خروج موسى عليه السلام من مصر

  • الدرس الخامس - الآيات 20- 26
  • 2019-02-22

خروج موسى عليه السلام من مصر


قصة موسى عليه السلام مع رجل من الأقباط من حاشية فرعون :
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛ مع اللقاء الخامس من لقاءات سورة القصص، وقد وصلنا في اللقاء الماضي إلى قوله تعالى:

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
(سورة القصص:الآية 19)

إذاً موسى عليه السلام قتل رجلاً، هذا الرجل من حاشية فرعون، يبدو أن المشكلة كبيرة، ويبدو أن الخبر قد انتشر بدليل أن هذا الرجل قال: (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ) الخبر أُذيع، ومشكلة موسى مع فرعون تكبر شيئاً فشيئاً، لكن يد العناية الإلهية التي رعت موسى وليداً وهو في التابوت هي يد العناية الإلهية التي سترعاه وقد أحاطت به تلك المشكلة من جوانبها:

وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
(سورة القصص:الآية 20)

إذاً الخبر أُشيع، فرعون وحاشيته غاضبون جداً من موسى، طبعاً الجريمة في عرفهم، موسى عليه السلام وكزه فقضى عليه، ما أراد قتله، قلنا: هو قتل خطأ، وهو انتصار للمظلوم، لم يكن انتصاراً للظالم، فموسى عليه السلام باعثه ونيته كانت صحيحةً، وإرادة القتل لم تكن موجودةً عنده، لكن الأمر حصل بإرادة سليمة، لكن لعل التصرف كان انفعالياً ليس في وقته كما تحدثنا سابقاً، الآن يد العناية الإلهية ساقت لموسى رجلاً من أقصى المدينة، من هو هذا الرجل؟ القرآن يُغفِلهُ ويُنَكِّرُهُ، ما قال: وجاء الرجل، قال: (وَجَاءَ رَجُلٌ) وهذا التنكير مقصود، من هو الرجل؟ لعله مؤمن آل فرعون، هذا الأغلب، لأن العبارة القرآنية في مكان آخر:

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ
(سورة يس:الآية 20-21)


الهدف من حركة الإنسان في الحياة تحقيق مراد الله عز وجل :
ثم قال تعالى:

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
(سورة غافر:الآية 28)

إذاً هذا الرجل لعله هو نفسه هو مؤمن آل فرعون، وهذا الراجح في كلام المفسرين، على كل يد العناية الإلهية ساقت رجلاً يؤمن، يكتم إيمانه، يريد خيراً بهذه الأمة، جاء يسعى، الآن (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) للدلالة على البعد المكاني (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) للدلالة على أن هذا الرجل يحمل في داخله خيراً كبيراً، حتى إنه قد قطع المسافات ليصل إلى موسى قبل أن يصل إليه الملأ الذين يأتمرون به ليقتلوه، وجاء يسعى، وهذا يدل على المسارعة، لم يأت ماشياً، بل جاء يسعى، والسعي يدل على المسارعة في الأمر، لعله لم يستروح طول فترة سعيه، جاء من أقصى المدينة، ثم جاء يسعى (قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) يَأْتَمِرُونَ: أي يقومون بالمؤامرة، أي يبيتون لك أمراً، وهذا الأمر هو أنهم يريدون القضاء عليك، الآن موسى يوم أن كان وليداً، وكان القضاء عليه محتَّماً في عرف فرعون، نجاه الله تعالى، وجعل فرعون يُربِّيه، وينفق على إرضاعه، أيستغني الله عنه بعد أن (اسْتَوَىٰ وآتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)؟
حاشاه ربنا، لكن ما أراد ربنا أن تنفذ معجزة هنا بمعنى أن يمنعهم من الوصول إليه، أو يَصِلونَ إليه ويحدون سكاكينهم لقتله فلا تَفْعَل فَعَلَهَا، لا، أراد الله أن تأخذ الأمور سننها في الكون بشكل طبيعي، يتحرك إنسان بإرادة الله عز وجل، يُظهرُ أحسن ما عنده وهو أن يساهم في نجاة موسى من قبضة فرعون وملئه، فيأتي هذا الرجل من أقصى المدينة يسعى ليحقق مراد الله تعالى، نحن
أنت تحقق مراد الله
دائماً عندما نتحرك في الحياة نحقق مراد الله، ولكننا نكسب الثواب أو نكسب الإثم في تحقيق مراد الله، فإن حققنا مراد الله الشرعي في الخير، وإن حققنا مراد الله الشرعي في الطاعة، وإن حققنا مراد الله الشرعي في نجاة إنسانٍ من موتٍ محقق، فأجرى الله الخير على يدينا، وحقق مراده، وأعطانا ثواب ذلك، وهذا معنى قول ابن عطاء الله : " إِذَا أَرَادَ رَبكَ إظهار فَضله عَلَيْكَ خَلَقَ الفضل وَنَسَبَه إِلَيْكَ "، فأنت ينسب الفضل إليك لأنك كنت سبباً، لكن أنت تحقق مراد الله، أما عندما تحقق إرادة الله الكونية والقدرية وليس الشرعية، فيقوم قاتل بقتل إنسان، فهو يحقق مراد الله، لأن الله أراد أن يُقتل هذا الإنسان، لعله أراد أن يُقتل من أجل أن يكون حياً عند ربه يرزق، ألم يُقتل الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى كما في سورة يس:

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
(سورة يس:الآية 26-27)

هذا الرجل قُتل فيما بعد، لكن أعلى الله مكانه، ولعله أراد أن يُقتل لتحقيق حكمةٍ أُخرى لا نعلمها.
أيضاً القاتل يحقق مراد الله، لكن لا يحقق مراد الله الشرعي، وإنما يحقق مراد الله القدري والكوني، وعندما يحقق مراد الله يبوء بالإثم، لأن في داخله إثماً، لأنه يريد الإثم فسمح الله له أن يقع في الإثم فيعاقب على إثمه، ويتحقق مراد الله الكوني، ونحن عندما نطيع الله نحقق مراد الله الشرعي، ونكافأ على تحقيق هذا المراد.

