بين التصديق والتكذيب

  • الدرس الحادي عشر - شرح الآيات 52 - 57
  • 2019-06-28

بين التصديق والتكذيب

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.


التوحيد والعبادة فحوى دعوة الأنبياء جميعاً :
مع اللقاء الحادي عشر من لقاءات سورة القصص، ومع الآية الثانية والخمسين وهي قوله تعالى:

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ
(سورة القصص: الآية 52)

الكتاب فحوى دعوة الأنبياء جميعاً
بعد أن ذكر السياق القرآني الحالة القرشية- أي حالة قريش- في بُعدهم عن الحق، ومعاداتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعاداتهم للدعوة الإسلامية، جاء إلى قوم، من هم هؤلاء القوم؟ هؤلاء ورد أنهم وفد من نصارى نجران، سبعون رجلاً، وفي بعض الراويات عشرون رجلاً، وورد أنه وفد من النجاشي - من أصحاب النجاشي- جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعوا القرآن الكريم، وآمنوا به، يتحدث القرآن عن هذا النموذج المشرق في ظل حديثه عن قريش المكذبة، قريش تكذب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك نموذج مشرق لأشخاص ليسوا من عرب قريش، عرب ليسوا من قريش، وليسوا من المشركين، وإنما جاؤوا وهم من أهل الكتاب، هؤلاء نموذج لقوم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سنقرأ عنهم قال: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ) الكتاب هو إشارة إلى المنهج الذي جاء من عند الله تعالى، والكتاب واحد، الكتاب هو فحوى دعوة الأنبياء جميعاً، بهذا المعنى، فالإنجيل من الكتاب الإنجيل الصحيح، والتوراة من الكتاب، والزبُور من الكتاب و(صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ) من الكتاب، والقرآن من الكتاب:

صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
(سورة الأعلى: الآية 19)

فالكتاب بالمعنى العام هو منهج الله تعالى إلى خلقه، فقال: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي الذين عندهم أصل المنهج الآن جاءهم القرآن، ما جاءهم شيءٌ غريبٌ عن منهجهم، وهذا يدل على أن فحوى دعوة الأنبياء جميعاً فحوى واحدة، قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 25)

إذاً كل دعوات الأنبياء تدعو إلى التوحيد والعبادة، شيئان.

حاجة كل إنسان إلى العلم و العمل ليصل إلى التوحيد و العبادة :
الآن الشريعة تختلف كيف أصل إلى التوحيد؟ هناك شرائع:

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
(سورة الجاثية: الآية 18)

الإسلام خاتمة الشرائع
الآن الشرائع تختلف للوصول، ولكن ليس اختلافاً جوهرياً، اختلاف وسائل، فشريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع، وشريعة الإسلام مهيمنةٌ على باقي الشرائع، لأنها صدقت بها جميعها، وجاءت بالرسالة الخاتمة، لكن هي شريعة من الشرائع، النصرانية شريعة، واليهودية شريعة، ورسالة داود عليه السلام شريعة وهكذا، لكن الشرائع كلها ستقود إلى شيئين إلى التوحيد، وإلى العبادة، لأن الإنسان يحتاج إلى علم وعمل، نسمع هذا المصطلح كثيراً يقول: علمٌ وعمل، أعلى علم ممكن أن يصله الإنسان هو أن يوحد الله، أي إذا إنسان قال لك: أنا معي دكتوراه بالفيزياء النووية، هذا علم، ولكن إذا هو مشرك، أو لا يؤمن بوجود إله، لن ينفعه علمه شيئاً، وإذا إنسان لا يقرأ ولا يكتب لسبب أو لآخر، ونحن لا نشجع إلا على العلم والتعلم والقراءة والكتابة وهذا ديننا دين (اقْرَأْ):

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
(سورة العلق: الآية 1)

قمة العلم التوحيد
ولكن فرضاً امرأة كبيرة في السن لا تعرف القراءة و لا الكتابة، لكنها تعلم أنه لا إله إلا الله، فهي ناجية عند الله، إذاً العلم قمته هي التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، أما العمل فقد يعمل الإنسان أعمالاً عديدة؛ نجار، بلاط يعمل في مهنة معينة، كل هذا أعمال، لكن أعلى عمل أن يتحول هذا العمل إلى عبادة، فيمكن أن ترى مصلياً، هذه عبادة، ويمكن أن ترى لاعباً في الملعب يعبد الله، ويتقوى على طاعة الله، ويمكن أن تجد بنّاءً يبني بناءً، وهو ينوي بعمله وجه الله فيتحول عمله إلى عبادة، فعندما تحول العمل إلى عبادة، وتوجه العلم إلى التوحيد فقد حققت فحوى دعوة الأنبياء جميعاً.

