الصلاة
لست أرضى الجاهلية..!
يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً. |
ما الجاهلية؟
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: |
ما الجاهلية؟ وهل هي فترةٌ محددة، انتهت ببزوغ فجر الإسلام، أم هي ظاهرةٌ يمكن أن تتكرر في أي زمانٍ ومكان، كيف تحدث القرآن الكريم عن الجاهلية مُحذِّراً المسلمين، من أن يتَّصفوا بصفات الجاهليين. |
بادئ ذي بدء، الجاهلية كما في الاصطلاح المعروف عندكم، هي الفترة الزمنية التي سبقت الإسلام، وساد فيها الطيش والبغي والظلم والقهر. |
والجهل أيُّها الكرام: في لغتنا المعاصرة يُطلَق على الشيء المُناقِض للعِلم، فيُقال فلانٌ عالِم، وضده فلانٌ جاهل، ليس عنده معلومات، لكنه في لغة العرب، كان يُطلَق أكثر ما يُطلَق على الجهل الذي يناقض الحلم، وليس العِلم، فقد يكون الإنسان عالماً، لكنه في عرف القدماء جاهلي، لأنه لا يحلُم ليس حليماً، يُقيم الدنيا ويُقعدها لأجل أتفه سبب، فهو جاهلي، أي ليس حليماً، يطيش، يغلي من أجل أسبابٍ تافهة، يقول لك سأكيل له الصاع عشرة أصوُّع، كلمني الكلمة سأردُّها له مئة كلمة، لن أسمح لأحدٍ أن يدوس لي على طرف، لا يحلُم، يجهل، وهذا المعنى هو ما ذكره الشعر العربي، الذي يُستنبط منه معنى الجاهلية، هذا عمرو بن كلثوم يقول في قصيدته المشهورة: |
أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا{ عمرو بن كلثوم }
وهذا الفرزدق يقول مادحاً قومه: |
أَحلامُنا تَزِنُ الجِبالَ رَزانَةً وَتَخالُنا جِنّاً إِذا ما نَجهَلُ{ الفرزدق }
الجاهلية ليست مرحلةً زمنيةً انقضت ببزوغ فجر الإسلام لكنها ظاهرةٌ متكررة:
تحسبُنا كأننا الجن إذا جهلنا، فهُم لا يَعنون بالجهل عدم العِلم، لكنهم يَعنون بالجهل عدم الحلم، فقد كان عند العرب معارف، وكانوا فُصحاء اللغة، وكانوا ينسجون من الشعر ما يعجز عنه اليوم فحولة الشعراء، وتُعقد له الأسواق الأدبية، لكنهم كانوا جاهليين، يأخذهم الطيش والكِبر والغرور. |
من هنا أيُّها الكرام نستنتج: أنَّ الجاهلية ليست مرحلةً زمنيةً انقضت ببزوغ فجر الإسلام، لكنها ظاهرةٌ متكررة تخرج كل حين بلبوسٍ جديد، وما أشبه جاهلية القرن الواحد والعشرين، التي يعيشها العالم اليوم، بجاهلية ما قبل الإسلام، ما الذي كان في الجاهلية؟ أهل الجاهلية يُقيمون حرب الداحس والغبراء، من أجل ناقةٍ قُتِلت، أهل الجاهلية يتعصَّبون لأقوامهم ولقبيلتهم ولعشيرتهم على حساب مبادئهم. |
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ{ دريد بن الصمة }
أنا مع قومي إن رشدوا رشدت وإن ضلّوا ضللت، هذا مبدأ الجاهليين، لكن على كل ما في العصر الجاهلي الأول، في الجاهلية الأولى، على كل ما فيها من مساوئ ولا نُقلِّل من مساوئها، كان عندهم من مكارم الأخلاق، ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ (صالحَ) الأخلاقِ }
(أخرجه أحمد والبيهقي والبزار)
وما قال لأُنشئ مكارم الأخلاق أو لأُحدثها، بل لأُتمِّمُها، فالشجاعة عندهم أصبحت تهوُّراً، والكرم أصبح إسرافاً وتبذيراً، فلا بُدَّ أن نُرشِّد مكارم الأخلاق، لكنهم لم يكونوا بلا أخلاق، هذا أحد الكفّار الجاهليين في ليلة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا أمام داره، اقترح أحدهم أن يتسوُّرا بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقفزوا من فوق السور، فقال أبو جهل وهو أجهل الجهلاء، قال له: أتريد أن تقول العرب عنّا، أنَّا تسوُّرنا الحيطان وهتكّنا ستر بنات محمد، صلى الله على سيدنا محمد، هذا الجاهلي أبى أن يتسوُّر البيوت، لكن الجاهليين في القرن الواحد والعشرين، يُروّعون النساء والأطفال، ورأينا ما كان في بلدنا، ونرى اليوم ما يحصل في غزَّة، من الجاهليين الذين تصغر أمامهم جاهلية قبل الإسلام، يتسوُّرون البيوت، ويكسرون الأقفال، ويُروُّعون النساء، ويهتكون الأستار، ولا يقول أحدٌ فيهم، لا من نُخبهم ولا من عامتهم، كيف نهتك ستر النساء. |
ماذا كان في الجاهلية؟
ماذا كان في الجاهلية؟ هذا أبو سفيان قبل أن يُسلِم، قال له هرقل لمّا ذهب إلى بلاد الروم، قال له عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم: <<هل تتهمونه بالكذب؟ قال: لا، قال: وهل يغدُر؟ قال لا، قال: وهل يقتُل؟ قال: لا، يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء أن يأثروا عليَّ الكذب لكذبت>>، استحيا أن يكذب، وهو يواجه عدُّواً من ألد أعدائه وقتها، لكنه لم يكذب، لكننا نجد من الجاهليين في القرن الواحد والعشرين، من يفتري على الآخرين الكذب، ويكتب المنشورات، ويتحدث ويُشيع الفاحشة، ولا يقول لولا الحياء أن يؤثَر عليَّ لكذبت. |
هذا زهير بن أبي أُمية، لمّا حوصِر النبي صلى الله عليه وسلم في شعب أبي طالب، نهض بين قومه وقال: أنأكل الطعام، ونلبَس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع ولا يُبتاع منهم، والله لا أقعُد حتى تُشق هذه الصحيفة الظالمة، لكننا اليوم في جاهلية القرن الواحد والعشرين، تُحاصر غزَّة منذ خمسٍ وعشرين سنة، والآن منذ أشهُر لا يدخل إليها طعامٌ ولا شراب، وما نهض عاقلٌ من الجاهليين، الذين يحملون الشهادات العُليا، ممن يقدرون على فعل شيء، ليقول أنأكل الطعام، ونلبَس الثياب، وأهل غزَّة لا يأكلون ولا يشربون! |
هذا عنترة الصعلوك الفقير، يقول: |
إِنّـي اِمرُؤٌ سَمـحُ الخَليقـَةِ مـاجِـدٌ لا أُتبِعُ النَفسَ اللَجوجَ هَواها وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي حَتّى يُواري جـارَتي مَـأواهـا{ عنترة بن شداد }
جاهلية القرن الواحد والعشرين:
لكن في جاهلية القرن الواحد والعشرين، تجد بعض الشباب يقفون أمام مدارس الفتيات، ليُمعنوا النظر، أو تجد في جاهلية القرن الواحد والعشرين، من يقف على شُرفة منزله، ليُمتِّع نظره بالغاديات والرائحات، ولا يغض طرفه إن بدت له جارته، أنا لا أمدح الجاهلية، أنا أذمُّها، لكن أريد أن أُبيِّن أن الجاهلية ليست فترةً زمنيةً انقضت، ولكن في عصورٍ مُتأخرة، ظهرت الجاهلية أكثر مما كانت قبل الإسلام، عند بعض المسلمين والعياذ بالله. |
كيف تحدث القرآن عن الجاهلية؟
أيُّها الإخوة الكرام: كيف تحدث القرآن عن الجاهلية؟ القرآن الكريم ذَكَرَ لفظ الجاهلية في أربعة مواضع، وأضافها إلى أربع كلمات: |
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154)(سورة آل عمران)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)(سورة المائدة)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)(سورة الأحزاب)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(26)(سورة الفتح)
هذا حديث القرآن عن الجاهلية. |
أمّا (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) فإنه يؤدّي إلى فساد التصوُّرات، تصوُّر غير صحيح، عقيدة غير سليمة (ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ). |
وأمّا (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ) فيؤدّي إلى فساد الأحكام والأقضية، أن نحكُم حُكم الجاهلية. |
وأمّا (تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ) فهو فساد النساء، وإذا فسدت المرأة فسد المجتمع كله. |
أما (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) فهي فساد العلاقات وفساد المجتمع بعد ذلك. |
أولاً ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ: قال تعالى: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ). |
أيُّها الكرام: من عرف ربه عرف نفسه، ولن تعرف نفسك ولا الحياة معرفةً صحيحةً، إلا إن عرفنا خالقنا جلَّ جلاله، يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء }
(أخرجه أحمد والدرامي وابن حبان)
أسوأُ ظنٍ يظنه الإنسان ويفسِد تصوُّره وعقله أن يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية:
ما تظنه بالله، الله عند ظنّك به، إن ظننت أنه يغفر فإنه يغفر ويرحم جلَّ جلاله، وإن ظننت أنه سيُحاسِب فهو كذلك سيُحاسِب جلَّ جلاله (أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظُنَّ بي ما شاء) أسوأُ ظنٍ يظنه الإنسان ويفسِد تصوُّره وعقله، أن يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية، لو كان الإنسان في أعلى منصبٍ في الأرض، ولم يكن عنده تصوُّرٌ صحيحٌ عن الخالق، فلن تصلُح حياته، مستحيل، أعظم فرية، أعظم كذبة، أن يقول الإنسان على الله شيئاً لا يعلمه، ربما نتهيَّب أن نقول شيئاً عن إنسانٍ وهذا مطلوب، أن نغتابه، لكن ما أعظم فرية وكذب، أن يقول الإنسان على الله شيئاً لا يعلمه، لأنَّ الله تعالى عندما رتَّب المعاصي ترتيباً تصاعدياً، جعل في نهايتها: |
إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(169)(سورة البقرة)
وقال تعالى: |
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(103)(سورة المائدة)
من ظنَّ أنَّ الله يخذل أولياءه، فقد ظنَّ بالله ظنَّ الجاهلية، ولو ظنَّ أنَّ الله ينصر أعداءه على أوليائه، فقد ظنَّ ظنَّ الجاهلية، الله تعالى قد يُقيم أعداءه، يقيمهم يجعل لهم قائمةً، ليمتحن عباده المؤمنين، لكن معاذ الله أن يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً. |
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(141)(سورة النساء)
فإن وجدت سطوةً منهم، فاعلم أنَّ هناك إشكالاً عندك، لأنَّ وعد الله لا يتخلف، لكن لا نظن بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية، لا نظن أنه تخلَّى عنّا، ولا عن أهلنا في غزَّة حاشاه جلَّ جلاله، ولكنه يتخذ من يشاء منهم شهداء، ويرفع من يشاء منهم إلى أعلى الدرجات، ويُكفِّر عن ما شاء منهم من أعظم الخطيئات، ويمتحن بهم عباده، ويمتحن بهم من حولهم، ويمتحن الأمة كلها بهم، ثم يُظهِر الله آياته، إنَّ الله عزَّ وجل ليقوي أعداءه أحياناً، حتى يقول ضعاف الإيمان، أين الله؟ ثم يُظهِر آياته على الناس جميعاً، حتى يقول الكفّار لا إله إلا الله، سُنَّة الله ماضية، لكن الله لا يخذل أولياءه ولا ينصر أعداءه، حاشاه جلَّ جلاله، من ظنَّ أنَّ الله ينصر أعداءه على أوليائه، فقد ظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية معاذ الله. |
قد يُملي لهم: |
وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)(سورة القلم)
يعطيهم فرصة، يُطوُّل لهم الحبل، حتى يظن ضعاف الإيمان أنَّ هؤلاء يتحركون وحدهم، يقول لك اليهود يحكمون العالم، لا أحد يحكم العالم إلا الله جلَّ جلال الله، ضرب الله مثلاً في هذه الآية عن هذا الموضوع قال: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ). |
سفينةٌ عملاقة تمخُر عباب البحر، تتوجه من الشرق إلى الغرب، قام أحمقٌ على ظهر السفينة وقال: سأُخالف السفينة وسأمضي من الغرب إلى الشرق، لكنك أيُّها الأحمق - حاشاكم - على ظهر السفينة، تحرك كيف ما شئت، لكن السفينة ماضيةٌ في الاتجاه الذي يحركها ربّان السفينة، أنت تحرك لكنك فوقها. |
يوم كنّا صغاراً قبل وسائل الإعلام الحديثة، كان مسرح العرائس، لمّا يذهب إليه الأطفال، يظن الأطفال لجهلهم أنَّ العرائس تتحرك وحدها، لكن الكبار يعلمون أن هناك من يُمسِك بها ويحركها، يظن ضعاف الإيمان، أنَّ الكون يتحرك وحده، وأنَّ أعداءنا يفعلون ما يحلو لهم وحدهم، لكن المؤمنين حقاً، يعلمون أنَّ الله عزَّ وجل هو الذي يُحرِّك الكون كله، بحكمته وبمشيئته. |
من ظنَّ أنَّ الله أجبر عباده على المعصية فقد ظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية:
أيُّها الإخوة: من ظنَّ أنَّ الله أجبر عباده على المعصية، فقد ظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية، الله لا يجبر على المعصية |
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(28)(سورة الأعراف)
تقول له صلِّ، يقول لك حتى يأذن الله، لم يأذن لك الله أن تُصلّي حتى الآن؟! من ادّعى أنَّ الله أجبره على ترك طاعة، أو فعل معصية، فقد ظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية، من ظنَّ أنَّ الله يكافئ في الدنيا ويعاقب في الدنيا فحسب، وكأنَّ الدنيا منتهى الآمال ومحط الرحال، فقد ظنَّ بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية، الحساب يوم القيامة |
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)(سورة آل عمران)
(وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). |
فساد التصوُّر يؤدّي إلى فساد العمل:
أيُّها الإخوة الأحباب: فساد التصوُّر يؤدّي إلى فساد العمل |
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)(سورة الماعون)
هذا فساد التصوَّر، يظن أنه ليس هناك منهج، ولا دين، ولا يوم قيامة، ما النتيجة؟ |
فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)(سورة الماعون)
التصوُّر، ظن الجاهلية يؤدّي إلى فساد في السلوك. |
{ مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيَسْكُتْ }
(أخرجه البخاري)
هذا تصورُّ صحيح (فَلْيُحْسِنْ إلى جارِهِ) هذا السلوك، فدائماً السلوكات تأتي من التصوُّرات. |
ثانياً حكم الجاهلية: قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). |
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)(سورة النساء)
من يحتكم إلى الأقضية الأرضية ويأخذ شيئاً ليس حقاً له فقد حَكم حُكم الجاهلية:
امرأةٌ في الغرب، مثلنا خرجت من بلاد الشام في هذه السنوات العجاف، خرجت إلى الغرب، يتصل بي أحد أقربائها، مُصرةٌ على أن تأخذ نصف أملاك زوجها وفق القانون الأمريكي، وهي تعلم أن حكم الله يقول لها لك المَهر، لكن تقول نحتكم إلى القانون، امرأة مسلمة، رجُل مُسلم يُصلّي في المساجد، تقول له هذا ليس حقاً لك، يقول لك: بيني وبينك المحاكم، ما دام الحق ليس لي المحاكم تأخذه لي (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) |
من يحتكم إلى الأقضية الأرضية التي تخالف شريعة الله، ويأخذ شيئاً ليس حقاً له بحكم القانون، فقد حَكم حُكم الجاهلية (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) اليوم موجة متكررة على وسائل الإعلام من الاجتراء على أحكام الله تعالى، يوم أمس، عالم أزهري يخرج ليقول: نريد أن نُجري استفتاءً على أحكام المواريث، المواريث التي قررها الله في كتابه بنصوصٍ مُحكمة، يريد أن يستفتي عليها الناس! كيف يريد الأب أن يوزِّع الميراث، نتركه له، اجتراء على أحكام الله تعالى، طعن في الأحكام التي جعلها الله تعالى للمرأة في الحجاب، هذا يحدث اليوم بوسائل الإعلام (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ). |
الثالث تبرُّج الجاهلية: قال تعالى مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ومخاطباً نساء المؤمنين من بعدهن إلى يوم القيامة: |
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33)(سورة الأحزاب)
جاهليِّي ما قبل الإسلام لو رأوا تبرُّج النساء في زماننا لقالوا نحن مؤمنون:
أي هناك جاهليةٌ ثانية، والله إنَّ جاهليِّي ما قبل الإسلام، لو رأوا تبرُّج النساء في زماننا، لقالوا نحن مؤمنون، لو نظروا إلى الشاشة التي تخرج عليها النساء، لظنّوا بأنفسهم الخير، لو رأوا بعض النساء المحجبات اللواتي يتسابقن لالتقاط الصور، مع بعض المنحرفين والمنحرفات، لتحظى الواحدة منهن بصورةٍ، أمام فلان من الضالين والضالات، لقالوا في أنفسهم نحن لسنا جاهليين هؤلاء هُم الجاهليون. |
الحمية هي الأنفة التي تمنع الإنسان من قبول الحق:
والرابع حمية الجاهلية: قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) ما هي الحمية؟ هي الأنفة التي تمنع الإنسان من قبول الحق، تقول له: قال الله وقال رسول الله، يقول لك: نحن اليوم بعصرٍ جديد، يحتاج إلى أشياءٍ أُخرى، يأنف أن يتَّبع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، الأنفة، ما الذي منع أبا طالب، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وناصره وأيَّده ووقف معه، ما الذي منعه في اللحظات الأخيرة أن يقول: أشهد أنَّ لا إله إلا الله، قال: "وتعيرني بنو عبد المطلب يقولون إنما أسلم خوفاً من الموت"، الأنفة حمية الجاهلية، كثيرٌ من المشركين لم يكونوا يكذِّبون النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمون أنه مُحق، قال تعالى: |
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33)(سورة الأنعام)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(14)(سورة النمل)
يعلم الحق لكنه يأبى أن يتَّبعه، أعرف عائلةً كانت في الشام، لكن قديمة، أعرفها تماماً، منع ربّ الأسرة أي بنتٍ من بناته، أو كنّةٍ من كنائنه، أن تتحجب، لأنَّ الوضع الاجتماعي له في البلد، والمكانة والعلاقات مع المسؤولين، لا تسمح أن يكون في بيته محجبة، ويُصلّي في المساجد!! حمية الجاهلية، العشيرة، القبيلة، الطائفة، أنا من بني فلان، لا أسمح، من أنت؟! إذا كان حكم الله يقول لك افعل. |
{ كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ وقال المُهاجريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ قال: فسمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك فقال: ما بالُ دَعْوى الجاهليَّةِ؟ فقالوا: يا رسولَ اللهِ رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ كسَع رجُلًا مِن الأنصارِ فقال: دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ، فقال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولٍ: قد فعَلوها لئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ فقال عُمَرُ: دَعْني يا رسولَ اللهِ أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ فقال: دَعْه لا يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحمَّدًا يقتُلُ أصحابَه }
(أخرجه البخاري ومسلم وابن حبان)
رائحتها سيئة، تقول يا قومي ويا عشيرتي، أنا من قوم فلان، حتى يتكلم معي، أنا من الطبقة الارستقراطية (دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ). |
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(13)(سورة الحجرات)
{ لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ: إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمَ، وآدمُ من ترابٍ }
(الألباني شرح الطحاوية)
أيُّها الكرام: |
فساد التصوُّر يأتي من ظن الجاهلية، وفساد الأحكام يأتي من حُكم الجاهلية، وفساد النساء يأتي من تبرُّج الجاهلية، وفساد العلاقات ثم فساد المجتمعات يأتي من حمية الجاهلية. |
كلما أبصرت خوضات البشر فـي متـاهـاتٍ تـنـوء بالـفِكـَر كـلـما طالعــت مُبتدَع الصـور قـلت في عـزة من أوعى العِبر لســت أرضــى الــجــاهـلـيـة * * * كـلـما أدركـت خـبط الـتـائهـيـن في اعتزالٍ عن هدى ربي المبين كـلــمـا عايـنــت تيه المـلحديـن في فسـاد الخُلـق والفن المـهين قـلـت فــي عـزة أربـاب الـيقيـن لســـت أرضــى الــجــاهــلـيــة * * * هـدَّمـت كــل المـكـارم والـقيـَم أفسـدت طُهر الضمائر والذمـم واستباحـت هتـك أستار الــحُرم نـافـسـت إبليـس في بـث الـنِقـم ومضت تُـعلـي بـدنيـانـا الصــنم لـســـت أرضــى الــجــاهــلـيـة * * *
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ويا فوز المستغفرين. |
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات. |
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين. |
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا. |
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومعيناً وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً. |
اللهم إنهم قد تخلّى عنهم القريب والبعيد، وحاشاك أن تتخلّى عنهم، فأنت ربنا وربهم، نسألك يا أرحم الراحمين أن تُعجِّل بالفرج عنهم، وأن تُعجِّل بهلاك عدوهم. |
اللهم إنَّ أعداءنا يقولون من أشد منّا قوة، وقد غاب عنهم أنك أشد منهم قوة، فإنّا نسألك يا الله أن تأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر. |
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشدٍ، يُعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمَر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر. |
اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً، ووفِّق القائمين عليه للعمل بكتابك ولما فيه مرضاتك، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه، أستغفر الله، والحمد لله رب العالمين. |