المسارعة إلى العمل الصالح :
سارع إلى العمل الصالح
إذاً هذا الرجل جاء من أقصى المدينة، وجاء يسعى، جاء يريد خيراً، فلذلك سارعَ إليه، وهذا يعلمنا أنك إذا أردت أن تقوم بمعروف فاسع إليه سعياً، لا تنتظر أن يأتيك العمل الصالح إلى بابك، هذا الرجل لم يجلس في بيته يقول: إن وصل إليّ موسى أخبره، لا، شمَّر عن ساعد الجد وخرج يسعى إلى أن وصل هو إليه، فأنت سارع إلى العمل الصالح، لا تنتظر العمل الصالح أن يأتي إليك، أحياناً إنسان جالس في بيته، يطرق بابه سائلٌ فيرى فيه صدقاً، ويرى فيه عفةً، ويرى فيه معروفاً فيساعده، هذا خيرٌ ساقه الله إليك، لكن أنت وطّن نفسك أيضاً ألا تنتظر الخير أن يصل إلى بابك، انهض واسع في الخير، أنت اسع في الخير، فهذا الرجل، وجاء من أقصى المدينة، قطع مسافات جاء يسعى في فعل خير.

الدين النصيحة :
الدين النصيحة
(وَجَاءَ رجلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هنا التركيز جاء على الرجل فَقَدَّمَهُ، (وَجَاءَ رجلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ) الملأ هم ملأ فرعون (يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) يريدون قتلك، إذاً الخبر أشيع، ولو كانت جريمة عادية أي لو كان في الشارع وموسى قتل شخصاً من الأشخاص ما كان تحرك فرعون، هذا يؤكد أننا عندما قلنا: إن فرعون انتصر للمظلوم وقتل الظالم، وَكَز الظالم فقضى عليه، هذا تؤكده هنا الآية، لأن فرعون ما الذي حركه؟ فرعون انزعج كثيراً لأن جريمة قتل حصلت في مملكته؟ لا، هو يومياً يذبح البنين ويستحيي النساء، الدم عنده لا قيمة له إطلاقاً، فهو يستعبد الناس، وهذه الأهرامات التي بُنيت يقال إنه قد مات فيها خلقٌ كثير حتى يبني قبراً له بعد موته، فهل فرعون انزعج كثيراً لقتل إنسان؟ لا، لكنه لمح في هذا الفعل أن هناك من يتمرد على مُلكه، وأن هذا الوليد الذي رباه في قصره ورعاه في رعايته قد انتفض لينصر مظلوماً، وهنا المستبد والظالم يطيش صوابه، ويطير عقلهُ، إذاً فرعون تحرك مع ملئه ليس انتصاراً لدمٍ قد سفك، وإنما لأنه لمح أن هناك ثورةً على استبداده، وأن هناك أناساً أصبحوا لا يقبلون الضَّيم والظلم في مملكة فرعون، فقامت قيامته، وجمع الملأ وائتمروا، وكان هناك مفاوضات ومشاورات، واتفقوا على أن هذا الرجل ينبغي أن يُقتل، فقال: (يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) أي الأمر لم يعد يحتمل المجابهة، المجابهة في هذه المعركة خاسرة، وأحياناً الخروج يكون هو الحل، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة خرج، بقي ثلاثة عشر عاماً في دعوته يجابههم، ثلاثةٌ منها سرية، وعشر جهرية، وربما أسلم معه في البيعة أربعة وثمانون رجلاً حتى بنى النواة، لكن في مرحلة معينة خرج إلى المدينة ليبني دولة الإسلام بعيداً عن بطشهم وظلمهم، مع أنه في بداية الدعوة يمر فيرى بلالاً، ويرى عماراً، ويرى خبيباً، ويرى، ويرى...، ولكنه يقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، لا يوجد مجال لإثارة أي معركة ضمن الأرض، ضمن الأرض التي يحكمها مُشركو قريش، ويتسلط على رقاب الناس فيها أُناسٌ لهم مصالح لن يتنازلوا عن مصالحهم، كما هنا الحالة تماماً، هذا القرآن يتنزل في مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلمهم من خلال قصة موسى ما ينبغي أن يفعل، هو قال:(فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) أنصح لك، والمؤمن ينصح، الدين النصيحة، فالمؤمن ينصح، والمستشار مُؤتمن، قال: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) هذه النصيحة من هذا الرجل تقدر بجبل من ذهب، هذه النصيحة تعني أن مراد الله سيتحقق، لكنه تحقق عن طريق هذه النصيحة من رجلٍ قد لا يقيم له الناس وزناً وقتها، يكتم إيمانه، لكن تحقق مراد الله عن طريق نصيحة هذا الرجل، فكم له من الفضل إلى يوم الدين، هذا الرجل ربما يأتي يوم القيامة وفي صحيفته بنو إسرائيل الذين استجابوا لله ولرسوله موسى عليه السلام، لأنه نصح هذه النصيحة، قال: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) فخرجَ، المؤمن يستجيب لنصيحةٍ من مؤمن، فالشورى في الإسلام ليست شكليةً، هناك أناس يشاورون شكلياً، أي هو بحكم مركزه هناك مجلس إدارة للشركة، فيجمع عشرة أشخاص ليأخذ آرائهم ومن ثم ينفذ رأيه، في النتيجة هو يريد أن ينفذ رأيه، لكن الشورى رائعة، أننا نحن في مجلس إدارة، أي يوهم الناس أنه يشاور، وهو في الحقيقة لا يشاور إنما هو مستبد برأيه، لكن في الإسلام (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فالشورى مُلزِمة، بمعنى ملزمة إلزاماً أدبياً، بمعنى أن نتيجة الشورى ينبغي أن تنفذ، والنبي صلى الله عليه وسلم نفذ ذلك حقاً، الْحُبَاب بْنَ الْمُنْذِرِ يوم قال له: هذا موقعٌ أَنْزَلَكَهُ اللّهُ في بدر أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل الرأي والمشورة، قال: هذا ليس بموقع، فنقل أصحابه إلى مكانٍ آخر، وكانت معركة بدر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشاور ويأخذ بالشورى، إلا أن يكون وحياً، ففي الوحي ليس هناك مشورة.

