الإنسان بين الاستجابة لله وإما اتباع للهوى
الإنسان بين الاستجابة لله وإما اتباع للهوى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
تلخيص لما سبق :
مع اللقاء العاشر من لقاءات سورة القصص، نذكّر شيئاً من الماضي. |
سورة القصص سورة مكية يدور محورها الأساسي حول رعاية الله عز وجل لأوليائه، وحول أنّ الله تعالى غالبٌ على أمره، وحول أن إرادة الله تعالى هي المحققة: |
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(سورة القصص: الآية 5)
الطغاة إلى زوال
|
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(سورة القصص: الآية 21)
إلى أن عاد إلى مصر، تحركه أشياء لا نعلمها إلا أنها قدرة الله عز وجل التي أرادت له أن يعود وكيف في طريق عودته (آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا): |
فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(سورة القصص: الآية 29)
وكان اللقاء التاريخي بينه ويبن رب العزة جل جلاله، وحُمِّلَ الرسالة، وكُلِّفَ بالأمانة، وعاد موسى عليه السلام بالآيات التي معه، وبشّره الله تعالى (بِآيَاتِنَا أَنتُمَا) موسى وهارون (وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ): |
بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(سورة القصص: الآية 35)
ثم اختصرت القصة السياق في هذه المرحلة، وأعطت الأخذ السريع الذي حصل. |
محور القصة هو النظر إلى عاقبة الظالمين و أن قدرة الله هي النافذة :
قال: |
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(سورة القصص: الآية 40)
النظر بإمعان لعاقبة الظالمين
|
بعد ذلك بدأت التعقيبات على القصة، وفي القرآن الكريم عندما تقرأ قصةً عندما تنتهي منها فوراً اقرأ التعقيبات بنَفَس إيماني، وبِنَفَس الإنسان الذي يريد أن يصل إلى العبرة من القصة، فالقصة تعقيباتها مهمةٌ جداً، انظر بقصة يوسف عليه السلام كيف عقّب الباري جل جلاله، وانظر في هذه القصة، الآن عقّب ربنا عز وجل على القصة، أي ما الذي يريده ربنا جل جلاله من هذه القصة مما لا يمكن أن ندركه مباشرةً؟ هناك أشياء بالقصة تدرك مباشرةً، أي لا يوجد مبرر أن نقول لك في النهاية أنه جل جلاله رعى موسى عليه السلام، لأن الرعاية ظهرت، أي لا يخفى على ذي لب، لكن هناك بعض الأمور التي قد تخفى عليك سيبينها الآن الباري جل جلاله. |
عِبر سورة القصص :
1 ـ صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم و إثبات رسالته :
أول أمر بيّنه الله الذي ذكرناه في اللقاء الماضي: |
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ(سورة القصص: الآية 44)
الإخبار من الله يؤكد صدق نبوة محمدٍ
|
وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ۚ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(سورة القصص: الآية 45)
أيضاً إثبات للرسالة. |
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(سورة القصص: الآية 46)
انظر (وَمَا كُنتَ) ثلاث مرات (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ) عند الوحي (إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) هذا ما وصلنا إليه في اللقاءات السابقة. |
2 ـ ابتلاء المؤمن تكفير سيئات و رفع درجات :
نتابع اليوم العبرة الثانية من القصة، قال: |
وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(سورة القصص: الآية 47)
الطبيب سبب بأن لا تسوء حالة المريض
|
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(سورة الأنفال: الآية 33)
نفى العذاب، بآية ثانية: |
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(سورة النساء: الآية 147)
العذاب لا يكون للمؤمنين
|
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ(سورة المائدة: الآية 18)
فاستنبط الإمام الشافعي قال: "إنّ الله لا يعذب أحبابه"، عندما قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) طبعاً أبناء افتراء، وإذا كنت حبيب الله فلماذا يعذبك الله؟ (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ)، فهذا العذاب، العذاب هو حالة في الدنيا وفي الآخرة تصيب الكافر فيعذب، يعيش عذاباً نفسياً وألماً نفسياً، وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ من الله. |