الشرائع تتغير وتتبدل بحكم الزمن إلا الشريعة الإسلامية محفوظة على مرّ الزمان :
الشرائع تتغير بحكم الزمن
لذلك هنا قال: (الَّذِينَ) يشير إلى هؤلاء الوفد الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء وفد نصارى نجران، أو وفد من النجاشي، بغض النظر العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) معهم أصل المنهج، حتى أوضح بمثال- ولله المثل الأعلى- أي المثال لا ينطبق مئة بالمئة لكن للتوضيح، نحن عندما نؤسس منهاجاً عندنا منهاج، وعندنا مفردات المنهاج، المنهاج نضع فيه الأساسيات، والكتاب المدرسي الذي هو كتاب الطالب نوظف هذه المفردات في الكتاب المقرر، تمام، فهناك منهاج وكتاب مدرسي، المنهاج وضعه صعب جداً، هو الأصل، أي ينبغي أن يتعلم الطالب في هذا العام في اللغة العربية في مباحث النحو: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، في مباحث البلاغة: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، في مباحث الصرف: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، هذا منهاج، تمام، ثم يبنى عليه أننا نؤلف المقرر الذي سيدرسه الطالب، فالكتاب هنا في المصطلح القرآني هو أصل المنهج، المفردات العريضة التوحيد، العبادة، هذه لا تتغير ولا تتبدل، الآن الشرائع تتغير وتتبدل بحكم الزمن، لكن عندما جاءت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كانت خاتمة الشرائع، فلا يسع الناس إلا اتباعها، وهي المحفوظة من قِبل الله بخلاف الشرائع السابقة، قال: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ)عندهم أصل المنهج (هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ) أي هم يؤمنون بالقرآن لأنهم وجدوا فيه:

مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
(سورة المائدة: الآية 48)

عندهم الكتاب ثم جاء القرآن الكريم وهو كتاب الإسلام العظيم، وهو شريعة الإسلام، فوجدوا فيه مصداقاً لما في أصل كتبهم فقال: (هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ) فآمنوا بالقرآن، هذه الآية:

وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
(سورة القصص: الآية 53)

(وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ) أي القرآن (قَالُوا آمَنَّا بِهِ).

من لم يتأثر بالقرآن فالمشكلة في القلب وليست في المنهج :
المشكلة في القلب
أريد أن أركز على نقطة قالوا: (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ) ما قالوا: وإذا يشرح لهم كما نفعل الآن، وما قالوا: إذا يبين لهم إعجازه، ولا قالوا: وإذا يُفسر لهم، وما قالوا: وإذا توضح لهم معانيه البعيدة، (قَالُوا آمَنَّا بِهِ) لا، قال: (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ) أي هذا القرآن من الوضوح، والبلاغة، والإيجاز، والإعجاز، وقوة التأثير، وتيسير الله تعالى له، بمجرد أن يتلى عليهم فقط اقرؤوا (قَالُوا آمَنَّا بِهِ) لأن الفطرة سليمة، فعندما يكون المحل قابلاً للتأثير فالمؤثر لابد أن يؤثر، أما إذا لم يحصل التأثير فالمشكلة في القلب، وليست في المنهج.
(وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ) أي فقط هو أصلاً سبب الورود كما جاء عن سعيد بن جبير قرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة يس حتى اختتمها فقالوا: أسلمنا وآمنا، فقط سورة يس، هو من حيث تأثيره، ومن حيث قوة بيانه، ومن حيث قوة مضمونه، ومن حيث الوضوح والإيجاز، بحيث أنه لمجرد أن تتلوه على إنسان قد تجرد للحق، وقد جاء يريد الحق لا يريد غيره، فإذا سمع الآيات تتلى فوراً (آمَنَّا بِهِ) هذه قوة المنهج، أحياناً ممكن أن أقرأ لك نظرية علمية تقول لي: والله لم أفهمها، أنا لا أؤمن بها، لم أفهمها، وضحها لي حتى أؤمن بها أو لا أؤمن بها، أما القرآن الكريم فقد يسره الله للذكر، فهنا يعرض القرآن الكريم لهؤلاء القوم الذين يتلى عليهم فلا يؤمنون لأن :

قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ
(سورة الأنعام: الآية 25)

كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم
(سورة المطففين: الآية 14)

الران الذي يمنع قبول الحق
(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم) لأن على قلوبهم الران الذي يمنع قبول الحق، لأنهم متعلقون بمصالحهم وبشهواتهم، أما المنهج فهو واضح، والدليل أن بعض القرشيين كانوا يذهبون ويستمعون إلى القرآن لشدة تأثرهم به دون أن يعلم أحد، يذهبون ويستمعون، لأن القرآن أخذهم، لكنهم لم يتجردوا للحق فما دخلوا في الإيمان، وسيضرب القرآن مثلاً عن هؤلاء بعد قليل، بعد الحديث عن النصارى نجران، أو النجاشي، سيضرب القرآن الكريم مثلاً لهؤلاء سيأتي الآن لذلك لن أستفيض.