التوجه إلى الله تعالى خاصة في أشدّ ساعات العُسرة :
قال له: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) قال: فخرج، أي لم يقل له: لنتمهل قليلاً لنرى المواجهة، لنرى إن كان هناك أحد يريد أن يحميني، لا أبداً الوضع لا يحتمل، قال: - الفاء للترتيب على التعقيب- فخرج منها خائفاً يترقب، هو بالأمس دخل إليها خائفاً يترقب، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب، أي الخوف بدأ من لحظة أن مات هذا الرجل الذي هو من ملأ فرعون:

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(سورة القصص:الآية 21)

الأمن ألا تتوقع وقوع المصيبة
قلنا: الخوف دلالة على وجل القلب، والترقب هو القلق، الترقب هو توقع شيء، وقلت لكم سابقاً: توقع المصيبة مصيبة أشد منها، وأنت من خوف الفقر في فقر، وأنت من خوف المرض في مرض، والأمن ليس ألا تقع المصيبة، لكن ألا تتوقع وقوع المصيبة، فموسى لم يكن آمناً هنا إلا بأمن الله، سنرى كيف ناجى ربه، لكن بعرف البشر موسى عليه السلام لم يكن آمناً، السلامة ألا يقع المرض، أما الأمن فألا تتوقع المرض، وكم من إنسان سليم معافى في جسده لكنه مريضٌ بمرض القلق، لأنه يتوقع أن يحصل المرض يوماً، (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إذاً موسى في أشد ساعات العُسرة لا يستغني عن التوجه إلى الله تعالى، وأنت أيها المؤمن إياك ثم إياك ثم إياك أن تستغني عن وجهتك إلى الله تعالى، مهما اشتدت الخطوب بك إياك أن تنسى أن لك رباً ينبغي أن تدعوه، وأن تطلب منه، وأن تتوسل إليه، (قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

الاعتصام بالله و استخارته بالأمور كلها :
الآن السياق القرآني يتَّجه إلى أن موسى اختار أن يذهب إلى منطقة مدين، مبتعداً عن فرعون، وعن العاصمة المدينة التي فيها فرعون واتجه إلى مدين:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ
(سورة القصص:الآية 22)

انظر الاعتصام بالله، هو الآن في حالة عسرة، اختار أن يذهب إلى مكان لكن قلبه مع الله (عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، هذه استخارة، هذه استخارة موسى عليه السلام، ونحن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا الاستخارة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ يَقُولُ:

{ إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي به ))، قَالَ: ((وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ }

(أخرجه البخاري)

عندما تختار تحمل نتيجة اختيارك
هذه الاستخارة، هنا موسى يستخير (عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، والاستخارة حتى في شرعنا تتم بالدعاء دون الصلاة، أي تصح الاستخارة إذا كان الإنسان غير متوضئ، والأمر سريع يستخير بالدعاء، (عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) يا رب اختر لي، أنت عندما تختار تحمل نتيجة اختيارك، الحسن البصري عندما وجد إنساناً كئيباً مكسوفاً حزيناً في المسجد قال له: يا فلان أمُدَبِّرٌ أم مُدَبَّرٌ له؟ قال: بل مُدَبَّرٌ له، قال: إذاً دعك من الهم والحزن والقلق، إذا كنت صاحب الأمر فاهتم، أما إذا كنت موكلاً أمرك لجهةٍ قويةٍ غنيةٍ تقوم بهذا الأمر عنك فأنت أصبحت مُدَبَّرَاً له، هذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، لكن يعني أنّ أمورك بيد الله، أنا آخذ بالأسباب، والله هو الذي يدبر لي أمري، قال العلماء: اختر ألا تختار، اختر لنفسك ألا تختار، اترك الْخِيَرَةُ لله:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا
(سورة الأحزاب: الآية 36)

دع الاختيار لله، (قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) السواء هو الوسط والمنتصف، والسواء هو الصحيح، أي يهديني إلى السبيل السواء الذي يوصلني إلى نجاتي، وإلى خيري الدنيا والآخرة.

شأن المرأة الحياء لأنه لا جمال للمرأة إلا بحيائها :
شهامة ومروءة موسى عليه السلام
موسى إذاً في الصحراء قطع المسافة، القرآن لا يذكر هذه المسافة إلا أن موسى كان متوكلاً على الله فيها، يأتي المقطع الجديد في السورة:

وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
(سورة القصص: 23)

شأن المرأة الحياء
وورود الماء يعني أنه وصل إلى ماء مدين، وهو بئر يسقي منه الناس، يشربون منه، (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ) أمة أي مجموعة من الناس، لكن يبدو أنها مجموعة كبيرة ليست بضع رجال، بل أمة، أي يوجد زحام على الماء، لأن الناس يردون الماء ثم يصدرون وقد ملؤوا أوعيتهم ليكملوا يومهم أو أسبوعهم، (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أي يأخذون الماء للسقيا، وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ، أي بعيداً عنهم، غير مختلطين بالرجال، وهذه هي الفطرة، فطرة المرأة التي فطرها الله عليها هي الحياء، عندما نقول للمرأة: ينبغي أن تقتحمي هذا الأمة من الناس وأن تسقي معهم، فنحن لا نحررها من قيدٍ قيَّدها، وإنما نقيدها بعد أن حررها الله تعالى، أمة من الناس تسقي، شأن المرأة الحياء، لأنه لا جمال للمرأة إلا بحيائها، وللرجل، لكن حياء الرجل مختلف عن حياء المرأة، حياء الرجل بألا يقع في معصية، وحياء المرأة من ألا تقع في معصية، لكن المرأة من حيائها أنها لا تزاحم الرجال، والشرع في الأصل لا يريد لها أن تكون في مكانٍ ليس مكانها إلا أن تحتاج إلى ذلك، فالقرآن ما عاب على هاتين المرأتين لكن لهما عذراً سيأتي، هما ينبغي ألا تخرجا، تبقيان في البيت معززتين مكرمتين، لا مقيدتين، بل معززتان مكرمتان، لأن الرجال يأتون لهن بالماء، فالرجل مهمته خارج البيت، أما هي فمعززة مكرمة في بيتها، تخرج من بيتها لحاجتها، وتخرج من بيتها لمسجدها (لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ)، تخرج لكن لا تخرج إلى المكان المخصص لعمل الرجال، لكن عندما كان عندهما إشكال، القرآن ما عاب عليهن خروجهن لكن عاب على الرجال قلة شهامتهم ومروءتهم إذ تدافعوا إلى الماء وتركوا مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ (تَذُودَانِ) أي تُدْفَعَان، لا يستطعن الاقتراب نهائياً، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) الآن انظروا إلى موسى عليه السلام، هذا الرجل كان طريداً في الصحراء، ولا يعلم إذا كانوا يلحقون به، وسيصلون ويقتلونه، إلى الآن لا يعلم هل نجا أم لا؟ أي حتى هذه اللحظة هو من دون مأوى، مكدود، متعب، منهك، تخيل السفر مع الهروب، وتخيل أنه عندما جاء رجل وقال له: اخرج، فخرج من دون أن يأخذ الزاد معه، ولم يحمل الماء، ولم يرتب أموره، وليس معه ألبسة، ولم يأخذ معه شيئاً، ولم يحضر أمتعته تحضيراً للسفر، لأن موسى عليه السلام كان الوقت بالنسبة إليه صعباً جداً، لأنهم إذا وصلوا إليه قتلوه، فخرج منها فوراً، اخرج فخرج، إذاً موسى لا يملك أي شيء من مقومات السفر الهادئ والمريح، موسى لم يسترح في الطريق، لأنه لو استراح لوصلوا إليه، موسى كان هارباً، هارباً إلى الله عز وجل، يا رب اهدني سَوَاءَ السَّبِيلِ، وصل إلى الماء، قد يكون وروده الماء أول شيء من شدة عطشه ليشرب، ويغسل وجهه، والمسافر يكون متعباً جداً، فهو في أشد هذه اللحظات يمكن أن يقدم أعذاره كلها، أن يترك المرأتين حتى يحين دورهما، وينتهي الرجال من السقاية، أي معذور، لكن انظروا إلى شهامته ومروءته ما قبل لأنه رأى مشهداً منكراً، امرأتان واقفتان بعيداً، والرجال يتزاحمون على الماء، والشهامة والمروءة تقتضي أن يبتعدوا، ويفسحوا لهن المجال، وأن يعبئوا لهن، وأن يوصلوهن إلى البيت، ثم يسقون هم، هاتان الفتاتان لهما وضع خاص، فلا ينبغي تركهما، موسى لم يستغن عن العمل الصالح وهو في أشد ساعات العسرة، وفعله لوجه الله، لأنه ما كان يدري أن خلاصه في السقاية لهاتين المرأتين، هو فعله لوجه الله، والدليل سيأتي (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) انظر إلى العبارة الموجزة والدقيقة ( قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) أي ما الأمر؟ ما الخطب؟ لأنه يوجد أمر جلل، أمر غير معتاد، إذاً خروج المرأة للسقاية لم يكن أمراً مألوفاً في الفِطَر السليمة، لهذا نقول لدعاة تحرر المرأة اليوم وهم في الحقيقة يريدون أن يحرروها من أجل أن يستمتعوا بها خارج إطار الشريعة، ويوهموننا أنهم يريدون تحريرها، وما حرر المرأة إلا الإسلام، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) أي أمر جلل، ما الذي أخرجكما وجعلكما تقفان هذا الموقف غير المناسب للمرأة؟ المرأة معززةٌ ومكرمةٌ ومصونةٌ في بيتها، لا ينبغي أن تصل إلى سقاية الماء، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا) أي شيء عجيب غريب، أول شيء السؤال مختصر، لأن هذا عمل صالح، لأن هناك أحياناً إنساناً يجد امرأة في الطريق معطلة سيارتها، جميل جداً أن تساعدها، ولكن لوقت مساعدتها يكون قد أصبح بينهما أخذ وردٌّ في الكلام، وكيف حالكِ؟ وأين تسكنين؟ هذا ليس له علاقة بالعمل الصالح، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاء) ورود الماء ثم الصدور عنه، يَرِدُ الماء ثم يَصدُرُ عنه
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا ***
{ عمرو بن كلثوم - الفخر الجاهلي }
فورود الماء ثم الصدور عنه (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) أي حتى الرعاة أو الرعاء ينتهون من السقيا لغنمهم ولأنفسهم، حين ينتهوا نتقدم لأننا لا نختلط بالرجال، نحن من أسرةٍ عفيفة، لا نزاحم الرجال ونصبح بينهم، لا، هذا شأن المرأة وشأن حيائها (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ)، لو سكتتا لقال موسى وأين من يسقي لكما؟ وما المشكلة عندكما؟ لكن إجابتهما كانت حاسمة وسريعة بحيث تنفي أي احتمال آخر (قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) إذاً يوجد عذر قاهر وهو أنه ليس لهما زوج إذاً، وليس لهما أخ، لا يوجد سوى الأب،
ينبغي أن تساعد المرأة
والأب شيخٌ كبير، ولو كان يستطيع أن يخرج لخرج وما أخرجهما، وأبونا شيخٌ قد شاخ، كبير أي لا يستطيع أن يخرج، أقعده المرض، أو أقعده العمر عن الخروج، إذاً موسى عليه السلام مع هاتين الفتاتين علمانا دروساً في هذه الآية، دروس كرامة المرأة، دروس حرية المرأة، دروس حياء المرأة، دروس الكلام المهذب اللطيف، دروس أن المرأة ينبغي أن تساعدها، وأن تقف بجانبها وبجوارها، وأن تعينها، كل هذه الدروس في كلمات مختصرة (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (فسقى لهما) إذاً شهامة موسى لم تحتمل هذا المشهد، ومروءته لم تحتمل هذا المشهد، أن الرعاء قد تقدموا يسقون لغنمهم، وهاتان الفتاتان قد ابتعدتا تنتظران صدور الرجال عن الماء، فهما أحق أن يُبدأ بهما، مثال: أنت اليوم إذا ركبت في وسيلة نقل عامة وصعدت امرأة لا تسمح لك شهامتك حتى وإن كنت متعباً كثيراً أن تظل جالساً على الكرسي، وهي تقف بين الرجال ممسكة بعمود الحافلة، وتذهب يمنةً ويسرة، فتقوم وتجلسها، هذه الأخلاق، هذا العلم، هذه الثقافة، يقول لك: فلان مثقف، ماذا يعني مثقف؟ إذا كان مثقفاً وصعدت امرأة في الحافلة ولم يعدها مثل أمه وقام وأجلسها، أو أخته وقام وأجلسها، فأين ثقافته وأين علمه؟ فالعلم والأخلاق والثقافة تقتضي في المجتمع أن يُوقر الكبير، وأن تُصان المرأة إلخ...

