فوائد من سورة الإنسان

  • تدبر القرآن الكريم
  • 2025-09-29

فوائد من سورة الإنسان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا عِلماً وعملاً مُتقبَّلاً يا ربَّ العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القُربات.
وبعد أيُّها الإخوة الأكارم: ففي الجزء التاسع والعشرين من كتاب الله تعالى سورة الإنسان، التي افتتحها المولى جلَّ جلاله بقوله:

هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا(1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)
(سورة الإنسان)


النِعَم التي لا تُحصى تندرِج تحت ثلاث نِعَمٍ كُبرى:
افتُتِحَت السورة بذكر ثلاث نِعمٍ من نِعم الله تعالى على الإنسان، والحقيقة أن النعم كثيرة:

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(18)
(سورة النحل)

لكن هذه النِعَم التي لا تُحصى، تندرِج تحت ثلاث نِعَمٍ كُبرى ذكرتها الآيات هُنا.
النعمة الأولى نعمة الإيجاد، والثانية نعمة الإمداد، والثالثة نعمة الهُدى والرشاد، الله تعالى أوجدنا من عدم، هذه أول نعمةٍ أنك موجود، اليوم تقول أنا فلان الفلاني، هذه نعمةٌ أنك موجود.
النعمة الثانية أنك ممدود، يُمدُّك الله بالسمع، بالبصر، بعمل الكلية، بالزوجة، بالأولاد، بالأصحاب، بالسكينة أحياناً، وأحياناً بالتأديب التربوي، يُعالجك قبل أن تلقاه ليتوب عليك، حتى تصل إليه كيوم ولدتك أمك، هذا كله إمداد، والإمداد نوعان: نوعٌ جسدي ونوعٌ نفسي، وهذا مُستمد من اسم الله الربّ، الربّ هو المُمِد، والمُمِد جلَّ جلاله يمُدُّ عباده بنوعين من الإمداد.
النوع الأول إمدادٌ مادي: السمع والبصر إمداد، عمل الكلية إمداد، الطعام والشراب إمداد، الولد إمداد، المطر إمداد، إمدادٌ من المُمِد الربّ جلَّ جلاله الذي يُربّينا.
والإمداد الثاني معنوي: كيف معنوي؟ صلَّى فألقى الله في قلبه السكينة، هذا مدَد من نوعٍ آخر، معنوي، فارتاح للصلاة، فأصبح إذا فاتته الصلاة يشعُر بانقباض، هذا من إمداد الله له، ذهب إلى الحج وقف أمام الكعبة دمَعت عينه من خشية الله، إمداد.
الآن عصى الله تعالى فانقبض، إمداد ليُشعره الله تعالى بأنك دائماً ابقَ قريباً منّي لا تبتعد، إمداد، كما يفعل ربُّ الأُسرة، إذا كان يُمدّ فقط بالطعام والشراب لا يُسمّى مُربّياً، لكن إذا كافأ ابنه عند الإحسان وعاقبه عند الإساءة، أصبح ربُّ أُسرةٍ حقيقي، مربّي.
فربُّنا جلَّ جلاله من نِعمه الإمداد، النعمة الأولى الإيجاد، الثانية الإمداد بنوعيه المادي والمعنوي، والثالثة الهُدى والرشاد، هو نوعٌ من أنواع الإمداد، لكن يُفرَد لأنَّ له أهميةً خاصة، حتى لا يُظَن أنَّ هو شيءٌ بسيط، فيُفرد بالذِكر وهو نعمة الهُدى والرشاد، أنه هدانا، قال لك: هذا طريق الخير وهذا طريق الشر، هذا طريق الحقّ وهذا طريق الباطل، هذا طريق الهُدى وهذا طريق الضلال، هذه هداية، هداه:

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ(50)
(سورة طه)


النعمة الأولى نعمة الإيجاد:
فهذه الآيات الأولى من سورة الإنسان، ذكرت هذه النِعَم الثلاث بشكلٍ رائعٍ جداً وبليغٍ جداً، النعمة الأولى الإيجاد، قال: (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) ما يُذكر، أنت اليوم فتحت كتاباً قديماً، اطلعت على تاريخ طباعته طُبِع عام 1940، أنا مواليد 1970 عندما نُضِّدت حروف هذا الكتاب وطُبِع أين كنت أنا؟ من كنت؟ لا شيء (لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) لم يكن يُذكَر بين الناس، لم يكن يُعهَد أنه فلانٌ بن فلان، فهذه النعمة الأولى، وذكرها المولى جلَّ جلاله مُفتَتِحاً بها بأسلوب الاستفهام، لأنَّ أسلوب الاستفهام أوقع في القلوب من الحقيقة المباشرة، النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أصحابه:

{ ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط }

(رواه مسلم)

{ أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟!، قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد)

{ أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟ قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا }

(أخرجه البخاري ومسلم)


أسلوب السؤال والاستفهام أحياناً من الأساليب العربية التي تُنبِّه المُستمِع:
فالله تعالى يستخدم، وأسلوب السؤال أحياناً والاستفهام من الأساليب العربية التي تُنبِّه المُستمِع (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ) سؤال، السؤال بعُرف الإنسان يحتاج إلى جواب، الاستفهام التقريري لا يحتاج إلى جواب لكنه يُنبهك فيدعوك إلى التأمُّل، ما معنى استفهام تقريري؟ أي فحوى الآية: (أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) ليُقرِّب الحقيقة جلَّ جلاله جاء بطريقة الاستفهام (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) فتقول: نعم والله أتى، مَن أنا قبل مئة سنة؟ مَن أنا قبل سبعين سنة؟ ما كنت شيئاً مذكوراً، الله تعالى جعل لي الذِكر، جعلني أباً، جعل لي أصدقاء ورفاق، يقولون: فلان، فألتفِت نعَم، (لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) هذه النعمة الأولى نعمة الإيجاد.

النعمة الثانية الإمداد:
النعمة الثانية الإمداد: قال (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) بدأ الإمداد من لحظة النطفة، النطفة لا تُرى بالعين المُجردة، البويضة كرأس الدبوس، بلقاء الزوجة انطلقت ملايين الحيوانات المنوية، واحد منهم وصل إلى البويضة، لقَّحها فتَكوَّن بداية الجنين:

خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)
(سورة العلق)

النطفة أصبحت علقة، علقت بجدار الرحم، العلقة مُضغة، مُخلَّقة وغير مُخلَّقة، صار التمايُز، كل خلايا اتجهت لتشكيل شيء، خلايا للجهاز العصبي، خلايا للجهاز الهضمي، خلايا للأطراف، بدأت بعض الخلايا تُضحّي تضحية عجيبة، تموت فتتشكل الأصابع، تصل إلى هُنا فتتوقف، تتشكل الأصابع، الذي يُتابع فيلم مُصوَّر بشكلٍ سريع عن مراحل تخلُّق الجنين، يسجُد خاشعاً لله تعالى، كيف؟ قال: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) عندما يتفكَّر الإنسان في خلقه، قال تعالى:

وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21)
(سورة الذاريات)

يجد العجَب العُجاب، والقرآن الكريم أعطانا قواعد عامة للتفكُّر في خلق الله، القاعدة الأولى: قال تفكَّر في الشيء وأصله (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) انظر إلى ابنك أمامك، عمره خمس أو عشر سنوات، انظر إليه أين كان قبل عشر سنين؟ لم يكن موجوداً، هذا الدماغ الذي يُفكِّر ويعقِل ويتفكَّر، بدأ يكتُب ويُطابق، وعينان وعدسة، جميعهم ما أصلهم؟ نطفة لا تُرى بالعين المُجردة، أصبحوا جهاز عصبي، وجهاز هضمي وجهاز طرح كلية، وجهاز بولي، ودماغ، ومُخ ومُخيخ، وبصلة سيسائية، ونُخاع شوكي، وتوازن، ومَشيَ، وكَبِر، وتكلَّم، وكل حرف سبع عشرة عضلة للنطق به تُساهم بتشكيله، ما أصله؟ قال: (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) النطفة التقت مع البويضة، هُنا ما قال من نطفة، طبعاً هناك آيات أُخرى:

مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ(46)
(سورة النجم)


الغشاء العاقل:
لكن هُنا قال: (مِنْ عَلَقٍ) لأنه أول مرحلة يتشكل بها المخلوق، عندما يعلق بجدار الرحم، في آياتٍ أُخرى (مِن نُّطْفَةٍ) الأصل قبل، فقال: (إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) أي متداخلة النطفة مع البويضة أمشاج، ثلاث عشرة صِبغي أو أكثر لا أدري، من الزوج والزوجة (نَّبْتَلِيهِ) أصل الخَلق هو الامتحان، الابتلاء لنرى موقفه (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) الإمداد، كله إمداد من الله تعالى، من اللحظة الأولى للخلق، العلقة تحتاج إمداد فتأخذ غذاءها من الرحم، الجنين في بطن أمه يتعلَّق بالحبل السري، يدخل إلى المشيمة التي هي القرص اللحمي الذي يصل بين الأم وجنينها، يدخل إليه دورة دم الأم، ودورة دم الجنين، يلتقوا مع بعض ولا يختلطان، لأنَّ بينهما غشاءً سمّاه العلماء الغشاء العاقل، لماذا سمَّوه الغشاء العاقل؟ قال الأطباء: لأنه يقوم بمهماتٍ لو أوكِلَت إلى أمهر الأطباء لمات الجنين خلال ساعة.
طيلة هذه الفترة دورة الأم دخلت ودورة الجنين دخلت، كغشاءٍ بينهما حاجز، عوامل المرض من الأم لا تنتقل إلى الجنين، لكن عوامل المناعة تنتقل، ما عنده جهاز للتنفس، جزء من زفير الأم هو نَفَس الولد، الهواء الذي يستنشقه الولد، ما عنده جهاز هضم، يأخذ الغشاء العاقل كل ما تأكله الأم من فيتامينات وبروتينات، بنسبٍ مدروسة ويدخلها إلى دورة دم الجنين، فهذا الغشاء يقوم بعمل جهاز تنفُّس، وجهاز هضم، وجهاز مناعة، كله يأخذه من الأم ويضعه بالجنين، ويسحَب من الجنين للأم النواتج، فسمَّوه الغشاء العاقل، لأنَّ الأعمال التي يقوم بها يعجز عن القيام بها أمهر الأطباء.

يبدأ الإمداد من اللحظة الأولى لخلق الجنين:
فبدأ الإمداد من اللحظة الأولى لخلق الجنين (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) السمع قبل البصر للجنين، الجنين في بطن أمه يبدأ يسمع، لذلك ينصح الأطباء المؤمنون المرأة أن تقرأ وتسمع القرآن في البيت، الطفل يتعرَّف لصوت أُمه وهو في بطنها، لكن البصر يكتمل بعد الولادة بأسابيع، لكن لا يحتاجه في البطن، لكنه يسمع، قال: (فجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) بالترتيب، هذا إمدادٌ من الله تعالى، وجاء بالسمع والبصر لأنها المنافذ إلى العالَم الخارجي، هو لو أدخل معلوماتٍ صحيحة بسمعه، وصورٍ ببصره، وعالج معالجة صحيحة بعقله، فيُخرِج مُخرجاتٍ صحيحة.