الأنبياء جميعهم مسلمون و قد انقادوا لأوامر الله و نواهيه :
(وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) الإسلام يأتي بمعنيين؛ يأتي بمعنى ضيق وهو الشريعة الإسلامية، أي إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والتزام الأوامر، واجتناب النواهي، هذه شريعة الإسلام، الشريعة التي جاء بها النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم ونحن نؤمن بها، ونحن مسلمون ولله الحمد، ويأتي الإسلام بالمعنى الواسع فكل الأنبياء بهذا المعنى مسلمون:

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا
(سورة آل عمران: الآية 67)

إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ
(سورة آل عمران: الآية 19)

وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
(سورة آل عمران: الآية 85)

إذاً الذين جاؤوا قبل الإسلام هل ابتغوا غير الإسلام ديناً؟ لا، سيدنا عيسى هل ابتغى غير الإسلام ديناً؟ لا، ما ابتغى غير الإسلام ديناً، فالإسلام بالمعنى الواسع هو الانقياد لأمر الله تعالى (فَلَمَّا أَسْلَمَا) إبراهيم وإسماعيل أسلما أمرهما لله (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ):

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
(سورة الصافات: الآية 103)

قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة البقرة: الآية 131)

الإسلام هو الاستسلام للمنهج
فالإسلام هو الاستسلام للمنهج، والاستسلام للشريعة، فهو في أصل الكتاب، في أصل الكتاب وليس في مفردات الشرائع في المنهاج الرئيسي في الكتاب، لأن البشر كلهم عندما ينصاعون إلى أمر الله فهم بالمعنى الكلي مسلمون، مستسلمون لله، فهنا قال: (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ) على أهل الكتاب من هؤلاء النصارى الذين جاؤوا (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ) أي القرآن (قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا) الله تعالى هو الحق، وفي اللقاء الماضي وضحنا الفرق بين الحق والباطل، الحق هو الشيء الثابت والهادف، والباطل هو الشيء العابث الذي لا نتيجة له (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) الشيء العابث والزائل (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا):

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
(سورة المؤمنون: الآية 115)

إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
(سورة الإسراء: الآية 81)

فالقرآن حق لأنه من عند الحق (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ) من قبل القرآن (مُسْلِمِينَ) كنا في الأصل مسلمين، فالقرآن أعطانا جرعة لمزيد من الإسلام لله تعالى، أما نحن فمسلمون من قبله، مسلمون لله بالمعنى الواسع فأصبحنا مسلمين بشريعة الإسلام لأننا علمنا (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا) هذا هو المعنى.

الدين نصفه صبر و نصفه شكر :
قال:

أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
(سورة القصص: الآية 54)

الأجر على قدر المشقَّة
(أُولَٰئِكَ) من النصارى الذين جاؤوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وممن هو على نهجهم القرآن لكل زمان ومكان، (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ) أي يضاعف لهم الأجر عند الله، لماذا؟ لأن الإنسان عندما يطيع الله تعالى في زمن الرخاء، أو في زمن كل الناس فيه مطيعون، أو في زمن كل الناس فيه مستسلمون لأمر الله عز وجل، هذا له أجر كبير عند الله، لكن عندما يأتي في زمن العناد، وفي زمن الجحود، وفي زمن البعد عن الله، وفي زمن الشهوات، وفي زمن الشبهات، ثم يتبع منهج الله تعالى، فهذا أجره مضاعف عند الله، فالأجر على قدر المشقَّة، فهؤلاء جاؤوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، من حوله يكفرون برسالته، ويعادونه، وهم أقرباؤه، وهم عشيرته وقبيلته، فجاؤوا هم وأسلموا، فجعل الله عز وجل أجرهم مضاعفاً، لماذا؟ قال: (بِمَا صَبَرُوا) هذه باء السبب، أو باء السببية، أي (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ) بسبب صبرهم، والدين كله صبر، أو هو نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر، الدين صبر، الحياة صبر، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا ألذ عيشنا في الصبر، أن تصبر، أن تصبر على الطاعة، وأن تصبر عن المعصية، وأن تصبر على قضاء الله تعالى وقدره، فقال: (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم على الهدى، وصبرهم على اتباع الحق، وصبرهم على سماع الآيات، وصبرهم على السفر للوصول إلى الحق كما فعلوا هم (بِمَا صَبَرُوا):

إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ
(سورة الزمر: الآية 10)

ينبغي أن يكون الأجر مكافئاً للجهد
ببعض المعاني أنت يمكن أن أعطيك ورقة نقدية، شيك، بمبلغ مئة دينار ،وممكن بمئتين، وممكن بألف، وممكن بألفين، لكن لو وقعت وأعطيتك المكان فارغاً وقلت لك: سجل الرقم الذي تريده، هذا أعظم عطاء، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي يأخذون أجرهم ليس له حدود، لأنهم صبروا، فانظر إلى عاقبة الصبر (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) لما قال: (أَجْرَهُم) ما قال: أجراً، قال: (أَجْرَهُم) إشارة إلى أن الأجر ينبغي أن يكون مكافئاً للجهد، وهذا مصداق حديثه صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأجير أجره، أي الأجر الذي يكافئ جهده، وليس أن تستغل حاجته لأنه بحاجة إلى العمل، فالعمل يحتاج مئة دينار تقول له: خمسون، وأنت تعرف أن ثمن العمل مئة، لكن هو محتاج للعمل، فتقول له: اشتغل بخمسين، فيقول لك: أشتغل، قال: قبل أن يجف عرقه، لا أقول له: تعال غداً واستلم أجرك، هيئ له الأجر وأعطه أجره بعد عمله فوراً، انظروا إلى دقة الحديث:

{ عن عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: أَعْطُوا الأجيرَ أجْرَه قبْلَ أنْ يَجِفَّ عَرَقُه }

(صحيح ابن ماجه)

فهنا عندما قال تعالى: (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم) أي الأجر الذي يكافئ عملهم، وتعبهم، وصبرهم، وهو أجر الله دائماً ليس مكافئاً فحسب، ولكنه أعظم بكثير من العمل، أعظم بكثير من العمل، الله تعالى لا يعطي الأجر المكافئ، نحن في دنيانا نعطي الأجر المكافئ لكن الله تعالى إذا أعطى أدهش، (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الآن هم صبروا تحملوا الأذى، أي أنت تعرضت للإيذاء من شخص فصبرت على إيذائه، هذه مرتبة جيدة، المرتبة الثانية قال:(وَيَدْرَءُونَ) أي يدفعون (بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي تأتيهم السيئة فيدفعونها لا بالصبر فقط، وإنما يواجهون السيئة بحسنة، وهذا ليس منطق ضعف أبداً، الصبر ومواجهة السيئات بالحسنات ليس منطق ضعف، انتبهوا، أنا عندما أكون في وضع مظلوم، والموقف مناسب لأخذ مظلمتي فينبغي أن أخذ مظلمتي:

وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
(سورة الشورى: الآية 41)

لكن حينما يكون الهدف هو هداية الخلق، وحينما يكون الهدف هو إعزاز دين الله، ونشر الخير بين الناس، فقد أصبر على أذىً يُصيبني في سبيل الهدف الأكبر، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أكبر شاهد، كم صبر على أذى قريش؟ هل كان صبره ضعفاً منه صلى الله عليه وسلم؟ لا، لكن كان صبره صلى الله عليه وسلم رغبةً منه في هدايتهم، لأنه ينظر إليهم على أنهم مرضى، كما حصل معه في الطائف، صلى الله عليه وسلم.

المال جزء يسير من الرزق و ليس الرزق كله :
الصبر امتناع
الآن (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون السيئة بحسنة، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) إذاً أصبحوا ثلاث مراتب وليست مرتبة واحدة، انتبهوا، المرتبة الأولى: صبر، المرتبة الثانية: واجه السيئة من قومه بحسنة من عنده، الثالثة: أنفق، بذل وأعطى، الصبر هو حالة سلبية، أقصد بالسلبية ليس الذم، لا، لكن أقصد أنها كف، امتناع، الصبر امتناع، أنا أوذيت فامتنعت عن الرد، هذا صبر، لكن الإنفاق هو حالة إيجابية، عطاء، فانتقلوا من الصبر على الأذى إلى مدافعة السيئات بالحسنات إلى العطاء، وقال: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ما قال: من مالهم، فالرزق أوسع من المال، المال جزءٌ من الرزق وليس الرزق كله، هو جزء يسير من الرزق، يسير ولا أبالغ، أي إذا قارن الإنسان الصحة مع المال قلت لك: ضع علامة لرزق الصحة مع رزق المال، كم تعطي للصحة وكم تعطي للمال؟ تعطي للصحة تسعين بالمئة، وللمال عشرة بالمئة، فما قيمة المال من غير صحة؟! وإذا قلت لك: قارن نعمة الولد الصالح أو الزوجة الصالحة مع المال، كم تعطي للنعمة؟ فالرزق واسع، الرزق واسع جداً، المال جزء من الرزق فقال: (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) رزقناهم مالاً أعطوا من مالهم، رزقناهم علماً أنفقوا من علمهم، رزقناهم صحةً أنفقوا من صحتهم، رزقناهم جاهاً أنفقوا من جاههم لإحقاق الحق وإبطال الباطل (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ
(سورة القصص: الآية 55)


صفات من يسمع اللغو و يعرض عنه :
اللغو بحد ذاته محرم
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) الآن صفات هؤلاء تعرض اتباعاً (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ)، اللَّغْوَ: هو كل كلام لا طائل من ورائه، ولا نفع منه، ولو كان مباحاً، فكيف إذا كان محرماً؟ (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ) كلام لا طائل من ورائه، قد يقضي الإنسان جلسةً في بيته، أو في بيت رفاقه، ثلاث ساعات أو أربع، سهرة ليس فيها كلمةٌ نافعة تفيد الإنسان في شيء، أبداً، قصص، وغالباً ما ينتقل اللغو الذي ليس فيه محرمات إنما هو لغوٌ فقط، واللغو بحد ذاته محرم، لكن ليس فيه محرمات بعينه، لكن غالباً ما ينتقل اللغو إلى المحرم لأن طبيعة الإنسان ديناميكية حركية، فتبدأ الجلسة ليس فيها محرمات، بعد قليل لابد من بعض الغيبة، ثم لابد من بعض الكلام الفاحش، أو السباب، أو، أو، فتنتقل الجلسة من جلسة فيها لغو أنه لم نتكلم على أحد، لكن نتكلم في أشياء عامة لابد أن تنتقل بالإنسان إلى المحرمات بعد قليل، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) تركوه (أَعْرَضُوا عَنْهُ) أي هي من أعظم العلاجات لمجالس اللهو واللغو أن تُعرض عنها، تقول لي: كيف أعالج الموضوع؟ لا تذهب مثلاً، إنسان قال: كلما ذهبت إلى السوق في مكان محدد في سوق محدد أجد الكاسيات والعاريات والمائلات والمميلات ... إلخ، واليمين، والكذب وكذا، ما العلاج؟ غض بصرك، لا أستطيع، أتعب، صعب جداً أغض من هنا فأجد هناك، هل أنت محتاج للذهاب؟ لا، إذاً لا تذهب، فقط، لماذا أنت هنا؟ لماذا أنت في مجلس لا يرضي الله؟ أعرض عنه، فالوقاية خيرٌ من العلاج، لا تضع نفسك في موضع التهمة أو في موضع المعصية ثم تقول: ماذا أفعل؟ عليك ألا تذهب إلى هذا المكان أبداً، أو لا تجلس في هذا المكان، أو لا تدر هذا الحديث (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) تركوه، (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) هذا الولاء والبراء وهو الفريضة السادسة في الإسلام، الولاء والبراء، (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
(سورة الكافرون: الآية 6)

الولاء والبراء
الولاء والبراء لا يعني أنني سأقتلك، معاذ الله، ولا يعني أني سأنتقص من كرامتك، أو سأهينك أبداً، الولاء والبراء أنني في واد وأنت في واد، فنحن لا يمكن أن نلتقي، مثل إنسان عالم عنده علم غزير جداً جداً، وعنده معلومات قيمة جداً، وأجلسته بين مجموعة من الأميين الذين لا يقرؤون، ولا يكتبون، ولا يحسنون فهم شيء في الحياة، يقول لك: أنا لا أستطيع أن أستمر في هذا المجلس، أنا لا أستطيع، لأن الخليط غير متجانس، فأنت عندما توالي أولياء الله وتعادي أعداء الله، هذا هو الولاء والبراء، أي تعاديهم بمعنى أنك تتبرأ منهم (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ألم أقل لكم إن الولاء والبراء ليس معناه القتل، ولا سفك الدم، معاذ الله، لكن معناه أنني انفرد بنفسي، وأجلس في برجي العاجي الإيماني، وليس الاجتماعي، أنا مع الناس يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، لأن المؤمن إذا جلس في برجه العاجي وترك الناس وقال لك: أنا لا أستطيع أن أجلس معهم فهذه مشكلة، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ }

(صحيح الترمذي)

علاقتنا مع بعضنا سلام
فالخلوة مع الله في الليل نصف ساعة تتعبد الله بها، أما أنك تقول: أنا في خلوة دائمة وتترك الناس، لا، لكن أنا في برج عاجي أخلاقي، أي هذه الترهات والتفاهات والبعد عن الله عز وجل أنا بعيدٌ عنها، أنا متبرئ منها، لكن لا يعني أنني أترك التعامل مع الناس، فلذلك (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) هل هناك أجمل من السلام؟ يسلم عليهم بعد أن يتبرأ منهم، لأن هذا الولاء والبراء ليس معناه انفكاك العقد بيني وبين الناس، ولكن معناه انفكاك العقد الفكري والأخلاقي والسلوكي، أما نحن فنعيش على أرضٍ واحدة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ما عندي مشكلة معك، بالعكس ربما يهديك الله يوماً فتصبح خيراً مني (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) أجمل من أن تقول لإنسان (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) تسلم عليه، تقول: أرجو أن تكتنف العلاقة بيني وبينك أن يكتنف السلام علاقتي بك، ما معنى (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ)؟ تدخل الآن تقول: (سَلَامٌ عَلَيْكُم)؟ أي علاقتنا مع بعضنا سلام، لن أؤذيك ولن تؤذيني، ولن أحيف عليك ولن تحيف عليّ، ولن أظلمك ولن تظلمني، ولن أنتقص من كرامتك ولن تنتقص من كرامتي، السلام عليكم، فهؤلاء قالوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) لكن الآن البرج الأخلاقي (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) نحن لا نريد أن نبقى في بوتقة الجهل، الجهل الفكري، والجهل السلوكي، والجهل الأخلاقي الذي يؤدي إلى تلك العواقب الوخيمة، لكن العلاقة طيبة، علاقة الاحترام الإنساني إن صح التعبير فنحن مع بعض، نعيش مع بعض، ولكن أعمالكم في واد وأعمالنا في واد، ونحن (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).

حاجة الهداية إلى شيئين اثنين؛ إرادة من العبد وتوفيق من الله :
الآن الذي قلته قبل قليل أن القرآن الكريم يعرض وفد النصارى ماذا فعلوا، في المقابل جاء العرض لنموذج، هذا النموذج هو أبو طالب، أبو طالب هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمون أنه من أكثر الناس مناصرةً له، وأنه لما مات أبو طالب ما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم إلا عندما مات أبو طالب، فكان ينافح عنه، ويدافع عنه، لا إيماناً برسالته وإنما عصبيةً له، وحرصاً عليه كابن أخيه، فروي في الصحيحين أن هذه الآية السادسة والخمسين من سورة القصص :

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(سورة القصص: الآية 56)

نزلت في أبي طالب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو في مرض موته، قال: يا عم قل: لا إله إلا الله أشفع لك بها عند الله، أو أحاج لك بها عند الله، أي يكون لك حجة فقط، انطق بكلمة التوحيد لعلها تكون حجةً لي بين يدي الله عندما أدافع عنك، فأنت عمي ونصرتني، انظروا إلى وفاء النبي صلى الله عليه وسلم ما نسي لعمه هذه الأمور، لكن هذا الرجل لما كان لا يبتغي الهداية، وعاقت بينه وبين الهداية عصبيته، هؤلاء (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ) فقط تلاوة، أبو طالب سنوات مع ابن أخيه يسمع القرآن كل يوم يتلى لماذا لم يؤمن به؟ كان موجوداً في المجلس الذي دخل إليه النبي الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن أمية بن المغيرة، وكان موجوداً أبو جهل فقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ أتترك ملة الأجداد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: قل: لا إله إلا الله، فقال: أبو طالب على ملة عبد المطلب ومات على ذلك، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: لأستغفرن لك ما لم أنهَ عن ذلك، انظروا إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، نزل قوله تعالى تخفيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أنت تحب هدايته لكنك لا تستطيعها:

{ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللهِ بنَ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: يا عَمِّ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لكَ بهَا عِنْدَ اللهِ، فَقالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عليه، وَيُعِيدُ له تِلكَ المَقالَةَ حتَّى قالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: هو علَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: أَما وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (ما كانَ للنبيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولو كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لهمْ أنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ)-(سورة التوبة: الآية 113)-وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في أَبِي طَالِبٍ، فَقالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: (إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ)- (سورة القصص:الآية 56) }

(صحيح مسلم)

الهداية تحتاج إلى شيئين
فالهداية تحتاج إلى شيئين اثنين؛ تحتاج إلى إرادة من العبد، وتحتاج توفيقاً من الله، فإذا وجدت الإرادة من العبد ولم يوجد التوفيق من الله لا تتحصل الهداية، لكن يستحيل أن توجد الإرادة الصادقة من العبد ثم لا توجد هداية التوفيق من الله، مستحيل، فنحن عندما نقول: الله هدى فلاناً فهذه هداية توفيق، وعندما نقول: الإنسان اهتدى إلى الله، فهذه هداية الدلالة، فالإنسان يهتدي فيهديه الله أو يضل فيضله الله، إما أن يهتدي أي أن يسلك طريق الهدى فيهديه الله، أو أن يضل أي أن يسلك طريق الضلال فيضله الله، فالهداية والإضلال بيد الله وحده، لكن السبب من العبد:

فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
(سورة الصف: الآية 5)

فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ
(سورة الأنعام: الآية 125)


الاختيار أصل علاقتنا مع الله :
الإنسان يطلب الهداية فيهديه الله، أو يطلب الضلالة فيضله الله، لأنه مخير :

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(سورة يونس: الآية 99)

الاختيار أصل علاقتنا مع الله
فالاختيار أصل علاقتنا مع الله، لأننا إن لم نكن مختارين فلن نكون محبين، فالحب لا يكون إلا عن اختيار، فلو أن إنساناً أجبر إنساناً على أن يحبه فهل يرقى في هذا الحب؟ يظهر له الحب فقط، يظهر له، فما أراد الله تعالى أن تكون علاقتنا معه علاقة إكراه، قال:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
(سورة البقرة: الآية 256)

ولكن أراد أن تكون علاقتنا معه علاقة حب، فقال:

يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ
(سورة المائدة: الآية 54)

فهنا عندما قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ).

لله تعالى إرادتان؛ إرادة كونية قدرية و إرادة شرعية :
لكن هناك آية أخرى يقول تعالى مخاطباً نبيه:

وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سورة الشورى: الآية 52)

النبي الكريم لا يملك الهداية لأحد
فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الصراط المستقيم، بمعنى أنه يدل على الصراط المستقيم، لكن هل يملك الهداية لأحد؟ لا يملك، لو يملك لملكها لعمه، فانظر إلى عظمة هذا الدين، أن النبي صلى الله عليه وسلم على عظمته وجلال قدره عند ربه وعند الناس لم يستطع أن يملك الهداية لأشد المنافحين عنه، والمدافعين عنه، لما كان هذا الرجل بعيداً عن الهداية لا يطلبها، وإنما يطلب العصبية والقبلية وقوة الأجداد قال: على ملة عبد المطلب، لم يؤمن، (إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ) هؤلاء اهتدوا، جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نجران، وجلسوا بين يديه، وأسلموا بمجرد تلاوة سورة يس، وعمه الذي كان أقرب الناس إليه ما اهتدى، إذاً الهداية قرار من الإنسان، وتوفيق من الله، قرار من الإنسان، وتوفيق من الله تعالى، (إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ) أي هو جل جلاله (أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ) أعلم بمن يريد الهداية فيهديه، (وَهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ) يعلم أنك مهتدٍ فيهديك، ويعلم أن فلاناً من الناس ضالاً فيضله، إرادة الله تعالى قلتها سابقاً والآن أقولها: لأن الأمر دائماً في هذا أمر عقيدي شائك، ليس شائكاً لكن بعض الناس يصعب عليهم فهمه لعدم تبسيطه في الكتب، الله تعالى له إرادتان، تقسيم مدرسي، الإرادة واحدة، لكن التقسيم المدرسي له إرادة كونية قدرية، وله إرادة شرعية، الإرادة الكونية تشمل كل ما يقع في الكون دون استثناء، لو وقعت جريمة قتل فهي بإرادة الله، ليست برضاه ولا بأمره، الله تعالى لا يأمر بالفحشاء جل جلاله، ولا يرضى (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) لا يرضاه:

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ
(سورة الزمر: الآية 7)

لكن لا يقع شيءٍ في ملكه إلا بإرادته الكونية (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) جل جلاله:

وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
(سورة الأنعام: الآية 59)

الإرادة الشرعية هي المنهج
كله بإرادته وبعلمه، بالإرادة الكونية، أنه إذا أراد شيئاً وقع في الكون، أما الإرادة الشرعية فهي المنهج القرآن افعل ولا تفعل، فلو صدق الصادق فقد وقع وفق إرادة الله الشرعية، ولو كذب الكاذب فقد وقع كذبه وفق إرادة الله الكونية والقدرية، فهو كذب بإرادة الله الكونية، أما الصادق فصدق بإرادة الله الشرعية، وهكذا قس عليها كل شيء، فإرادة الله الكونية تشمل كل شيء، وإرادته الشرعية تشمل المأمورات والمنهيات وفق شرعه، فبطولتك أن توقع أفعالك وفق الإرادة الشرعية، ودعك من الإرادة الكونية وتفصيلاتها، لأنك لست مطالباً بها، لا تشتغل بشيء لست مطالباً به، معظم الناس تسأل عن إرادة الله الكونية مثلاً، لماذا يقتل فلان؟ ما ذنبه؟ أنت ليست لك علاقة بذلك، هذه إرادة الله الكونية هو أعلم به جل جلاله، وهو إن قتل مظلوماً فالله تعالى سوف يعوضه عن ذلك ما لو تتمنى أنت لو قتلت مظلوماً فدعك من ذلك، ولو قتل بحكمة الله فحكمة الله أعظم، ولو قتل بعدل الله فكان قتله جزاء عمله فالله أعلم به، فدعك أنت من إرادة الله الكونية، لأنها تحتاج إلى علمٍ عظيم لا تملكه، فلن تفهم عليه حكمته في إرادته الكونية حتى يكون لك علمٌ كعلمه، وهذا مستحيل، فلا ترهق نفسك، الناس اليوم مشغولون بالإرادة الكونية أكثر من الشرعية، أي بدل أن يقول لك: هذا حلال أم حرام لأن هذه إرادة شرعية، يقول لك: أنا يا أخي لا أستطيع أن أفهم لماذا يقتل الأطفال في سوريا؟ مثلاً، أو لماذا تصيب الأمراض للناس؟ يا أخي هذا علم لله لا تملكه، سلم له الأمر فيه، واتجه إلى أن تشغل نفسك بتحقيق مراده الشرعي منك، لأنك سوف تحاسب على الإرادة الشرعية، أما الإرادة الكونية فهو جل جلاله أعلم بما يفعل جل جلاله، وعلمنا قاصر عن فهم حكمته، وعن فهم عدله، فسلم بحكمته، وسلم بعدله، واتجه لتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، فقال: (إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ).

حجج قريش الواهية التي برهن الله على بطلانها :
الآن نختم بهذه الآية الأخيرة:

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة القصص: الآية 57)

تقديم نعمة الأمن على نعمة الشبع
(وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) ما زالت الحجج تقام عليهم في الموضوع نفسه، حتى وفد نجران الموضوع نفسه، أي ضرب لهم مثلاً من أقوام جاؤوا من بعيد سمعوا بالقرآن فآمنوا، وأنتم حول النبي صلى الله عليه وسلم لماذا لا تؤمنون؟ وأحد حججهم وقالوا أي المشركون: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) أي نحن لا نستطيع أن نعبد الله آمنين، إذا اتبعنا الهدى وعبدنا الله سيحاربنا الناس، وسنتخطف من أرضنا، وستحل الفوضى محل الأمن، ولن نستطيع أن نعبد الله، مثل اليوم شخص يقول لك: أصلي أدخل إلى المسجد ولكن أخاف أن يعتقلوني، أو أخاف أن توضع أمام اسمي إشارة بأنني من الملتزمين (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) في عصر يكون فيه الدين بالنسبة لنظرة الناس ضعيفاً، التدين تهمة يحاسب الإنسان عليها، يخشى الناس من التدين خشية البطش، والخوف، والهلاك، يخافون، هكذا كان حال قريش يقول لك: هذه حجة واهية برهن الله على بطلانها، (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ۚ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا) حالة الأمن التي تعيشون بها الآن من الذي مكنها لكم؟ (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا) دائماً القرآن الكريم يقدم نعمة الأمن على نعمة الشبع، هنا قال: (يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا) أعطاهم الأمن، النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا }

(رواه البخاري)

في أماكن أخرى قدم الله الشبع قال: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) فبدأ بالجوع ثم بالخوف، (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ):

فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
(سورة النحل: الآية 112)

الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
(سورة قريش: الآية 4)

لكن هنا قدم نعمة الأمن على نعمة الشبع، لأنهم هم يتحدثون عن نعمة الأمن فقال: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) أمن، ورزق، (رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا) هذا الرزق من أين؟ من الله، والأمن من أين؟ من الله، (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أي أمنتكم وأطعمتكم وأنتم عصاة ثم أخيفكم وأجيعكم وأنت تقاة؟ مستحيل، إذا كنت قد أمنتكم وأنتم تعبدون الصنم، وأطعمتكم وأنتم تعبدون الصنم، فإذا عبدتم الله وحده ووحدتموه تخافون وتجوعون؟ (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ):

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
(سورة الصافات: الآية 154)

الأكثرية هي الإيمان
ودائماً الأكثرية في القرآن ليست ممدوحةً فانتبه أن تكون مع الأكثر، بمعنى انتبه أن تكون مع العامة، كن مع الخاصة، والطريق الذي أنت فيه إن كان على الحق فهو الأكثرية، ولو كنت وحدك، وإن كان على الباطل فهو الأقلية، وإن كان العالم كله معك، فالأكثرية هي الإيمان، والأقلية هي الكفر والجحود.
والحمد لله رب العالمين