عدم التسرع ولو بالحق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً يا ربّ العالمين.
تحقيق إرادة الله بعودة سيدنا موسى إلى أمه :
اللقاء الرابع من لقاءات سورة القصص، اللقاء الماضي وصلنا إلى نهاية الآية الثالثة عشرة:
|
فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة القصص: الآية 13)
ختمنا بها، موسى رجع إلى أمه وتحقق الوعد الإلهي الأول:
|
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
(سورة القصص: الآية 7)
إرادة الله ستتحقق
تحقق الوعد الإلهي الأول وردّه الله إليها، فالآية المفصلية في السورة إن صح التعبير:
|
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
(سورة القصص: الآية 7)
كن مع الحق
إرادة الله ستتحقق لأن محور السورة هو الحديث عن رعاية الله لأوليائه، فردّه الله إليها، فتحقق الوعد الأول في نهاية الدرس الماضي {فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ}، رغم أنّ ردّه إلى أمه كان شيئاً أشبه بالخيال، لأنّ فرعون طاغية لا يمكن أن يسقط في يده طفل من أطفال بني إسرائيل ويتركه دون أن يذبحه، وقد فعل ذلك مئات بل آلاف المرات، فما الذي يمنعه أن يفعله الآن! إذاً رَدُّهُ إلى أمه كان شيئاً أشبه بالخيال، لكنه حصل لأنه وعد الله، ووعد الله مُتَحَقِّق، وقلنا: إنّ الله بدأ بــــ {تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} ليحقق لها حاجاتها، فأن تخاطب الإنسان بالإيمانيات وباليقينيات وفي يدك أن تحقق حاجاته ولا تفعل فهذا مُجافٍ للحكمة، إنسانٌ جائع ومعك أن تطعمه، ثم تعظه موعظةً في الصبر، فهذا الكلام بعيد عن الحكمة، أطعمه أولاً ثمّ عِظه أن يصبر، فالوعظ يأتي بعد تحقيق الحاجات، أمّا إن عجزت عن تحقيق حاجاته فالآن عظه وأنت مثله لا تستطيع أن تحقق له شيئاً، فقال: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} حقق لها حاجات النفس وهي أن تصبح هادئة ساكنة ولا تحزن، ثم قال: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فجاء بالهدف المادي قبل الهدف المعنوي ليعلّمنا أن نبدأ دائماً بتحقيق أهداف الإنسان وحاجاته قبل أن نشرع في بيان الحاجات المعنوية، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وتحدّثنا دائماً أن الكثرة في القرآن الكريم مذمومةٌ وليست ممدوحةً فإياك ثم إياك أن تقول: أنا مع الأكثرية، قل: أنا مع المؤمنين سواءً كانوا أقلِّيةً أو أكثرية، فالحقُّ هو الأكثرية ولو كان واحداً، والباطل هو الأقلّية ولو كان ألفاً، الأكثر هو الحق فأنت كن مع الحق تكن مع ما ينجيك، ولا تكن مع الأكثرية الظاهرة التي مصيرها إلى الهلاك والبوار.
|
تهيئة موسى عليه السلام بشريعة جديدة وكتاب جديد :
الآن هذا المشهد في القصة انتهى، مشهد من ولادة موسى وما رافقه من إشكالات وخوف وحزن وقلق من أم موسى إلى أن ردّه الله إليها، استغرق هذا المشهد يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام انتهى الآن، موسى أصبح عند أمه سواءً في قصر فرعون، أو كما يغلب على ظننا أنه كما ذكر بعض المفسرين في بيتها، جاءت به وأرضعته في بيتها، لكن بالمحصّلة انتهى مشهد، الآن في القصة يوجد شيء اسمه فجوة، ما معنى فجوة؟ فترة زمنية يغفلها الكاتب، يغفلها الكاتب لأنه لا يريد أن يطيل القصة في شيء لا يهمه في القصة أولاً، ثانياً: يريد أن يترك لخيال القارئ أو المستمع أو المشاهد إن تحولت القصة إلى دراما مثلاً يريد أن يترك له أن يتخيّل هذه الفجوة كي يملأها بنفسه، فهذه متعة في القصة ألا تذكر جميع التفاصيل، وأن تترك للقارئ أن يتخيّل الفجوة، الفجوة طويلة، تقريباً ثلاثين سنة، الفجوة تقريباً ثلاثين سنة، يا تُرى في هذه السنوات الثلاثين أين كان موسى؟ كيف كانت علاقته بقصر فرعون؟ هل كان من جنود فرعون؟ لا نظن ذلك حاشاه، لكن هل تربيته في قصر فرعون جعلته في عين الناس أنّه جنديٌّ من جنود فرعون؟ أصبح عنده في قصره وإن كان في بيت أمه لكن هو يُرَبَّى على عين فرعون؟ ما الذي حصل؟ لا ندري لكن ما سيأتي من القصّة سيشفُّ لنا عن بعض هذه الأمور من خلال التحليل وليس من خلال المعلومة المباشرة، وهذا من جماليات القصّة الأدبية.
