّ العالمين، فهذه المناسبة في الانتقال بين سليمان، ثم:

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
(سورة سبأ)


ما هو أصل قبيلة سبأ؟
سبأ هي قبيلة، وهي تسكن في مأرب في شمال شرق صنعاء في اليمن، وهذه القبيلة تعود إلى رجُل اسمه سبأ، والدليل على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجُلٌ قال: يا رسول الله سبأ هل هو أرضٌ أم امرأةٌ ؟ فقال: بل هو رجلٌ، ويقال أن اسمه كان عبد شمس

{ أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فذَكَرَ الحَديثَ، فَقالَ رجلٌ منَ القومِ : يا رسولَ اللَّهِ، أخبِرنا عَن سبأٍ ما هوَ أرضٌ أمُ امرأةٌ ؟ فقالَ : لَيسَ بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولَكِنَّهُ رجلٌ ولَدَ عشرةً [ منَ العربِ ] فتَيامنَ ستَّةٌ وتشاءمَ أربَعةٌ }

(صحيح أبي داوود)

قال هو رجلٌ ولد له عشرةٌ، يعني من أولاده وهم ليسوا من أولاده المباشرين، لكن يتفرعوا إلى عشرة بطون، قال:(فتَيامنَ ستَّةٌ وتشاءمَ أربَعةٌ) تيامن ستةٌ، أي ذهبوا باتجاه اليمن و بقوا في عموم اليمن، وتشاءم أربعةٌ، أي ذهبوا إلى الشام، وليس من الشؤم وإنما إلى الشام، طبعاً ومن اليمن من هؤلاء الستة كانت كِندة، وكان الأشعريون الذين امتدحهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

{ إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ. }

(صحيح البخاري)

فالأشعريون من سبأ، وكِندة القبيلة العربية الشهيرة من اليمن، وكان منهم في الشام غسان الغساسنة، فسبأ مملكة قبل الميلاد واستمرت إلى القرن الثالث بعد الميلاد، يقال أنه امتدَّ بها المطاف إلى ستة عشر قرناً، أي ألف وستمائة سنة تقريباً، من ألف قبل الميلاد إلى ستمائة بعد الميلاد، وهذه القبيلة نُسبت إلى سبأ، وهو رجُلٌ اسمه عبد شمس، وهذا الرجُل يُقال أنه كان موحداً، وينسبون له أبياتاً من الشعر يُبشِّر بها بقدوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويُقال إن الاسم سبأ جاء من سبا، لأنه أول من أخذ السبي، يعني سبا يسبي، والله تعالى أعلم، ثم هُمزت فأصبحت سبأ، على كل حال هذه قضية تاريخية، يعني شيء بسيط على القضية، النتيجة أنَّ سبأ هُم قبيلة عاشت في اليمن، وهذا المُجمع عليه في شمال شرق اليمن، حتى أنَّ آثارهم موجودة حتى الآن، قريباً من مأرب، أو سد مأرب.

أنواع آيات الله:
قال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) آية أي علامة، دالة على قدرة الله، وعلى عطاء الله، وعلى فضل الله، فمساكنهم كانت آيةً لهم، آيات الله كثيرة، فآيات الله منها ما هو كونيّ، فالشجرة آية، والقمر آية والشمس آية، ومنها ما هو قرآنيّ، فهذه الآيات التي نقرأها آياتٌ دالةٌ على عظمة الله، ومنها ما هو أفعالٌ، يعني أفعال الله، مساكن سبأ آية، ما فعله الله تعالى بعاد آية، ما فعله الله تعالى بثمود آية من آياته، قوم سبأ آية إلى أخره، فالآيات إمّا أن تكون آياتٍ قرآنية نتلوها، وإمّا أن تكون آياتٍ كونية ننظر فيها فنستدل على وجود الله، أو أن تكون أفعالاً من أفعال الله

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
(سورة الفيل)