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(سورة الحديد: الآية 20)
المؤمن أشدّ ابتلاء من غيره :
الابتلاء غير العذاب، الابتلاء هو سنة الله في الحياة: |
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(سورة الملك: الآية 2)
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(سورة المؤمنون: الآية 30)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(سورة العنكبوت: الآية 2)
وجودنا في الدنيا هو ابتلاء
|
وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(سورة الأنبياء: الآية 35)
فالابتلاء يكون بالشر ويكون بالخير، وكلنا مبتلون، الآن قد يكون المؤمن أشدّ ابتلاءً من غيره لأنّ الله يحبه فيبتليه ليُكَفِّر سيئاته، ويرفع درجاته، الدليل: |
{ قلتُ: يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلَى الرَّجلُ على حسْبِ دِينِه، فإن كان دِينُه صُلبًا اشتدَّ بلاؤُه، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ابتلاه اللهُ على حسْبِ دِينِه فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ }
(ابن ماجة بسند صحيح)
ابتُلي صلى الله عليه وسلم بالجوع، وبالفقر، وبالغنى، وبالضعف، وبالقوة، وبفقد الولد، وبأن يتحدث الناس في عِرض زوجته، كلها ابتلاءات، فالنبي صلى الله عليه وسلم ابتلي ابتلاءات عظيمة، ابتلي بالغنى، وابتلي بالفقر، وابتلي بالصحة وبالمرض، وابتلي بالقوة عندما فتح مكة، وبالضعف يوم ذهب إلى الطائف فآذوه وضربوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ابتلي، وكل الناس مبتلون. هذا الابتلاء. |
المصيبة تصيب الهدف
|
وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(سورة القصص: الآية 47)
أي لولا أن يعاقبهم الله عز وجل بسبب ذنوبهم، أي فقط المصيبة التي لها سبب. |
المصيبة من كسب الإنسان أما الابتلاء فهو سنة الله في الحياة :
لماذا أقول هذا الكلام؟ أنت ترى إنساناً ابتلاه الله بمرض، مبدئياً، الله يبتليه، يمتحنه، ليس من حقك أن تقول: إنّ الله يعذبه، مبدئياً، لأنه مؤمن ويصلي معك في المسجد، الله لا يعذب أحبابه، هذا أخوك في الإيمان، فمبدئياً هو لا يعذب، العذاب ليس له، قد يدخل إلى قلبه من السرور في مرضه ما لا يجده في صحته، " قال: عبدي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ" ما قال لوجدت ذلك عندي مثل الطعام والسقيا، قال: لوجدتني عنده، لأن الله قريب من المريض، فقد يجد المريض من القرب من الله عز وجل ما لا يجده في الصحة، إذاً هذا ليس عذاباً، هذه مبدئياً: |
{ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أعُودُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ وكيفَ أُطْعِمُكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أما عَلِمْتَ أنَّكَ لو أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ كيفَ أسْقِيكَ؟ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ، قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي }
(صحيح مسلم)
ثانياً: لا يحق لك أن تقول: إنّ الله عز وجل أصابه بمصيبة جزاء عمله، وما أدراك ما عمله؟! لعله خيرٌ منك، ولعل عمله أفضل من عملك عند الله، إذاً ما الموقف الصحيح؟ أنّ الله يبتليه بمثل هذا المرض ليرفع درجته، أما أنا إن جاءتني مصيبة أو ابتلاء مبدئياً، إن جاءني ابتلاء فأنا أول ما أفعل أتهم نفسي لعلها مصيبةٌ بسبب ما كسبت يدي: |
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ(سورة الشورى: الآية 30)
المصيبة بكسب الأيدي
|
التمكين يأتي بعد الابتلاء
|
تقديم الاتباع على الإيمان :
ثم قال: ( فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) هنا يوجد عندنا تفسيران، التفسير الأول: إشاري أو لطيف، يمكن أن يكون (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) المصيبة نفسها، المصيبة رسول من الله، المصيبة رسالة من الله، إذا كان هناك إنسان يعصي الله، ويأكل الربا، فأتلف الله له ماله فانتبه إذاً فهم الرسالة، وإذا لم ينتبه لم يفهم الرسالة، إذاً المصيبة هي رسول، هذه بتلك، الجزاء من جنس العمل (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)، فهنا يمكن أن نقول (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) أي لكانوا احتجوا يوم القيامة يا رب لو أنك بعثت لنا مصيبة لكنا رجعنا إليك، ولكن نحن نعصيك وتركتنا وأمهلتنا، وأمهلتنا حتى ظننا أننا على حق، هذا معنى. |
المعنى الثاني: الذي ذكره معظم المفسرين قال: (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) أي موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في خطابهم في الآيات هنا، (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) أي لماذا يا رب لم ترسل لنا رسولاً من عندك يبين لنا الحق من الباطل فوقعنا في شر أعمالنا فجاءتنا المصائب ردّاً على ما قدمت أيدينا، (لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) دائماً الحجة البالغة لله: |
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ(سورة الأنعام: الآية 149)
الجانب السلوكي مقدم على الجانب الفكري
|
مرة ثانية: لا أقول: إن إيمانه لا قيمة له، لأن الفكر شيء مهم، والإيمان هو: قولٌ باللسان واعتقادٌ بالجَنَان وعملٌ بالأركان، لكن هو جزء من الإيمان أكيد، لكن (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فقدم الاتباع على الجانب الفكري. |
توافق الحق مع العقل :
الآن قال: |
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(سورة القصص: الآية 48)
الربا حرام بالنقل وبالعقل
|
وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(سورة الأعراف: الآية 118)
لأن بَطُلَ من البطولة، بَطُلَ أصبح بَطَلاً، وبَطَلَ أي زهق، فالباطل هو الشيء الزائل والعابث، والحق هو الشيء الثابت والهادف، (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). |
مناظرة الناس و محاورتهم خطوة خطوة :
الآن (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا) من الوحي من الله عز وجل (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ) الآن يخاطب من؟ يخاطب العرب الذين جاءتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا) على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، قال مشركو قريش وكفار مكة وغيرهم، ماذا قالوا؟ (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ) أي ليته أوتي مثل التوراة أو أوتي مثل البينات التي كانت مع موسى التي ذكرتها السورة قبل قليل، أي يا ليت يده كانت تخرج بيضاء من غير سوء: |
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ۖ(سورة النمل: الآية 12)
ليت معه العصا التي تتحول إلى ثعبان: |
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(سورة الشعراء: الآية 32)
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(سورة الأعراف: الآية 117)
معه الْأَلْوَاحَ التي فِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَة: |
أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ للَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(سورة الأعراف: الآية 154)
القرآن يحاججهم
|
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(سورة التوبة: الآية 42)
ربنا يعلمنا المناظرة والحوار
|
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(سورة البقرة: الآية 89)
فهم كانوا يعرفون أنه سيأتي هذا النبي، فلما جاء النبي (قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) التوراة ظاهرت القرآن، والقرآن ظاهر التوراة، أي اتفقا مع بعضهما القرآن والتوراة من أجل أن يقنعونا بأن هذا نبيٌّ من الله، ثم (وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ) أي بالقرآن وبالتوراة وبكل ما جاء بهما (كَافِرُونَ) فأنتم كفرتم بالكتب السماوية كلها، وليس كفركم بالقرآن وحده، فما معنى قولكم اليوم (لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ)؟ هذه الحجة الأولى. |
المنهج من عند الله و على الإنسان اتباعه :
الآن ربنا عز وجل أكمل معهم (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا)، هذه فرضيتهم الثانية: |
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(سورة القصص: الآية 49)
(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) مصدره سماوي، لأنكم أنتم مؤمنون بالله، الآن يخاطب أهل الكتاب لا يخاطب المشركين الكفار، أو الكفار الملحدين أي الذين لا يؤمنون، الإله موجود حتى عند المشركين، فكرة الإله موجودة حتى إنهم يقولون: |
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ(سورة الزمر: الآية 3)
المنهج يكون من عند الله
|
إذا قلت لإنسان: هذا الكتاب المقرر غداً للامتحان، وهو عبارة عن سبعين صفحة، وفيه تمرينات ادرسه من أجل الامتحان، الآن هو بأعماقه لا يريد أن يقدم الامتحان، ولا يريد أن يدرس، فقال لك: والله الكتاب صعب، هل عندك كتاب آخر للمادة؟ قلت له: خذ هذا الكتاب الآخر، قال لك: والله هذا الكتاب أيضاً صعب فيه مشاكل لا أريده، معنى هذا أنت ليست مشكلتك مع المنهج بحد ذاته، أنت مشكلتك أنك لا تريد شيئاً يقيد تحركاتك التي تكون وفق شهواتك وأهوائك. |
الهوى و الهدى :
المنهج يطلقك من أسر نفسك
|
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا{ الأصمعي }
الهوى هو الهوان، هوى النفس: أن يتبع هواه، أي يمشي مع ذاته، فالهوى لا يكون إلا مذموماً، فلذلك قالوا: هذا قيد وصفي وليس قيداً احترازياً، تكلمنا عن القيد الوصفي والقيد الاحترازي، بمعنى: |
لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً(سورة آل عمران: الآية 130)
لا يجوز أكل الربا ضعفاً واحداً، لأن القيد يبين وصف الربا، وهو أنه يؤول إلى أضعاف مضاعفة: |
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ(سورة آل عمران: الآية 21)
اتباع الشرع يكون بهدى من الله
|
يوجد طريقان لا ثالث لهما
|
أصل الإيمان موجود في القلوب ويحتاج إلى تذكرة :
آخر آية في هذا اللقاء هي تعقيب، هي تتمة الفكرة بعدما صار الحوار، الحوار (قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ) ربنا عز وجل أقام الجحة عليهم: |
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ(سورة الأنعام: الآية 149)
قال: أنتم كفرتم بما أوتي موسى، وكفرتم بالقرآن، وقلتم: (إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) فأنتم ليست مشكلتكم مع التوراة، لو جاءت التوراة لن تتبعوها، وكانت التوراة بين أيديكم ولم تتبعوها، فأنتم مشكلتكم مع المنهج، وقلتم: (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) الآن ما دامت التوراة والقرآن في زعمكم سحرين (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ) ثالث غير التوراة وغير القرآن من عند الله (أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ) انتهت المناظرة، إذاً أنتم لستم أعداء لمفردات المنهج، أو لنوعية المنهج، وإنما انتم أعداء لأصل وجود منهج يمنعكم من البطش، والظلم، والعدوان، فالله عز وجل لن يهديكم لأنكم ظالمون، انتهى، قال تعالى: |
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(سورة القصص: الآية 51)
القول وصل لك لعلك تتذكر وتعود، لماذا قال: (يَتَذَكَّرُونَ)؟ أنت تتذكر شيئاً موجوداً، هل تتذكر شيئاً غير موجود؟ إذا قلت لك: تذكر أين وضعت الأشياء؟ أنت واضع الأشياء بمكان، فكأن الله عز وجل يقول: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أصل الفطرة، أصل التكليف لأن أصل الإيمان موجود في القلوب يحتاج إلى تذكرة: |
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(سورة الذاريات: الآية 55)
الله خلقك بفطرة سليمة
|
إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ(سورة الشورى: الآية 48)
البلاغ فقط (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ) انتهت المهمة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الآن بعد ذلك القرآن الكريم سوف يعرض لهم نموذجاً من أهل الكتاب الذين استجابوا، الآن سيعطيهم نموذجاً من أهل الكتاب استجابوا حتى تقام الحجة عليهم أكثر بأن تركهم للاستجابة هو من أنفسهم، ومن هوى أنفسهم، وليس من المنهج، لأن هؤلاء أيضاً أهل كتاب واستجابوا: |
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(سورة القصص: الآية 52)
وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله في اللقاء القادم. |