• خطبة جمعة
  • 2025-01-31
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي

يا ربنا لك الحمد، ملأ السماوات والأرض، وملأ ما بينهما وملأ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمد، وسلِّم تسليماً كثيراً.

دعاء النبي بإصلاح دينه ودنياه وآخرته:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: فقد جاء في صحيح مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو بهذا الدعاء:

{ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ. }

(أخرجه مسلم)

دعا النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجامع، بإصلاح دينه ودنياه وآخرته، أمّا الدنيا فلا بُدَّ منها لصلاح الآخرة، فهي مطيةٌ للآخرة

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77)
(سورة القصص)

لا بُدَّ من إصلاح دُنيانا، وإعمار أرضنا بالخير، حتى تصلُح آخرتنا، وأمّا الدين فهو عصمة أمرنا، ما معنى عصمة الأمر؟ أنه يعصم الإنسان من أن يوقِع نفسه في المحظورات، فيما يهلكه، فيما يُشينه، فيما يُعكِّر عليه صفوه، الدين عصمة، يعصمنا من الوقوع في الخلل، والزلل، والخطأ، يعصم الإنسان، وبغير دينٍ لا يمكن أن يُعصَم الإنسان من الوقوع في مدارك الشقاء والهلاك، فلا بُدَّ من أن نُصلِح ديننا.

الدين منهج السماء لا يحتاج إلى إصلاحٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: الدين من حيث هو منهج السماء، لا يحتاج إلى إصلاحٍ، بل إنه المنهج الوحيد، من آدم إلى قيام الساعة، الذي لا يحتاج إلى إصلاح، بل إنَّ أيُّ دعوةٍ لإصلاحه، هي في الحقيقة إفسادٌ له، اسمعوا إلى الدعوات من هنا وهناك للتجديد في الدين، هي في حقيقتها وفي أغلبها هدمٌ للدين، وتقويضٌ لأركانه وبُنيانه، الدين من حيث هو كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، يحتاج منّا أن نفهمه على الوجه الصحيح، وأن نُطبِّقه على الوجه الصحيح.

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)
(سورة المائدة)

فالدين لا يحتاج إلى إصلاحٍ، إذاً لماذا كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي) ديننا هو الذي يحتاج إلى إصلاح، أي تديِّنُنا، أي الطريقة التي نفهم بها الدين، هي التي تحتاج إلى إصلاحٍ، فقد يُفهَم الدين فهماً خاطئاً، عندها لا بُدَّ أن ندعوا: اللهم أصلِح لنا ديننا، وأن نسعى لإصلاح ديننا، لأنه سعادة الأبد، أو شقاء الأبد، تديِّنُنا (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي) أي تديُّن الذي أدين الله تعالى به، الطريقة التي أفهم بها الدين، تحتاج إلى مراجعةٍ دائماً، وتحتاج إلى إصلاح.

مصائب الدنيا مؤقتة ومحدودة لكن مصيبة الدين تبدأ عند الموت:
مصائب الدنيا أيُّها الكرام مؤقتة، ومحدودة، هناك مُصيبةٌ في المال، في النفس، في الثمرات، تنتهي عند الموت

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)
(سورة البقرة)

أعطني مصيبةً لا تنتهي عند الموت، من مصائب الدنيا، أشدُّ الأمراض فتكاً ينتهي بالموت، فقد المال كله ينتهي بالموت، فقد الولد ينتهي الحزن بالموت، كل مصائب الدنيا مهما عظُمت، نهايتها عند الموت، لكن مصيبة الدين، تبدأ آثارها الكارثية عند الموت، وقد تمتد إلى أبد الآبدين، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول:

{ قَلَّما كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقومُ من مجلِسٍ حتى يدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ لِأَصحابِهِ اللهمَّ اقسِمْ لنا مِنْ خشيَتِكَ ما تحولُ بِهِ بينَنَا وبينَ معاصيكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنَا بِهِ جنتَكَ، ومِنَ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ علَيْنَا مصائِبَ الدُّنيا، اللهمَّ متِّعْنَا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارِثَ مِنَّا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى مَنْ ظلَمَنا، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا تَجْعَلْ الدنيا أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولَا تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يرْحَمُنا }

(أخرجه الترمذي والنسائي والطبراني)

كل مصيبةٍ في غير الدين هيِّنة، ولذلك كان سيدنا عمر رضي الله عنه، إذا أصابته مُصيبةٌ قال: "الحمد لله ثلاثاً: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم تكن أكبر منها، وإذ أُلهِمتُ الصبر عليها ".

