أصناف البشر في الإسلام

  • اللقاء الثاني من تفسير سورة البقرة | شرح الآيات 4-7
  • 2024-12-08

أصناف البشر في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزٍدنا علماً وعملاً متقبَّلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات.
بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

الم(1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(5)
(سورة البقرة)


(الم) حروفٌ مُقطَّعة صيغت منها آيات القرآن الكريم:
بيِّنا في اللقاء السابق، معاني الآيات الثلاث الأولى من هذه السورة الكريمة (الم) حروفٌ مُقطَّعة قد صيغت منها آيات القرآن الكريم، وتحدى الله بها العرب أن يأتوا بمثلها، فمادة الأحرف موجودةٌ بين أيديهم، ولكنهم عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن الكريم

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)
(سورة الإسراء)

أي لو وقف بعضهم يُظاهر بعضهم الآخر ويناصره، فمهما تعاونوا فلن يأتوا بمثل هذا القرآن، (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ) هذا هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيِّه، له المرتبة العالية والشرف الرفيع، لا شك فيه ولا ريب، فلا يُخالطه شك، ولا يتسرَّب إليه ريب (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) فهو هدىً لمن يخافون ربهم، ويطيعونه، و يخشون عذابه، هؤلاء صفاتهم:

صفات المتَّقين الذين ذكروا في مطلع سورة البقرة:
الصفة الأولى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أول صفاتهم الإيمان بالغيب، وقد تحدثنا عن أهمية الإيمان بالغيب في ديننا، وأنَّ معظم إيماننا هو إيمانٌ بالغيب
(وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إقامة الصلاة حركةٌ عموديةٌ نحو الله، صلةً به، وقُرباً منه، وتذللاً إليه، ودعاءً له جلَّ جلاله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) العلاقة مع المخلوق، العلاقة مع الخالق الصلاة، ومع المخلوق إنفاقٌ وزكاة، صلةٌ بالخالق، وإحسانٌ إلى المخلوق (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) والرزق هنا عام، فالرزق منه المال، ومنه العِلم، ومنه الجاه، ومنه المنصِب، ومنه القوة، فكل ما ينتفع به الإنسان فهو رزق، الولد رزق، والزوجة رزق، والزوج رزق، والمأوى رزق، والمال رزق، والقوة رزق، والمنصِب رزق، والجاه رزق، كل ما أعطاك الله إياه فانتفعت به فهو رزقٌ من الله، فأنفق منه، لا تنفقه كله، وإنما أنفق منه (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) أي من بعض ما رزقناهم، فالمال يُنفق منه ربع العشر، على جهة التأكيد والوجوب والفريضة، والجاه يُنفق بعضه، في الإصلاح بين الناس، والمنصِب يُنفق في إحقاق الحق وإبطال الباطل، والزوجة رزق، فيجعل الزوج من علاقته بها علاقةً خالصةً لوجه الله، والزوج كذلك، والأولاد يُربِّيهم على طاعة الله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
الصفة الأولى الإيمان بالغيب، والثانية إقامة الصلاة، والثالثة الإنفاق من الرزق، والرابعة: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) هذه الصفة الرابعة، هؤلاء يصدِّقون، الإيمان هو التصديق والإقرار بما أُنزِل إليك وهو القرآن الكريم، التصديق بالقرآن الكريم على شقّين:
الشق الأول: أن يؤمن الإنسان أن هذا الكلام كلام الله تعالى، وأنه نزل به الروح الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا جزءٌ.
والشق الثاني: في الإيمان والتصديق، أن يجعله منهجاً في حياته، فمن يقول إنَّ هذا القرآن كلام الله، مُقِراً بذلك، هذا أمرٌ جيد، لكن إن قال ذلك وعمل بخلاف ما جاء في القرآن الكريم، فهل هذا تصديقٌ كامل؟ الجواب لا، لأنه لا يصح ولا يُعقل ولا يُقبل، أن يؤمن الإنسان بشيءٍ ثم يأتي بخلاف ما آمن به، فلو قال إنسانٌ أنا مؤمنٌ إيماناً لا حدود له بأنَّ التدخين ضارٌ بصحتي، ثم هو يدخِّن في اليوم عشرين أو ثلاثين لفافةً من لفافات التبغ، فهل هو مؤمنٌ حقيقةً أم في إيمانه نقصٌ وضعف؟ لو قال إنسانٌ أنا مؤمنٌ جداً بأهمية الرياضة، لكنه لا يتحرك أبداً، وإنما ينفق وقته في الجلوس والراحة، ولا يقوم ولا يمشي ولا عشر دقائق في اليوم لرياضة جسمه، فهل إيمانه بالرياضة حقيقيٌ أم فيه نقصٌ وضعف؟ هنا الكلام.
لذلك: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الرابعة: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) هذا الإيمان الذي هو إقرارٌ بأنَّ هذا الكلام كلام الله، ثم هو عملٌ بما جاء في هذا القرآن الكريم بالمنهج (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) من الكتب السابقة، فدينُنا وإيمانُنا لا يكتمل إلا أن يؤمن الإنسان بالتوراة والإنجيل، ليس بالتوراة المُحرَّفة ولا بالإنجيل المُحرَّف، وإنما بالتوراة كما أنزلها الله على وجه الإجمال، ويؤمن بكل ما أُنزِل على الأنبياء السابقين، الزبور، وصُحف إبراهيم، وصُحف موسى، يُقر بما جاء عن الأنبياء السابقين على وجه الإجمال، لكن المنهج هو القرآن الكريم، الذي جاء مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه، فلا يسع الإنسان أن يتَّبِع، اليوم أقول أنا أتَّبِع الإنجيل وأتَّبِع التوراة، لا، ولكنه يؤمن بأن هناك كتباً أُنزِلت على الأنبياء السابقين (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ).
الصفة الخامسة: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الآخرة غيب، فبدأ بالغيب وانتهى بالغيب، الآخرة غيب، أي غاب عن أنظارنا، ما معنى غيب؟ يعني غائب عن الحواس، فالآخرة لا نراها بأعيننا، نحن لم نرَ الجنَّة، ولم نرَ النار، ولم نرَ الصراط، ولم نرَ القنطرة، ولم نرَ الصحف التي تتطاير، ولم نرَ أرض المحشر، لكن ذلك كله جاءنا بالوحي، فصدَّقنا به وآمنّا وأيقنا، ليس آمنّا فقط، وإنما أيقنا يقيناً به (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فليست القضية قضية شكٍّ، أو ريبٍ، أو وهم، أو غلبة ظن، لا، وإنما هو اليقين، اليقين في الرياضيات في العلوم الحديثة مئة بالمئة، لا يتسرب إليه أي شك، الآخرة لا محالة قادمة، هذا اليقين، لذلك قال تعالى:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

هذا خبرٌ وحديثٌ من الله، لكن لأن الله تعالى جلَّ جلاله لا أصدق منه فيما يقول، فنحن نؤمن يقيناً أنَّ الآخرة قادمة، وأنَّ لنا موعداً بين يدي الله.

الإيمان باليوم الآخِر:
الإيمان باليوم الآخِر أيها الأحباب، أيُّها الأخوات الكريمات والإخوة الأفاضل، الإيمان باليوم الآخر يُغيِّر حركة الإنسان، يُغيِّر منهجه، يُغيِّر أولوياته، يعكس تصرفاته، كيف يعكس تصرفاته؟ الناس كلهم يحبون أن يأخذوا، الإيمان باليوم الآخِر يجعل سعادتك في العطاء لا في الأخذ فحسب، يعكس القيَم التي تعارف الناس عليها، الإيمان باليوم الآخِر يجعلك في حرزٍ من الشهوات والشبهات، لا تثنيك سبائك الذهب الامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينك، لأن هناك يوماً آخِر.
اليوم عندما يدخل مواطن إلى دائرةٍ حكومية مثلاً، أو شيء من هذا القبيل، ويقدِّم معاملته من أجل أن توقَّع، والموظف الموجود يطلب رشوةً، فيعطيه الرشوة فيقبلها، الموظف الثاني يُعرَض عليه المال فيأباه، ما الذي ميَّز بين الموقفين؟ لا كاميرا مراقبة موجودة، ولا مدير يراقبك، ولا أحد، لماذا الأول قبِل والثاني رفض؟ الإيمان باليوم الآخِر، لأن هناك حساباً، الأول رأى أنَّ هذا المال سيحل مشكلةً من مشكلاته، لماذا لا يأخذ مئة دينار ويضعها في جيبه؟ ما الذي يمنعه؟ الذي يمنع الناس من أن يظلم بعضهم بعضاً هو الإيمان باليوم الآخِر، الذي يمنع الناس من أن يبتز بعضهم أموال البعض الآخَر هو الإيمان باليوم الآخِر، الذي يمنعني أن أقول كلمةً أُسيء فيها، أو أجرح بها مشاعر إنسانٍ، هو الإيمان باليوم الآخِر، لأنَّ لي موقفاً بين يدي الله

فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)
(سورة الحجر)

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)
(سورة الصافات)

فإذاً: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هذه الصفة الخامسة، فهُم على يقينٍ من أنهم سيقفون بين يدي الله.
إذاً صفات المتَّقين الذين ذكروا في مطلع سورة البقرة: يؤمنون بالغيب، يقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) خمس صفاتٍ، يعني إيمانٌ بالغيب يدفعهم إلى الاستقامة على منهج الله، وعدم الإساءة إلى عباد الله، إقامةٌ للصلاة، صلةٌ بينهم وبين خالقهم، إنفاقٌ مما آتاهم الله، إحسانٌ إلى المخلوقين، إيمانٌ بالقرآن وبكل الكتب المنزلة السابقة، وهذا جزءٌ من الغيب أيضاً، وإيمانٌ باليوم الآخِر (أُولَٰئِكَ) الذين استجمعوا هذه الصفات الخمس (علَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
( أُولَٰئِكَ علَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ) الهدى غالباً يأتي في القرآن معه على لماذا؟ لأنَّ الهدى يرفعك، على للعلو للارتفاع، فلانٌ على السطح، يعني هو مرتفعٌ فوق السطح، فالهدى يأتي معه في القرآن لفظ على، لأنَّ الهدى يرفعك، والضلال يخفضك، الهدى يرفع الإنسان والضلال يخفض الإنسان ( أُولَٰئِكَ علَىٰ هُدًى) لأنَّ الهدى رفعهم، ثم (أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) لأن الإنسان فوق أنه يستعلي بالهدى ويرتفع، فإنه متمكنٌ منه، يعني هؤلاء الذين اجتمعت فيهم تلك الصفات، فأولئك تمكَّنوا من هدى ربهم، أمّا في الضلال فالله تعالى يقول أولئك، ما قال على ضلالٍ مبين، قال:

أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(22)
(سورة الزمر)

في للظرفية، أي هم غارقون في ضلالهم، الضلال لم يرفعهم ليكونوا عليه، وإنما خفضهم ليكونوا فيه غارقين، ليكونوا فيه منغمسين لا ينتبهون إلى ما حولهم.

الفلاح أن تُحقِّق غاية وجودك في الدنيا:
(أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) للاستعلاء (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) القرآن الكريم لا يتحدث عن نجاحات، في القرآن كله لا تجد الله تعالى يقول نجح فلان أو نجح المؤمنون، أو أولئك هم الناجحون أبداً، وإنما القرآن الكريم يتحدث دائماً عن الفلاح، فيقول:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)
(سورة المؤمنون)

وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)
(سورة المؤمنون)

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا(9)
(سورة الشمس)

(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) القرآن يتحدث عن مفهوم الفلاح، وفي الأذان يومياً خمس مرات، نسمع في كل أذانٍ مرتين، حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح، فما هو الفلاح؟ الفلاح هو ما يبقى ويدوم، فلو أنَّ إنساناً جمع مئة مليار، ثم مات وهو على غير دين الله عزَّ وجل، وعلى غير تقوى من الله عزَّ وجل، فهذا يقال له نجح، لأنه جمع ثروةً طائلة في ستين أو سبعين سنة من عمره، لكنه لم يُفلح، وغيره لو أنه عاش فقيراً لكنه عرف سرَّ وجوده، فاستقام على أمر ربه، وأحسن إلى خلق الله عزَّ وجل، فهذا مُفلح، فالفلاح أن تُحقِّق غاية وجودك في الدنيا.
نحن لماذا خُلقنا؟ من أجل أن نعبد الله تعالى العبادة بمفهومها الواسع، والذي هو عباداتٌ شعائرية وعباداتٌ تعاملية، العبادة بمفهومها العام، الذي يعني كل حركةٍ يقوم بها الإنسان وفق منهج الله فهي عبادة، فلو أتى أهله فهو في عبادة، ولو لاعب أولاده فهو في عبادة، ولو رافق أسرته في نزهةٍ وفق منهج الله فهو في عبادة، ولو ذهب إلى متجره فهو في عبادة، بهذا المعنى العبادة، هذه التي خلقنا الله من أجلها، أن نجعل حياتنا معبَّدةً يعني مذلَّلةً خاضعةً لمنهج الله، نأكل ونشرب ونتزوج ونذهب ونتنزَّه ونلعب ونُلقي الطُرَف، لكن كله وفق المنهج، هذا الذي خُلقنا من أجله، أن نُعبِّد حياتنا لله، فالآن الذي يُعبِّد حياته لله أفلح، والذي يتحرك في الحياة بغير منهجٍ فقد خاب وخسر، ولو حصَّل أعلى شهادةٍ في الأرض، وأعلى دخلٍ في الأرض، وأعلى منصبٍ في الأرض فقد خاب وخسر، يعني إذا بلغ منصِب رئيس أمريكا وهو خارج منهج الله خاب وخسر، وإذا بلغ ما بلغه بيل غيتس بأكبر ثروةٍ في الأرض، فقد خاب وخسر، وإذا حقَّق أعلى شهادةٍ في الأرض، بروفيسور في الفيزياء النووية فقد خاب وخسر، ما دام خارج المنهج، أمّا ضمن المنهج، الشهادة تنفعه، والمال ينفعه، والمنصب ينفعه.
إذاً (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفلاح يقتضي أنك وصلت إلى غاية وجودك، وإلى سرِّ وجودك فسعدت في الدنيا والآخرة، فالفلاح كل ما يبقى ويدوم فهو فلاح، وكل ما يذهب عند الموت، فقد يُسمّى نجاحاً في الدنيا لكنه خيبةٌ وخسرانٌ عند الموت، لأنه ما أفلح، فالله تعالى افتتح سورة المؤمنون فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وفي ختامها (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) الكافرون لا يفلحون، في الأصل الفلاح من فلح الأرض، الفلّاح الذي يفلح في الارض ويضع البذرة فتنمو، فكل عملٍ ينمو ويبقى ويدوم فهو فلاح، من هنا جاءت كلمة الفِلاحة وفلح الأرض، ثم أُطلِقت على كل من كانت حياته فيها خيرٌ ونفعٌ للناس، فهو فالحٌ ومفلح (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الآن هذه الصفات أول خمس آياتٍ من سورة البقرة تتحدث عن صفات المؤمنين، الآن تنتقل الآيات للحديث عن صفات الكافرين، في مقابل المفلحون عندنا فئةٌ ثانية ما هذه الفئة؟

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6)
(سورة البقرة)


معنى الكافر:
الكافر من الفعل كفرَ، وكفر من الغطاء، وكل ما غطّى شيئاً فهو كفر، أو كَفَره أي غطّاه، وسُمّي الزُرّاع الذين يزرعون الأرض كُفّاراً لغةً وليس شرعاً، قال تعالى:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20)
(سورة الحديد)

أي الزُرَّاع، فالزُرَّاع يُطلق عليهم كُفّار ليس بالإطلاق الشرعي، وإنما اللغوي، حتى لا يقول إنسان لأحد الزارعين أنت كافر والعياذ بالله، ليس إطلاقاً شرعياً، لكن إطلاق لغوي، لأنه يُغطي البزرة ويضع التراب فوقها، فهو بهذا المعنى يكفرها، أي يضعها تحت الأرض، فالكُفر هو الغطاء، قال تعالى:

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا(101)
(سورة الكهف)

فالكافر ما الذي فعله؟ حتى لا يقول إنسان أحياناً أنتم تقولون عن الناس كُفّار، هي كلمةٌ توصيفية، ما دمت غير مؤمن بالإسلام فأنت كافر، وأنت قد تقول عنّي كافر لأنني غير مؤمنٍ بدينك، من باب اللغة طبعاً وليس الشرع، فالموضوع لا يحتاج إلى كل هذه الحساسية، كافر لا يؤمن بما جاء به الإسلام، فهذا وصفه في القرآن كافر، فهؤلاء الذين كفروا بالإسلام وغطّوا أعينهم عنه، حتى في اللغة الإنكليزية عندما نشتري للهاتف كفر، أصلها من العربية كفر يعني غطاء، يعني من كفر، وعندنا في الشام يقولون كفر بطنا، وكفر تخاريم في إدلب، لأنَّ الأرض غُطِّيَت بالنبات فسُمّيَت كفر بطنا.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) هنا يقفز سؤالٌ إلى الذهن، لماذا الإنذار إذاً ما داموا لم يؤمنوا؟ هنا الحكم ليس على كل من أعرض عن الله، وإنما الحكم هنا متوجهٌ إلى هؤلاء الذين وصلتهم دعوة الحقِّ وعلموها، وفهموها، وعلموا مصداقيتها لكن مصالحهم دفعتهم إلى إنكارها، هكذا يُفهم سياق الآيات، حتى لا يقول إنسان، الكافر لم يؤمن لماذا أذهب إليه وأعظه؟ لا، إذا وعظته وعلَّمته ووصلت له الرسالة تماماً، ثم تعارضت مصالحه كما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع دين الله، فهذا بعد ذلك لن ينفعه إنذارك، أمّا ابتداءً طبعاً ينفعه، وهذا واقعٌ مشاهد، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنذر قومه، فهناك من استجاب وهناك من لم يستجب، فهنا الحديث عن الكفار ليس حديثاً عاماً بمعنى كل كافر، وإنما الكافر الذي وصلته الرسالة فأبى، فهذا لا تُتعب نفسك معه، لأنه حجبته شهواته ومصالحه عن الإيمان، قال: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) الآن سيُبيَّن لك لماذا لا يؤمنون، قال:

خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)
(سورة البقرة)

يعني هذا كفر كُفراً شديداً، أُنذر فلم يستجب، بُيّن له فلم يتبين، فختم الله على قلبه، هذا كأبي لهب

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)
(سورة المسد)


أبو لهب لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لأبطل آيةً في كتاب الله:
حُكم عليه بالنار وما زال في الدنيا، أبو لهب لو أنه أعمل عقله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، لأبطل آيةً في كتاب الله، كيف (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) وآمن؟! لا، هذا علم الله بعلمه الأزلي أنه لن يؤمن، فقال: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) فهذا معنى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ) بسبب بغيهم، بسبب إعراضهم، بسبب كفرهم، الله تعالى لا يختم على قلب إنسانٍ يريد الحقّ.

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(17)
(سورة محمد)

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5)
(سورة الصف)

فالله تعالى إذا ختم على قلب عبدٍ فهذا ختمٌ حُكمي، لأنه امتنع عن قبول الحقّ فختم الله على قلبه، تماماً حتى أُبيِّن لكم هذا المعنى، طالب لم يدرس، لم يشترِ الكتب المدرسية، لم يداوم، فصدر قرار من الجامعة بفصله من الجامعة، هل نقول إن الجامعة فصلته، أم نقول أنه أساء ففصلته الجامعة؟ سيان، لماذا فصلت الجامعة الطالب؟ لأنه أساء ولم يدرس، ولم يتعلم، هذا باختصار، فأيضاً (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) لأنهم عطَّلوا عقولهم، وعطَّلوا أسماعهم، ورفضوا قبول الحقّ فمنعهم الله من الحقّ (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ) السمع يعني يدخل الكلام من السمع، هنا ختم على سمعهم لا يعني أنهم لم يعودوا يسمعون، أي أصبحوا صُمّاً، الصمَم المعروف يعني لا يسمع الكلام، لكن يسمعه ولا يستجيب له فهو في حكم من خُتم على سمعه.
مثلاً لو قلت لإنسانٍ انتبه هناك سيارةً قادمة، ودخل الكلام لذهنه ولم يستجيب، ودهسته السيارة، فهل سمِع؟ ما سمِع، ولو كانت الكلمات قد دخلت إلى أُذُنه، لأنه لم يتخذ موقفاً فهو كأنه ما سمِع، النتيجة واحدة.

وقفة متأنية عند (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ ):
(خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ ) هنا نقف، وقف، الأَولى أن نقف هنا (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) أي كأنَّ هناك غشاءً على أبصارهم يمنعهم من رؤية الحق

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171)
(سورة البقرة)

كما سيأتي بعد قليل في سورة البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يعني هؤلاء إن نطقوا لا ينطقون بحق، وإن سمعوا لا يستجيبون، وإن نظروا لا يعتبرون، فهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) إذا قال العظيم إنَّ العذاب عظيم، فما عساه يكون؟ الله أكبر، لو قال طفلٌ صغير أنا معي مبلغ مالي عظيم فكم نقدِّره؟ مئة دينار؟ مئتي دينار؟ هذا العظيم بالنسبة للطفل، ولو قال رئيس أكبر دولةٍ في العالم معي مبلغٌ عظيم فماذا نقدِّره؟ مئة مليار؟ كيف انتقلنا من مئة دينار إلى مئة مليار؟ حسب المتكلم، فإذا قال ملك الملوك جلَّ جلاله وعظُم شأنه (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فما عسى العذاب العظيم يكون من العظيم؟ الله تعالى يصف عذاباً بأنه عظيم، وهو العظيم جلَّ جلاله (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)) الختم على القلب والسمع.

المنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر، في أدنى دركات جهنم:
الآن خمس آياتٍ عن المؤمنين، وآيتان عن الكافرين، والآن عندنا اثنا عشرة آية عن المنافقين، الكافر واضح، كفر لا أُريد هذا الدين، والمؤمن واضح قبِل بهذا الدين وضحَّى من أجله، أمّا المنافق فهو شخصٌ غير متسق مع نفسه، غير واضح، يضع رِجلاً هنا ورِجلاً هنا، فإذا كانت المكاسب مع المؤمنين قال أنا معكم، وإذا وجد الكفَّة مالت إلى الكافرين ذهب إلى الكافرين، فهذا في الدرك الأسفل من النار، تحت الكافر، في أدنا دركات جهنم، لأنه منافق، ووصفه الله تعالى بآياتٍ أكثر من وصفه للمؤمنين كعدد، ومن وصفه للكافرين لتحذره الأمة الإسلامية، والنفاق ظهر في المدينة، سورة البقرة سورةٌ مدنية، النفاق بدأ يظهر بوضوحٍ في المدينة، عندما قَويَت شوكة المسلمين، وظهرت قوتهم، فأصبح الناس ينافقون، لكن يوم كانوا ضعافاً، ما أحد قال أنا مسلمٌ وهو كافر.
فالآن الكلام سيبدأ بالحديث عن المنافقين:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)
(سورة البقرة)

وهذه الآيات إن شاء الله في الحديث عن المنافقين، نُرجئ الحديث عنها إلى لقاءٍ قادمٍ، والحمد لله رب العالمين.
اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنّا، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منّا ولا معنا شقيِّاً ولا محروماً.
اللهم اجمعنا دائماً على طاعتك وعلى الخير، واجعل تفرقنا على خير، واجعل أمورنا كلها إلى خير، وارزقنا حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.

المسلم لا يجوز له أن يهجر أخاه فوق ثلاث:
أختٌ كريمة أرسلت: هل يمكن أن تحدثنا عن فضل التسامح وإزالة البغضاء بين الأشخاص، وعن هجر المسلم لأخيه المسلم لأكثر من ثلاثة أيام.
لا شكّ أنَّ المسلم لا يجوز له أن يهجر أخاه فوق ثلاث، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلامِ }

(رواه البخاري ومسلم)

والله تعالى يقول:

وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43)
(سورة الشورى)

والله تعالى يقول:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)

ومن الأسماء الحُسنى اسم العفوُّ الغفور، فينبغي أن نتخلق بهذا الاسم، وتخلُّقنا بهذا الاسم يعني أن نعفو عن من ظلمنا، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام، والتسامح فضيلةٌ لا يعرفها إلا أصحاب الهِمم العالية، والقلوب المرّضيَّة عند الله تعالى، هذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، يوم تكلَّم في عِرض ابنته مِسطح بن أثاثة، في عِرض عائشة رضي الله عنها، تكلَّم في عِرضها، وتحدَّث بالحديث الذي دار في المدينة، وكان أبو بكر يعطيه من عطائه، لأنه فقير، فلمّا كُشف الأمر بأنَّ مِسطح يتكلَّم في عِرض ابنته، فأبت نفسه أن يعود إلى عطاء هذا الرجُل بعد أن فعَل ما فعَل، وهذا حقه، وأقسم يميناً أن لا يعطيه، فأنزل الله تعالى قوله:

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22)
(سورة النور)

فبكى أبو بكرٍ، قال: بلى والله أُحب أن يغفر الله لي، فكفَّر عن يمينه، وأعاد النفقة إلى مِسطح، مِسطح ليس منافقاً، لكنه سمع الحديث يُدار فتكلم به، وهذا خطأٌ كبير، لكنه ليس منافقاً، ليس هو من أنشأ الحديث، لكنه أخطأ عندما تكلم بحديثٍ دون أن يعلم صدقه، وكان خطأه كبيراً، لكن لا يُعد مع المنافقين، فأعاد النفقة إليه.
فإذا كان أبو بكرٍ رضي الله عنه، وتُكلِّم في عِرض ابنته، ثم سامح من فعل وعاد للنفقة، فما أحرانا أن نتسامح، وأن يعفو بعضنا عن بعض، وأن نعفو عن من ظلمنا، فإنَّ التسامح والعفو فضيلةً لا يعرفها ولا يعرف فضلها إلا رب العالمين، والهجر مُحرَّم، فمن كان بينه وبين أخيه مَظلمةً فليتحال منها، وليعفو عن أخيه وليسامح، والفضل كبيرٌ عند الله، وهذه عائشة رضي الله عنها تسأل رسول الله إذا كانت ليلة القدر فماذا أدعو؟ قال: " اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني"، فإذا كنا نحب أن يعفو الله عنا، فلنبادر إلى العفو عن الناس، بل إنه:

{ عن أبي موسى الأشعري: إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن }

(أخرجه ابن ماجه)

فعند رفع الأعمال إذا كان هناك شحناء بين شخصين، فإنَّ الأعمال معلقةٌ لا ترفع إلى الله تعالى، ولا يُغفر الذنوب إلا برفع هذه الشحناء، والحمد لله رب العالمين