معجزة العصا واليد البيضاء
معجزة العصا واليد البيضاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً يا ربّ العالمين.
التكرار أسلوب قرآني لتحديد هدف السور و مقصدها :
قصة موسى الأكثر وروداً في القرآن
|
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(سورة الرحمن :الآية 13)
التكرار أسلوب قرآني، لكن ليس التكرار الممل، وليس التكرار الغير مبني على أسس، فلو تتبعت قصة موسى في القرآن الكريم من مبدئه إلى منتهاه تجد أنها في كل سورة ذُكرت بالقدر الذي يكفي لأداء هدف السورة، وبالطريقة التي تحقق مقصد السورة، القدر والطريقة، أي طريقة المعالجة، لأنه أنا يمكن أن أعالج قضية بالطريقة - أ - وبالطريقة - ب - وبالطريقة - ج - ، وكل الدروب تؤدي للطاحونة كما يقول المثل، بالنتيجة تحقق نفس المقصد، في القرآن الكريم ربنا عز وجل قد يذكر المقطع من قصة موسى في مكانين أو ثلاثة، نفس المقطع، نفس الحدث، لكن طريقة المعالجة هي التي تخدم هدف السورة. |
إرادة البشر قاصرة و إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أنفذه :
هنا في سورة القصص قلنا من البداية إن الهدف من السورة الوحدة الموضوعية التي ترد في السورة، موضوعات السورة تريد أن تحقق هدفاً واحداً وهو بيان أن الله تعالى ينصر رُسُلَهُ، وبيان أن الله تعالى يحيط أولياءه وأصفياءه بالرعاية، لذلك السورة عندما بدأت قال: |
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ(سورة القصص: الآية 5)
إرادة الله هي التي ستتحقق
|
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً(سورة البقرة: الآية 67)
في قصته مفردات مختلفة، لكن إذا كانت لا تحقق غاية السورة فلن تذكر هنا، فهنا في سورة القصص بدأت القصة بالحديث عن حلقة الولادة، لأنه بالولادة اتضح تماماً معنى كيف أنّ ربنا عز وجل رعى موسى وهو في التابوت، ورباه الذي أراد أن يقتله، فتبيَّنت رعاية الله عز وجل، ثم في طريقه بعد أن خرج من المدينة خائفاً يترقب بعد أن قتل نفساً من بني إسرائيل وذهب، رعته يد العناية كيف أوصلته إلى مدين، وكيف زوّجته من امرأةٍ صالحةٍ حييةٍ، وكيف خدم عند رجل من أهل التقوى، وأهل الصلاح، وابتعد عن هذه الأجواء، ورُبِّيَ في أجواء الطبيعة، واحتضنته يد الرعاية، ثم كيف ساقته يد الرعاية ليعود في هذه الصحراء، ثم كيف أراد الله عز وجل له أن يتيه في الصحراء في سيناء ولا يدري أين هو، أيضاً لحكمةٍ بالغة، ثم رأى ناراً: |
قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(سورة القصص: الآية 29)
تصطلون: تتدفؤون، هذا الذي تحدثنا عنه سابقاً، فكل المراحل التي ذكرتها القصة توضح أن الله عز وجل إذا أراد إنفاذ أمرٍ أنفذه، وأنّ إرادة البشر قاصرة، أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، هذا محور القصة. |
الخوف والأمن يتنازعان الإنسان بكل لحظة من لحظات حياته :
الآن وصلنا: |
وأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ(سورة القصص: الآية 31)
الخوف والأمن يتنازعان الإنسان بكل لحظة
|
قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(سورة القصص: الآية 25)
أَمِنَ عنده عشر سنوات، قضى أحسن الأجلين كما قلنا، الآن خرج، تاه في الصحراء، وقع في الخوف، ناداه ربه (إِنِّي أَنَا اللَّهُ) شعر بالأمن والطمأنينة، (أَلْقِ عَصَاكَ) خوف، ذهب قال له الله تعالى: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ)، فالإنسان يتنازعه شعوران هذه سنّة الحياة، سنّة الحياة أن تكون خائفاً حيناً، وآمناً حيناً آخر، وقِس على ذلك، من سنة الحياة أن تكون حيناً مغتنياً، وحيناً مفتقراً، من سنة الحياة أن تكون حيناً ضعيفاً وحيناً قوياً، من سنة الحياة أن تكون حيناً ذا سلطة وجاهة ومكانة، وحيناً ذا ضعف ليس لك سلطة وجاهة ومكانة، هذه سنة الحياة: |