الدين يعصم الإنسان من أن يقع في الشهوات والشُبهات:
أيُّها الإخوة الأحباب: الدين يعصم الإنسان، من أن يقع في الشهوات وفي الشُبهات.
الشهوات: يقع والعياذ بالله في السرقة، في الزنا.
الشُبهات: يفتح جواله، فإذا برجُلٍ ظاهره التديُّن، يُلقي بشُبهةٍ تدخل إلى عقله، هو غير مُختصٍّ بالشريعة، يستمع فيظن ما قاله فلان حقَّاً، فيتَّبِعه فيُدخِل الشُبهة إلى عقله، الدين الصحيح يعصم الإنسان من الوقوع في الشهوات المُحرَّمة، والشُبهات الآثمة.
مثال: شاعرٌ جاهلي يُسمَّى الأعشى، لكنه أدرك الإسلام ولم يُسلِم، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أنه لم يُسلِم، لكنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدةٍ جميلة، خاطب ناقته قال:
مَتى ما تُناخي عِندَ بابِ اِبنِ هاشِمٍ تُريحي وَتَلقَي مِن فَواضِلِهِ ندا نَــبِـيٌّ يَـرى مـا لا تَـرَونَ وَذِكــرُهُ أَغـارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
{ الأعشى }
ثم يقول في ختامها:
إِذا أَنتَ لَم تَرحَل بِزادٍ مِنَ التُقى وَلاقَيتَ بَعدَ المَوتِ مَن قَد تَزَوَّدا نَدِمـتَ عَلى أَن لا تَكـونَ كَـمِثلِـهِ وَأَنَّكَ لَم تُرصِـد لِما كانَ أَرصَـدا

قصة الشاعر الجاهلي الأعشى:
ما أجمل هذا الكلام، لكنه لم يُسلِم مات كافراً، ما قصته؟ هذا الرجُل عزَم على أن يُسلِم، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا علمت قريشٌ بما أراد، قالوا هذا صنَّاجة العرب، ما مدح أحداً إلا رفعه، يعني هذا الإعلامي البارز الأول، هذا يمدح فيرفع ويذمُّ فيخفض، والنبي صلى الله عليه وسلم، لا يحتاج لا صنَّاجة العرب ولا غيره، فقد رفع الله ذكره

وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)
(سورة التين)

ولكن هكذا زعموا، هذا صنَّاجة العرب، قال: فقفوا على طريقه وامنعوه، فوقفوا على طريقه، قالوا ماذا تريد؟ قال: أُريد صاحبكم هذا لأُسلِم، قالوا: لكنه ينهاك عن خلالٍ، كلها بك رافق ولك موافق، هل تستطيع أن تنتهي؟! فهموا الدين على أنه نواهٍ يجب الامتناع عنها، لا كما يفهمه بعض المسلمين اليوم، على أنه انتسابٌ فقط.
قالوا: ينهاك عن خلالٍ كلها بك رافق ولك موافق، قال وما هي؟ قالوا: الزِنا، فقال: لقد تركني الزِنا وما تركته، أنا رجُلٌ كبيرٌ في العمر، لا أحتاج الزِنا، قالوا: وينهاك عن القمار الميسر، قال: لعلّيِّ إن لقيته أُصيب خيراً من القمار، قالوا: وينهاك عن الرِبا، قال: والله ما ديِّنت ولا استدنت، أنا لا أتعامل بالقرض أبداً، ما عندي مشكلة، قالوا: وينهاك عن الخمر، فقال: أرجع إلى صبابةٍ بقيَت في المهراس فأشربها، يعني أولاً آخذ ما بقي من الخمر، لأنه من الصعب ترك الخمر، وهنا كانت مُصيبته في دينه، عندما قرَّر هذا القرار.
قالوا: أَوَلكَ خيرٌ في ما هممت به؟ نُعطيك شيئاً أفضل، قال وما ذاك؟ قالوا: نجمع لك مئةً من الإبل هدية، وتذهب السنة إلى بلدك، حتى إذا كانت السنة القادمة رجعت إلينا، فإن ظهرنا على محمدٍ وانتصرنا عليه، فقد أخذت سلفاً، ووصلك المال، وإن انتصر علينا هو أتيت فأسلمت، ربطوا له دينه بالمُتغيرات، الدين لا علاقة له بالمُتغيرات، الدين ثوابت، ربطوا دينه بالمتغيرات، بالنصر والهزيمة، قال: والله لا أكره ذلك، فعاد وأجَّل إسلامه سنةً كاملة، وفي طريق عودته، ألقى به بعيرهُ عن ظهره فقتله، ودفن حيث قُتِل، فكان الفتيان إذا أرادوا أن يشربوا الخمر، وقفوا على قبره، وصبّوا على قبره فضلات الأقداح، في منطقة تُسمَّى قاع منفوحة، قريبة من المدينة، هذه مُصيبة الأعشى، أعظم مُصيبة على الإطلاق، المُصيبة في الدين هي أعظم مُصيبة على الإطلاق.

متى يحتاج ديننا إلى إصلاحٍ؟
أيُّها الكرام: لو دخلنا الآن في التفصيلات، متى يحتاج ديننا إلى إصلاحٍ؟ أولاً عندما نظنه عباداتٍ شعائرية فحسب، صلاة، صيام، زكاة، حج، ولا ننتقل به من محراب الصلاة إلى محراب الحياة، نظن أنَّ الدين في المسجد فقط، في المحراب، لكن لا نجعله ديناً في المعاملات، في الشأن العام، في مساعدة الناس، في نشر الخير، في إماطة الأذى عن الطريق، في إرادة الشارع، في تنظيم حركة الناس، في نشر الحُب والخير بين الناس، في الصدقات، في الإحسان، عندما نظنُّ الدين في محراب الصلاة فقط، اللهم أصلح لنا ديننا.
وأيضاً عندما نظنُّ أنَّ الدين في محراب الحياة فقط، فديننا يحتاج إلى إصلاح، يعني تجد امرأةً متبذلةً، تقول لها: اتقي الله وتحجَّبي، تقول لك: ديني في قلبي، أنا أُحسِن إلى الناس، دينكِ هذا يحتاج إلى إصلاح، تجد رجُلاً يتعامل مع الناس بالأمانة، تقول له إليك إلى المسجد للصلاة، يقول لك: وما نفع الصلاة؟ رأينا المُصلّين في الصفوف الأولى ماذا يفعلون، دينك يحتاج إلى إصلاحٍ، لأنَّ الدين عبادات شعائرية وتعاملية معاً، ولا يُغني واحدٌ عن الآخر، ديننا يحتاج إلى إصلاحٍ عندما نجعله انتقائياً، نأخذ ما يُعجبنا ويكون سهلاً على النفوس، ونترك ما يثقُل علينا ونجده صعباً، الشيء اليسير، نريد عُمرة سفر، والعُمرة على العين والرأس بل:

{ العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةُ ما بَيْنَهما والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

ولكن نريد فقط عُمرة، أمّا التعامل بالرِبا فهذا تركه صعب، الاختلاط غير المُنضبط، الاختلاط الذي يؤدّي إلى الفواحش صعبٌ على النفس، العُمرة نفعلها لكن الرِبا لا نتركه، فننتقي من الدين ما يُعجبنا، ديننا يحتاج إلى إصلاحٍ، قال تعالى:

ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)
(سورة البقرة)


الدين كُلٌ متكامل وأي جزء يترك منه يؤدي إلى فساد:
الدين كُل متكامل، يبدأ من العلاقات الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، نحن ما الذي جعلنا خلال ستة عقود، تحت هذه الطغمة الحاكمة؟ أننا تركنا جزءاً من الدين، وهو الاهتمام بالشأن العام، وهو الدخول في مفاصل الدولة، نحن تركنا وتُرِّكنا حتى أكون صريحاً، لكن عندنا مشكلة في الداخل، بأننا لا نريد أن نكون في الشأن العام، كل إنسانٍ يهتم بتجارته وماله، فتُرِّكنا، هي متكاملة لكن بدأت بخطأٍ من عندنا، فالدين كُل متكامل، وأيُّ جزءٍ يُترك منه يؤدّي إلى فساد، نعم قد ينجو الإنسان بنفسه إن استقام على أمر الله، أمام ربه، لكن لا تصلُح الحياة كلها إلا بالدين منهجاً عامَّاً، يبدأ من العلاقات الزوجية، وينتهي بالعلاقات الدولية، فعندما يكون ديننا انتقائياً، لا بُدَّ أن نقول: اللهم أصلِح لنا ديننا.
عندما نستغل الدين لمطامحٍ شخصية، نستغله لأرباحٍ تجارية، فهذا دينٌ لا يرتضيه الله تعالى، ويحتاج إلى إصلاح.

الدين يجمع ولا يُفرِّق:
ديننا يحتاج إلى إصلاحٍ، عندما يكون سبباً لفرقتنا، لا باعثاً لوحدتنا، الدين يجمع ولا يُفرِّق، قال تعالى:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ(13)
(سورة الشورى)

عندما يُفرِّقنا الدين جماعاتٍ، وأحزاباً، ومذاهب، وطوائف، فديننا يحتاج إلى إصلاح، الدين يجمع ولا يُفرِّق لماذا؟ لأنه يوحِّد الجهة، نحو الإله الواحد، والمنهج الواحد، والقِبلة الواحدة، فلا بُدَّ أن يجمعنا الدين.
ديننا يجمع ولا يُفرِّق، لأنَّ الله جعل العبادات في الإسلام جماعيّة، الصلاة والصيام والزكاة والحج، كلها عباداتٌ جماعيّة.
ديننا يجمع ولا يُفرِّق، لأنه يربطنا بالوحي، بوحي السماء لا بالنظريات المتناقضة، لماذا يتفرق الناس في مذاهبٍ شتَّى في النظريات الوضعية؟ لأن هناك لكل إنسانٍ مذهب، الأحزاب السياسية لها مذاهب، وكل حزبٍ له مصالح، فيتفرقون، لكن ينبغي أن يجمع الدين ولا يُفرِّق، لأنه منهج السماء الواحد، من عند الإله الواحد.

متى نتفرَّق في الدين؟
أيُّها الإخوة الكرام: متى نتفرَّق في الدين؟ أولاً عندما نُسمّي أنفسنا بأسماء جماعتنا وتحزُّباتنا الضيَّقة، ولا نرتضي ما سمّانا الله تعالى به، قال تعالى:

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)
(سورة الحج)

من أنت؟ أنا مسلم فقط، ما اتجاهك؟ أنا مسلم، ما اتجاهك الفقهي؟ أنا مسلم، ما اتجاهك العَقدي؟ أنا مسلم، أتحرّى الحقّ، إن وجدت خلافه رجعت إليه، مسلمٌ وكفى.
أيُّها الإخوة الكرام: الدين يُفرِّقنا ولا يجمعنا، عندما نُسمّي أنفسنا بأسماء تحزُّباتنا، ولا نُسمّي أنفسنا بما سمّانا الله تعالى به، النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح:

{ آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ الله أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَالْجِهَادُ، وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ؛ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ: وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؛ فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله. }

(أخرجه أحمد والترمذي)

احفظوها إخواني الكرام، إذا أردت أن تُسمّي نفسك، مَن أنت؟ قل له أنا مسلم، مؤمن، عبد الله، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله) أيُّ تسميةٍ أُخرى دعها.
أيُّها الإخوة الكرام: نتفرَّق عندما نُقدِّم قول فلانٍ وفلان، على كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، تقول له قال الله، وقال رسول الله، يقول لك: قال لي شيخي، يتحزَّب لشيخه ولجماعته، عندئذٍ يُفرِّقنا الدين، نتفرَّق في الدين عندما ننشغل بالقضايا الفقهية الفرعية، ونتشاغل عن مقاصد الشريعة العُظمى، أيُعقل أنَّ ملياري مسلمٍ اليوم على وجه الأرض، يتوجهون إلى قبلةٍ واحدة، يقومون معاً، يركعون معاً، يسجدون معاً، إذا صورتهم في الحرَم المكّي، في ليلة القدر وهم مليونا شخص، لا تكاد تجد اختلافاً بينهم، كلهم على صفٍ واحدٍ، ثم بعد ذلك تُفرِّقنا قضيةٌ فقهيةٌ فرعية، فنتقاتل من أجلها، ونُقيم النكِر من أجلها!
قضايا العقيدة أكثر من تسعين بالمئة من قضايا العقيدة من المشتركات، إثارة العشرة بالمئة على وسائل التواصل، وفي المساجد اليوم، جريمةٌ بحقِّ الأمة، هذه نتكلم بها في المجالس الخاصة، وبين العلماء، ونتناصح فيها، ونحثُّ بعضنا على الحقّ في المجالس الخاصة، أمّا عموم الناس فنوجههم إلى التوحيد والعبادة، العبادة الصحيحة والتوحيد، لا إله إلا الله، لا بُدَّ أن نجتمع، اليوم نكون أو لا نكون، أعداؤنا يرموننا عن قوسٍ واحدة، ويراقبوننا بعينٍ واحدة، ويريدون التنازع منّا والشِقاق، لا بُدَّ أن نجتمع على الحق والخير.

أصل ديننا الدليل فالاعتقاد دون دليل يُفرِّق ولا يجمع:
أيُّها الإخوة الكرام: آخر شيء مما يجعلنا نتفرَّق في الدين، أنَّ كثيراً من المسلمين يعتقدون ثم يستدلّون، والأصل أن تستدل ثم تعتقد، يعني الدليل هو الأصل وتعتقد من خلاله، لكن كثيرين تعلَّموا شيئاً ومشوا عليه طول عمرهم، فاعتقدوا به، ويبحثون له عن دليلٍ، هذا غير صحيح، نحن أصل ديننا الدليل، قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح لهذه الأمة الطيِّبة، أمّا أن يعتقد الإنسان دون دليل، فهذا يُفرِّق ولا يجمع.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حِذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، وأستغفر الله.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

من نِعم الله العظيمة أنه أخرج الطُغاة من ديارنا وأرضنا:
أيُّها الإخوة الأحباب: بمناسبة مؤتمر النصر، الذي عُقد قبل يومين، والذي أُعلِن فيه بفضل الله ومنَّته ورحمته بعباده، عن انتصار هذا الشعب، الذي قضى ردحاً من الزمان، في ظل تلك العصابة المارقة التي تحكَّمت به، وبدينه، وبموارده، ثم منَّ الله تعالى على عباده بالنصر الكبير، والفتح المُبين، فإنني إذ تابعت مُجريات هذا المؤتمر، ما جاء في خاطري إلا آيةٌ جعلتُ أُردِّدها، فأحببت أن أُردِّدها معكم، قال تعالى:

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ(2)
(سورة الحشر)

إن سألوك من أخرج الميليشيات الطائفية؟ قل لهم: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ) الله.
إن سألوك من الذي أزاح هذا المجرم من قصره؟ قل لهم: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ) هو وحده، (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا) مَن ظنَّ منكم أنهم سيخرجوا؟ من ظنَّ أنَّ هؤلاء الذين كانوا قبل يومٍ ويومين، يحكمون الإعلام، ويمسكون الاقتصاد، وينشرون عساكرهم في كل مكانٍ، من ظنَّ أنهم سيخرجوا؟
(مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ) كان بين أيديهم حصون، لم يقل حصن، حصون، الإعلام كان حِصناً من حصونهم، والاقتصاد الذي تمسَّكوا به لأنفسهم ولمن يُحيط بهم، كان حِصناً آخر، والحصن الخارجي كان حِصناً ثالثاً، نحن الجميع راضون عنّا، نحن الجميع يطلبون ودَّنا لا نحتاج أحداً.
(وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) جاءهم الله تعالى من النقطة التي كانوا لا يحلمون أن تحدث يوماً، تخيِّلوا أن تهجم عليهم الولايات المتحدة الأمريكية، وتخيِّلوا أن يصير الطيران فوق رؤوسهم، كلها احتمالات، لكن النقطة الوحيدة التي ما تخيِّلوها، أن يهجم عليهم الشعب من كل حدبٍ وصوب، هذه لم تكن تخطر في بالهم.
(وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) حدَّثني الإخوة وهم على الشُرفات، كيف قُذف الرُعب في قلوب هذه الفروع الأمنية والمؤسسات العسكرية، وكيف أصبحوا (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار) والاعتبار في بعض معانيه هو القياس، يعني كما حصل هذا خذوا العِبرة منه، فإنه سيحصل مثله، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار) وقد أرانا الله تعالى عِبرةً من عِبره، لو أمضينا عمرنا سُجَّداً له لما قضينا ووفينا شُكرها.

وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(18)
(سورة النحل)

وسنرى في قادم الأيام، إنْ أحيانا الله تعالى، كيف سيخرج كل الطُغاة والبُغاة من أرضنا، وعلى رأسهم الصهاينة المعتدون، الذين نُكِّست رؤوسهم في أرض غزَّة العِزَّة.

الدعاء:
اللهم أصلِح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرّ، مولانا رب العالمين.
اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا.
اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلم به منّا، أنت المُقدِّم وأنت المؤخِّر وأنت على كل شيءٍ قدير.
اللهم ربنا لك الحمد على ما أنعمت به علينا، اللهم فأتم فضلك وكرمك علينا.
اللهم كما أنعمت فتمِّم، اللهم كما أنعمت فزِد.
اللهم يا أرحم الراحمين كن لأهلنا في فلسطين، في غزَّة، في الضفة، عوناً ومعيناً وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم وعدونا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل ديارنا عامرةً بالخير والذكر والإيمان والبركة.
اللهم وفِّق من وليَّته أمرنا، لما فيه خير البلاد والعباد، وهيئ له بطانةً صالحةً تُعينه على أمره، وتأمره إذا ائتمر، وتنهاه إذا انتهى يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المُسيئين، يا أرحم الراحمين، اسقنا الغيث واجعلنا من الحامدين الشاكرين يا رب العالمين.
وصلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين .