• الإذاعة الأردنية - اللقاء المفتوح
  • 2024-03-04
  • الأردن
  • عمان

البشرى في الإسلام


المذيع:
السيدات والسادة، المُستمعون والمُستمعات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حيَّاكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحباً بكم في مستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح وبرنامجكم فكرٌ وحضارة.
عنوان حلقة اليوم البُشرى في الإسلام، قال الله عزَّ وجل:

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
(سورة الزمر)

وقال سُبحانه:

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
(سورة آل عمران)

صدق الله العظيم.
وردت كلمة البُشرى ومُشتقاتها في القرآن الكريم نحو مائةٍ وثلاثٍ وعشرين مرّة، جاءت على صيغة الفعل:

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)
(سورة البقرة)

وعلى صيغة الاسم:

هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(سورة النمل)


كل ما في القرآن الكريم يُبشِّر المؤمنين:
والبشارة في اللغة ظهور الشيء على هيئةٍ من الخير والحُسنِ والجَمال، وقد تُقيَّد أحياناً فَتدلُ على النقيض، وقد جاءت في القرآن الكريم على أوجهٍ عديدة، فثمّةَ بُشرى لأصحاب الإنابة بالهِدايَّة، وللمُخلصين بالحِفظ والرِعاية، وللمُتقين بالفوز والحِماية، وللمُذنبين بالمَغفِرة، وللمُجاهدين بالرضا، وللمؤمنين بالعطاء والشفاعة، وللصابرين بالرَحمة والهِدايّة.
كما تعددت وظائف البُشرى في القرآن الكريم، فمنها تسلية الرُسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها التأكيد على بَشَرِيتهم أو بيان طبيعة القرآن الكريم، وسِماتُه، ومُعجزاته، أو تنشيط المؤمنين وترغيبهم بالطاعة، وتقديم النظرة للأنثى.
أمَّا المُبشَرون كما ورد في القرآن الكريم، فأوَّلهم الأنبياء، ثم الأولياء، ثم المؤمنون، والمُحسنون، والخاشعون، والمُجاهدون، والمُتّقون، وغيرهم.
ومن موضوعات البُشرى التي أشار لها القرآن الكريم، البُشرى برسول الله عليه الصلاة والسلام، و البُشرى بالمغفرة والجنَّة، والرَحمة، والرضوان، والنصر والتمكين، والبُشرى بالرياح والغُلام، وأيضاً بالعذاب المُقيم.
في هذه الحلقة نستعرض مفهوم البُشرى في الإسلام، كما دلَّت عليها آيات القرآن والسُنَّة.
أُرحّب أيضاً بضيفي فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أُستاذ الشريعة والفِقه، الداعية الإسلامي المعروف، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الدكتور بلال نور الدين:
حيَّاكم الله أستاذنا الكريم، بارك الله بكم.

المذيع:
مرحباً بكم دكتور بلال، أودّ منكم دكتور بلال مادمنا نتكلم عن البُشرى أتمنى عليك أن توقِظ كما عهدناك مارد السعادة داخل الإنسان، وأن تُطفئ أيضاً الألم والحُزن، أُمّتنا اليوم كما تعرف تتعرض لمثل هذه الظروف وتحتاج إلى البُشرى، كيف تفعل البُشرى أفاعيلها في إيقاظ مارد السعادة دكتور بلال؟

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضّلتُم البُشرى تُبشِّر الإنسان، ويظهر أثرها بِشراً في وجهِه وعلى بشرة وجهِه، وعلى صفحة وجهِه، والقرآن الكريم جاء للناس بِشارةً، بل إنَّ كل ما في القرآن الكريم يُبشِّر المؤمنين، يُبشِّرهم بالتثبيت، يُبشِّرهم بالتمكين، يُبشِّرهم بالنصر، فالقرآن الكريم هو السعادة، وإن سألتني عن السعادة فأقول لك هي على السُجّادة، هي على سُجّادة الصلاة، عندما يجلس المؤمن على سُجّادته ليُناجي ربَّه، ليَدعوه، ليقرأ القرآن، ويقرأ ما فيه من البِشارات فهذه هي السعادة.

الفرق بين اللَّذَة والسعادة:
الحقيقة أننّا ينبغي أن نُميّز بين لَذةٍ طارئة، وسعادةٍ غامرة يمتلئ بها قلب المؤمن، اللَّذة طارئة، والسعادة دائمة، اللَّذة مُتناقصة، والسعادة مُتنامية، وأهم شيء أنَّ اللَّذة تأتي من الخارج، فمن أراد اللَّذة يحتاج إلى جهدٍ ووقتٍ ومال، يحتاج إلى وقت ومال وصحة، وشاءت حكمة الله تعالى أنَّ هذه الثلاثة لا تجتمع في الإنسان يوماً، ففي مُقتبل حياته يملك صحته ويملك وقته، لكنه لا يملك المال للاستمتاع بالحياة، وفي منتصف حياته يجمع بعض المال، وعنده الصحة لكنه لا يملك الوقت ليستمتع بالحياة، وفي خريف عُمره يملك بعض المال الذي حَفِظه وصانه، ويملك الوقت الكافي، لكنه لا يملك الصحة التي تُؤهله بالاستمتاع بالحياة.
وشاءت حكمة الله أنَّ السعادة لا تجتمع عناصرها في الدنيا، فهي لذائذ طارئة تنتهي، هبّ أنك تُريد أن تمتلك سيارة من أحدث طراز، وامتلكتها، في اليوم الأول تستمتع بها، والثاني والثالث، وبعد حين تصبح شيئاً عادياً، لا تلتفت ولا تأبه له، عابر يمرّ.
أمَّا السعادة فهي تنبع من الداخل فسعادتي معي، بستاني في صدري، كما كان يقول بعض العُلماء الأجِلاء، كان يقول: " ماذا يفعل أعدائي بي وبستاني في صدري، إن أبعدوني فبُعدي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوةٌ بالله، وإن قتلوني فقتلي شهادة"، فالبُشرى الطيّبة التي يُبشِّر الله تعالى بها عباده، أنَّه يملئ قلبهم سعادةً في الدنيا والآخرة.
كان ابن القيم رحمه الله يقول: " في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة"، وجنَّة الدنيا هي جنَّة القُرب من الله تعالى، فنحن يُبشِّرنا ربُّنا بمغفرةٍ منه، ويُبشِّرنا برحمته، ويُبشِّرنا بالطيّبات، ويُبشِّرنا بتلك السعادة.

المذيع:
ولماذا يُبشِّرنا جلَّ وعَلا؟

الله تعالى يُبشِّرنا لأنه يُحبُّنا ويُربينا:

الدكتور بلال نور الدين:
لأنَّ الإنسان طبيعته أنه يتعامل بالمُبشِرات وبالمُنذرات، هبّ أنَّك في صف ومع طلاب، وأنت مُعلِّم، والله مُربّي، الله هو الربّ، ما معنى الربّ؟ المُربّي الذي يُربّي عباده، المُعلِّم يُربّي طلابه، الأب يُربّي أبناءه، فيُبشِّرهم، يقول له: يا بني إن نجحت هذا العام فلك مني هديةٌ قيّمة، ويُنذره فيقول له: إن لم تأتِ بالعلامات المُستحقّة فسيكون عليك كذا وكذا من العقوبة، فالربّ مُربّي جلَّ جلاله، فهو يُربّينا، كما يُربّي أجسادنا فيُمدُّنا بالطعام وبالشراب، بالأب، بالأم، بالزوج، بالولد، هذه تربية، لأنه يُحبُّنا، بارك الله بكم، يُربّينا، يُربّي نفوسنا، فلمّا نُحسِن يُبشِّرنا بالخير، ويُلقي في قلبنا السكينة، ويُلقي في قلبنا الحُبّ، والسعادة، والاستقرار.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(سورة النحل)

وبالمُقابل:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)
(سورة طه)

يُنذره، ما قال حياة لأنَّ الحياة لا تكون إلا مع الإيمان، بل قال: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، قيل ما بال الذين في قصورهم، وفي لهوهِم، أين المعيشة الضنك؟! إنها ضيق القلب، ضيق الصدر.
فالله تعالى يُبشِّر عباده بِسعة الصدر، ويُنذرهُم بضيق الصدر، لأنه يُحبُّنا ويُربّينا جلَّ جلاله.

المذيع:
البُشرى هنا مُتحقّقة في الدنيا والآخرة؟

لمَّا يشتد الكرب على الإنسان يُبشَّر بلقاء الله والقرب منه جلَّ جلاله:

الدكتور بلال نور الدين:
نعم قال تعالى:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(سورة الجاثية)

فالله تعالى يُربّي في الدنيا والآخرة، لا يجعل الله تعالى مَن اجترح السيئات، كمن عَمِل الصالحات في الدنيا وفي الآخرة، نعم هناك ابتلاءات في الدنيا، وإنها لن تستقيم على حال، وهذا أيضاً لأنَّ الله يُريد أن يُبشِّرنا بلقائه، لمّا يشتدّ الكُرب على الإنسان في الدنيا، يُبشَّر بلقاء المنّان جلَّ جلاله، ولمَّا يفقد بعض صحته، يُبشَّر بالقرب من الله.

{ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي. }

فيقترب من الله بالابتلاءات، لكن لا يضيق صدره، ذلك الضيق الذي يُعذَّب به أهل الكفر وأهل العِصيان، وأهل الطُغيان، وأهل الإجرام، لا يُعذَّب ولكنه يُبتلى قال: (سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، فهو في حياته مُبشَّرٌ، وعند مماته:

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)
(سورة فصلت)

لا تخافوا على ما سيأتي، لأنَّكم في رضوان الله تعالى وفي رحمته، ولا تحزنوا على ما مضى من الدنيا لأنَّها فانية، لا يُحزَن عليها، فماذا بقي من السعادة؟ استغرق الزمن كله، فهم لا يخافون على ما فات ولا يخافون مما هو آت، (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
فالجنَّة هي أعظم بُشرى، لكن هناك بين يدي البُشرى العظمى في الجنَّة، مُبشِّرات في الدنيا، غداً إن شاء الله نحن على أبواب رمضان، عندما نُصلّي القيام وتدمع العين من خشية الله هذه بُشرى، غداً عندما نقوم في وقت السَحَر ونُناجي الله فنشعر أنَّ الله قَبِلنا، وأنَّه تجلّى على قلوبنا هذه بُشرى، فالله تعالى يُبشِّر عباده في الدنيا والآخرة ( فَبَشِّرْ عِبَادِ).

المذيع:
المُذنبون لهم نصيب من البُشرى؟ نُدقق في الآية الكريمة قوله تعالى:

إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
(سورة يس)


أعظم بُشرى للمُذنب أنَّ باب التوبة مفتوح لم يُغلق:

الدكتور بلال نور الدين:
نعم مئة بالمئة، المُذنب مُبشَّر بالمغفرة، مُبشَّر بالتوبة، لأنَّ الله تعالى يقول:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
(سورة الزمر)

أعظم بُشرى للمُذنب أنَّ باب التوبة مفتوحٌ على مِصراعيه، أعظم بُشرى للمُذنب أنَّ الله لم يُغلِق بابه في وجهِه، فإذا نادى العبد الطائع، قال الله تعالى كما في الأثر: " لبيك عبدي، فإذا نادى المُذنب قال تعالى: لبيك ثم لبيك ثم لبيك"، فالله تعالى يُجيب عبده المُذنب إذا دعاه ويغفر ذنبه، بل إنه ينتظره، بل إنه يُريد أن يتوب عليه.

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
(سورة النساء)

فالمؤمن مُبشَّر، والمُحسِن مُبشَّر، والمُتّقي مُبشَّر، والمُذنب العاصي مُبشَّرٌ بمغفرة الله تعالى وأجره، إن هو تاب ورجع إلى الله تعالى.
تخيَّل أخي الحبيب لو أنَّه لم يُبشَّر المُذنب بالتوبة، لقادَهُ أصغر ذنبٍ إلى أعظم ذنب، انقطع الأمل، أُغلِقت الأبواب في وجهِه، لكن لمّا ربُّنا جلَّ جلاله قال له: بابي مفتوح، هلُمَّ إليّ.

{ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. }

(صحيح مسلم)

فهذا مما يفتح باب الأمل في قلب المُذنب بهذه البشارة العظيمة، فيبقى على صِلةٍ بخالقه وبمولاه، وبفطرته السليمة.

المذيع:
هل بشَّر الله سبحانه وتعالى أنبيائه؟

الله تعالى بشَّر أنبيائه عليهم السلام:

الدكتور بلال نور الدين:
نعم بشَّر الله تعالى أنبيائه، بشَّرهُم بالولد، بشَّرهُم بإسحاق، الأولاد في كتاب الله تعالى هُم البُشرى، البُشرى جاءت:

وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)
(سورة الصافات)

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)
(سورة مريم)

فالأطفال في كتاب الله هُم البُشرى، الذين جاء لفظ البُشرى بالاسم معهم، لأنَّ الولد بُشرى من الله عزَّ وجل، هو امتدادٌ لك، إن ربّيته وأدبّته وعلّمته، ما أجمل الطفل في البيت وهو يحبو! فالأطفال هُم البُشرى في كتاب الله تعالى .

المذيع:
التفاتة جميلة هذه يا دكتور، في القرآن اقترن دائماً التبشير بالولادات.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم الأطفال بُشرى، والأطفال يتعلّم الإنسان منهم، يَتعلَّم من بِشرِهم، ويَتعلَّم من سرورهم، يَتعلَّم من إيثارهم الآخرين، يتعلَّم من سرعة نسيانهم لِمَن أساء إليهم، العفو السريع، المُسامحة، النوم السريع لأنَّهم لا يحملون في قلوبهم هَمّاً، فهُم بُشرى الحياة الدنيا، وعاجل بُشرى المؤمن.

المذيع:
توقفت أيضاً عند قوله تعالى في الدلالات هنا: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ ۚ فَبَشِّرْ عِبَادِ)، ثم يُكمِل:

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
(سورة الزمر)

عِباد هنا، هل هي محصورة في الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنَه؟

الدكتور بلال نور الدين:
هو وصف، ( فَبَشِّرْ عِبَادِ) يعني إن وقفنا هنا، سبحان الله القرآن الكريم له سِباق، وله لِحاق وسياق، فالآية الكريمة عندما تكون في سياقها لها معنى، وعندما تؤخَذ من سياقها وتُنتزع من سياقها لها معنى، مثلاً :

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
(سورة الطلاق)

هذه بُشرى، إن اتقيت الله جعل لك مخرجاً، جاءت في سياق الطلاق، يعني من يتّقِ الله في تطليق زوجته، فيُطلّقها وفق الشرع ووفق السُنَّة، يجعل الله له مخرجاً لإرجاعها، هكذا هي في سياقها، لكن لمّا نُزعَت من سياقها، من يتّقِ الله في تربية أولاده، يجعل الله له مخرجاً من عقوقهم، من يتّقِ الله في برِّ والديه، يجعل الله له مخرجاً إلى حُسن طاعتهما، ولا يُلجئه إلى شيء آخر، من يتّقِ الله في كسب ماله يجعل الله له مخرجاً من الحرام وهكذا.
فأيضاً هنا، لمّا نقول:( فَبَشِّرْ عِبَادِ(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) نعم هناك بُشرى خاصة لعباد الله
تعالى الذين إذا سمعوا القول اتبعوا أحسنه، فإن وجدوا حَسَناً وأحسَن أخذوا بالقول الأحسَن

وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53)
(سورة الإسراء)

لكن عندما ننزَع الآية من سياقها، ونحن جميعاً عبادٌ لله تعالى، فالله تعالى يُبشِّرنا، يُبشِّر المؤمن، ويُبشِّر المُتّقي، ويُبشِّر العاصي، ويُبشِّر حتى البعيدين عن الله عزَّ وجل، المُنحرفين عن منهجه كُليّاً، يُبشِّرهم بأنَّ باب الإسلام مفتوح، وأنَّ باب التوبة مفتوح، فالآية بعيداً عن سياقها اللفظي ( فَبَشِّرْ عِبَادِ)، هي بُشرى عامة، لكل عبدٍ من عباد الله تعالى بأنَّ الله تعالى موجود، وأنَّه يسمع، وأنَّه يرى، وأنَّه يُعطي، وأنَّه يمنح، حتى أخي الحبيب في الدنيا، يعني ربنا عزَّ وجل يُبشِّر أحياناً عبده ببعض ما في الدنيا من بِشارات، وإن كان لا يستحق الآخرة لعدم إيمانه.

المذيع:

الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
(سورة يونس)


الدكتور بلال نور الدين:
نعم ( فَبَشِّرْ عِبَادِ) جلَّ جلاله.

المذيع:
أيضاً استوقفتني آية العلاقة بين البُشرى والاستقامة دكتور بلال.

ما هي العلاقة بين البُشرى والاستقامة؟

الدكتور بلال نور الدين:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، هذا يؤكد أخي الحبيب، يؤكد أمراً مُهمّاً (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) هذه العقيدة، ( ثُمَّ اسْتَقَامُوا) هذا السلوك، فهي فكرٌ وسلوك، مُنطلقاتٌ نظريَّة وتطبيقاتٌ عمليَّة، جاء باللفظ (ثُمَّ)، لأنَّ الإيمان يحتاج إلى وقت حتى يستقر تماماً، وينقلب إلى استقامة جيدة على منهج الله تعالى، لأنَّ (ثُمَّ) تُفيد التراخي نوعاً ما، فقالوا ربُّنا الله هذه عقيدة، ولكن هذا لا يكفي، أنت قلت ربُّنا الله، ما متطلبات أنَّ ربَّك الله؟ ما متطلبات أنَّ توجُّهك لله تعالى؟ متطلباته أن تستقيم على أمر الله تعالى، أن تلتزم منهجه، أن تأتي ما أحلّ وأن تترك ما حرَّم، فالاستقامة عين الكرامة، ولن يقطف المسلمون ثمار الدين، إلا باستقامتهم على المنهج.

المذيع:
لماذا في هذه الآية بالذات، قرن الله سبحانه وتعالى البِشارة بنزول الملائكة، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

الدكتور بلال نور الدين:
هي عند جمهور المُفسّرين، هذه الآية عند الموت، فيرى الإنسان عند ساعات الاحتضار، المؤمن الذي استقام على منهج الله، عند ساعات الاحتضار تتنزل عليه الملائكة، فيرى ملائكة الرحمة التي تُبشِّره برحمة الله تعالى، ولو قلنا إنَّ هذا أيضاً في الدنيا وقبل الموت، فإنَّ الملائكة لهم مُهمات موكّلون بها من الله تعالى، ومن مُهمات الملائكة تبشير المؤمنين بجنَّة الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) أي تتنزَّل عليهم الملائكة حال موتهم، تُبشِّرهُم برضوان الله تعالى وبمغفرته، وبرحمته، وبأنَّ لا خوفٌ عليهم من المستقبل الذي ينتظرهم بعد الموت، وأنهم لا يحزنون على ما مضى من الدنيا الفانية.

المذيع:
بارك الله بك فضيلة الدكتور بلال نور الدين، أستاذ الشريعة والفقه، الداعية الإسلامي المعروف، جزاك الله كل خير يا دكتور بلال وبارك الله بك.

الدكتور بلال نور الدين:
أكرمكم الله، شكراً جزيلاً حيّاكم الله.