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(سورة آل عمران: الآية 140)
الربح يكون بأن تنجح في الابتلاء
|
نحن وصلنا إلى قوله تعالى: |
أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ(سورة القصص: الآية 31)
ومن لا يأمن وهو في جوار الرحمن الرحيم؟! |
نقل الله سيدنا موسى من حالة الخوف إلى حالة الأمن و الاطمئنان :
الآن: |
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(سورة القصص: الآية 32)
الجيب هو الفتحة في أعلى الصدر في اللغة العربية: |
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ(سورة النور: الآية 31)
لا يحل لمسلم أن يروع أخاه
|
{ لا يحل لمسلم أن يروع أخاه }
(رواه أبو داود)
المعجزة هي خلاف العادة
|
الآن الإسراء والمعراج استحال عادةً ولم يستحل عقلاً، اليوم إذا جاء شخص وقال: حدثت معي معجزة البارحة، قلنا له: خير، قال: في نفس اليوم سافرت من الأردن إلى اسطنبول، أين المعجزة في الموضوع؟ يقول لك: ذهبت وعدت، تقول له: أين المعجزة؟ ذهبت في الطائرة وحدث هناك مشكلة في المطار ولم تهبط فعادت الطائرة إلى عمان، أخذت حوالي ساعتي ذهاب وساعتي إياب، ماذا حدث! فاليوم ما يشبه الإسراء ليس معجزة، لكنه هو معجزة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لعدم توفر آلية الانتقال في عادة الناس، فلذلك كل ما تراه عينك في الكون هو معجزة، أنت عندما تشاهد عصفوراً يطير في الهواء هذه معجزة أم ليست معجزة؟! كيف يطير؟ كيف يُحلق؟ فالأشياء التي اعتدناها وألفناها نظنها أنها ليست بمعجزة، هو في الحقيقة كل شيء معجز، معجز بمعنى أنه يعجز البشر عن الإتيان بمثله، الآن العصا تحولت إلى ثعبان انتهينا منها، اليد أصبحت بيضاء مشعة من غير سوء، ومن غير مرض، فموسى عليه السلام شعر بالرهبة، والرهبة أعلى مستويات الخوف، مباشرةً تداركه الله عز وجل أول مرة قال له: (أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)، المرة الثانية قال: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)، الرهب: أي بسبب الرهب، بسبب الخوف، والرهبة منتهى الخوف: |
وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ( سورة البقرة:الآية 40)
الرهبة تجمع مع الخوف جلالاً
|
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا(سورة الزمر:الآية 71)
تشعر بأن الموقف ليس كلاماً، كأن الموقف هو شيء واقع تراه بعينك: |
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ(سورة النور: الآية 39)
انظر إلى التصوير، صحراء، القيعة: هي الصحراء، أعمال الذين كفروا تشبه السراب، السراب أي إنسان واقف في الصحراء فعن بعد بسبب انعكاسات الشمس رأى كأن هناك ماءً (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) لأنه لديه حاجة، الظمآن ليس فقط السراب يحسبه قيعة بل إذا وضعت بجانبه طلقة يعتقد بأنها كأس ماء، لأن اتجاهه كله إلى الشرب (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ) انظر جرس الكلام (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) هذا الحسم بعد الإمهال (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) هذا اسمه التصوير الفني في القرآن، فهنا يصور القرآن حالة هذا الرجل، حالة سيدنا موسى عليه السلام، قال: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ) فقط افعل هذا، (مِنَ الرَّهْبِ) بسبب خوفك، فقط افعل هكذا، ضم (مِنَ الرَّهْبِ) ترتاح، أراد الله عز وجل أن ينقله من حالة الخوف إلى حالة الاطمئنان بضم جناحه إليه. |
برهانان من الله لسيدنا موسى على أنه رسوله :
الآن قال: (فَذَانِكَ)، ذانك أي هذان، هذان هما إشارة إلى اليد التي أصبحت بيضاء، وقبلها العصا التي أصبحت ثعباناً، (فَذَانِكَ) هذان الأمران (بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ) والبرهان هو الحُجّة، فهذان الأمران حُجَّةٌ لك من الله على أنك رسوله، وعلى أنك مؤيد بالوحي من عند الله، (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) ملئه أي جماعته ومناصريه، الملأ، (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الفسق. |
مصطلحات في القرآن يجب معرفتها :
نحن يوجد عندنا مصطلحات في القرآن يجب أن نفهمها، هناك فسق وهناك كفر، هناك تكذيب وهناك ظلم مثلاً، هذه المصطلحات التي تطلق غالباً على الذين لا يقيمون شرع الله، أو البعيدين عن دين الله، ظلم، فسق، مُكَذِّبين، كافرين، الكُفُرْ هو الغطاء، مثل cover باللغة الإنكليزية، الكفرْ هو الغطاء، هناك مدن في سوريا تسمى: كَفَرْ بطنا، كَفَرْ يابوس الخ.. لشدة ما فيها من نبات غطى الأرض فسميت كَفَرْاً، كثير من القرى اسمها كَفَر كذا، أي الغطاء النباتي الكثيف غطّى الأرض، فالكفرْ هو الغطاء: |
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي(سورة الكهف: الآية 101)
الكفر ليس مبرراً للحرب
|
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(سورة البقرة الآية 190)
أما الآيات: |
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(سورة البقرة الآية 191)
هذه الآيات بالمناسبة خاصة بحالات محددة بالمحاربين الذين كانوا في مكة، وغيرهم الذين نكلوا بالنبي وأصحابه، لها دراستها بسورة التوبة، ويلزمها دراسة مستفيضة، لكن كمبدأ عام عندما شرع القتال لم يشرع القتال لنقاتل الكافر حتى يدخل في دين الله: |
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(سورة البقرة: الآية 256)
وإنما شرع لأهداف عليا وسامية، فالكفر هو الغطاء، هذا الأمر الأول، وعندما يصف الله تعالى قوماً بأنهم كافرون فهذا يعني بأنهم لم يعلموا الحقيقة، أو غطوا عن الحقيقة، علموها وغطوا عليها، هذا الكفر. |
أقسى أنواع الظلم ظلم الإنسان لنفسه و عدم تعريفها بالله :
الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه
|
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ(سورة فاطر: الآية 32)
الكفر تكذيب وإعراض والفسق خروج عن المنهج :
التكذيب هو إنكار الحقيقة
|
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(سورة الزخرف: الآية 54)
الفسق: هو الخروج، إذا قشرة التمرة خرجت عنها نقول: فسقت، أي خرجت، فأي خروج عن المنهج هو فسق، فالكفر عملياً هو حالة جحود بالعقل، والفسق هو حالة إعراض بالسلوك، الكفر هو غطاء يغطي عين الإنسان فلا يبصر الحقيقة مهما كانت واضحة، ممكن أن يكون الغطاء بسبب مصالحه، لا يعني أن الحقيقة غير موجودة، بسبب مصالحه أصبح هناك غشاوة: |
وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ(سورة البقرة: الآية 7)
الفسق هو الخروج عن المنهج
|
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(سورة القصص:الآية 4)
فجاء بكلمة الفسق لأن الفسق يدل على الواقع الذي كان يعيشه فرعون وملئه، وهو الخروج عن المنهج، وعندما يخرج الإنسان عن منهج الله سيسيء حتماً، سيسيء للجماد والنبات والحيوان والإنسان، إساءته بالغة: |
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ(سورة البقرة:الآية 205)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(سورة الزخرف: الآية 54)
حمل سيدنا موسى المسؤولية و المضي بها بمساعدة هارون عليهما السلام :
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ(سورة القصص: الآية 33)
هل كان موسى عليه السلام هنا يتنصَّل من المسؤولية؟ حاشاه، حاشا لنبي يقف بين يدي الله ويُحمّله مسؤولية منه فيقول: يا رب أنا لا أستطيع أن أذهب لأنه صعب، لا، قال المفسرون: موسى عليه السلام كان خائفاً على طريق الدعوة، أي هو الآن حمل المسؤولية وسيمضي بها، والدليل مباشرةً بالآية التي بعدها: |
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ(سورة القصص: الآية 34)
أي أنا ذاهب فاجعله معي، سنذهب، القضية منتهية، لكن أنا عندي مشكلة قد تحول دوني ودون أداء الأمانة التي وُكِّلْتُ بها، بمعنى أنت إذا جاء مدير الشركة وقال لك: سوف أوكلك بهذه المهمة، وأنت تحب مدير الشركة، وتحب عملك، وأنت قادر على القيام بالمهمة، لكن أنت نظرت وقلت له: عفواً هناك شيء أنا لا أستطيع أن أكمل بدونه، يقول لك: خير ما هو هذا الشيء؟ تقول: العمل يحتاج إلى حاسب متطور، والحاسب الموجود ضعيف لا أستطيع أن أنزل البرنامج عليه، فأنا لا أتنصل من المسؤولية، أنا أطلب الدعم فقط، حتى أؤدي المسؤولية التي أنيطت بي، فأنت عندما يطلب منك شيء لك أن تطلب ما يعينك على أدائه، هذا لا يعد تنصُّلاً من المسؤولية، هذا بالضبط الذي قاله سيدنا موسى: |
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ(سورة القصص: الآية 33)
(فأخاف) على الدعوة (أن يقتلون) فلا تتم المهمة التي أوكلتني إياها فأكون قد قصرت في أداء الواجب، فماذا أصنع بهذه الجزئية، بهذا المعنى. |
الاعتراف بالميزات الموجودة عند الغير
|
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(سورة العلق: الآية 1)
ثم نزل إلى الأرض فرأيناه يَخْصِفُ نَعْلَهُ، و يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، انظر حجم الذي حدث معه، وانظر إلى التواضع، فالتواضع يقاس بقدر حجمك، إذا إنسان قلنا: متواضع ما شاء الله، هو متواضع وإن شاء الله أجره كبير، ولكن قد لا يوجد لديه أي ميزة حتى لا يكون غير متواضع، أما إذا إنسان عنده مئة ميزة ثم كان متواضعاً هذا تواضعه أوضح وأجلى للعيان، مع العلم أن في الحالتين التواضع عند الله محمود، لأن هناك إنساناً يتكبر من غير أن يملك شيئاً: |
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ(سورة البقرة: الآية 206)
فهنا رغم كل هذه المكانة التي حظي بها موسى عليه السلام قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً) اعترف بأن هناك من يمكن أن يساعده في مهمته، و بقي موسى موسى وبقي هارون هارون، لم يصبح هارون موسى ولم يصبح موسى هارون، عندما رجع الهدهد إلى سليمان قال: |
أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(سورة النمل: الآية 22)
النبأ شيء مهم جداً
|
سيدنا عمر بن الخطاب قال: " كل الناس أفقه منك يا عمر، أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر " وبقيت المرأة امرأة ولا نعرف من هي، وبقي عمرٌ عمراً عملاق الإسلام، لم تنزل مكانة عمر، هنا موسى عليه السلام يقول: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي) طبعاً في بعض الروايات، ما أظن أن صحتها ثابتة يقيناً، أنه كان لديه لثغة في لسانه، الله أعلم، لكن (أَفْصَحُ مِنِّي) لا تعني بالضرورة أنه لديه لثغة، ممكن أن يكون أقدر على البيان، هناك إنسان عنده قدرة على البيان: |
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(سورة الرحمن: الآية 4)
الفصاحة وهي القدرة على البيان
|
الأخ في القرآن الكريم كناية عن المؤازرة والمناصرة :
جاء الجواب الإلهي فوراً قال: |
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ(سورة القصص: الآية 35)
الأخ هو الذي يناصرك ويؤيدك
|
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(سورة عبس: الآية 34-35)
(يَفِرُّ) أول شيء بدأ بأقرب الناس إليك وهو الناصر والمعين، فلما تحدث عن الاعتزاز قال: |
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ(سورة التوبة: الآية 24)
بدأ بالأب، لأن الأب هو المصدر، تقول: أبي كان كذا، وكان كذا، (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) السلطان: هو الحماية، فلان له سلطان أي له سور يحميه من هجمات الناس، من كذا، فربنا عز وجل فوق المعجزتين أعطاه السلطان، السلطان هو أن الله عز وجل تكفل بحمايته حتى يؤدي دعوته، ومعلوم أن الأنبياء لا يقتلون إلا بعد أن يؤدوا مهمتهم: |
{ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت هذه الاَية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (سورة المائدة: 67) قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل" }
(رواه الترمذي)
لأنه إذا قُتل الرسول قبل أن يؤدي مهمته، طبعاً أنبياء بني إسرائيل قتلوا منهم: |
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ(سورة آل عمران: الآية 21)
ولكن إذا قُتل ومعه رسالة لم يؤدها فهذا حاشاه تعالى يدل على ضعف المُرْسِل، أي أنت إذا بعثت رسولاً برسالة، ونال منه الناس قبل أن يؤدي رسالته، هذا يعني أنك لست قادراً على حماية سفيرك، مشكلة، فلذلك الأنبياء معصومون من أن يقتلوا إلا إذا أدوا رسالتهم، فهنا قال: (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) أي ليس من المعقول أن يدخل عليه وينهض فرعون ويقتله، انتهت، لم يبق أداء للرسالة نهائياً، (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) وهذا دليل على محور السورة الذي تكلمنا عليه وهو أن يد الرعاية الإلهية تحيط بموسى، وأن الله ينصر أولياءه. |
حفظ الله لموسى و هارون لأنهما أصحاب رسالة ينبغي أن تؤدى :
الآن جعل له سلطاناً (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا) قال: (فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) من يصلون؟ فرعون وملئه، (إِلَيْكُمَا) إلى موسى وهارون، أي لن يستطيع أحدٌ أن يصل إليكما بسوء لأنكما أصحاب رسالة ينبغي أن تؤدى، فهذا الحفظ من الله تعالى، كيف؟ |
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ(سورة المدثر: الآية 31)
كيف ربنا عز وجل يحمي إنساناً؟ هذا شأنه جلّ جلاله، ثم قال: (أَنتُمَا) موسى وهارون (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا) أي الذين سيؤمنون معكما وسيكونون معكما، (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) (بِآيَاتِنَا) تابعة لما بعدها أي (وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا) التقديم والتأخير بالكلام (أَنتُمَا) (الْغَالِبُونَ) (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا) (بِآيَاتِنَا) أي بالحجج والبينات التي معكم، بسبب الحجج، هذه الباء باء السببية، أي (بِآيَاتِنَا) تنتصرون، بحججنا تنتصرون، بالبينات تنتصرون، (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ). |
الآية هي العلامة الواضحة
|
في ختام الآية (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) هذه الآيات التي تظهر وتبين الحجة والغلبة والقوة على فرعون، بسبب ما ربنا عز وجل جعل لهما من هذا السلطان (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ). |
رعاية الله لرسله و تأييدهم :
الآن هذه الحلقة من القصة طويت، هي بطور سيناء، بسور أخرى ممكن أن ترجع لها وتلقاها معروضة بطريقة أُخرى، سورة طه أظن، ختمت الحلقة بهذا الشكل بهدف وهو تبيان رعاية الله كما قلنا، وتأييده لرسله، أُغلقت الحلقة وصرنا بمصر: |
فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ(سورة القصص: الآية 36)
القصة هنا تعرض على شكل حلقات وبينها فجوات، الفجوة هي المكان الذي ربنا عز وجل يريد أن يُغفله هنا لعدم الحاجة إلى ذكره، وليطلق لخيالك أن تتأمل بعد ذلك ما الذي حصل، أنت تقول لنفسك: رجع موسى عليه السلام إلى أهله وقد حمل الرسالة، وسار بهم، وتابع طريقه، ووصل إلى فرعون، الآن كيف دخل؟ هذا لا يهمنا، صرنا عند موسى (فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا) أخذ الآيات وجاء إليهم بها، فجوة بسيطة تترك لك الخيال، وتعفيك من ذكر أشياء لا علاقة لها بالعبرة المرادة من القصة. |