|
الآن ترك القرآن الفجوة هذه كيف تَرَبَّى موسى؟ كيف شَب؟ طبعاً أُرضع، فُطم، نشأ، تعلّم، سعى في الأرض، عمل، إلخ.. وصلنا إلى عمر ثلاثين سنة تقريباً، أخذنا ثلاثين سنة فجوة، قال:
|
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(سورة القصص: الآية 14)
الاستواء هو اكتمال القوة العقلية
بدأت القصة من مرحلة جديدة، من حلقة جديدة تخدم هدف السورة وهو بيان رعاية الله لأوليائه، قال: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} بَلَغَ أشُدِّهُ: أي اكتملت قُواه الجسمية، أي ثمانية عشر عاماً، بلغ أشده انتهى النمو، أخذ حجمه، قوته العضلية، عضلات مفتولة، وسيظهر لنا أن موسى كان قويّاً بعد قليل، ومن خلال القصة كلها سيظهر أنه صاحب قوة عضلية، ونفس تميل إلى الغضب السريع، والانفعال السريع، هكذا سيظهر فيما بعد في القصة، {وَاسْتَوَىٰ} الاستواء هو اكتمال القوة العقلية، في الثامنة عشرة نمو الجسم يكتمل، لكن ما يزال العقل بهذه المرحلة غير مكتمل، الكمال في الإنسان أن يكون عقله غير مكتمل حتى يجرّب ويأخذ ويعطي، الآن أنت جرّب أن تركب في السيارة مع ابن الثامنة عشرة واركب مع ابن الثلاثين بعد أن يتزوج، قيادته للسيارة تختلف، نظرته للأمور تختلف، تحليله للأمور يختلف، تختلف نظرته للحياة بشكل عام يكون مثلاً ينفق كثيراً يصير ينفق بتقدير لأن له مصاريف أخرى، عنده أولاد، يُعد لأسرة إلخ..، يكون متهوراً قليلاً في قيادة السيارة، في اتّخاذ القرارات، يصبح حكيماً، فالاستواء هو استواء العقل، و{بَلَغَ أَشُدَّهُ} هو كمال الجسم، فموسى عليه السلام بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى معاً، أي الفجوة صار لها ثلاثون سنة تقريباً، لأن الاستواء يكون حسب اللغة العربية في الثلاثين تقريباً أو أكثر بقليل، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} هذه ليست رسالة، هو لم يرسل بعد، هو سيرسل بعد هجرته بعشر سنين، للأربعين تقريباً، الاكتمال الكامل في عمر الأربعين، يُبْعَث كما بُعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم، لكن هنا {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} حُكْمًا: أي حكمةً، الحكم والحكمة شيء واحد {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي أنه يُحْكِمُ الشيء فيضعه في موضعه، لا يوجد طيش، حُكْمًا، {وَعِلْمًا} العلم هنا ليس علماً جديداً، نبوّة جديدة، رسالة جديدة، لا، هو ربما علم إبراهيم عليه السلام على الحنفية السمحاء، لأنه حتى في عهد محمّد عليه الصلاة والسلام كان هناك أُناس على الحنفية السمحاء، فسنة الله في إرسال الرسل أنهم يكونون على دين إبراهيم عليه السلام، إنّ إِبْرَاهِيمُ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا:
|
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة آل عمران: الآية 67)
لكن الناس ابتعدوا كثيراً فتأتي رسالة جديدة تؤيّد الحنفية السمحاء تؤيّد الإسلام بمعناه الواسع الشمولي إسلام إبراهيم عليه السلام، وتُحيي ذلك بشريعة جديدة، بكتاب جديد، فهنا آتَيْنَاهُ عِلْمًا: هو العلم الذي يمنعه من أن يكون جنديّاً من جنود فرعون، ويمنعه من أن يقف مع فرعون، فأوتي العلم الذي هو العلم السابق.
|
تقديم الحكمة على العلم :
وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ
(سورة فاطر: الآية 24)
ليس عندنا أُمة عاشت من دون نذير، لكن بعد أمد تقسو القلوب، ويبتعد الناس عن الحق، فتأتي رسالة جديدة لتدعم الحنفية السمحاء هذا شأن الله في إرسال الرسل:
|
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 25)
الرسالة واحدة، والتشريعات مختلفة
فالرسالة واحدة، والتشريعات مختلفة، نعم، فهنا {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} اكتمال القوة الجسمية {وَاسْتَوَىٰ} اكتمال العقل {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي حِكمةً وعِلماً، لماذا قدّم الحكمة على العلم؟ لأن العلم من غير حكمة يودي صاحبه في مهاوي الهلاك، العلم بغير حكمة لا قيمة له، كم من إنسانٍ عالم لا يملك حكمةً فاتّخذ قراراً كان فيه هلاكه وشقاؤه، فالحكمة أهم من العلم:
|
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
(سورة البقرة: الآية 269)
فقدّم الحكمة على العلم تقديم أهمية {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
|
من كان محسناً آتاه الله العلم و الحكمة :
كثيراً ما تتردد في القرآن عبارة: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، {وَكَذَٰلِكَ نَنجي المؤمنين}، وكذلك، إلخ..، لماذا؟ لأنه في أثناء القصة قد يتبادر إلى الإنسان بعقله الواعي أو بعقله اللاواعي دون أن يشعر أن هذه قصة يقرؤها فهي خاصةٌ بمن وقعت معه فينفصل عنها، ينفصل عن القصة، ينشق عنها دون أن يشعر، فيستمتع بها كقصةٍ أدبيةٍ مرّت وانقضت، فيأتي قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، {وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، وكذلك، نعم، فتأتي {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} لتشير إلى أن هذه القصة التي أنت بلحظة معينة انفصلت عنها عُد إليها من جديد لأنها تعنيك أنت، فكل محسنٍ مهما كان ولو لم يكن نبيّاً:
|
{ إنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ }
(صحيح مسلم)
كل محسنٍ سُيجزى جزاء موسى
فكل محسنٍ سُيجزى جزاء موسى عليه السلام، إذاً فموسى كان محسناً في هذه السنوات التي مرّت، الآن تبيّن لنا أن الفجوة التي تُركت الآن سنتبيّن ملامحها من خلال الحلقة الثانية، أولاً: هو مُحسن، لأن الله وصفه بأنه محسن، فهل كان محسناً وهو جُنديٌ من جنود فرعون في قصره يضرب بسيفه؟ حاشاه، كيف يكون محسناً وهو مع فرعون! إذاً هو انشقَّ عن فرعون، تركه، تركه تركاً كاملاً أو تركاً جُزئياً أو لم يرض بما يكون هذه أول إشارة لثلاثين سنةً مرّت وهو أنه كان محسناً {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فكن محسناً يكن لك ما كان لموسى فيؤتيك الله الحكمة والعلم:
|
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
(سورة النساء: الآية 113)
دخول موسى عليه السلام المدينة على غفلة من أهلها :
الآن أيضاً هناك فجوة ولكن ليست فجوة كبيرة، لكن آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، الآن أتينا إلى مقطع جديد:
|
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ
(سورة القصص: الآية 15)
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} المدينة هي العاصمة هنا، اليوم أنت إذا قلت: نزلت إلى سوريا ودخلت المدينة، كلّنا نعرف أنها دمشق، وإذا قلت: ذهبت إلى الأردن دخلت المدينة، عمّان، وهكذا، فأنت في البلد الذي تقيم به المدينة يقصد بها المدينة الرئيسة التي صارت تدعى فيما بعد العاصمة، أي مكان الحكم الذي فيه العاصمة السياسية، أين كان موسى عليه السلام؟ هل كان في عين شمس كما تذكر بعض الروايات أن قصر فرعون كان قريباً من القاهرة اليوم فدخل وجاء من جهة القصر، أو بيته كان بالريف ودخل المدينة، إذاً هو كان خارج المدينة ودخلها، {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} وقت القيلولة؟ ممكن، بعد الظهر وقت القيلولة، هناك وقت تجد الطرقات فَرُغَتْ من الناس {حِينِ غَفْلَةٍ} لو كان الليل لَمَا سمي غفلة لأن الوضع طبيعي أنّ الناس نائمون، المهم أنه دخلها عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا وكأنه كان هناك شيءٌ يمنعه من الدخول فأراد أن يدخلها عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا، إذاً هذه الإشارة الثانية إلى أنّ موسى في هذه الأعوام الثلاثين لم يكن كما ينبغي مع فرعون، أي استقرار، وهناءة، ووضع طبيعي، لا، موسى كان يقف ضد فرعون، وضد جبروته، وضد طغيانه، هذه الإشارة الثانية، الأولى: {الْمُحْسِنِينَ}، الثانية: {عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} وكأنّه تعمّد ذلك، نعم.
|
وقوف موسى عليه السلام إلى جانب المظلوم ضد الظالم :
الاستقطاب السياسي مشكلة كبيرة
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} يَقْتَتِلَان: أي يتبادلان القتال، فهذا يحرص على قتل صاحبه، والثاني يحرص على لا نقول القتل النهائي ربّما لكن المضاربة، ليست المضاربة الشركة الشرعية ولكن التضارب، هذا يضرب هذا وذاك يضرب الأول وهكذا، {هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ} أي من بني إسرائيل، من بني جلدته، من قومه، أي اليوم هذا عربي وهذا أجنبي، هذا من شيعته أي من قومه، وموسى عليه السلام كان من بني إسرائيل، هذا من شيعته أي من بني إسرائيل، {وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ} عدوِّه يبدو أنه قبطي من الأقباط الذي كان يستخدمهم فرعون في مصر ليكونوا جنوداً من جنوده، لأنه كان يستعبد بني إسرائيل {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} كما ورد في القرآن الكريم، أما الذين كانوا معه فكثيرٌ منهم من الأقباط، فيبدو أن الذي من عدوّه هو قبطيٌّ من الأقباط كما ورد في التفاسير، {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ} إذاً كان هناك في مصر حالة استقطاب { وجعل أهلها شيعاً}، اليوم بعض البلدان التي فيها طوائف كثيرة يقول لك: البلد فيه استقطاب سياسي كبير، أي الناس يتجمعون على أُسس عرقية أو طائفية وهذه مشكلة، مشكلة كبيرة أن يكون في البلد استقطاب، أن يتجمع الناس بناءً على طوائفهم واعتقاداتهم، فكلما كثرت الجماعات إذاً أنت لا تبني وطناً، أنت تبني مزرعة يتناحر فيها الناس لتحقيق مصالحهم، فالمواطنة تعني أهل يثرب أُمَّة واحدة، النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل يثرب، وثيقة المدينة "أهل يثرب أُمَّةٌ واحدة" هذه هي المواطنة، أي نحن جميعاً أُمَّةٌ واحدة، يعنينا ما يعني الوطن، هذا لا يعني الاستغناء عن الدين أبداً، لكن الدين هو حاكم لحياة البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بأمر الدين، ولكن المواطنة تعني أنه ليس هناك اقتتال مبني على الطوائف أو القوميّات، لأن المدينة كانت خليطاً فيها أوس وفيها خزرج، والأوس منهم وثنيّون ومنهم لا.
|
مفهوم المواطنة قديم في الإسلام
وكان فيها يهود، وفيها موال، وفيها عرب، فهي فيها اثنينية دينية، واثنينية عرقية، يسمّونها أعراقاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يحسم هذا الخلاف قال: "أهل يثرب أُمَّةٌ واحدة" هذا مفهوم المواطنة الذي يطرحه اليوم العالم كله، فهنا يبدو في مصر حيث يحكم فرعون في وقتها كان هناك استقطاب، فقال: {هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ويبدو من خلال السياق أنّ موسى لم يقف مع من هو من شيعته لأنه من شيعته، ولكن لأنه مظلوم، والذي من عدوّه القبطي هو من أتباع فرعون، فهو سيقف ضده لأنه ظالم، فموسى ما اتّخذ قراراً بالوقوف مبنياً على أن أقف مع من هو من شيعتي، هذا التوصيف {هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ} لكن هو وقف مع المظلوم ضد الظالم، وهذه الإشارة الثالثة إلى أنّ الفترة- الثلاثون سنة- التي عاشها موسى في هذه الفجوة بين {فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ} وبين {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} هذه الفجوة لم يكن في قصر فرعون، أولاً: من المحسنين {وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، ثانياً: ما كان مرغوباً فيه بالمدينة {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}، ثالثاً: أنه كان يقف مع المظلوم ضد الظالم، ووقف ضد شخص من أتباع فرعون، فكان أعداؤه هم من يقفون مع فرعون، لم يكن في قصر فرعون في هذه الفترة، على الأقل ليس فترة كاملة، خرج من قصره هذا أصبح واضحاً.
|
توظيف الانفعال وسرعة الغضب في الخير :
الانفعال ينبغي أن يُرَشَّد
إذاً انظروا الفجوة التي تركها لنا السياق القرآني كم هي جميلة في القصة، لو قصّها لنا ما كنا استنتجنا، انظر إعمال العقل والاستنباط، ترك لك الفجوة لتستنبط أنت من خلال قصته أنّ موسى لم يكن جنديّاً من جنود فرعون وحاشاه أن يكون كذلك، فقال: {فَاسْتَغَاثَهُ} أي طلب غَوْثَهُ، استغاث: طلب الغوث، أن يُغيثه، والأصل بالغياث أن يكون بالماء، وسُمي الغيث غيثاً لأنه يُغيث الناس بالماء، لكنّه استعارةً يُطلق على كُلِّ شيء، فأنا أطلب منك الغوث بمعنى العون، أن تُغيثني، النجدة، {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ} أي وكز القبطي الذي هو من عدوّه، {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} هنا الوكز هو الضرب بِمَجْمَعْ اليد، أي جمّع يده ووكزه، أولاً موسى يبدو فتوة عالية، كما قلنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} معنى هذا أنه بلغ أشده تماماً لأنّ الوكزة قضت عليه، معنى هذا أن موسى عليه السلام فتوة عالية وانفعال عال، فالانفعال العالي إذا وُظِّف بشكل صحيح فهو شيء جيّد، إذا إنسان لا يوجد عنده انفعال يرى المنكرات والحرمات تنتهك في الطرقات ولا يتحرك، يرى المظلوم يُضرب ولا يساعده، لا يوجد عنده انفعال مشكلة، لكن أيضاً الانفعال ينبغي أن يُرَشَّد، أي ليس أي انفعال صحيح، لكن هو قوة في الإنسان، الانفعال وسرعة الغضب يمكن أن توظّف في الخير كما يمكن أن توظّف في الشر، فموسى عليه السلام أولاً: فتوة، ثانياً: سرعة انفعال، فوكزه، ضربه بجمع يده في صدره فقضى عليه، هل كان يريد أن يقتله؟ واضح بالسياق القرآني أنّه لم يشأ قتله، هو أراد أن يكفّه عن ظلمه فحصل قتل، يسمّى في شريعتنا قتل خطأ، قتل خطأ هو ما أراد قتله، لو أشهر سلاحاً، إذا إنسان أشهر سكيناً وضرب أحدهم بالسكين وقال: ما أردت قتله، نقول له: هذا زعبرة، لأنّ السكين تقتل، لكن اليد لا تقتل، إذا إنسان ضرب إنساناً بيده هل يقتله؟ لا، {فَقَضَىٰ عَلَيْهِ} لذلك ما قال فقتله، قال: فقضى عليه حتى لا يتوهم متوهم أنه أراد قتله، قال: فقضى عليه فكانت هذه الوكزة قاضيةً بأمرٍ من الله عزّ وجل لأمرٍ يريده الله، انتهى أجله، إذاً هل أخطأ موسى عليه السلام؟ لم يخطئ في الانتصار للمظلوم، لم يخطئ لكن، طبعاً هنا ما كان هناك رسالة بعد أصلاً، أي لا نستطيع أن نتكلم عن خطأ بالعصمة لأنه لم يُرسل بعد، لكن هل أخطأ بشدة الانفعال السريع؟ ربما، ربما كان هناك وسيلة لحل الإشكال بشكل آخر، لأن الذي حصل سيوظّف في الخير من قبل الله عزّ وجل، سيوظف في الخير لكن لا يعني هذا أنّ الفاعل فعله صحيح مئة في المئة لأنّه الآن سيثير عليه الناس، هو داخل على حين غفلةٍ من أهلها فكان الأولى به ربما أن يتستّر من أعين الناس ولا يفعل مشكلة تفضح أمره، على كُلٍّ، {فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، أي هذا الذي نحكيه نحن أنه ما أخطأ بأصل الفكرة وهي نصرة المظلوم، ولكن أخطأ بتطبيق الفكرة ربما.
|
تحذير الله عز وجل الإنسان من عداوة الشيطان :
ثم قال موسى: {هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} إذاً تدخُّلي بهذا الشكل السريع الانفعالي الغاضب هذا من عمل الشيطان {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} انظر إلى الوصف القرآني، وصف موسى هو الوصف القرآني للشيطان، أولاً: عدو:
|
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
(سورة فاطر: الآية 6)
إذاً هو عدو وعداوته ظاهرة، لكن بعض الناس يغيب عن ذهنه عداوة الشيطان له:
|
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
(سورة يس: الآية 60)
{لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فالله عزّ وجل يحذّرك من عداوته، أي يُحَذِّرُكَ منه ويبين لك عداوته، فعداوته واضحة {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} مُّضِلٌّ: أي يضل الإنسان عن طريق الحق، مُّبِينٌ: أي واضح، أي لا يخفى على ذي عقل أنّ الشيطان عدو فلماذا يتخذه الإنسان وليّاً من دون الله وهو عدوٌّ مُبين؟{قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} مُّبِينٌ: واضح، فإذا إنسان ضلّ والطريق واضح فالحسرة كبيرة جداً. إذا كان هناك ضباب ودخل بالطريق الثاني يعفي نفسه من المسؤولية، يقول لك: والله ضباب، لم أستطع رؤية الطريق، والدولة لم تضع أي إشارة توحي بأن الطريق من هنا، فدخلت في الطريق الثاني، وتهت ساعتين ريثما استطعت العودة، أي يعفي نفسه قليلاً من المسؤولية، أمّا إذا قبل كيلو متر وضعوا له الطريق هكذا، والجو صحو، وهو يستمع إلى أغنية بالمسجّلة ولم ينتبه، ودخل الطريق الخطأ، سينزعج طبعاً، والندامة ستكون كبيرة جداً، لأن الطريق كان واضحاً جداً.
|
طريق الحق واضح جداً
فلذلك ربنا عزّ وجل في القرآن قال: {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، الضلال المبين أي ليس من الصعب أن تكتشف الحق وضللت، ونحن في الدنيا ليس من الصعب أن نكتشف الحق، طريق الحق واضح جداً، أي هل هناك إنسان يتوهم أن طريق الحق بالكذب؟ أبداً، هل هناك إنسان يتوهم أن طريق الحق في انتهاك الحرمات؟ أبداً، هل هناك إنسان يتوهم أن طريق الحق في قتل الناس وإبادتهم؟ أبداً، فالطريق واضح جداً، لأنّ الحق متفق مع الفطرة التي فطرنا الله عليها، فلذلك قال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}.
|
أعظم الظلم ظلم النفس :
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
(سورة القصص: الآية 16)
أعظم الظلم أن تظلم نفسك
{قَالَ} أي موسى الذي قال، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} انظر المؤمن سريع التوبة، توّاب يكثر التوبة، موسى عليه السلام لم يتمهّل لليوم الثاني، فوراً قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وما قال: ظلمت أحداً، قال: ظلمت نفسي أولاً، لأن أعظم الظلم أن تظلم نفسك حينما تحرمها من الحق، أو تحجبها عن الحق، أو تعرضها لسخط الله، فمن ظلم الإنسان في هذه الحالة؟ نفسه، يظلم نفسه أول ما يظلم، أنت يمكن كثير من الأشياء في الحياة تتركها احتقاراً لها إلا الحق عندما تتركه تحتقر نفسك، قال:
|
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ
(سورة البقرة: الآية 130)
المؤمن يسارع إلى التوبة
لأنه حرمها من الخير، أمّا عندما يعرض عليك بيت، مساحته ضيقة، واتّجاهاته لا يدخل منها الشمس، فتقول: أنا لا أريد البيت، أنت تسفه البيت أم تسفه نفسك؟ البيت، تسفه البيت، إذا سفرة لا يوجد منها فائدة كبيرة فقلت: لا أريد هذه السفرة كلها سألغيها، أنت تسفهها، لكن إذا ربنا عزّ وجل قال لك: هذا هو طريق الحق، قلت: لا أريد الحق، فأنت تسفه الحق، لأنك تركته؟ لا، أنت تسفه نفسك لأنك لم تمش في الحق، فأسفه سفاهة أن يترك الإنسان الحق، وأعظم ظلم أن يظلم الإنسان نفسه، إذاً {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} طلب الغفران من الله، قال: {فَغَفَرَ لَهُ} انظر الفاء فاء الترتيب على التعقيب {اغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} أي ليس هناك مسافة بين الخطأ والتوبة ثمّ ليس هناك مسافةٌ بين التوبة وقبولها، هكذا ينبغي أن تكون معصية المؤمن، المؤمن يعصي، المؤمن يعصي ويتوب، لكن بعد معصيته يسارع إلى التوبة، {يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ}
|
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
(سورة النساء: الآية 17)
فيسارع إلى التوبة فيأتي القبول فوراً.
|
باب التوبة مفتوح دائماً على مصراعيه :
آدم عليه السلام عندما تاب إلى الله تاب الله عليه:
|
فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٍۢ فَتَابَ عَلَيْهِ
(سورة البقرة: الآية 37)
أبواب التوبة مفتوحة
فالتوبة مفتوحةٌ أبوابها، لكن المؤمن ينبغي أن يُعرّض نفسه للتوبة، بألا يجعل بين المعصية والتوبة زمناً يقسو فيه القلب، فتصعُب بعدها التوبة، فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} غفور ورحيم، وكثيراً ما يرتبط اسم الغفور بالرحيم في القرآن الكريم لأن المغفرة تقتضي الرحمة، لو لم يكن رحيماً لما غفر له، ثم إن الله عز وجل عندما يغفر يُلقي في قلب الإنسان أنه قد غفر له، وهذه من الرحمة أيضاً، {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
|
عهد موسى على نفسه ألا يكون ظهيراً للمجرمين :
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ
(سورة القصص: الآية 17)
هذا الآن رد الفعل على التوبة من الله، أي وقع الذنب، تاب الإنسان من قريب، تاب الله عليه، اتّخذ الإنسان موقفاً يدعّم توبته، ويؤكّد صدقه في التوبة، هذه هي السلسلة الصحيحة موجودة هنا، وقع الإنسان في معصية، ندم عليها، تاب منها، تاب الله عليه، فدعّم توبته بموقفٍ يؤكد هذه التوبة، فهنا قَال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} هذه باء للسبب، أي بسبب إنعامك عليَّ فلن أكون ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ، ما معنى ظهير؟ أي مُؤَيِّد، موافق، ومنه المظاهرة، عندما يخرجون للمظاهرة- نسأل الله العافية- لماذا يخرجون للمظاهرة؟ هي في الأصل ظهر الواحد للآخر فيسند ظهره إلى ظهره فيتظاهران معاً على الأمر، فالتظاهر هو وضع الظهر في الظهر فنتعاون معاً، فعندما أقول: لن أكون ظهيراً للمجرم أي لن أقف معه، ولن أُؤيّده، ولن أدعمه، أي أخذ عهداً على نفسه أنه لن تدفعه شدة الانفعال والغضب إلى أن يكون يوماً ما واقفاً مع صف المجرم، لن يقف في صف المجرمين، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}.
|
الحالة النفسية لموسى عليه السلام :
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ
(سورة القصص: الآية 18)
سيدنا موسى دخل المدينة خائفاً
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} انظر إلى الحالة النفسية كيف يصفها القرآن الكريم، {فَأَصْبَحَ} هنا أصبح ربما دخل في الصباح، أي ليست فعلاً ناقصاً، أصبح ممكن أن نأخذها فعلاً تاماً وممكن أن نأخذها ناقصاً، أصبح أي صار الصباح، أو أصبح أي صار في المدينة، {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} إذا أخذنا أَصْبَحَ فعلاً تاماً كيف نعرب {خَائِفًا}؟ حال، وإذا أخذناها فعلاً ناقصاً، أصبح موسى خائفاً، خبر أصبح، {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} الخوف لأنه قتل جندياً من جنود فرعون، إذاً هو قتل الظالم فعلاً، هذه إشارة رابعة، انظروا إلى الإشارات، هو لماذا خاف؟ لو كان موسى في قصر فرعون، ومن جنود فرعون، وقتل شخصاً لكان الأمر سهلاً، ولأعطاه فرعون مكافأة، لأن الذين في قصر فرعون يذبّحون ويستعبدون الناس، فأن تقتل إنساناً ثم تندم وتخاف مما فعلت هذا في قصر فرعون غير موجود أبداً، فهو لماذا أصبح خائفاً؟ لأن الذي قتله هو من جنود فرعون، {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} {يَتَرَقَّبُ} هنا حالة القلق والتردد، هل سينقل أحد الخبر؟ هل سيصل خبره؟ هذه مشكلة، هو قلق من وصول وافتضاح أمر هذا الذي فعله من قتل رجلٍ من جنود فرعون.
|
المرحلة الجديدة في حياة موسى عليه السلام :
التنظيم والحكمة في مصلحة الناس
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} يستصرخه اليوم، في الأمس استنصره، طلب منه أن ينصره على هذا الرجل، اليوم يَسْتَصْرِخُهُ أي يبالغ في الطلب منه، يصرخ بأعلى صوته: أنقذني، أنجدني، نظر فإذا هو نفسه رجل الأمس، الآن هل هذا الرجل ظالم أم مظلوم؟ نحن غلب على ظننا أنه مظلوم لكن هو كثير المشاكل، الرجل مظلوم لأن ذاك الرجل التابع لفرعون الذي هو من عدوّه لموسى لا يعقل أن يكون هو المظلوم، لأنه لا يعقل والسلطة لفرعون أن يظلم جنود فرعون، صحيح! بالمنطق بالعقل هم الأقوياء، لكن هذا الرجل يثير مشكلات جانبية ليس وقتها الآن {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} وهذا يشير إلى أنه أحياناً أنت عندما تكون- الآن لا أحد يتهمني بالتضامن أو بالدعوة إلى الاستكانة أبداً- في مكان يسام فيه الناس سوء العذاب، الحركات الفردية العنترية العشوائية غير المنظمة مآلاتها سيئة جداً جداً، ليست مآلات صحيحة، قَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ، كل يوم تفتعل مشكلة مع أحدهم، وهذا من أتباع فرعون، أي أنت الآن تجلس في حكمه فبدلاً من أن تثير كل يوم مشكلة جانبية اذهب واجمع نفسك مع أقرانك بهدوء، بالعقل، بالمنطق، وخطط، أما أن تستثيرك كل يوم مشكلات جانبية وتدخلني فيها بدافع الانفعال والغضب، وبأننا نريد نصر الحق، ونكون مع الحق، فهذا لا يجدي نفعاً، المشكلات الجانبية في مكان يستعبد فيه الناس ليست في مصلحة الناس، لكن التنظيم، والعقل، والمنطق، والحكمة، والتجمع، وأخذ الحذر، وبناء النفس، وبناء الإنسان، وبناء الأمة، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم:
|
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ
(سورة النساء: الآية 77)
أي لا تقاتلوا أحداً الآن، لكن بالمقابل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في دار الأرقم يعلم الناس دينهم، دار الأرقم خرّجت الخلفاء الأربعة، وخرّجت قوّاد الفتح، وخرجّت المُنفقين والمبشرين بالجنة، هذه هي دار الأرقم، هذه التي أنشأت دولة الإسلام، ولكن بوقتها كفوا أيديكم، لأنه أنت بالحركات الجانبية تفرغ طاقات فقط، ولكن هي بالنتيجة وبال علينا، عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأنشئت الدولة قال:
|
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(سورة الحج: الآية 39-40)
ابتعد عن المعارك الجانبية لتنجح
بدأت مرحلة جديدة، فلابد من مرحلة كفوا أيديكم ولابد من مرحلة أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، لكن أن نخلط بين الأمرين فنجعل أُذِنَ لِلذِينَ يُقَاتَلُونَ في مكان أن نكف أيدينا فهذه هي المشكلة، فهذا الرجل الذي يستصرخه قال له موسى إنك لَغَوِيٌّ، ليس لُغَوِي من اللغة العربية لأن أحدهم - من باب المزاح - وجد شخصاً يتكلم اللغة العربية بشكل فصيح، فقال له: إنك لُغَوِيٌّ مبين، لا، تلك لُغَوي أما لَغَوِي هذه لام المزحلقة، إنك - ل- غَوِيٌّ، أي أنت غوي تغوي ستغويني في شيء لا ناقة لي به الآن، أنا داخل المدينة على حين غفلة من أهلها، وأنا أصبحت خائفاً أترقّب، وأنا بمرحلة بناء {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أبني نفسي، وأبني شيئاً للمستقبل حتى نقضي على فرعون قضاء حقيقياً، أمّا أن تشغلني بمعارك جانبية فأنت غوايتك أصبحت واضحة جداً، فهمنا أول يوم أنت مظلوم فنصرناك، لكن في اليوم الثاني مظلوم أيضاً؟ معنى هذا أنت مهمتك أن تثير المشكلات، وهذا ليس وقت المشاكل، الآن اكتملت الصورة لماذا موسى وكز القبطي وقتله؟ لأنه هو ما أراد قتله ولماذا حصل ما حصل؟ {قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ}.
|
انفصال موسى عن فرعون انفصالاً كاملاً و بحثه عن الحق :
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
(سورة القصص: الآية 19)
موسى صار معروفاً بأنه من المصلحين
إذاً انظر إلى الحالة الانفعالية لموسى عليه السلام لا تخفى، التي أثبتناها عادت واتضحت لنا من جديد، بعد أن قال {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} {أَرَادَ أَن يَبْطِشَ} أي اندفع من جديد لهذه المعركة الجانبية مع أنه اتضحت له الصورة، لكن ما استطاع أن يتركه وهو يسام العذاب من هذا الجندي من جنود فرعون {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} لهما: عدو لبني إسرائيل، لأن كليهما من بني إسرائيل {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ} هناك بعض المفسرين قالوا: إنّ الذي قال: يا موسى هو الإسرائيلي، أي الذي من بني جلدته لكن هذا التفسير ضعيف، والأوضح للسياق والأنسب للسياق أنّ الذي تكلم هو القبطي هو الذي عدوٌّ لهما، {قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ ۖ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} هنا يوجد إشارة، وصلنا إلى الإشارة الخامسة، موسى إذاً صار معروفاً بأنه من المصلحين، أي عندما يريد أن يعاتبه يعاتبه على أنه مصلح، إذا فعلت ذلك لم تعد من المصلحين، إذاً هو ليس من جنود فرعون، وهو ليس في قصر فرعون، الإشارة الثانية: لو كان بقصر فرعون لما تجرّأ أن يتكلم معه، أي لو كان هو مازال بعزة فرعون في هذه الثلاثين سنة، وبحماية فرعون من يجرؤ أن يقول له: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} لكن اتضحت الصورة، أنه بعد أن رده الله إلى أمه رُبِّيَ على عين فرعون، وبأجرٍ يدفعه فرعون لأمه في قصر فرعون، أو على الأغلب في بيته فتركه فرعون، لكن بدأت خيوط اللعبة تتفلّت من يد فرعون منذ أن نضج موسى، قد يكون منذ أن أصبح في العاشرة من عمره، أو الثانية عشرة بدأ موسى برحلة البحث عن الحق، وبرحلة البحث عن العلم {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} إذاً هو انفصل عن فرعون انفصالاً كاملاً.
|
انتشار خبر قتل موسى لأعوان فرعون :
الآن {يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ} إذاً الخبر أُشيع، من أين علم هذا الرجل أن موسى قتل نفساً بالأمس؟ إذاً يُتَكَلَّم بالأمر، {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} أي لا تريد إلا أن تكون جبّاراً في الأرض، طبعاً هذا الظالم الذي يتكلم، القبطي الذي هو من أتباع فرعون لكن يتكلم بلسان الناصح، لأن الموت وصل لعنده، أي هو في الأصل متى لم يكن جبّاراً؟ هو ينصر الجبّار طبعاً بالمعنى السيئ لكلمة جبّار، الجبّار الذي يتجبّر في الأرض، ربنا عزّ وجل جبّار لكن بحقّه جلّ جلاله جبّار، فاسمه الجبّار اسم كمال.
|
الإصلاح أن تؤلف بين القلوب
لكن عندما تقول: إنسان جبّار فهذه صفة نقص لأنك أنت بكل خلية في جسمك بيد الله عزّ وجل، الشرايين التي يجري فيها الدم قطرها بيد الله عزّ وجل، في أي لحظة ينهي حياتك الله عزّ وجل أو يقعدك عن أي عمل، فإذا قلت: أنا جبّار، هذه صفة نقص لأنك تتلبس بشيءٍ ليس من سماتك في شيء، فقال: {إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ} معنى هذا أنت تدّعي أنك مُصلح لكن بفعلك هذا مَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ، وقد يجري الله أحياناً الحكمة على يد عدوٍّ من أعدائه، وقد ينصر الله دينه بالرجل الفاسق، فهذا الرجل تكلّم بكلام صحيح، لا بمعنى اترك المظلوم يظلم ولا تتدخّل، لا، لكن بمعنى أنه ممكن أن يكون هناك سبيل آخر للإصلاح، أي إذا أنت اليوم تمر بطريق ورأيت اثنين من الناس يتعاركان، و أنت تريد أن تتدخل للإصلاح، لا يعقل أن تتعارك معهم أيضاً، هذا ليس بحل للمشكلة سواءً كنت ستضرب واحداً منهما أو كليهما، هناك بعض المدرسين ليفصل بين طالبين يتعاركان يضرب الطالبين معاً، وهذا ليس بحل للمشكلة، هذا انتقام، تشفّ، محاولة إخماد المشكلة لكن ليس بحل، الإصلاح هو أن تتدخل لتوقف المعركة، ثم لتستمع من الطرفين، وتؤلف بين قلبيهما، فهذا هو الإصلاح، أمّا أن تضرب هذا وتضرب ذاك أو تضرب الاثنين معاً فذلك ليس بحل، فموسى عليه السلام علم أنّ هذا الرجل الذي استنصره بالأمس ثم يستصرخه اليوم وصفه وصفاً دقيقاً هو غَوِيٌّ مُّبِين، غوايته واضحة يدخلنا في معارك جانبية، وإن كان مظلوماً حيناً، ولكن هو في المحصّلة كثير الشر، وكثير المشاكل، وكثير الغواية، فوصّفه توصيفاً صحيحاً، ثار غضبه من جديد فأراد أن ينتقم للمظلوم من الظالم، وهذا شأن المصلحين، وموسى {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} فلا يعقل أن يقف مع الظالم لأنه من شيعته، وسياق القصة كلها يوحي بأن {الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} هو من قوم فرعون، فهو الظالم، والمظلوم هو الذي من شيعته، لأن بني إسرائيل هم الذين كانوا يسامون سوء العذاب كما ورد ذلك في آيات كثيرة، هو وقف مع المظلوم صحيح لكن بمعركة جانبية ليس الآن وقتها، ولا تلك طريقة حلّها، فمن أجل ذلك أراد الله عزّ وجل إيقاف هذه المعركة، {إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} الآن هناك فجوة بسيطة جداً ليأتي بعدها الرجل الذي يحذّره، وهذا مقطع جديد نرجئه إلى اللقاء القادم. والحمد الله رب العالمين
|