فهذه آية، وهذه من آيات الأفعال، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ)، أنت في حياتك لك في مسكنك آية، نحن اليوم عندما ننظر إلى إخواننا الذين نسأل الله أن يُفرِّج عنهم، إذاً ممكن أن لا يكون الإنسان فوقه سقف، ممكن أن يكون فوقه قماش، وممكن أن لا يكون فوقه لا سقف ولا قماش، ممكن أن يلتحف السماء ويفترش الأرض ممكن، لكن قدَّر الله وأنعم في أنه جعل فوقنا سقف، هذه آية، يعني هذه آية من آيات الله لك، إذا عملت فهذه آية، إذا نظرت إلى ولدك فهذه آية.

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
(سورة الشورى)

إذا زوّجك الله زوجةً فهذه آية، كل هذه آيات، والقرآن آيات والكون آيات، فالآيات متنوعة، قال: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ)، يعني جنّة عن اليمين وجنَّة عن الشمال، فكانت هذه المملكة مُحاطة بالجِنان، والجنَّة هي البستان الجميل، وقلنا سابقاً أنَّ الأصل جيم ونون، جننَّ أو جنَّة كله من الستر والخفاء، فالجنون ستر العقل، والجُنَّة هي الوقاية

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
(سورة الأنعام)

أي ستر الليل الأرض، والجن استتروا عن أعيُن الناس فلم يُرَوا، والجنَّة تشابكت الأشجار والأغصان فيها حتى غطَّت وجه الأرض، ظل ظليل.

كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب إلا ما قام على خلاف ذلك:
(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ)، لعل أنبيائهم قالوا لهم كلوا من رزق الله، لأنه كان فيهم أنبياء كُثر كما تروي الروايات، والله تعالى جلَّ جلاله قال:

وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا (164)
(سورة النساء)

فقال لهم أنبيائهم أو رسلهم أو دُعاة الخير فيهم، أو خاطبهم الله تعالى عن طريق هذه الآيات (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ)، جاء الأمر من الله تعالى أن يأكلوا من رزق الله، وما الأمر هنا إلا للإباحة، نحن عندنا في القرآن كل أمرٍ يقتضي الوجوب إلا ما قامت قرينةٌ على خلاف ذلك، كيف ذلك؟ هذه قضية أصولية لكن فيها فائدة، الأصل أنَّ الله تعالى إذا قال:

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)
(سورة النور)

فهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
(سورة الحجرات)

هذا نهي يقتضي الوجوب، لكن قد يأتي الأمر ويقتضي الإباحة وليس الوجوب، كأن يقول تعالى:

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10)
(سورة الجمعة)

فلو أنَّ إنساناً خرج من صلاة الجمعة، فهل يجب عليه أن ينتشر في الأرض، أم له أن يعود إلى بيته فيرتاح؟ إذاً هذا الأمر ليس للوجوب، لكن للإباحة، لأنه كان ممنوع داخل الصلاة، فلما قُضيت الصلاة أصبح مُباحاً، وكقوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
(سورة الأنعام)

فإذا تحلَّل الإنسان هل يجب أن يُمسك السهم فوراً ويصطاد؟! إذا لم يريد أن يصطاد فلا يصطاد، فهذا أمرٌ لمّا جاء بعد الحظر أصبح للإباحة، وهنا عندما قال الله تعالى (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ) فهذا أمرٌ للإباحة، فرزق الله متاح، والأكل من الطيبات حلالٌ طيِّب، فكُل ما شئت من رزق الله، والمقصود منه هنا (مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ) أن تنسِب النعمة إلى المُنعم، لا أن تنسِبها إلى ذاتك كما قال قارون:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
(سورة القصص)


على الإنسان أن ينسب النعمة إلى المُنعم ثم يشكر الله عليها:
(كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ) فكُل من الرزق ولكن اعلم أنه رزق ربك لك، وجاء بربكم ولم يقل كلوا من رزق الله هنا، لأن الربّ هو المُربّي، الذي يُمدّك بما تحتاجه، والرزق من ربوبيته جلَّ جلاله، من ربوبيته أنه يرزق عباده.
(كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) وهو الأفصح أن يقال واشكروا له، ولا يقال واشكروه، وإن كان الاثنان صحيحين، ولكن الأفصح عند العرب شكر لي، ونصح لي، ولا يقولوا نصحه أو شكره، شكَرَ له ونصح له، (وَاشْكُرُوا لَهُ) يعني جاء الأمر بنسبة النعمة إلى المُنعِم ثم شُكر المُنعِم عليها، فيشكرون الله عليها، وبواعث ذلك قال: (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، البلدة طيّبة فيها نِعَم الله، فيها ما تحتاجه، فيها الجنتان عن اليمين والشمال، فيها الأنهار، فيها كل ما تحتاجه، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ).

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
(سورة الأعراف)

(وَرَبٌّ غَفُورٌ) فإذا وقع مخالفة فالربُّ غفور جلَّ جلاله، دائماً النِعَم يصبح معها مخالفات، لأنه قد يستغرق الإنسان في النعمة فيتناسى شُكرها فيغفر الله له ذلك، إذا عاد وأناب، وقد يغرق في النعمة فيعصي الله فيها والعياذ بالله، وهذه أعظم فيعود إلى ربه فيغفر له (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ).

عقوبة الإعراض عن المُنعِم:

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
(سورة سبأ)

عاشوا هنيئين حيناً من الزمن، ينعمون بهذه النِعَم ويشكرون لله عليها، ثم أعرضوا، والنعمة دائماً إذا كانت كثيرةً وألفها الإنسان، ربما تركها وأعرض عن المُنعِم جلَّ جلاله، قال: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) العَرِم قيل هو المطر الشديد، وقيل العرِم هو البناء الشديد، بمعنى أنه كان هناك جبلان كما تقول الروايات، وكان ينزل المطر الشديد بينهما، فبُنيَّ سدٌّ عظيم لا يزال له شواهد حتى اليوم، يُسمّى سد مأرب، حتى أنه يتخيل البعض أنَّ هنالك عمالقة قد بنوه من كبر الحجارة، كما يتحدثون عن لغز الأهرامات حتى اليوم، فبُنيَّ بالحجارة الضخمة، وجُعِلت فيه فتحات ينزل منها الماء الذي تحتاجه المملكة، وتُخزِّن خلفها مياه الأمطار، فلمّا أعرضوا عن ربهم فُتِحت عليهم هذه السدود فأغرقتهم المياه، فالمياه نفسها تكون نِعمةً وتكون نِقمة، الله تعالى نِعَمه كلها حيادية، يمكن أن تكون نِعمةً ويمكن أن تكون نِقمة، المال نِعمة لعباد ونِقمة على عباد، فإذا أدخلهم الجنَّة فهو نِعمة، وإذا أدخلهم والعياذ بالله نار جهنم وقد طغوا فيه وحبسوه عن الفقراء والمساكين ولم يؤدوا زكاته فهو نِقمة، والولد كذلك والزوجة كذلك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)
(سورة التغابن)

قد يكون الولد عدوٌ لوالده حينما يسرق ليُنفق عليه، أو يرتشي بدعوى أنه يريد أن يُعلِّمه، ويؤمن له مستقبله، فكل نِعم الله تعالى يمكن أن تصبح نِقَم، والماء كذلك كان نعمةً يُخزَّن ويشربون منه وتجري الأنهار، وتُنبِت الأشجار، ثم أصبح فجأةً نِقمةً عند إعراضهم عن مولاهم جلَّ جلاله.
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) طبعاً هُما لم تعودا جنتين، يعني الجنَّة تطلق على الشيء الحسَن، لكن هذا من باب المُشاكلة، قال تعالى:

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
(سورة البقرة)

وهل ردُّ الاعتداء عدوان؟ لا، لكن من باب المُشاكلة، يعني ردّوا عدوانه بعدوان

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)
(سورة الأنفال)

الله تعالى لا يمكُر بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن ردُّه على مكرهم سمّاه مكراً.

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
(سورة الطارق)

وهذا شيءٌ معروف عند العرب، دخل رجلٌ بردان وشبه عارٍ إلى قومٍ، فقالوا له نطهو لك طعاماً، فقال لهم: اطهوا لي جُبَّةً وقميصاً، ما قال اصنعوا، قال: اطهوا لي جُبَّةً وقميصاً، فشاكل كلامهم فجعل صناعة الثوب طهواً هذه مشاكلة، فالجنتين هنا مشاكلة وجاءت هنا على سبيل التهكُّم والسُخرية بهم، لأنَّ ما حصل لم يعد جنتين.
ما صفات الجنتين؟ قال: (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي ذات طعم مُرّ لا يستساغ ثمارها، (وَأَثْلٍ) نوع من أنواع النباتات الشوكية في البادية التي ليس لها ثمر، (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) يعني السدر مقبول نوعاً ما، يُنبِت بعض الثمار، لكن لا تظن أنه كثير قال: (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) يعني أصبح الرزق قليل جداً وليس كما كان من النِعَم الوافرة والطيّبة، (وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ).

الشُكر يزيد النعم والكفر يزيلها:

ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
(سورة سبأ)

هذه الباء باء السبب، (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) الكفور في مقابلة الشكور، (بِمَا كَفَرُوا) أي كفروا بنِعم الله تعالى عليهم، فالشُكر يزيد النِعَم، والكُفر يُزيلها، وهذا القانون هو قانوننا نحن المؤمنين، نسأل الله أن يُديمه علينا، لأنه يؤدبنا الله تعالى به، والتأديب خيرٌ من الترك، قال صلى الله عليه وسلم:

{ إذا رأيْتَ اللهَ يُعْطي العبدَ مِنَ الدُّنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ، فإنَّما هو استِدراجٌ. ثمَّ تلَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]. }

(أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي)

فلا يفرحنَّ إنسان بأنَّ نِعم الله تتوالى عليه، وهو يعصي الله والعياذ بالله، ولا يقولن قائل: يا أخي هذا قانون ربنا عزَّ وجل أبدلهم بجنتيهم، والآن في الغرب عندهم من الفسق والفجور ما عندهم والله يوالي نِعمه عليهم! الحمد لله أنَّ الله يُعاقب في الدنيا.

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
(سورة السجدة)

لكن هناك أقوام يفتح عليهم الدنيا بما فيها، ولا يؤاخذهم ولا يغيِّر ما بهم رغم معاصيهم، لأنَّ قانونهم مختلف، هؤلاء أدَّبهم الله، ولعل كثيرٌ منهم رجعوا إلى الله بعد ذلك، وعلِم أن هذه المصيبة بفعله.
قال: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) فالله تعالى جلَّت قدرته لا يُجازي إلا الكفور، وهذا استفهامٌ تقريري أي لا نُجازي إلا الكافرين.

كيف تكون القرى الظاهرة نعمة؟

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
(سورة سبأ)

قيل هذه القرى التي بارك الله فيها هي بلاد الشام، الرحلة بين اليمن والشام، فالشام أرضٌ مُباركة، باركها الله تعالى وهي حول المسجد الأقصى، الذي بُنيَّ بعد البيت الحرام بأربعين سنة، فهذه هي القُرى، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً) وسُمّيت القُرى قُرى لأنَّ فيها قِرى الضيف، أي طعامه، يعني فيها ما يأكله، (قُرًى ظَاهِرَةً) أي بيّنة واضحة، والمسافر أحبابنا الكرام يستأنس بالليل والنهار إذا وجد القُرى طول الطريق، وعندما تنقطع القُرى يستوحش، يقول لك: إذا انقطعت بالليل أين أقف؟ لا يوجد استراحة ولا يوجد قرية، ظلامٌ دامس، أو حتى في النهار شمسٌ مُحرقة، لو حصل لدابتي شيء كيف أُتابع طريقي؟ فالقُرى الظاهرة مريحة جداً في السفر، أضواء كلما انتهت قرية تظهر قريةٌ أُخرى، فمريح، فيُنعِم الله عليهم بهذه النعمة، فقال: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً) فأصبحت التجارة آمنة، يعني لا لصوص، ولا قطّاع طُرق، لأنَّ الطريق آمن لأنَّ فيه سكن كثير، ولا يوجد وحشة.
قال: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) يعني جعلنا السير فيها مُقدَّراً، يعني يخرج الإنسان من قريته في مملكة سبأ يقول لك: أنا إذا خرجت في الصباح سأقوم بالقيلولة في القرية الفلانية، وإذا خرجت في الظهر منها، أبيت في القرية التي بعدها، يعني نصف نهار السفر كله، فكلما وصل قرية يتزود فلا يحمل معه لا زاداً، ولا ماءً ولا يخاف شيئاً، (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) السير فيها مُقدَّر من الله، فأنعَم الله تعالى عليهم بهذه النعمة، نعمة السفر الآمن.
(سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) أمان ليلاً ونهاراً، لا لصوص، ولا قطّاع طُرق، ولا خوف من نفاذ شيءٍ من الزاد.

عندما يمل الإنسان النعمة يكفُر بها:

فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
(سورة سبأ)

يعني هذه الآية هنا مُحيّرة حقيقةً، يعني هل من إنسانٍ يقول بعد أن أنعَم الله عليه بنعمةٍ، ثم يقول يا رب غيّرها؟!! يعني جعلنا لكم الطريق آمناً، فيقولوا: لا يا رب نريد أن يكون بيننا وبين القرية الثانية عشرة أيام! هكذا تقول الآية: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا).
يعني أوَّل بعض العلماء وهذه قرأتها للشيخ الشعراوي رحمه الله، قال: الطريق عندما يكون آمناً وفيه قُرى، يصبح طريقاً تجارياً للجميع، يعني الكل يرتحل فيه حتى الفقراء، السياحة اليوم للأغنياء، إذا الإنسان أراد أن يشتري بطاقة طائرة ليُسافر إلى أوروبا، يحتاج إلى مصروف، فلا يسافر إلا الأغنياء، لكن إذا كان هناك قرية جميلة جداً تبعد عنا مائة كيلو متر بالسيارة ووسائط النقل، فالكل يسافر، تصبح الفئة أوسع، فقال: حتى الفقراء أصبحوا يُتاجرون، يذهبوا ويعودوا، فهم يريدون أن يتميزوا، يعني نحن فقط، فلا نريد الأمان على الطريق، نريد أن نؤمن أنفسنا نحن فقط، لا نريد أماناً من الله (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، كفروا هذه النعمة أيضاً.
وقال بعضهم: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) قال هذا الإنسان عندما يملّ النعمة والعياذ بالله، يعني ربنا عزَّ وجل أنعَم على الرجُل بالمرأة وأمره بالزواج، فبعد الزواج قال لك: أنا لا أستمتع والعياذ بالله إلا بالصديقة أو العشيقة نسأل الله السلامة، وبعد الصديقة والعشيقة أصبح يريد الشذوذ والعياذ بالله، فالإنسان عندما يستغرق في النِعمة وينسى المُنعِم، ويستهدف النعمة بذاتها، الآن يريد أن يُغيِّر، ولو كان التغيير إلى الأسوأ، وهذا يشبه فعل بني إسرائيل لمّا أنعَم الله عليهم بالمنّ والسلوى فقالوا:

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
(سورة سبأ)

أنا أعطيك عسل فتقول لي أُريد سكر وماء!
وقرأت لجمال الدين القاسمي من المفسرين، هذا من عندنا من الشام، قرأت له قولاً جميلاً جداً وأنا سمعته من قبل من شيخنا الشيخ الدكتور راتب النابلسي حفظه الله، قال: " هذا لسان الحال وليس لسان المقال" يعني هُم ما قالوا بلسانهم: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، لكن لمّا أنعَم الله تعالى عليهم بهذه النِعَم، وكفروه ولم يُطيعوه، ولم يشكروه على هذه النِعَم، فكأن لسان حالهم يقول: لا نريد هذه النعمة، أيضاً هذا معنىً جميل، يعني لسان الحال أحياناً أبلغ من لسان المقال، يعني إذا أنت تُدرِّس ابنك وتحضِر له أساتذة ووجدته لا يدرس تقول له: يا بني أنت وكأنك تقول لي لا تتعب نفسك، يعني لا تريد أن تدرس، يقول لك: أنا لم أقُل ذلك، تقول له: لم تتكلم ولكن الذي تفعله هو رسالة لي أنك لا تريد الدراسة.

الفرق بين أن يكون الإنسان ذكرى وبين أن يكون حديث:
(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) آية مُرعبة (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) بين أن يكون الإنسان ذكرى وبين أن يصبح حديث، ربنا عزَّ وجل عندما يتكلم عن الخير، ذكرى، يتذكر الإنسان، والله تذكرت الوالد رحمه الله كان صالحاً، أمّا فلان ملأ الأرض طُغياناً ثم قُتل، يصبح حديث، يتندَّر به الناس حديث، قال: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ).
هناك مثل عند العرب معروف، مثل عربي قديم إذا كان الناس مجتمعين ثم تفرقوا يقولوا: "تفرقوا أيادي سبا " أي تفرقوا كما تفرقت سبأ في الطرقات، مثل شعبي فأصبحوا أحاديث على الألسنة.
(فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) يعني ربما الابن في مكان والأب في مكان، بعد اجتماع وبعد قوة تشتت ديارهم وأنحاءهم وإلى ما هنالك.

الصبر والشكر قرينان لا يفترقان:
(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) هذه الآيات، آية قوم سبأ تنفع كثيري الصبر، كثيري الشُكر، الصبر والشُكر قرينان لا يفترقان، لأنَّ الحياة كلها إمّا في انزواء النعمة فيجب أن تصبر، أو في إتيانها فينبغي أن تشكُر، كل الحياة، قبل الزواج صبر، بعد الزواج شُكر، ذكرت ذلك أمام أخٍ كريم مضى على زواجه خمسون سنة، قال لي: أنا قبل الزواج صبر وبعد الزواج صبر، كنت أصبر على عدم الزوجة، وأصبحت أصبر على الزوجة، أنا كنت أحدث الشباب أقول لهم قبل الزواج صبر، يعني غضّ بصرك ثم يُمتِّعك الله بامرأةً فتشكر الله عزَّ وجل على هذه النعمة، وعند قلة المال تصبر على فقده، وعند مجيئه تشكر الله عليه، فالحياة بين صبرٍ وشُكر، والإيمان نصفان صبرٌ وشُكر، فلذلك جمع الله تعالى بينهما فقال: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، يعرف النعمة عند وجودها فيشكر الله عليها، ولا يألفها فينساها، فإذا زالت لسببٍ من الأسباب صبر على فقدها، كثير الصبر كثير الشُكر، تنفعه الآيات، هذا والله تعالى أعلم.
أسأل الله تعالى أن يُفرِّج عن إخواننا في غزَّة، أسأل الله تعالى أن يجمع شملهم، وأن ينصرهم على عدوهم، وأن يلمّ شتاتهم، وأسأله تعالى أن يعيدهم إلى ديارهم سالمين غانمين منصورين بفضله ورحمته، والحمد لله رب العالمين.