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
(سورة القصص :الآية 24)


من عمل خيراً و عتم عليه رفعه الله عز وجل :
كن في الظل دائماً يرفعك الله
(ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) إذاً الوقت كان فيه ظل، بدأت الشمس تغيب، هناك إشارة جميلة ولطيفة وهي (فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) أي هو عندما سقى لهما ما كان يبغي منهما شيئاً، والدليل أنه لم يستجدِ منهما لا الشكر، ولا المديح، هناك إنسان يسقي لهما، ويبقى واقفاً ويسأل: إن شاء الله الأمور بخير؟ هل كل شيء ما يرام؟ أي يستجدي المديح، إلى أين تحبون أن أوصلهم لكم؟ هل تحبون أن أساعدكم؟ أين منزلكم؟ لا، لا، هو لا ينتظر المديح (فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ) والآن تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ، هو الظل الحقيقي ظل الشجرة، لأن الجو كان مشمساً، فأخذ مكان الظل، لكن أيضاً تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ أي ذهب إلى مكان لا يراه فيه أحد، فأنت عندما تقوم بعمل صالح تولَّ إلى الظل، لا تذهب إلى الإعلام، وتحضر كاميرا وتقول: سوف أعطي فلاناً، وسأوزع على مئة يتيم، وأعطي كل واحد منهم مئة دولار، فأنا محسن كبير، أحضروا لي كاميرا وصوروا، في يوم ما ذهبوا ليصوروا في مخيم، وحدثت مشكلة في الكاميرا، وتعطلت، فتعطل التوزيع، فهذه مصيبة كبرى أن تحسن ولا تتولى إلى الظل، أحسن وتولَّ إلى الظل، عتم على نفسك، كن في الظل دائماً يرفعك الله، أما عندما تريد للكاميرات أن تأخذ منك كل مأخذ، وأن ينتشر عملك الصالح ،فأنت لم تتولَّ إلى الظل، وإنما توليت إلى الشمس:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى « أنا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَن الشِّركِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكتُهُ وشركه }

( رواه مسلم)

(فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ) هل قال تعني أنه أخذ قيلولة؟ ممكن، ولكن ليست واضحة، هي لغةً (تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ)، قال يَقيلُ، وليس يقول:

وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
(سورة الأعراف: الآية 4)

آخذين قيلولة، فالقائل تأتي بمعنيين، يقول: لا، يقيلُ، قال يقيلُ.

من افتقر إلى الله فهو في أعلى درجات العز :
أنت قويٌ بقدر افتقارك لله
على كُل هنا يبدو (ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ما الخير الذي أنزله الله إليه؟ هذا العمل الصالح الذي عمله الله عز وجل أعطاه خيراً كبيراً، سماه سيدنا موسى خيراً، أي أنا استطعت أن أسقي لهاتين الفتاتين، هذا العمل وإن كان بسيطاً لكنه عظيم عند الله، (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) توجه إلى الله، أنا فقيرٌ إلى عملٍ صالحٍ يقربني منك يا الله فلا تحرمني منه، أنا فقيرٌ إلى عملٍ صالح، إلى خير منك يا رب فلا تحرمني الخير، سواء عمل صالح أو مطلق الخير لا تحرمني الخير يا رب، أنا فقير إليك يا رب، أنت عندما تفتقر بين يدي الله فأنت في أعلى درجات العز، ومظاهر البكاء والحزن هي مظاهر ضعف إلا عندما تكون بين يدي الله، والسجود ووضع الجبهة على الأرض هي مظهر من مظاهر الذل عندما تكون بين يدي الناس، لكنها مظهرٌ من مظاهر العز عندما تكون بين يدي الله، فأنت غنيٌ بقدر فقرك لله، وأنت قويٌ بقدر افتقارك لله، وضعفك بين يدي الله:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
(سورة فاطر:الآية 15)

(فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، (فَ) عدنا للترتيب على التعقيب، ما أسرع أن يجيبك الله، لكن كن صادقاً وقدم عملاً، كن صادقاً في دعائك وقدم عملاً بين يدي دعائك، موسى فعل الاثنين معاً، ما انتظر رغم كل تعبه في هذا السفر الطويل نهض راكضاً يزاحم الناس، ويسقي لهما أغنامهما، ويعبئ لهما الماء، ويعود ويعطيهما الماء، هو متعب، أي له عذر، لكن لم يترك العمل الصالح ثم توجه إلى الله، حسن التوجه إلى الله بصدق، فلما كان صادقاً في توجهه مقدماً بين يديه عملاً صالحاً:

فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
(سورة القصص:الآية 25)


الحياء مطلوب عند المرأة و الرجل :
الحياء حسن لكنه في النساء أحسن
قال: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا) جاء الفرج، الفرج كان في مجيء إحداهما، زوجة، وبيت، وسكن، وأمن، وعمل عند شعيب عليه السلام، أي انتهت مشكلته، لكن عندما عرض له العمل الصالح ما كان يتخيل ذلك، فعلهَ لوجه الله، ثم تولى إلى الظل ولم ينتظر كلمة مديح، لكن الله عز وجل أعظم وأجلّ من أن تفعل فعلاً من أجله أو تخدم عبداً من عباده ثم لا تجد مكافأةً منه، ولو القليل من السرور في داخلك، أقل شيء هو أعظم شيء أن ترتاح وتطمئن لأن العمل الصالح مريح، إذا أردت أن تسعد فأسعِد الآخرين، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا) إحدى الفتاتين (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) الآن صرح القرآن، حياؤهما توضح من البداية (لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ) هذا حياء (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) هنا طريقة حديثهما، وابتعادهما عن مجمع الرجال، هذا حياء، لكن الآن صرح القرآن بحيائهما (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، هناك مشية للمرأة ليست على استحياء، تمشي كالرجال، تضرب على الأرض ضرباً والعياذ بالله، هناك مشية لا يوجد بها حياء، حتى الرجل، أي من أجل النساء ألا يعتبن علينا حتى الرجل هناك مشيةٌ بحياء، وهناك مشيةٌ بغير حياء، لكن قالوا: الحياء حسن لكنه في النساء أحسن، الناس إذا رأوا رجلاً يمشي هكذا قد يتخذ له عذر، مثل سيدنا عمر مثلاً كان إذا سار أسرع، وإذا ضرب أوجع، ليست قلة حياء حاشاه سيدنا عمر رضي الله عنه، لكن إظهارٌ للقوة والفضل، أي هنالك أماكن يضطر فيها الرجل إلى أن يظهر بمظهر هكذا، وأحياناً بين المؤمنين تجد الحياء في الرجال كثيراً جداً، ومطلوباً جداً، لكن عند المرأة الحياء مطلوب في كل وقت، أي الاستثناءات عند المرأة أقل من الرجل، لكن الحياء مطلوب دائماً عند الرجل والمرأة، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) وهناك وقف (جاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت) فصار الاستحياء بين المِشية والقول، حياءٌ في المِشية وحياءٌ في الكلام، حياءٌ في المظهر وحياءٌ في المَخبر، بكلامها وبمظهرها، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ) أي تكلمت على استحياء.

الفِطْرَة السليمة حياء وعفة وطهارة :
جزاء الإحسان بالإحسان
الآن هذا الرجل غريب، وهي الآن تريد أن تطلب منه طلباً قد يبدو غريباً، الآن انظروا ماذا قالت: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) لو سكتت يجوز أن يكون هنالك عشر دقائق ليصل إلى أبيها، أي ستأخذ به الأفكار يمنةً ويسرة، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ، ماذا يريد؟ وهي ماذا تريد مني؟ ولماذا قالت لي: تعال؟ الكلام الذي يحتمل معنيين ابتعد عنه، وضّح وبيّن (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) نحن قوم نجازي على الإحسان بالإحسان، أنت توليت إلى الظل ولم تطلب كلمةً، لكن نحن قومٌ نكافئ على الإحسان بالإحسان، وهذا موقف المؤمن، (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ)، وإذا لا يوجد شيء فجزاك الله خيراً، فقد أجزل له في الثواب، أي على الأقل قل له: جزاك الله كل خير، رأيت ابنتيَّ فلم تقبل أن تتركهما دون معين فأعنتهما (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) هذا الأجر قد يكون كلمة وقد يكون شيئاً، (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، إذاً هاتان الفتاتان عادتا إلى البيت، ووضحتا لأبيهما قصتهما اليوم، أنت الآن خيالك يذهب، رجعتا إلى البيت ووالدهما شعيب عليه السلام قال لهما: كأنكما اليوم قد جئتما مبكرتين على غير عادة، قالتا: والله رجل فاضل ذو مروءة، ذو شهامة، لم يقبل أن يرانا في هذا الحال، وهو غريب، وأكيد كانت علامات السفر واضحة، وهو غريب، متعبٌ، ومنهك، لكن مروءته وشهامته أبت أن يتركنا ونحن في هذه الحال، فقام وسقى لنا وأعفانا من
الفِطْرَة السليمة حياء وعفة
مغبة ومحنة العمل، وصعوبة السقاء، فشعيب عليه السلام أخلاق الأنبياء، ائتوا به، لم يترك الموضوع، قال: ائتوا به رجل فاضل، قالت: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، المعنى واضح ولا يوجد خيارات (فلما جاءه) وورد في الآثار أن موسى عليه السلام قال: أمشي أمامكما وتمشيان خلفي حتى لا ينظر إليهما، فيدلوه في الكلام، أو حتى بالحصى، يلقون الحصى في طريقه بمعنى إلى الأمام أو إلى اليمين أو إلى اليسار، فهو لم يقبل أن يمشي وراءهما، انظروا إلى العفة والطهارة، ما أجمل العفة والحياء، هذه المعاني أحياناً إذا أنت قلتها لشخص بعيد جداً لا يفهمها، أي لا يفهم عليك ما العلاقة بين العفة والحياء والطهارة، أو للإنسان الغربي، فِطَر تلوثت، الفِطَر لم تعد سليمة، أما الفِطْرَة السليمة فحياء وعفة وطهارة، (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) وصل (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) هذه هي سورة القصص.

قصة سيدنا موسى مع شعيب عليه السلام :
ما هي القصص؟ أنا موسى من قومٍ يحكمهم فرعون المستبد الطاغية العالي في الأرض، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، رعاني الله تعالى، وأنشأني، وصنعني على عينه، ونجاني من القوم الظالمين، ثم إنني تمردت على هذا الطاغية، ووكزت رجلاً فقضيت عليه، وأخطأت بذلك، لكنني انتصرت للمظلوم ضد الظالم، فائتمر القوم بي ليقتلوني لأنّي بذرة تمرد في مملكة فرعون الطاغية، وجئت إلى هذه البلاد هارباً، ووصلت، وكان ما كان، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ، هذه التي نعرفها، وربما أشياء أُخرى قصّها موسى لا نعرفها، قال: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ) أي وصلت، قَال: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هو عندما خرج ماذا قال؟ (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قَال: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بينهم أيام وليال، (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قصة موسى مع الدعاء، وقصة والدته مع الدعاء، وقصة رعايته قصة عجيبة، لذلك سورة القصص كلها تبين رعاية الله لأوليائه، كلها، كل دعوات موسى، قال: قد أُجيبت دعوتكما، موسى من أول حياته إلى آخرها دعاء وإجابة، إجابة مباشرة، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وجُعل من المرسلين، وهنا لَا تَخَفْ (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يأتي الرد الإلهي فوراً، قال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ،فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) الفرج الإلهي، موسى صادق في دعائه، وهو كليم الله، والله يجيبه فوراً، قَال: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أمّنه، حقق الأمن، الخوف ضد الأمن:

الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
(سورة قريش:الآية 4)

فقال: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ:

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ
(سورة القصص:الآية 26)

الأجير هو الذي يقوم لغيره بعمل
انظر إلى الحياء من جديد، طبعاً هم لهم رغبة أن يكون لهم أجير، طبعاً كلمة أجير شرعياً وليس عرفياً عند الناس كلمة أجير عند الناس تخخف من مقام الإنسان، هي حقيقة، كلمة شرعية فقهية، الأجير هو الذي يقوم لغيره بعمل، بالإجارة بحث في الفقه، فلا يوجد مشكلة أن أكون أجيراً نحن كلنا أُجراء، أي موظف، نحن كلنا أُجراء بطريقةٍ أو بأُخرى، موظفون في مكان، مستأجرون، أجير بمعنى مستأجر، مثل قتيل بمعنى مقتول، فعيل بمعنى مفعول، اسم مفعول، أجير بمعنى مستأجَر اسم مفعول، فأنا مستأجَر، ونحن أُجراء في الأرض في خدمة مولانا جل جلاله، في المحصلة، فقالت: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ)، أي اطلب منه أن يكون أجيراً عندنا يعمل لنا مقابل أجر، انظروا إلى فقه هذه الفتاة، الآن هي ربما أُعجبت بهِ، الفتاة بم تعجب بالرجل؟ بأخلاقه، بدينه، بشهامته، بمروءته، أي الشكل هو آخر همّ الفتاة ذي الفِطرة السليمة، آخر همها، أما الرجل فتنكح المرأة لجمالها، أي جزء مما ينظر إليه الرجل في المرأة هو الجمال، والنبي صلى الله عليه وسلم ما عاب عليه ذلك، لكن قال: فاظفر بذات الدين:

{ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ }

(رواه البخاري)

الدين أولاً ثم الجمال
أي الدين أولاً ثم الجمال، لا تدع الجمال دون الدين فهذا مُهلك، أما نظرة الإنسان الخاطب حينما يخطب، يخطبُ فتاةً على حدّ من الجمال المناسب لتعفه، لكن المرأة عندما تنظر للرجل تنظر إليه على أنه صاحب مروءة وشهامة ونخوة سيقف بجانبها، سيكون لها سنداً في الحياة، هذه نظرة المرأة للرجل النظرة السليمة، فلعلها عندما رأت من شهامته ومروءته أرادته، أو تمنت أن يكون لها زوجاً، وهذا لا شيء فيه، في الحلال، لكنها ما قالت له: يا أبتِ زوجنيه، هذا حياء من جديد (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) طلبت أن يكون أجيراً ولم تطلبه زوجاً، لكن ربما كان في داخلها شيءٌ من هذا، وربما لمح والدها وهو النبي في كلامها ذلك، فقال: إني أريد أن أنكحك فيما بعد، لكن هنا فقهُها (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القوي: الكفاءة، والأمين: الأخلاق، عند المحدثين عدل ضابط، لا يكفي عدل، ولا يكفي ضابط، يجب أن يكون عدلاً أي لا يكذّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يكون ضابطاً أي يحفظ ما ينقل، أي كفاءة أو خبرة زائد أخلاق ودين، فقالت: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

تقديم الأمانة على القوة :
سيدنا عمر لما بعث والياً بعث معه كتاب تعيين قال: خذ عهدك وانصرف إلى عملك، ماذا كان مكتوباً في كتاب التعيين؟ قال: إن وجدناك قوياً خائناً استهنا بقوتك، وأوجعنا ظهرك ضرباً، وأحسنا أدبك، لا تقل لي: أنا قويٌ جداً ملكت ولايتي ولم يصبح بها أي مشكلة، ولكن خائن تسرق من أموال الدولة، ماذا استفدنا من قوتك مع الخيانة؟! قال: أوجعنا ظهرك، وأحسنا أدبك، الآن وإن وجدناك أميناً ضعيفاً عزلناك من منصبك، وسلمتنا من معرتك أمانتك، قال: إنك يا أبا ذر ضعيف، فإذا أنت عندك أمانة لكن ليس عندك قوة نعزلك فقط، ولا يوجد هنالك عقوبة، لأن الضعف لا يعاقب عليه الإنسان، لأنه جِبِلّة، قال: وإن جمعت الإثمين جمعنا عليك المضرتين، أي خائن وضعيف في نفس الوقت، فيجب أن تضرب وتعزل، قال: وإن وجدناك أميناً قوياً زدناك في عملك، وأوطئنا لك عقِبك، نُثَبِّتُك، هذا كتاب تعيين عظيم جداً، مأخوذ من قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
لماذا قدمت القوة على الأمانة؟
لماذا هي قدمت القوة على الأمانة؟ الأمانة مقدمة على القوة! لأن القوة بلا أخلاق مدمرة، لكن هي قالت: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) هذا يناسب حالها، هي رأت من أمانته، ورأت من أخلاقه، لكن هي امرأة، والمرأة كما قلت لكم عندما تنظر إلى الرجل تنظر إلى قوته، هذا يناسب ضعفها، هي تريد سنداً فبدأت بالقوة، لأن حالتها النفسية بعد سنوات من هذه الحال (أبونا شيخٌ كبير) أي أصبح له سنتان لم يخرج من البيت، وهم يخرجون، والحياة صعبة، فهي تحتاج قوياً، فبدأت بالقوة، (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).
والحمد لله رب العالمين