التوحيد
دعوة موسى عليه السلام لقومه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: |
هذا لقاؤنا الرابع من لقاءات سورة المؤمنون، ومع الآية الخامسة والأربعين من السورة، وهي قوله تعالى: |
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(45)(سورة المؤمنون)
الأخ دائماً هو السند، لذلك قال تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10)(سورة الحجرات)
فنُعبِّر عن العلاقة الحميمة بيني وبين شخصٍ آخر ليس من قرابتي أقول له أنت أخي، الأخوَّة الإيمانية، بل أعبِّر عن علاقتي بالإنسان بأخي الإنسان، لأنَّ أعمق علاقة في القرابات من ناحية السند والقوة هي الأخ، ولذلك ربنا جلَّ جلاله لمّا ذكر الفِرار يوم القيامة قال: |
يَوْمَ يَفِرُّالْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34)(سورة عبس)
لأنه السند، فأكثر موقف وأصعب موقف يساندك فيه أخوك، فيفرُّ المرء من أخيه |
يَوْمَ يَفِرُّالْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)(سورة عبس)
ولمّا ذكر الافتداء قال: |
يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11)(سورة المعارج)
والابن هو الأقرب إلى قلبك، فأن يتمنى الكافر يومها أن يُقدِّم ابنه فداءً لينجو من العذاب، فكم هو حجم العذاب؟! |
ولمّا ذكر التفاخر بالقرابات قال: |
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)(سورة التوبة)
ففي موطن الاعتزاز الأب، وفي موطن الحُب الابن، وفي موطن السند الأخ، فربنا جلَّ جلاله قال: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ) لأنَّ موسى عليه السلام قال لربه: |
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)(سورة طه)
فطلب أن يُعينه بالأخ، وقصة سيدنا موسى عليه السلام هي أكثر قصةٍ تكرر ورودها في كتاب الله تعالى، تقريباً ثلاثين مرةً بين إشارةٍ سريعة أو تفصيلٍ طويل، والحقيقة أنَّ هذا يلفت النظر وله أسباب، أهم أسبابه أنَّ الله تعالى يخاطب بالقرآن أُمّة الإسلام، وهذه الأُمّة كانت قبلها أُمم، بنو إسرائيل هم الأُمّة التي سيُخالطها المسلمون في المدينة عند قدومهم إلى المدينة، وبنو إسرائيل أكثر الأمم اختلافاً على أنبيائهم، وقصصهم في ذلك معروفة، فكان لا بُدَّ أن يوضح الله تعالى للمسلمين الأمراض التي وقع بها اليهود حتى يحذروا منها، على طريقة التربية العملية، فأنت إذا أردت أن تُربّي ابنك على شيءٍ ربما تعرض له على الشاشة فيلماً قصيراً يوضِّح مثلاً مخاطر السرعة، فتريه حادث سير حقيقي بسبب السرعة الزائدة حتى تُخيفه، ثم تُبيِّن له المخاطر وتُبيِّن له طرُق تلافي هذا الحادث، هذه اسمها التربية العملية، القرآن الكريم يُربّي المسلمين تربيةً عملية عندما يعرض عليهم أمراض بنو إسرائيل، فيقول لهم إياكم أن تقعوا بما وقعوا به على طريقة (الكلام لكِ يا جارة واسمعي يا كنة). |
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) طبعاً كما قلنا تكررت قصة موسى، لكن الدارس لهذا التكرار في القصة يتضح له بجلاء، أنَّ القصة ذُكِر منها في كل سورةٍ من السور التي ذكرت فيها القصة، ذُكِر الجزء المناسب لسياق السورة، يعني مثلاً قصة البقرة لم ترد إلا في سورة البقرة فقط، لم تتكرر، قصة نجاة موسى عليه السلام من فرعون تكررت في عدة سورة، لكن مرةً في تفصيل يناسب جو السورة، ومرةً باختصار لأخذ المشهد المناسب فقط في جو السورة العام، فغِنى قصة موسى عليه السلام بالأحداث وعلاقته مع قومه، فغِنى هذه القصة بالأحداث، يجعلها موزعة في السور، لكن كل سورة تأخذ من القصة شيئاً يناسب المحور العام للسورة. |
المعجزات التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلام:
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا) أرسلناهما بآياتنا ( وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) وهذا العطف من باب عطف الصفة على الموصوف، يعني هي الآيات صفتها أنها سلطانٌ مبين، والآية في الأصل هي العلامة على الشيء، يقال هذه الفتاة آيةٌ في الجمال، يعني علامة بارزة على الجمال، فالآية هي الشيء الذي يدل على ما وراءه، فإمّا أن تُطلق على الآية القرآنية وهي الجزء من السورة، لأنها دلالة على إعجاز القرآن الكريم، وإمّا أن تُطلق على الكون، فالشجرة آية، والشمس آية، والقمر آية، لأنهما يدلان على الخبير جلَّ جلاله، وإمّا أن تطلق الآيات على المعجزات، فربنا جلَّ جلاله مثلاً من الآيات التي أرسل بها موسى العصا، والعصا مادة جامدة لكن ألقاها حيناً فتحولت إلى ثعبانٍ مبين |
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(107)(سورة الأعراف)
وضرب فيها البحر يوماً فأصبح طريقاً يبساً |
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ(77)(سورة طه)
وضرب فيها الصخرة فانفجرت منها اثنتا عشر عيناً |
وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60)(سورة البقرة)
وقال: |
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ(18)(سورة طه)
هذه العصا هي مادة جامدة، الآن أي إنسانٍ منّا عنده عصا لا يستطيع أن يجعلها ثعباناً، ولا أن يضرب بها بحراً فيحوِّله طريقاً يبساً، ولا أن يفجر بها ينبوعاً، لكن لمّا ربنا جلَّ جلاله شاءت حكمته أن تفعل العصا هذا الفعل فعلت. |
الكون مليء بالمعجزات:
الحقيقة أنَّ الكون مليءٌ بالمعجزات التي لا ننتبه لها، نحن يهولنا أن نرى عصا قد تحوَّلت إلى ثعبان، لكن لا يهولنا مشهد البيضة التي نأكلها على الفطور، إن تُركت تحت الدجاجة لأيامٍ محددة، لا يهولنا منظرها وهي تتحول إلى مادة جامدة تنكسر ثم يخرج منه كائنٌ حي! مع أنَّ هذا المشهد يشبه مشهد العصا التي تحوَّلت إلى ثعبان، لا يهولنا مشهد النطفة وقد تحوَّلت إلى إنسان! نحن كنّا نطفةً، الآن نمشي على أرجلنا، لا يهولنا المشهد فقط لأننا اعتدناه، ليس لأنه شيءٌ غير مدهش، هو مدهش، لكن نحن تعوّدناه، فلمّا تعوّدناه لم نعُد نشعر بإعجازه، لكن كل شيءٍ في الكون مُعجزة، لكن موسى عليه السلام المعجزة أنَّ الشيء خلاف المألوف صار معروف، العصا من المألوف لا تتحول إلى ثعبان لكنها تحوَّلت، ولا تُفجِّر عيناً لكنها فجَّرت، ولا تُجمِّد بحراً لكنها جمَّدت، لذلك كانت معجزةً فقال: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) |
كلما ارتقى الإنسان يكون له سلطان الحجة لا سلطان القهر:
السلطان هو الحُجة الدامغة، والسلطان إمّا أن يكون سلطان قهر، أو أن يكون سلطان حُجة، السلطان الذي هو ملِك البلاد أو رئيسها يُسمّى سلطاناً، والسلطان هو سلطان قهر، يعني معظم السلاطين سلطانهم سلطان قهر، فالناس يجدون فيهم حُجةً دامغةً عليهم فيستجيبون لهم قهراً، لكن أحياناً أنا أجلس معك جلسةً فيكون لك فيها عليَّ سلطان في الحُجّة، عندي فكرة وأنت لحقتها بالبينات فأصبح لك سلطان، مع أنك لست أقوى منّي لكن حُجتك، فأنت لم تقهرنِ لكنك غلبتني بالحُجَّة، وكلما الإنسان ارتقى يكون له سلطان الحجة لا سلطان القهر، أنت مع أولادك في البيت يمكن أن يكون لك سلطان القهر، يعني افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، ومن يُخالف الأمر الويل له، سلطان قهر أنت صاحب الأمر والنهي في البيت، قوة جسدية أنت أقوى، وكإنفاق أنت تنفق على البيت سلطان قهر، لكن الأرقى من هذا أن يكون لك على أهل بيتك سلطان الحُجّة، تقول لابنك هذا إن فعلته يؤدّي بك إلى كذا، هذا إن استمريت عليه فهو شرٌ لك، فتُبيِّن له فتُرهبه بالحُجَّة وليس بالقهر فقط، فكل إنسانٍ كان له سلطان في شركةٍ، في مكانٍ، ليحاول أن لا يُبقِ سلطانه سلطان قهرٍ فقط، بل أن يكون سلطان حُجّةٍ، وأحياناً يستعمل القهر عندما لا يفهم مَن دونه بالحُجَّة، لكن الأصل أن يجعل العلاقة مع الناس بسلطان الحُجَّة لا سلطان القهر. |
فربنا جلَّ جلاله أرسل موسى وأخاه هارون بآياته وسلطانٍ مبين، وهو سلطان الحُجّة الدامغة لأنه لمّا ألقى عصاه |
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117)(سورة الأعراف)
فالسحرة وقعوا ساجدين: |
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ(122)(سورة الأعراف)
ما كان له قوة قهر، هو ضعيف لكن جاء بالحُجَّة البالغة. |
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)(سورة الأنعام)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)(سورة الأنعام)
الفرق بين الاستكبار والعلو:
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)(سورة المؤمنون)
طبعاً الآيات التي أرسل الله تعالى بها موسى غير آيات التوراة، آياتٌ كثيرة: الجراد، والقُمَل، والضفادع، وضرب البحر بالعصا، وإلى آخره، لكن اخترنا آيةً منها لنُبيِّن من خلالها وهي آية العصا. |
(إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) فرعون هو لقب لمن يحكم مصر، كما أنَّ كسرى لقبٌ لمن يحكم الفُرس، وقيصر لقبٌ لمن يحكم الروم، ففرعون لقب وليس اسماً. |
أحد فراعنة مصر في زمن موسى عليه السلام أرسل الله موسى إليه، وإلى ملئه، والملأ قلنا هم الذين يملؤون المجلس وتمتلئ العين منهم، فيكونوا في صدر المجلس، وهم في الأعمِّ الأغلب مذمومون، الملأ مذمومون لأنهم دائماً ينصرون الباطل ويحاولون محق الحقّ ويقفون مع الظُلّام والطُغاة، فهؤلاء الملأ هم أعوان الظَلَمة كما يقال في هذا الموقع. |
(إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) هناك فرقٌ بين الاستكبار والعلو، ربنا جلَّ جلاله لمّا رفض إبليس السجود لآدم قال: |
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ(75)(سورة ص)
أحد خيارين (أَسْتَكْبَرْتَ) يعني جاءك الأمر وعلمت ضرورة تنفيذه لكنك تأبيت على تنفيذه، أمّا (كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) لم يأتك الأمر أصلاً (الْعَالِينَ) هم من جنسٌ من الملائكة ما علموا أصلاً بقصة آدم عليه السلام لأنهم عند الله تعالى في العلو، من علية الملائكة (مِنَ الْعَالِينَ) أمّا الاستكبار هو التأبي عن الطاعة، يعني يأتيك الأمر فلا تنفذه فأنت مستكبرٌ عليه. |
فقال تعالى: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) يعني أبوّا تنفيذ الأمر وبعضهم أو جزء آخر منهم اعتبروا أنفسهم فوق الأمر، لأنَّ الأمر لا يعنيهم في الأصل (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) انظروا إلى الدقة القرآنية! |
الأسوة لا تتحقق إلا عندما يكون الداعي من جنس المدعو:
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47)(سورة المؤمنون)
الكلام نفسه، مِلة الكُفر واحدة، نحن لا نؤمن لبشرٍ مثلنا نريد مَلَكاً، قال تعالى: |
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9)(سورة الأنعام)
يعني يتحيرون من جديد، الأمر ليس في أن يكون مَلَكاً أو أن يكون رجُلاً، الأمر فيه اتباع أو عدم اتباع، وقلنا سابقاً أنَّ البشرية هي التي تُحقِّق الأسوة في الأصل، لو كان مَلَكاً لقال المدعوون لا نتبعه لأنه ليس من جنسنا، فنحن نشتهي أشياء هو لا يشتهيها، وتتحكم بنا شهوات ليست فيه، تخيَّل أن يكون الرسول مَلَكاً، الآن هو بَشر وتقول للناس استقيموا فيقول لك هل نحن أنبياء؟! وهو بَشرٌ مثلنا يقول: |
{ اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، أغضَبُ كما يَغضَبُ البَشَرُ، وأَرْضى كما يَرْضى البَشَرُ، فأيُّما مُسلِمٍ لَعَنْتُه في غيرِ كُنْهِه، فاجْعَلْها له صلاةً وأجْرًا. }
(أخرجه شعيب الأرناؤوط)
ويقول صلى الله عليه وسلم: |
{ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [(المؤمنون: 51 ( وَقَالَ[:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [(البقرة: 172) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ }
(صحيح مسلم)
ورغم ذلك تجد من الناس من يقول لك: يا أخي نحن لسنا أنبياء، ومن قال لك أنك نبي؟! لكنك تَبَعٌ للنبي، وعليك أن تتأسى بالنبي، وعليك أن تتوب إن تركت التأسي يوماً، تخيَّل لو كان مَلَكاً لكان للناس حُجَّةً على الله أرسلت لنا مَلَكاً ليس فيه شهوةً للنساء، ولا للمال، ولا للدنيا، ولا يعاني ما نعانيه ثم تقول لنا تأسوا به، فالأسوة لا تتحقق إلا لمّا يكون الداعي من جنس المدعو. |
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ) يقصدون موسى وهارون، طبعاً الرسالة هي مع موسى عليه السلام ولكن هارون وزير موسى، المساعد له (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) فكانوا يستحلون بني إسرائيل ويسومونهم سوء العذاب، ويذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم |
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(49)(سورة البقرة)
فسمّوا خضوعهم لهم عبادة، وهذه حقيقة العبادة، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ تَعِسَ عَبْدُ الدينار، تَعِسَ عَبْدُ الدرهم، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَة، تعس عَبْدُ الخَمِيلَة، إن أُعْطِيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذا شِيكَ فلا انتَقَشَ، طُوبَى لعبد آخذ بعِنَانِ فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغْبَرَّةً قدماه، إن كان في الحِرَاسَةِ كان في الحِرَاسَةِ، وإن كان في السَّاقَةِ كان في السَّاقَةِ، إن استأذن لم يُؤْذَنْ له، وإن شَفَعَ لم يُشَفَّعْ" }
(أخرجه البخاري)
نحن لا نعبد الدينار يا رسول الله! بلى أنت تعبده عندما تخضع له، وتبيع دينك من أجله، فأنت تعبده، هذه هي العبادة (وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) يعني خاضعون لنا بكل شيء فهذه عبادة. |
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48)(سورة المؤمنون)
أهلكهم الله تعالى بالغرق بسبب تكذيبهم لأنبيائهم، هذه العاقبة متكررة مع كل من يُعاند الرسل. |
القرآن هو المعجزة الخالدة إلى قيام الساعة:
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)(سورة المؤمنون)
هناك الآيات كانت بشكلٍ عام عن البينات المعجزات، الآن (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) آيات التوراة التي فيها الهداية، آيات المعجزات هي السلطان للنبي لأنه عندما يأتي بمنهجٍ جديد سيُعارضه قومه لأنَّ المنهج سيحدُّ من حركتهم، وهذا ما حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء إلى قومه بالمنهج الذي يدعو إلى توحيد الله، وهم يعيشون على الأصنام وعلى تغرير الضعفاء والبسطاء، فتعرضت مصالحهم فكذّبوه، فكيف يُثبِت لهم أنه رسولٌ من عند الله؟ بالمعجزة التي تُثبِت صدقه فيما يدعو إليه، وفيما يقوله للناس، فهذه سلطان وبينات وآيات، والآن هناك منهج مع كل نبي، رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع منهجه مع المعجزة معاً، وهذه ميّزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأنبياء السابقون معجزاتهم كعود الثقاب تألق مرةً ثم انطفئ، عصا موسى، إحياء الموتى لعيسى إلى آخره، النار لم تُحرِق إبراهيم، تألق ثم انطفئ فأصبح خبراً يُصدِّقه من يُصدِّقه، ويُكذِّبه من يُكذِّبه، ونحن نصدِّقه قطعاً لأنه واردٌ في كتاب ربنا لكنه أصبح خبراً، أمّا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتحدت مع الكتاب، المُعجزة والكتاب واحد، القرآن هو المُعجزة لتبقى خالدةً إلى قيام الساعة، وفعلاً كان سبب إقبال الكثير من المشركين وإيمانهم هو قراءة القرآن الكريم، وهذا عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم يجلس ويدعو: |
{ اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجُلين إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ فكان أحبُّهما إلى اللهِ عمرَ بنَ الخطابِ }
(أخرجه أحمد والترمذي)
جاء إلى أخته يوماً يستشيط غضباً، وضرب صهره سعيداً، وضرب أخته فاطمة فأدماها، فشعر بالندم، هاتِ الصحيفة التي في يدك، قرأ: |
طه(1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ(2)(سورة طه)
ما أحسن هذا الكلام، ذهب إلى رسول الله فأسلم، ثوانٍ، كان بعض المشركين يجلسون ويتنصتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وهم يقرؤون القرآن، لشدة تأثرهم به، قال عنه الوليد بن المغيرة: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه". |
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية:
فالقرآن أسرهم هو معجزة، فمعجزة محمدٍ صلى الله عليه وسلم من جنس الكتاب، بينما الأنبياء الآخرون عندهم منهج وعندهم معجزة، طبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المعجزات الحسيّة التي رآها بعض أصحابه، لكن ليست من أجل الدعوة والمجاهدة، الإسراء والمعراج ما رآه المشركون فكان سهلاً عليهم إنكاره، بخلاف العصا مثلاً التي (تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) التي رآها السحرة جميعاً، تكثير الطعام القليل في المعركة، حنين الجذع سمعه بعض الصحابة وهو يبكي حُبَّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وحزناً على فراقه |
{ كان جِذْعٌ يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة - فلما وُضعَ المنبر سمعنا للجِذْعِ مثل صوت العِشَارِ، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه فَسَكَنَ. وفي رواية: فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تَنْشَقُّ، وفي رواية: فصاحت صِيَاحَ الصبي، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فَضَمَّها إليه، فجعلت تَئِنُّ أَنِينَ الصبي الذي يُسَكَّتُ حتى اسْتَقَرَّتْ، قال: "بَكَتْ على ما كانت تسمع من الذِّكْرِ". }
(أخرجه البخاري)
فهناك معجزات حسيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها ليست مقصودة، القصد الأساسي فيها من أجل أن يُحاجج بها قومه، لكنه حاجَّهم بالمنهج بالقرآن، لذلك أدعو دائماً وأقول يجب أن نفهم أنَّ ديننا العظيم هو دين المنهج، انتهت الأقوام السابقة التي لا تؤمن إلا عن طريق الشهادة. |
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا(153)(سورة النساء)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(112)(سورة المائدة)
انتهت، نحن الآن أمام منهجٍ عظيم، فلا ينبغي أن نعود للناس من جديد إلى أننا نريد أن ندعوهم للإيمان، فنروي لهم خوارق العادات، ونضرب لهم الشيش، ونتحرك حركاتٍ بهلوانية من أجل أن يؤمنوا، دين عظيم فيه منهج عظيم، اشرح لهم كتاب الله فقط، لا تعد بهم إلى الوراء، قد تقدمنا وتجاوزنا هذه الأمور، ربنا أعزّنا بكتاب الله تعالى، لسنا بحاجةٍ اليوم من جديد أن نعود للخوارق، إلا ما صحَّ منها في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله فعلى العين والرأس وهذه معجزات الأنبياء. |
(فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)) الكتاب للهداية، منهج هداية والقرآن منهج هداية. |
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2)(سورة البقرة)
الآن ما في القرآن من إعجازٍ، وما فيه من بلاغةٍ، وما فيه من إعجازٍ علمي وتشريعي، هذا إضافي، أصل القرآن أنه كتاب هداية، وأصل التوراة أنها كتاب هداية إلى السبيل المستقيم، والهداية هي الدلالة، قول الدلالة لغةً صحيحةً. |
معجزة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام:
ثم ينتقل الله تعالى إلى عيسى ابن مريم، كما قلنا ربنا جلَّ جلاله استعرض من نوحٍ عليه السلام، استعراض سريع لبعض الأنبياء، وانتقل إلى آخر نبيَين قبل البعثة وهما موسى وعيسى عليهما السلام، في صفحتين أو ثلاث صفحات من كتاب الله كموجز في سورة المؤمنون لتُحقق هدف السورة فقال: |
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(50)(سورة المؤمنون)
يعني عيسى ابن مريم بعده، وابن مريم هو النبي الذي يُنسب إلى أمه لأنَّ ليس له أب، وإثباتاً أنه ليس ابن الإله كما يدَّعي النصارى، وهذه هي السيدة الوحيدة التي ذُكر اسمها في كتاب الله تعالى، فقال: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) وتلك الآية في أنَّ كُلًّ منهما آية، مرة هنا قال (ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) قدَّم عيسى وفي آيةٍ أُخرى: |
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ(91)(سورة الأنبياء)
هنا قدَّمها، هما متساويان في المعجزة تلك، فمريم عليها السلام حملت من غير زواج، وعيسى عليه السلام جاء من غير أب، فتساويا في المعجزة، فكلٌ منهما آية للعالمين، وهذا أمر يستدعي النظر، ربنا جلَّ جلاله لمّا خلق الكون بناه على قضية الأسباب والنتائج، فالسبب يؤدي إلى النتيجة، والمقدمات تؤدي إلى النتائج، فالإنسان إذا أراد ولداً فعليه أن يتزوج، وإذا أراد إنضاج طعامه عليه أن يشعل النار، وإذا أراد ذبح شاةٍ فعليه أن يحدَّ سكيناً، هذا أصل الكلام، لكن لمّا تكرر ذلك وأصبح مضطرباً بحيث اليوم نحن لا نعلم أنَّ شخصاً يضع سكيناً حادةً على شاة ثم لا تُقتَل، أو يوضع في النار فلا تحرقه، أو يأتيه ولد ولم يتزوج، لمّا اضطرب ذلك بين الناس ربما يتوهم بعضهم أنَّ الأسباب تخلق النتائج، والحقيقة أنَّ الأسباب لا تخلق النتائج، ولكن الله تعالى هو الذي يخلق النتيجة، ولكنه جعل السبب مُقدَّماً على النتيجة، لنعبُر الكون، لأنَ الكون من غير أسباب ونتائج لا يوجد قوانين، وإذا لا يوجد قوانين لا يوجد حياة، إذا كانت النار مرةً تحرق ومرةً لا تحرق، إذا أردنا أن نطهو اليوم النار لا تُحرِق، إذا المعادن مرةً تتمدد بالحرارة ومرةً تتقلص فلم يعد هناك بناء، يجب أن تكون القوانين مطردة، لكن حتى لا يتوهم المتوهم أنَّ اطرادها يعني أن الأسباب هي التي تجعل النتائج موجودةً بعدها، خرق الله تعالى ذلك بالمعجزات فقط، فجاءت النار على إبراهيم ولم تُحرقه، ووضعت السكين على إسماعيل ولم تذبحه، وجاء عيسى من غير أب، وحملت مريم من غير زواج. |
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا) الإيواء بمعنى أنه خائف مرتجف فآواه، (إِلَىٰ رَبْوَةٍ) الربوة هي منطقة فوق السهل ودون الجبل، وهي منطقة معتدلة الحرارة، لا فيها برودة الجبال ولا حرارة السهول، فهي المنطقة المرتفعة لكنها دون الجبل، وماؤها معين، لأنه لم يدخل إلى الأرض وما فيها من ينابيع الأرض، ولم يكن بما في الجبل من أكلٍ وغير ذلك، وإنما يأتي إلى الربوة مَعيناً، فأعذب الماء ماء الرابية أو الربوة ماءٌ عذب، فالله تعالى (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ) قرار يعني فيها أشياء تدعو إلى الاستقرار، والأرض قرار |
أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(61)(سورة النمل)
الأرض قرار تتحرك كل ثانية ثلاثون كيلو متراً ولا نشعر بتحركها، فيها مهد جعلها مهداً نبني عليها نعمر عليها. |
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا(6)(سورة النبأ)
فيها تربة صالح للزراعة، فيها ماء، كل أسباب الاستقرار فيها، هذه الربوة كانت قراراً لعيسى وأمه (وَمَعِينٍ) أي وماء معين. |
واختلف العلماء أين هذه الربوة؟ وأرجح الأقوال أنها في الرملة في فلسطين هذا ما ورَد، في بيت المقدس، قال بعضهم دمشق، وقال بعضهم مصر، لكن أرجح الأقوال أنها بيت المقدس، نسأل الله أن يفرِّج عن الرملة. |
الأكل من الطيبات يجعل العمل صالحاً:
بعد أن استعرض الله هؤلاء الرسل جميعاً خاطبهم جميعاً بقوله: |
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)(سورة المؤمنون)
وناسب أنه لمّا ذكر الربوة ذات القرار والمعين أن يقول لهم: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ). |
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) الطيِّب هو الحلال ولو كان مُرَّاً، والخبيث هو الحرام ولو كان حلواً، طيبات للحلال، فكل شيءٍ حلال فهو طيِّب تطيب به النفوس، وكل شيءٍ حرام فهو خبيث تخبث به النفوس. |
(كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) وكأن هناك ارتباطاً بين الأكل والعمل، أولاً لأنَّ الجسد يتقوى من الطعام والشراب فيقوى على العمل الصالح، وثانياً لأنَّ الأكل من الطيبات يجعل العمل صالحاً، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث ذكر: (ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) فالعمل لا يكون صالحاً إلا إذا كان المطعم حلالاً، وقال: |
{ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} البقرة. قَامَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِه ". }
(رواه الطبراني)
فالعمل الصالح مرتبط بطيب الطعام، فما تُدخِله إلى جوفك إن كان حلالاً يصبح منطقك حلالاً وعملك صالحاً، وإن كان حراماً والعياذ بالله يصبح المنطق خبيثاً والعمل خبيثاً. |
(وَاعْمَلُوا صَالِحًا) والعمل الصالح يصلح للعرض على الله بشرط أن يكون خالصاً لوجه الله وصواباً ووفقاً لمنهج الله (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). |
المعنى العام لكلمة الإسلام:
وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(52)(سورة المؤمنون)
(أُمَّتُكُمْ) يعني مِلتكم هي مِلَّة واحدة، وهي مِلَّة الإسلام (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني مِلتكم هي مِلَّةً واحدة وهي مِلَّة الإسلام، وهي التوحيد والعبادة. |
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)(سورة الأنبياء)
وقد ذكر ربنا جلَّ جلاله ذلك في الآيات السابقة بدءاً من نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لمّا قال له تعالى: |
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ أَفَلَا تَتَّقُونَ(23)(سورة المؤمنون)
فكل نبي كان يأتي بالتوحيد وهي مِلَّة الإسلام، المعنى العام لكلمة الإسلام. |
(وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) يعني الربوبية هي للعطاء، مفهوم العطاء (فَاتَّقُونِ) أي فتوجهوا لي بمخافة العذاب ورجاء الثواب. |
أمة الإسلام أمة واحدة فلا ينبغي أن يتقطع أمرها بينها زُبراً:
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53)(سورة المؤمنون)
يعني هؤلاء الذين جاءهم الأنبياء (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا) يعني صار كل فريق قطعة وحده، والزُبَر هي القِطَع ومنها قوله تعالى: |
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96)(سورة الكهف)
أي قِطَع الحديد. |
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا) كل واحد صار فرقةً (كُلُّ حِزْبٍ) من هؤلاء كل مجموعٍ ( بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) |
وهذه الآيات وإن كانت هنا تتحدث عن هؤلاء الذين لم يتوجهوا إلى دعوة الرُسل بالقبول، ولكنها منهجٌ لأُمة الإسلام، فأُمة الإسلام ينبغي أن تكون أُمةً واحدة، ربها واحد، تعبد إلهاً واحداً، كتابها واحد، فلا ينبغي أن يتقطع أمرنا بيننا زُبُراً، فهذا من هذه الفئة، وذاك من هذه الفئة، وهذا من جماعة فلان، وهذا من جماعة فلان، وهذا من الطريقة الفلانية، وإنما نكتفي بقول ربنا، وبقول منهج إبراهيم عليه السلام: |
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)(سورة الحج)
الله تعالى سمّانا مسلمين، إذا أنت سُمّيت بإسمٍ عظيم مثل اسم المسلم لماذا تستبدله؟! اليوم تكون في مجلس تسأل فلان أنت جماعة من؟ يقول لك أنا جماعة فلان، نحن طريقة فلان، الإمام فلان، قل لهم أنا مسلم، أعظم تسمية هي الإسلام، بعد ذلك تأوي إلى مسجد، تستمع إلى عالم لا بأس في ذلك، لكن أن نجعل ديننا أحزاب وفرق سواءً على مستوى العقل هذا أشعري وهذا أثري، وعلى المستوى الفقهي من باب التعصُّب وليس من باب التعلُّم، من باب التعلُّم لا مانع، لكن من باب التعصُّب هذا شافعي وهذا حنفي هذا ليس من الإسلام في شيء، من باب التعلُّم نفهم أن هناك اختلافاً يمكن أن يُعالج بطريقةٍ سليمة، لكن من باب التعصُّب ممنوع، نحن مسلمون وكفى (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). |
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ(54)(سورة المؤمنون)
(فَذَرْهُمْ) أي اتركهم، دعهم (فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ) أي في ما هم فيه من الجهل والتحيُّر، الغمرة مثل الماء الذي يغمر ففي النهاية سوف يختنق (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ) أي إلى أن ينزل بهم العذاب. |
الإكرام في الدنيا امتحان للمؤمن:
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ(55)(سورة المؤمنون)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)(سورة الكهف)
وربنا يقدِّم المال على البنين في عدة آيات لأنَّ البنين من غير مال مصيبة، فالإنسان إذا كان يعيش وحده يُنفق على نفسه ويعيش، إذا أصبح هناك ولد يُقاسمه في اللقمة، إذا الدخل مازال نفسه، وإذا صاروا اثنان وثلاثة وأربعة ولا يوجد دخل فأصبح الولد نِقمة، أمّا كلاهما متكاملان، أحياناً أُناس يملكون الملايين وأنا أعرف بعض الأشخاص من هذا القبيل أسأل الله أن يرزقهم الذريِّة الصالحة، عنده ملايين لكن ما عنده ولد، يقول لك: البيت لا أشعر به بالأُنس، لا أشعر به بالفرح، كئيب دائماً. |
حدثني أخٌ له قريب لم يرزقه الله الولد وعاش مع زوجته أربعين سنة، قال: أزوره كل عيد فأجد كل شيءٍ بمكانه لم يتغير شيء، لا يوجد شيء قد تكسَّر، كله بمكانه، لكن الأب والأم غير راضيين يريدون البيت أن يتحرك ولو كان سيُكسَّر ما به، سبحان الله الولد زينة الحياة الدنيا (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) لكن إذا لم يكن هناك مال يصبح نِقمة. |
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم) انظر لكلمة (نُمِدُّهُم) أمدَّ يمدُّ يعني ربنا يعطيهم ذلك لحكمة. |
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَل لَّا يَشْعُرُونَ(56)(سورة المؤمنون)
يظنون أنَّ المال والبنين أننا نسارع لهم في الخير؟! |
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)(سورة الفجر)
أسوء إنسانٍ هو الذي تعطيه من أجل أن تمتحنه فيظن العطاء إكراماً، يقول لك أكرمنِ، لا لم يُكرمك هذا امتحان، في الدنيا، فكيف ربنا عزَّ وجل قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ(55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) هناك |
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)(سورة آل عمران)
أو سارع إلى الخير، وهناك سارع في الخير، إذا كان هو خارج الخير سارع إليه، إذا كان هو موجود ضمن الخير فهو يحتاج المزيد (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) ظرفية، فقال: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) يعني نمدّهم بالخير بعد الخير بالمال والبنين يظنون ذلك محبةً من الله لهم (بَل لَّا يَشْعُرُونَ) بل للإضراب يعني غير صحيح الكلام، لا يشعرون بأنه ليس إكراماً من الله عزَّ وجل وليس محبةً منه، فالله تعالى يستدرج عباده أحياناً بالأموال والبنين، والحسابات البنكية، والمزارع، يستدرجهم، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} }
(أخرجه أحمد)
صفات المُسارعين في الخيرات:
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ(56) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ(59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)(سورة المؤمنون)
الآن ربنا جلَّ جلاله يذكر صفات المُسارعين في الخيرات حقيقةً، وليس من يظنون أنَّ الله يُسارع لهم في الخيرات، صفاتهم: أولاً (مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) الخشية هي أشد أنواع الخوف، وغالباً الخشية تكون مرتبطة بالغيب، والخوف غالباً يكون مرتبطاً بالشهود، يعني خاف من العذاب مما رآه، خاف من الذئب، أمّا خشيَ العاقبة |
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)(سورة فاطر)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(12)(سورة الملك)
فنحن يجب أن نخشى الله، نخاف ذنوبنا، نخاف عدواً متربصاً بنا، لكن نخشى الله، فالخشية أعلى من الخوف ومرتبطة غالباً بالغيب. |
الإشفاق (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) الإشفاق هو خوف من شيءٍ مع العمل، يعني المُشفق يُمدح، الخائف لا يُمدح، قد يكون خوفه ممدوحاً أو مذموماً، يعني إذا رأيت زوجتك تخاف من القطة لا تمدح هذا الخوف فيها، هذا الخوف مذموم لأنَّ القطة لا تخيف، لكن الإشفاق ممدوح دائماً لأنه يرتبط بالعمل، فأنا أشفقت على نفسي من الهلاك فقمت بفعل كذا وكذا، أنا أشفقت على نفسي من النار فتحاشيتها بطاعة ربي، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ(57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) بآياته الكونية والقرآنية والمعجزات (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) إيمان وتوحيد (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) الوجَل أيضاً من الخوف (وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) يخافون الرجوع إلى الله تعالى (يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) وهنا المعنى كما قالت عائشة رضي الله عنها: |
{ عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ. }
(رواه الترمذي)
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) يعني يتصدَّق ويصلّي ويصوم ويقول لك والله أنا خائف أن ربّي لا يتقبل عملي، لأنَّ عملي قليل أمام عظمة الله، وعملي قليل أمام كرم الله تعالى عليَّ. |
(وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) قال أولئك المستجمعون لهذه الصفات (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) هم يُسارعون في الخيرات ولا يحسبون أننا (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) الأولون مذمومون لأنهم ظنّوا عطاء الله تعالى لهم أنه يُسارع لهم في الخيرات، ربنا يمدَّنا يُحبُّنا، لا، لو كان يحبُّكم ما أعطى المال لمن لا يحبه، المال ليس مقياساً، أعطاه لمن يحبه كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وأعطاه لقارون وهو لا يُحبه، إذاً ليس مقياساً، والمُلك ليس مقياساً لأنه أعطاه لمن يُحبه لسليمان، وأعطاه لمن لا يُحبه وما أكثر الذين لا يُحبهم والله أعطاهم المُلك، فالقضية ليست في ما يُعطيك الله تعالى بل في موقفك أنت، لذلك هنا قال: (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) هم يُسارعون في الخيرات التي هي الأعمال الصالحة، وليست الخيرات التي يظنها هؤلاء خيرات من أموالٍ وبنين (أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) في الأعمال الطيبة، في الأعمال الصالحة التي يحبون أن يلقوا الله تعالى بها. |
(وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) يعني يحاولون الوصول إليها قبل غيرهم، المسابقة أي أنك تريد أن تصل قبل غيرك، كما في حلبة المسابقة يركض الجميع وكل شخصٍ يريد أن يصل إلى الهدف قبل غيره، فأنت الآن في الدنيا في حالة مسابقة ومسارعة، تسرع إلى الخير وتُسابق إليه، لعلك تناله فينفعك عند العرض على الله تعالى، هذا والله تعالى أعلم. |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته |