• محاضرة في الأردن
  • 2018-02-01
  • عمان
  • الأردن

الخشوع فريضة أم فضيلة


تعريف الخشوع :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد إخواني؛ عنوان المحاضرة: الخشوع فضيلة أم فريضة.
الحقيقة أنني لن أجيب عن هذا السؤال في بداية اللقاء، وإنما سأؤخر الإجابة إلى الدقائق الأخيرة إن شاء الله، لأن فحوى هذا اللقاء يُجيب وحده على السؤال.
الخشوع لغةً هو السكون، قال تعالى:

وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
[ سورة الحج:5 ]

الخشوع سكون القلب
الاهتزاز عكس الخشوع، فالأصل في الأرض أنها خاشعة ساكنة، فلما جاءها الماء اهتزت، كناية عن تحرك البذور في داخلها، وتحرك التربة، فأصبحت قابلة للإنبات، فالأصل في الخشوع لغة هو السكون، شرعاً هو السكون أيضاً، لكن سكون محدد وهو سكون القلب، أن يسكن القلب عند ذكر الله، أن يسكن القلب وأنت في الصلاة، أن يسكن القلب وأنت تطوف حول الكعبة، أن يسكن القلب وأنت تعتمر، وأنت تحج، حتى أن يسكن القلب وأنت تدفع صدقةً، حتى أن يسكن القلب وأنت ترى ما حلّ بديار المسلمين، وما حلّ بالناس، فتخشع لرؤية ما ترى من أهوال، هذا كله من الخشوع وهو سكون القلب، سكون القلب هو الخشوع.
العبادة ليست عادة
الآن أكثر ما يطلق الخشوع يطلق على الصلاة، ما معنى سكون القلب في الصلاة؟ أي أن القلب متوجه إلى الله عز وجل بكليته لا يشغله شاغل، العوام يمزحون إذا ضاع لأحد شيء ما، ولم يجد هذا الشيء، يقولون له: اذهب وصلِّ فسوف تجده، لا بمعنى أن تصلي وتدعو الله فتجده، بل لأنه في الصلاة يفكر بكل شيء إلا الصلاة! فيتذكر أين وضعها، أما خارج الصلاة فتكون مشغولاً فلن تنتبه، طبعاً هذا الكلام للمزاح، لكن هو حقيقة يحدث أحياناً، وهذه مشكلة أن يُفكر الإنسان داخل الصلاة في كلّ شيءٍ إلا الصلاة، أحياناً الأشخاص الذين يذهبون إلى الحج، تزورهم بعد الحج يحدثك عن كل شيء في الحج إلا الحج، يتحدث عن الماء البارد، وكيف خرجوا، وكيف تأخرت الحافلات، وتجلس معه ساعات، والحج؟! ما الأحوال في الحج؟ كيف شعرت؟ كيف وقفت في عرفات؟ كيف طفت حول الكعبة؟ ماذا وجدت في الطواف؟ في السعي؟! لا يحدثك عنهم، فهذه مشكلة أن تصبح العبادات عادات، العبادة ليست عادة، لذلك قالوا: عادات المؤمن حسنات، وعبادات المنافق سيئات، عادات المؤمن عبادات بمعنى المؤمن من عادته أن يصحو صباحاً ويذهب إلى عمله، هذه عادة، لكن هو كلما خرج من بيته نوى بهذا العمل أن يخدم المسلمين، ويخدم الناس عامةً، ويكفي نفسه وأهله، فتصبح عادته تلك عبادة، بينما المنافق عباداته سيئات، لأنه حتى وهو يقف في العبادة يأخذ سيئات، لأنه إنما يصلي رئاء الناس، وقلبه مشغول بكل شيء إلا الصلاة.

خشوع القلب في الصلاة وفي كل عبادة :
لو عدنا إلى موضوعنا الخشوع هو سكون القلب كما قلنا، والخشوع أكثر ما يطلق في الصلاة، لذلك سنتحدث عن خشوع القلب في الصلاة، ويقاس عليه الخشوع في كل عبادة أخرى، بدايةً انظروا إلى قوله تعالى:

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
[ سورة البقرة: 45]

بدأ بالصبر ثم بالصلاة، لأن الصلاة أخص من الصبر، الصبر أعم من الصلاة، أنت في صلاتك تصطبر لله:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
[ سورة طه: 132]

الصبر يرافقك في كل حركات حياتك
لكن الصبر أعم من الصلاة، في الصوم تصبر، وعندما يمر أمامك منظرٌ لا ينبغي أن تنظر إليه تصبر وتغض بصرك، فالصبر يرافقك في كل حركة من حركات حياتك، وعندما يأتيك مبلغ من مال فيه حرام تصبر عنه، وعندما- نسأل الله السلامة- يأتيك خبر لا يسرك تصبر على قضاء الله وقدره، فالصبر عام، الصلاة أخص من الصبر بهذا المعنى، فلذلك بدأ بالصبر ثم عطف الخاص على العام، فقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) وهو الكتلة الكبرى، والإيمان نصفان صبر وشكر، ثم ثنّى بالصلاة وهي ضمن الصبر، قال:

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ
[ سورة البقرة: 45]

الخشوع في الصلاة يجعلها متعة روحية
الآن (وَإِنَّهَا): هذه الهاء ضمير، الضمير يعود على ما قبله، يعود على ماذا؟ على الصبر؟! لا، لأن الصبر مذكّر، كان سيقول: وإِنَّهُ! قال (وَإِنَّهَا) فيعود على آخر مذكور مؤنث وهو الصلاة، (وَإِنَّهَا) أي الصلاة (لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) صعبةٌ جداً، الصلاة ليست بالسهلة، لأنه من الممكن عوضاً عن الصلاة أن تجلس وتتابع في هذه الربع ساعة الخاصة بالصلاة مقطع مسلسل مضحك، أسهل على النفس بكثير، أن تجلس مع زوجتك أسهل، تستطيع أن تلاعب أولادك، أسهل، تستطيع أن تفعل أي عمل آخر، سهل جداً على النفس، أما الصلاة ففيها حبس، والصبر حبس النفس عن الشيء، فأنت تحبس نفسك لمدة معينة لتؤدي حركات مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم وفق منهج الله عز وجل، قال: (وَإِنَّهَا) أي الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) أي صعبة، ليست بالشيء السهل، لأنها تكليف، والتكليف من الكلفة، أي شيء فيه كلفة سمي تكليفاً، قال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) الخاشعون في صلاتهم لا يجدون الصلاة كبيرةً، كبيرةً بمعنى ثقيلة، لا يجدون الصلاة ثقيلة، يجدونها سهلةً، فينقلب حالهم من حال بعض المسلمين (أرحنا منها يا بلال) إلى حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (أرحنا بها يا بلال)، تصبح الصلاة متعة روحية، لا يتمنى أن تنقضي، لأنه يقف فيها بين يدي الله، يناجي ربه، أنت إذا أردت أن يكلمك الله فاقرأ القرآن، وإذا أردت أن تكلم الله فقف في الصلاة، القرآن خطاب الله لك، الصلاة مناجاتك لله، الحركة الراجعة، فإذا كان المؤمن يجد في صلاته خشوعاً، يسكن قلبه فيها لا يتمنى أن تنقضي، كل واحد منا له تجربة مع صلاة تمنّى ألا تنقضي، مثلاً: في رمضان في التراويح وقف خلف الإمام، ونفسه صافية، وعمل عملاً صالحاً، وله وجهة إلى الله عز وجل، ووقف في الصلاة، قال: والله تمنيت ألا يركع الإمام وهو يقرأ، يا ليته قرأ عشر صفحات أخرى، كل واحد فينا مرّ بهذه التجربة، لو أن هذه التجربة تكررت! ربما لن تحصل في كل صلاة، ولكن لو حصلت تحصل بالليل، دائماً في صلاة الليل مثلاً شيء عظيم، نسأل الله أن يعيننا، فموضوع الخشوع في الصلاة ينقل الصلاة من حال أنها ثقيلة على النفس، إلى حال أنها مريحة للنفس، فلا يقوم الإنسان إلى الصلاة كالمنافقين، قال تعالى:

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
[ سورة النساء: 142]

بل يقوم إليها بنشاط، يؤذِّن المؤذِّن فينهض فوراً، لأنه يجد في الصلاة متعته، تماماً كما يجد الناس متعتهم في الدنيا، الآن إذا قلت لإنسان: تفضل في هذا المكان يوجد جلسة طيبة، وتوزيع حلويات، ومزاح، يقوم فوراً لأنه يجد متعته، فالمؤمن إذا وجد متعته في الصلاة ينهض بنشاط كما ينهض أهل الدنيا إلى دنياهم بنشاط.
إخواننا الكرام؛ (وَإِنَّهَا) الصلاة (لَكَبِيرَةٌ) أي صعبة ثقيلة على النفس (إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) فالخاشعون يجدون في الصلاة متعتهم، سعادتهم، أُنسهم بالله، إزاحة لهموم الدنيا عنهم، يقول لك: أنا في الصلاة أنسى هموم الدنيا، أتوجه إلى الله فأجد متعتي، هذه آية واضحة في مفهوم الخشوع.

النجاح و الفلاح :
أيضاً آية ثانية:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
[ سورة المؤمنون: 1]

الفلاح يكون بتحقيق الهدف من وجودك
الفلاح في القرآن الكريم، الله لا يذكر النجاح في القرآن، لأن النجاح جزئي، بمعنى إذا نجح طالب في الامتحان يقول: نجحت، ولكن متى يقول: قد أفلحت؟! إذا كان نجاحه شمولياً، ولا يكون النجاح شمولياً إلا إذا حققت الهدف من وجودك، أنت لماذا وجدت في الدنيا؟ من أجل أن تعبد الله، العبادة بمعناها الواسع، فإذا عبدت الله كما يريد الله تكون من المفلحين، أما أهل الدنيا فقد ينجحون، شخص ينجح في كسب مال، وشخص آخر ينجح بتجارة، وشخص ينجح بامتحان، وشخص ينجح بشهادة عليا، وشخص ينجح بتربية أولاده، كلُّهم أطبّاء، يقول لك: نجح، أما أن يقول: أفلح، أي حقق الهدف من وجوده.
أي عمل يوصلك إلى الله فهو فلاح، فالقرآن يتحدث عن الفلاح ولا يتحدث عن النجاح، فهنا قال:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
[ سورة المؤمنون: 1-2]

ما قال:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) الذين يصلون، قال: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) فربط الفلاح بالخشوع ولم يربطه بمجرد الصلاة، ربط الفلاح بسكون القلب، بتوجه القلب إلى الله، بانشغال النفس في الصلاة، بمن تصلي له، لا بكل شيءٍ إلا بالله! فالفلاح ارتبط هنا بالخشوع:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ
[ سورة المؤمنون: 1-2]

ثم تابع صفات المؤمنين.
الآن إخواننا الكرام؛ هاتان الآيتان أكتفي بهما بموضوع الخشوع، وهناك آيات أخرى، أنتقل أيضاً إلى حديثين قبل أن أدخل في تفاصيل موضوع الخشوع، كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول:

{ أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلاةُ }

[ أخرجه الحاكم في المستدرك وصصحه]

أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، تبقى الصلاة، تبقى الصلاة الشكلية التي هي حركات وسكنات مع عدم حضور القلب، وآخر ما تفقدون- نسأل الله السلامة- الصلاة.
يوجد حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم:

{ أوَّلُ شيءٍ يُرْفَعُ مِنْ هِذِهِ الْأُمَّةِ الخشوعُ حتى لا تَرَى فيها خاشِعًا }

[أخرجه الطبراني بسند صحيح]


طرق الخشوع في الصلاة :
1 ـ الاستعداد للصلاة و التهيؤ لها :
النداء للصلاة جزء من الصلاة
إخواننا الكرام؛ هذه نصوص، الآن لو انتقلنا إلى آليات أو طرق كيف نخشع في صلاتنا؟ خمسة أمور تعينك على الخشوع في الصلاة، أولاً: الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، مثال: لو أن عندك موعداً مهماً، مقابلة عمل تنتظرها من فترة، والموعد في الساعة الرابعة، هل تنهض في الساعة الرابعة إلا ربع، فتلبس أي ملابس وتنزل بسرعة وتصل عوضاً عن الرابعة في الرابعة والربع أم تبدأ من الساعة الثانية التخطيط للموعد؟ تبدأ الساعة الثانية طبعاً، وإذا كان الموعد في فرع مخابرات قد تبدأ قبل يومين بالتخطيط! تبدأ قبل يومين بالتخطيط، لأنه يوجد هيبة، يوجد وقار، تقول: ماذا سيتكلمون؟ لماذا استدعوني؟ ماذا هناك؟ ماذا فعلت؟ تراجع حساباتك، تفكر في الأفكار التي أتت لك، لربما يعلمون شيئاً! فإذا كان عندك موعد مهم تستعد له، هل من موعد أهم من الوقوف بين يدي الله عز وجل؟! موعد مع الله، فينبغي أن تتهيأ له، أنا لن أقول قبل ساعة أو ساعتين، أنا سأقول من لحظة أن يقول المؤذن: الله أكبر، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم النداء للصلاة هو جزء من الصلاة، فبمجرد ما سمعت المؤذن يقول: الله أكبر، انقطعت عن الدنيا الآن، لو كنت بعمل، فقد أصبح ذهنك في الصلاة، وأنت تتابع عملك لو كنت مضطراً لا يوجد مانع، لكنك أصبحت مع المؤذن:

{ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة }

[صحيح مسلم]

(إذا أذّن المؤذن فقولوا مثلما يقول)، بدأت أنت بالدخول في أجواء الصلاة قبل ربع ساعة أو ثلث ساعة من الصلاة، (فقولوا مثلما يقول إلا في قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله) لأن حيّ على الصلاة دعوة إلى الصلاة فناسبها أن تقول: لا حول عن معصية الله ولا قوة على طاعته إلا به، (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأنت الآن بدأت بأجواء الصلاة من لحظة قال المؤذن: الله أكبر، فبدأت تردد معه، تجيبه، المؤذن يدعوك إلى الصلاة، فأنت بدأت الآن بإجابة المؤذن، هذا أول استعداد للصلاة، (ثم صلوا عليّ)، فصلِّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك تدعو، هناك دعاء مأثور، تقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته":

{ يقول النبي: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة }

(رواه البخاري في صحيحه، زاد البيهقي في آخره: إنك لا تخلف الميعاد بإسناد حسن)

الآن أنت دخلت في جو آخر، جو الدعاء.

الوضوء و أخذ الزينة عند كل مسجد :
الوضوء استعداد للصلاة
الآن الوضوء للاستعداد للصلاة، تتوضأ، الوضوء طبعاً (أسبغوا الوضوء على المكاره)، بعد الوضوء تدعو بدعاء: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هذه كلها استعدادات للدخول في الصلاة، هذه كلها تعين على الخشوع ، أما بلحظة معينة ترك العمل وفوراً الله أكبر واتجه للصلاة! لم يستعد، لم يَتهيأ، أيضاً من الاستعدادات للصلاة، قال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
[ سورة الأعراف: 31 ]

قال العلماء: أخذ الزينة عند كل مسجد أي عند كل صلاة، ليس المسجد المعروف اليوم المكان الذي يجتمع الناس فيه للصلاة، عند كل مسجد أي عند حلول كل وقت صلاة خذ زينتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ، فإن الله أحق من تزين له }

أي أنت تتزين للقاء الناس، تتزين للقاء شخص مهم، تتزين لموعد معين فتلبس أجمل ثيابك، فإن الله أحق من تزين له، لكن زينة الصلاة لا تعني أن يلبس الإنسان ثياباً غاليةً أو جميلة جداً، لا، لكن يعني أن تكون الثياب طاهرة، اشتُريت بمالٍ حلال، نظيفة، لا أن يصلي الإنسان بالثوب الواحد، بالصيف يرتدي- عفواً - قميصاً بلا أكمام، لا يجوز، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ إذا صَلَّى أحدُكم فلْيَلْبَسْ ثوبيه؛ فإنَّ اللهَ أحقُّ مَن يُزيَّن له, فإنْ لم يكن له ثوبانِ, فليتَّزرْ إذا صلَّى, ولا يَشتمِلْ أحدُكم في صلاتِه اشتمالَ اليهودِ }

[رواه الطبراني والبيهقي]

التزين للصلاة يعني نظافة وطهارة الثياب
(إذا صَلَّى أحدُكم فلْيَلْبَسْ ثوبيه) أي ثوب بالأسفل وثوب بالأعلى، وإن صلّى الإنسان حاسر الأعلى وستر عورته صحّت صلاته فقهاً، لكن أدباً ما صحّت صلاته، أي سقط الوجوب، لكن لم يحصل المطلوب كما يجب، فمن الأدب مع الله عز وجل أن يلبس الإنسان ثياباً نظيفة غير ممزقة، ليس بها رائحة، أي يتزين لصلاته، وكلما كان أكثر قرباً من الله عز وجل ومحبةً لله يبالغ في طهارة نفسه وبدنه عند الوقوف بين يدي الله عز وجل.
الإمام مالك- الشيء بالشيء يذكر- رضي الله عنه: كان إذا جاءه الناس- الإمام مالك إمام دار الهجرة- يطرقون الباب فيخرج إليهم الخادم، فيسلمون يريدون الإمام مالك، فيقول: الإمام مالك يسألكم تريدون الحديث أم المسائل؟ أي أنتم ترغبون بسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ترغبون بمسألة فقهية أي حكم فقهي؟ - وقعت في طلاق زوجتي هل وقع الطلاق أم لا؟ هذا حكم مسألة- أم تريدون الحديث؟ فإن قالوا: المسائل، خرج إليهم فأجابهم، وانتهت، فإن قالوا: الحديث، قال: ادخلوا، فدخلوا، فدخل إلى مغتسله فاغتسل، ثم تطيب، ثم لبس أحسن ثيابه، ثم خرج فوضع العود بين يديه فلا يزال يبخر بالطيب، البخور رائحة جميلة بالغرفة، قال: فلما سئل عن ذلك، ربع ساعة ننتظر حتى يبدأ يروي حديث رسول الله، قال: أحب أن أعظّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لا أروي الحديث وأنا بأي هيئة، بأي شيء، بل يجب أن يكون المجلس طيباً مباركاً، فلذلك الإنسان عندما يقوم إلى صلاته ينظف ثيابه، ينظف بدنه، هذا كله من التهيؤ للصلاة.
إخواننا الكرام؛ الأمر الأول إذاً بالخشوع في الصلاة الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، يبدأ من لحظة أن يقول الإمام: الله أكبر إلى لحظة الوقوف بين يدي الله عز وجل، هذا كله تهيؤ للصلاة، يعينك على الخشوع في الصلاة .

2 ـ الطمأنينة في الصلاة :
الطمأنينة تعين على الخشوع
الأمر الثاني في الخشوع في الصلاة أو مما يعين في الخشوع على الصلاة: الطمأنينة في الصلاة، إخواننا الخشوع عمل قلب أم عمل جوارح؟ هو عمل القلب، سكون القلب، وممكن أن تلقى إنساناً بظاهره هو خاشع لكن في حقيقته ليس بخاشع، شخص دخل مسجداً يريد إيداعَ مبلغ من المال مع أحد الناس، قبل أن يسافر إلى الحج، فنظر في الناس فوجد شخصاً خاشعاً في صلاته، وعيونه في الأرض لا تزيغ، وجسمه ثابت على الأرض، لا يتلفّت، متجه بكليته إلى الله، فيما يبدو للناس، القلوب بيد الله، فقال: هذا أفضل إنسان، جاءه قال: يا أخي أنا أريد أن أذهب إلى الحج هذا مبلغ من المال أبقه لي عندك حتى أعود، فرح الرجل وقال له: إذا أحببت فأنا صائم أيضاً، قال له: صلاتك أعجبتني، ولكن صيامك لم يعجبني أبداً!!
فقد تجد خشوعاً في الجوارح ولا يكون في القلب، هذا نفاق والعياذ بالله، نسأل الله أن يجيرنا منه، وفي الحديث الشريف:

{ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيَزِيدَ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رجلٍ }

[سنن ابن ماجة بسند حسن]

الله مطلع عليه ولا يزين صلاته، ثم يشعر أن فلاناً دخل إلى الغرفة فيزين صلاته، يطيل ركوعها وسجودها وقراءتها لأن شخصاً يراقبه، هذا شرك خفيٌّ، لأنه رأى أن هذا الرجل مراقبته له في صلاته أكبر من مراقبة الله له، نسأل الله العافية، هذا أعظم من عدم الخشوع في الصلاة، أن يصبح هناك رياء في القلب وشرك، فأنا أقول: الخشوع أصله في القلب، لكن في الأعم الأغلب تظهر آثاره على الجوارح، بمعنى إذا وجدت إنساناً في صلاته يتلفّت هذا ليس بخاشع، لأنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، لظهر ذلك على جوارحه، فالقلب هو الذي يخشع، لكن ينعكس ذلك على الجوارح، لذلك الفقهاء عندما تكلموا عن الخشوع كَموضوع فقهي تحدثوا عن الطمأنينة، وهي ثاني أمر أحدثكم عنه في قضية الخشوع.
قلت أولاً في الخشوع الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها.
ثانياً: الطمأنينة في الصلاة، ما معنى الطمأنينة في الصلاة؟

{ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئن حتى يرجع كلُّ عظمٍ إلى موقعه }

[صحيح البخاري]

أثناء الحركة العظام تتحرك، فلمّا يقف الإنسان ويعطي وقتاً يشعر أن كل جسمه قد عاد إلى ما كان عليه قبل الركوع، هذا تعبير الصحابة عن اطمئنان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم أيضاً في الصحيح:

{ مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً )) ( حسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد }

عندما تطمئن في صلاتك تكون قد أديت ما عليك
شبّه المصلي بالجائع، فالجائع مفتقرٌ إلى الطعام، والمصلي مفتقرٌ إلى رحمة الله، مفتقرٌ إلى لذّة المناجاة، مفتقر إلى لحظاتٍ ينسى بها هموم الدنيا، ويُقبِل بها على الله، فيمنحهُ الله السكينة في قلبه، هذا افتقار، فشَبه المصلي بالجائع، فالجائع عندما يكون جائعاً كثيراً، ويجلس إلى الطعام فهل يأكل تمرة أو تمرتين؟ لا ، هاتان التمرتان تسمى عند أهل الشام فتح فم، فتح فم قبل الفطور بعدها يقبل على المناسف، وعلى الرز واللحم ويأكل، فالجائع لا يكتفي بالتمرة أو التمرتين، وأنت أيها المصلي ألا تريد رحمة الله؟! فلماذا اكتفيت بسبحان ربي الأعلى ولمَّا تتمها إلا ورفعت رأسك، فأنت تنقرها نقراً ولا تطمئن، فإذا قلت لي: أعطني سراً للخشوع؟ أقول لك: الطمأنينة، لو قلت لي: أريد كلمة واحدة لا تعطيني خمس كلمات أريد كلمة واحدة، والله ما قلت لك إلا الطمأنينة، لأنها هي التي تعين على الخشوع، اسجد واستمر، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، (سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين)، صار القلب مع الله، فلو قلت لي: قل لي سراً في الخشوع؟ أقول لك: الطمأنينة، اطمئن في صلاتك، إذا اطمأننت تكون قد أديت الذي عليك، الآن أطلب من الله السكينة في القلب، سيعطيك إياها إن شاء الله فاطمئن في صلاتك، أيضاً من الأحاديث التي تلفت النظر قال:

{ إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا }

[رواه أبو داود والبيهقي وأحمد]

عُشْرُها: واحد بالعشرة، أي على مراتب الناس يكتب له من صلاته، المطلوب فقهاً حصل، صلّى الصلاة في وقتها، بأركانها، بوضوء، باستقبال القبلة، بالشروط انتهى، لكن ما الذي كتب له منها؟ ما الذي عاد عليه من مردودها؟ العشر، أناس التسع، أناس الثمن، أناس النصف، وهناك أناس كلها، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
الطمأنينة من واجبات الصلاة
إخواننا الكرام؛ هذا موضوع الطمأنينة، أيضاً من الأحاديث التي تدل على الطمأنينة أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته، والذي استدل به الحنفية على أن الطمأنينة واجب من واجبات الصلاة، والواجب عند الحنفية هو مرتبة دون الفرض، بمعنى أنّ من ترك واجباً في الصلاة يلزمه سجود السهو إن تركه سهواً، وإن تركه عمداً بطلت صلاته، فلو قرأت في كتب الحنفية، وجدت أن من واجبات الصلاة: الطمأنينة، واستدلوا بهذا الحديث، حديث المسيء صلاته:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه ، أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ، فَرَجَعَ فَصَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ ، فَقَالَ: " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ " ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فعَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا " }

[أخرجه البخاري ومسلم]

دله على الطمأنينة في الصلاة، فلما نفى عنه الصلاة، فإنك لم تصلِّ، قال الحنفية: الطمأنينة في الصلاة واجب.

3 ـ تذكر الموت :
الآن إخواننا الكرام؛ إذاً كما قلنا، أولاً: الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، أنت ستقف بين يدي الله، ثانياً: الطمأنينة في الصلاة، وهي كلمة السر، والكلمة المفصلية، ثالثاً: وهذا أيضاً أمر مهم تذكُّر الموت، الآن اسمعوا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:

{ اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لَحَرِيٌّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أن يُصلّي صلاةً غيرها }

[أخرجه الديلمي (1/ 431)، (1755)، وصححه الألباني في الصحيحة (1421)]

ذكر الموت في الصلاة يجعلك تحسن صلاتك
(في صلاتك)، داخلها أو قبلها، (لحريٌّ) لجديرٌ، أي لو وقف بين يدي الله فتذكر أنه راجعٌ إلى الله، يحسن صلاته، هكذا للتصور، مثل افتراضي لا وجود له، لو أن إنساناً قيل له: بعد ربع ساعة حان موعد الأجل والموت، وكلنا على هذا الطريق كما يقال، وأنت الآن أمامك ركعتان تصلّيهما، إن شئت فأطل وإن شئت فقصِّر، افعل كما تريد، كيف سيصلّي هاتين الركعتين؟ يأخذ الوقت كله، يطمئن راكعاً، ساجداً، يدعو الله، يبتهلُ، آخر ركعتين، آخر ركعتين فيحسِنهما، فذكر الموت عند الصلاة وفي الصلاة يجعلك تحسن صلاتك، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلِّ صلاة رجل لا يظن أن يُصلّي صلاةً غيرها) بمعنى أي صلاة تصليها اعتبرها آخر صلاة، ولعلها آخر صلاة، هذا واقع، هذا ليس افتراضاً، هذا واقع ممكن أن تكون أي صلاة يصليها أي شخص منا كبيراً أو صغيراً أن تكون آخر صلاة في حياته، فليحسن الإنسان صلاته وهو يقف بين يدي الله الوقفة الأخيرة، ثم سيلقى الله بعدها، والأعمال بخواتيمها، فأحسن خاتمتكَ.
أيضاً في حديث صحيح:

{ جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ، علِّمْني وأوجِزْ، قال: إذا قُمْتَ في صلاتِكَ، فصَلِّ صلاةَ مُودِّعٍ، ولا تَكَلَّمْ بكلامٍ تعتذِرُ منه، وأجمِعِ اليَأْسَ عمَّا في أيدي النَّاسِ }

[ابن ماجة بسند صحيح]

أكثروا ذكر هادم اللذات
إخواننا الكرام؛ الموت ما ذُكر في قليلٍ إلا كثّره، ولا ذكر في كثيرٍ إلا قلّله، بمعنى إذا كانت الحياة صعبة يُذكر الموت فيفتح لك آفاقاً، جاء الفرج، رحمة الله، وإذا كان إنسان يعيش في بحبوحة وذَكَر الموت يشعر بأن البحبوحة أصبحت بحجم حفرة صغيرة، فما ذُكر في قليلٍ إلا كثّره، ولا ذكر في كثيرٍ إلا قلّله، فالموت ذِكْرُهُ ليس تشاؤماً بل ذِكرهُ واقعية حقيقية، ذكره عقل، ذكر الموت من العقل، أما الإنسان الذي لا يذكر الموت فهذا بعيد أن يحسن صلاته، وبعيد أن يحسن صلته بربه، وبعيد أن يُقلع عن المعاصي والآثام، أمّا ذكر الموت: أكثروا ذكر هادم اللذات، عندما قلت لكم تخيل أن آخر ركعتين وكيف يُصليهما الإنسان، حضرني الصحابي الجليل خبيب بن عدي، عندما عيّن سيدنا عمر بن الخطاب سعيد بن عامر الجمحي والياً على حمص، ذكروا له أن هناك مساوئ للوالي، جاؤوا بعد سنة يذكرون مساوئه، أحد المساوئ، قالوا: إنّه تأتيه أحياناً رعشةٌ فيغيب بها عنا، فلما سأل عمر بن الخطاب سعيد بن عامر الجمحي، قال له: ما هذا؟ ماذا يحدث معك؟ قال له: والله كنت في مكة وشهدت مصرع خبيب بن عدي، وكنت واقفاً، وكلّما تذكرت أنّي تركت نصرته يومها أصابتني هذه الرعشة، أتذكر أني كنت أقف أمام مسلمٍ يقتل وأنا لم أفعل شيئاً، تأتيني هذه الرعشة، ماذا حدث مع خبيب؟ خبيب صلبوه، قالوا: أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناجٍ؟ قال: لا والله ما أحب أن أكون آمناً وادعاً في أهلي، عندي قوت يومي، وأن محمداً يوخز بشوكة، فتعالت الأصوات اقتلوه، قال أبو سفيان يومها، وكان مشركاً: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً [السيرة النبوية لابن هشام]
فبدؤوا يضربونه بالرماح، ثم قالوا له: عندك خيار أخير، كعادة من يُقتل، كفار قريش كان لديهم قليل من النخوة، أما كفار اليوم فليس لديهم نخوة أبداً، يقصفونه فوراً من الأعلى بالبراميل، بالمروحية، يُبيدون البلدان فوق أهلها، انعدمت النخوة الآن لدى الكفار، إنهم يريدون قتله ولكنهم سألوه عن رغبته الأخيرة قبل الموت؟ قال: لو تركتموني أصلي ركعتين، قالوا: فافعل، فصلى ركعتين تامتين، لكن خبيباً قال عندما انتهى: والله لولا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعاً من الموت لأطلت، انظر إلى الملمح: سيدنا خبيب يحب الصلاة، واقف بين يدي الله، ولكنه خاف أن يؤتى الإسلام من قِبَلِه، فيقول هؤلاء: أطال الصلاة لأنه خائف من الموت، وهو سيلقى الله بعد قليل فيا حبذا لقاء الله.
إخواننا الكرام؛ إذاً تَذَكُّرُ الموت يُعينك على الخشوع في الصلاة، صلِّ صلاة مودع، إذاً خمسةٌ تُعينك على الخشوع في الصلاة، أولاً: الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، بدءاً بلحظة الله أكبر في الآذان، ثم الإقامة، النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد،

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ }

[رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني]

بمعنى أنك بمجرد بدأ الآذان بدأت مع الله، دعاء، يا رب يسّر، يا رب، فدخلت في أجواء الصلاة قبل الصلاة، ثم إقامة الصلاة، ثم التبكير إلى الصلاة إن استطاع الإنسان أن يصلي جماعة، وهذا خير طبعاً بسبعٍ وعشرين درجة، فلو صلّى في جماعة يبكّر لها، ثم يدخل إلى المسجد ينتظر الصلاة، وأنت في صلاة ما دُمت في انتظار الصلاة، ما دامت الصلاة تحبسكَ فأنت في صلاة، فأنت في صلاة من لحظة الله أكبر بدأت الصلاة عندك وليس من لحظة الله أكبر التي تدخل فيها بتكبيرة الإحرام، بل من لحظة الله أكبر التي ينادي بها المؤذن.

4 ـ تدبر الآيات المقروءة :
أولاً: الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، ثانياً: الطمأنينة في الصلاة، ثالثاً: تذكُّر الموت في صلاتك، رابعاً: وهو مهم جداً، تدبّر الآيات المقروءة.
القراءة من المصحف في الصلاة
إخواننا الكرام؛ اعتدنا كثيراً أن نقرأ في الصلاة سوراً قصيرة مكررة، دائماً (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، ونعم السور، والقرآن كله خير، وهذه قصار السور من إعجاز القرآن وبلاغته، لكن أحياناً الترداد المستمر للشيء بحد ذاته والقرآن ستمئة صفحة، يصبح بشكل لا إرادي يخرج الإنسان من دائرة التدبر إلى دائرة العادة، أما لو نوَّع في قراءته، نوَّع، ولا مانع أن تضع المصحف أمامك إن كنت لا تحفظ، ودعني من الفرض ففيه خلافٌ فقهي، أما في النفل فلا حرج، صلاة قيام الليل، صلاة الضحى، بالنوافل كلها لا يوجد خلاف، بالفرض يوجد خلاف بين الفقهاء، وإن كان الراجح فيه جواز القراءة من المصحف، لكن لو أن الإنسان خرج من الخلاف ولم يقرأ في الفرض من المصحف، فليقرأ من محفوظاته، لكن في النفل ضع أمامك مصحفاً واقرأ في كل ركعة صفحة كاملة ما اعتدت أن تقرأها وانظر في معانيها وتدبَّر.

التدبّر أعمق من الفهم والتفسير :
القرآن أنزله الله لِنَتَدَبَّرَهُ، انظروا إلى قول الله تعالى:

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
[ سورة ص:29 ]

التدبر هو تعقب الشيء حتى تصل إلى أصوله
وقال العلماء: التدبّر أعمق من الفهم والتفسير، هو مرحلة تتبع، التدبُّر: أن تتعقب الشيء حتى تصل إلى أصوله وأعماقه، التدبر: دبر الشيء عقبه، فأنت تتدبر الشيء تتبعه حتى تصل إليه، فأنت عندما تقرأ قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
[ سورة الحجرات:12 ]

فالتدبّر أن تنظر في نفسك هل أنت من هؤلاء (لا يغتب بعضكم بعضاً) الذين لا يغتابون أم أنا لا أطبق مضمون هذه الآية؟ التدبر إذا قرأت قوله تعالى:

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
[ سورة غافر:60 ]

أن تتوجه إليه بالدعاء، أي تنفيذ المطلوب منك بالآيات، أن تتفاعل معها، كان سيد قطب رحمه الله يقول: القرآن ينبغي أن يُتلقى بشعور التلقي للتنفيِذ الفوري، ما شعورك عندما تتلقى القرآن الكريم؟ بعض الناس شعورهم شعور البركة، جيد القرآن بركة، شفاء، لكنّ القرآن ليس فقط للتبرك به، بعض الناس شعورهم أن القرآن شعور العزاء، إذا أداروا المسجل القرآن في البيت على صوت معين مثل عبد الباسط عبد الصمد، يقولون: أغلق القرآن فقد اغتممنا وكأنه يوجد عزاء في البيت، وكأن الموت غمّ والقرآن غمّ، نسأل الله العافية ممن يقول ذلك إنه ينطق بشيء لا يفهم ما معناه، فالناس بعضهم ترك القرآن للمناسبات، وبعضهم يضعه في صدر محله التجاري (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا), والواقع لا يوجد تدبّر للقرآن، فأنت عندما تقرأ القرآن فتتدبّره وتتفاعل معه، عندها تستطيع أن تخشع في صلاتك، أنا ماذا أقرأ؟ أقرأ كلام الله، الله يكلمني، يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يوجد ثلاثٌ وثمانون آية في كتاب الله لمن( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؟ أنا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يخاطبني، ماذا تريد مني يا رب؟ تدبّر ما تقرأ، افهم ما تقرأ، حتى أنني أجتهد فأقول: إذا كان للإنسان ركعتا قيام ليل- نسأل الله أن يعيننا عليهما- فليقرأ في النهار صفحتين من هامش المصحف، فقط تفسير الكلمات، أحياناً يكون هناك كلمتان بالصفحة أو كلمة واحدة، القرآن مفهوم:

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
[ سورة القمر: 22]

فمن الممكن كلمة واحدة لا يفهمها تعيق فهم الصفحة كاملة، ولو قرأ الصفحتين وصلى بهما قيام الليل يشعر بسعادة القراءة:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
[ سورة الزمر: 36]

حكايتك مع الحياة تجدها في القرآن
آيات القرآن فيها تفاعل، ربنا عز وجل كأنه يجعلها- لو صح التعبير- حكاية بينك وبينه، حكايتك مع الحياة تجدها في القرآن، يروى أنّ أحد الصالحين قرأ في القرآن:

لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
[ سورة الأنبياء: 10]

فقال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري؟ أعطوني المصحف لأرى أنا أين؟ الله يقول: أنت مذكور في القرآن، طبعاً فِيهِ ذِكْرُكُمْ، هناك توجه بأن معناها رفع شأنكم بين الناس، القرآن رفع شأننا، العرب كانوا يرعون الغنم فقادوا الأمم بالقرآن، (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) لكنّ بعض العلماء فسّروها (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي تجد ذكركَ في القرآن، مذكور أنت، لكن لست مذكوراً بالاسم، أي لا تجد في القرآن اسمك، لكن قد تجد نموذجاً يشبهك، فانظر أين هو، فأنا علي بالمصحف لألتمس ذكري، ففتح المصحف فمر بقوم:

كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ
[سورة الذاريات: 17-19]

فقال: اللهم لا أعرف نفسي ها هنا, أي أنا والله مقصر، ثم مرّ بقوم:

إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ
[سورة الذاريات: 35-36]

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ
[سورة البقرة: 206]

قال: يا رب أبرأ إليك أن أكون من هؤلاء، أنا لست هنا، أنا أخافك وأخشاك، ثم مرّ بقوم:

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
[سورة التوبة102]

عندما تقرأ القرآن ابحث عن ذكرك
قال: يا رب لقد وجدت ذكري، أنا ههنا، فأنت عندما تقرأ القرآن ابحث عن ذكرك، الله عز وجل يخاطبك: أنت من هؤلاء أم لست منهم؟ مطلع سورة البقرة تتكلم عن الكافرين، تتكلم عن المنافقين، تتكلم عن المؤمنين، لعل فينا خصلةً من نفاق ينبغي أن نتركها، لعل هناك أمراضاً وقعنا بها من أمراض الأقوام السابقين، عندما يتحدث عن قصص الأقوام السابقين انظر فيها، القصة للعبرة، والأمر لتأتمر، والنهي لتنتهي، والآية الكونية لتتفكر فيها:

فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ
[سورة عبس: 24]

فهل نظرت في طعامك؟!

التدبّر يعين على الخشوع في الصلاة :
التدبّر أيها الإخوة يعين جداً على الخشوع في الصلاة، النبي صلى الله عليه وسلم مرةً قام ليلةً، قيام الليل كله يقرأ قوله تعالى:

إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[سورة المائدة: 118]

الحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه
ليلة كاملة يتدبر آيةً ويرددها ولا يمل منها (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) ولا يُسأل عمّا يفعل جل جلاله، (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هنا ما قال الغفور الرحيم حتى يناسب أيضاً ما قبلها من موضوع العذاب، فجاء باسمي العزيز والحكيم، العزيز الذي لا يُنالُ جانبه، وعندما يكون الإنسان عزيزاً لا ينال جانبه غالباً ما يجافي الحكمة، انظر إلى الطغاة والأقوياء في الأرض يظنون أنفسهم عزيزين، أي لا يُنالُ جانبهم، من يستطيع أن يحاسب قوياً أو طاغية؟! يفعل ما يشاء لا أحد يحاسبه، لكن هل يتصرف بحكمة؟ أبعد ما يكون عن الحكمة، فقال: (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإن عذبتهم فبحكمة وإن رحمتهم فبحكمة، بعد عزتك جل جلالك (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه.
إخواننا الكرام؛ يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، أي قرأت: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} سبحانك يا رب، تسبّح في الصلاة لا مانع ما دام من كلام الصلاة، وقال: وإذا مرّ بسؤال سأل، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا، تسأل الله أن يغفر ذنوبك وأن يكفر سيئاتك، قال: وإذا مرّ بتعوذ تعوذ:

وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
[سورة المؤمنون: 97-98]

فيتفاعل مع القرآن، ففي السؤال يسأل، وفي التعوذ يتعوذ، وفي التسبيح يسبح، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح أيضاً كما أخرج ابن ماجه:

{ إنَّ من أحسنِ النَّاسِ صوتًا بالقرآن الَّذي إذا سمِعتموه يقرأُ حسِبتموه يخشَى اللهَ }

أحسن الناس صوتاً بالقرآن
هذا الحديث له مدلولات عميقة، إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن هل الذي يقرأ وفق المقامات الموسيقية؟ لا، قال: من إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله، قد يكون الصوت عادياً جداً لكن أنت تسمعه يقرأ تظن أن هذا الإنسان يخشى الله عز وجل من نبرة صوته، من طريقة قراءته، من طريقة تفاعله، يقرأ القرآن بتدبّر من قلبه.
النبي صلى الله عليه وسلم يوماً جاء إلى ابن مسعود قال: اقرأ عليّ يا بن أم عبد، قال: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، لذلك أحياناً صلاة الجماعة فيها خشوع، تسمع القرآن من إنسان صالح قد يكون الصوت عادياً لكن صلاحه يسري إليك، فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت في سورة النساء، فبلغت قوله تعالى:

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا
[سورة النساء: 41]

(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ثم (وَجِئْنَا بِكَ) يا محمد صلى الله عليه وسلم (عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، فقال: حسبك يا بن أم عبد يكفي، هذا تفاعل مع القرآن الكريم.

أعجب شيء رأته السيدة عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أيضاً أحب أن أضيف قصة أخيرة بحديث صحيح.
لا بد من التفكر في آيات كتاب الله
عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقال ابن عمير: حدثينا- للسيدة عائشة رضي الله عنها- بأعجب شيء رأيتهِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي عشت عمراً معه أعجب شيء حدث معك، حدثينا، فبكت، بكت عائشة تذكرت رسول الله فبكت، قالت: تذكرت رسول الله، قام ليلةً من الليالي فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي، استئذان لطيف، النبي صلى الله عليه وسلم عنده نساء عائشة إحداهن، وهذه الليلة ليلتها، حقها من رسول الله، فما أذن لنفسه أن يقوم لمناجاة ربه، النفل طبعاً وليس الفرض، الفرض لا يلزمه استئذان، ما أذن لنفسه أن يترك زوجته في هذه الليلة إلا أن تأذن، انظر الأدب النبوي، فقال: يا عائشة ذريني أتعبد لربي، الآن السيدة عائشة يوجد عندها جوابان، الجواب الأول: قم فتعبد لربك، وهذا جفاء، مثلما تريد يا رسول الله، و الجواب الثاني: لا، هذه ليلتي ولا آذن لك، رسول الله يستأذن ولا يؤذن له! فقالت له: انظروا الجواب الجميل من عائشة، يا رسول الله إني أحب قربك لكني أؤثر ما يسرك، محبتي أن تبقى أمامي لكن أؤثر على محبتي لك أن تفعل ما يسرك أنت، فقام إلى صلاته صلى الله عليه وسلم، قام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بلّ حِجره- حضنه - ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، أصبحت دموعه على الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، أصبح الفجر، أؤذن يا رسول الله؟ ندعو الناس للصلاة؟ فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! يبكي المذنب المقصر ليس المغفور ذنوبه الماضية واللاحقة إن حصلت، هذا الذي يبكي المقصر، فاستغرب، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً، هذا واجب الشكر، هذا واجب العبودية، لا علاقة له بالذنوب، قال: لقد نزلت عليّ الليلة آيةٌ ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها:

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
[سورة آل عمران: 190-191]

قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها. [الحديث في صحيح ابن حبان]

5 ـ تهيئة الجو المناسب لأداء الصلاة :
إخواننا الكرام؛ خمسةٌ تُعينك على الصلاة، أولاً: الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها، الطمأنينة في الصلاة، تذكر الموت في صلاتك، تدبر الآيات المقروءة، أخيراً: تهيئة الجو المناسب لأداء الصلاة، وسأكتفي هنا بحديث شريف:

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي)) }

[صحيح البخاري]

يجب تهيئة جو مناسب للصلاة
أنا في الصلاة أنظر، فهذا القرام أي الغطاء عليه تصاوير، مرسوم عليه رسمات وأشياء، فأنا انشغل في صلاتي به، فكيف بشخص يصلي والشاشة أمامه؟! هذا ليس قراماً، هذا رسوم متحركة! هذا إجرام وليس قراماً، يجب عليك تهيئة جو مناسب للصلاة، لا يجب أن يصلي بغرفة الجلوس والناس يديرون حديثاً، خذ مكان في البيت قصيّاً، خذ غرفة ثانية، خذ غرفة لا أحد فيها، صلِّ لوحدك، أو صلِّ جماعة بأهل بيتك بحيث الكل يصلون، أو نبّه أولادك أنه أثناء الصلاة لا يجوز أن يكون هناك حركة ولعب ووسائل وهواتف ذكية، لم تعد هذه صلاة، هذه من الأمور الإدارية أن يهيئ الجو المناسب للصلاة، وإلا لا خشوع في الصلاة، لأن هذه طبيعة النفس، إذا كان رسول الله تعرض تصاوير القرام له في الصلاة وهو سيد الخلق وحبيب الحق، فمن نحن حتى نصلي في مكان يدار فيه حديث؟
الآن وضع طعام العشاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ }

[صحيح مسلم]

تعشَّ أولاً حتى لا يبقى ذهنك في الطعام.
وفي الحديث:

{ إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ، حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ }

[صحيح البخاري]

{ نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ حَاقِنٌ }

[سنن ابن ماجة بسند صحيح]

أي الذي يريد دخول الحمام لقضاء الحاجة لا يجوز له أن يصلي حتى يفرغ، أفرغ النفس من مشاغلها قبل أن تقف بين يدي الله، وهيئ الجو المناسب للصلاة، هذه أسباب تعين على الخشوع في الصلاة.

الخشوع في الصلاة فريضة من فرائضها وليس فضيلة من فضائلها :
آخر شيء بقي الجواب على السؤال: الخشوع فضيلة أم فريضة؟ طبعاً العلماء قالوا: الخشوع في الصلاة فريضة من فرائضها وليس فضيلة من فضائلها، أي الخشوع ليس شيئاً كمالياً، الخشوع ينبغي أن يحدث، من حيث الفقه حتى نستوعب الموضوع تماماً، من حيث الفقه العلماء -عدا بعض الحنفية وبعض المالكية- قالوا: لو صلى الإنسان بلا خشوع فقد فاته خير عظيم لكن صلاته صحيحة، هذا من رحمة الله، الحمد لله، بمعنى لو أن إنساناً بصلاته تذكر قصة، وحلّ موضوعاً، وأنهى حساباته وسلم، سقط الوجوب وإن لم يحصل المطلوب، ولله الحمد، لكن حتى الحنفية وبعض المالكية قالوا: لا، لو صلى بذلك يعيد صلاته، نحن نأخذ بقول الجمهور الواسع: نقول: لا إعادة إن شاء الله، فالخشوع من حيث الأحكام الفقهية لو تركت الخشوع فصلاتك صحيحة وإن لم يحصل المطلوب، لكن من حيث علاقة الإنسان بربه يقول: الخشوع في الصلاة فرض من فرائضها ينبغي أن أحافظ عليه، حتى تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، قال له: الصيام من متى إلى متى؟ قال له: صيام العوام أم الخواص؟ قال العوام؟ قال: من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، أما الخواص فصيام النفس عما سوى الله في كل يوم وليلة، قال له الزكاة كم؟ قال له: عندنا أم عندكم؟ قال: ما عندنا وما عندكم؟ قال: عندكم اثنان ونصف بالمئة وعندنا العبد وما ملك لسيده، كله لا يوجد نسبة زكاة، فنقول بالحكم الفقهي جمهور الفقهاء قالوا:
الصلاة لا تسقط بترك الخشوع
الخشوع سنة مؤكدة لازمة في الصلاة ينبغي أن يحافظ الإنسان عليها، لكن لا تسقط الصلاة بترك الخشوع، لكن من حيث علاقتنا بربنا وقربنا من ربنا نقول: الخشوع فريضة من فرائض الصلاة لا فضيلة من فضائلها، بمعنى وجوب الحفاظ عليه لا بمعنى أن الصلاة لا تصح إلا به.
نسأل الله السلامة، وأن يعلمنا ويرزقنا الخشوع في الصلاة، وأعتذر إن أطلت بارك الله بكم وحفظكم.
أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته