أسباب هلاك الأمم وفضل الآخرة على الدنيا

  • الدرس الثاني عشر- شرح الآيات 58-60
  • 2019-07-26

أسباب هلاك الأمم وفضل الآخرة على الدنيا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


الله تعالى لا يضيع من أطاعه لأنه هو الحافظ و الضامن :
مع اللقاء الثاني عشر من لقاءات سورة القصص، ومع الآية الثامنة والخمسين من السورة وهي قوله تعالى:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
[سورة القصص: 58]

طبعاً الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن أهل مكة، (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا):

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
[سورة القصص: 57]

الآمر هو الحافظ والضامن
فالآن يرد عليهم القرآن الكريم بأن الآمر هو الحافظ والضامن، فالذي يأمرك بأمر لابد أنه سيحفظك، وسيضمن لك النتائج، أنت في دنياك عندما تتعامل مع بشر، مع شخص ذي حكمة، و ذي بصيرة، فلو أنه أمرك بأمرٍ تأتمر به، تقول: فلان قال لي: افعل، وهو لا يمكن أن يُخيّبني، ولا يمكن أن يخذلني، هذا في دنيا البشر، فكيف وأنت تتعامل مع خالق البشر؟ هل يُعقل أن يأمرك بأن تكون مستقيماً ثم تستقيم فيخذلك؟! حاشاه جل جلاله. ونحن اليوم نتنسَّم أجواء الحج، وأجواء هذا الموسم المبارك، هذا ما قالته هاجر زوج إبراهيم عندما تركها في وادٍ غير ذي زرع، في مكان لا نبت فيه، ولا ماء، وترك معها جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاء، إبراهيم عليه السلام زوج وأب مثل كل إنسان يحب زوجته، ويحب أبناءه، أي هو ليس بِدَعَاً من الناس، هو بشر، الأنبياء بشر، ولولا أنهم بشر تجري عليهم كل خصائص البشر لما أصبحوا سادة البشر، فهو في بشريته يحب زوجته، ويحب أبناءه، لكنه انتصر على بشريته ونفذ أمر الله.
احتمال الهلاك كبير
الآن عندما أودعهما في هذا المكان، بالقياس العقلي والمنطقي هذا لا يصح، لا يمكن للإنسان أن يترك ويمضي، لأن احتمال الهلاك يكاد يكون محققاً، صحراء والطعام يكفي يوماً أو يومين، جِرَاب، كم يسع الجِراب من التمر؟ وكم يسع السقاء من الماء؟ شيء يسير جداً، فجعلت هاجر تناديه تقول: يا إبراهيم إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا نبت فيه ولا ماء؟ فإبراهيم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيح يمضي، لا يلتفت، لماذا لم يلتفت؟ لأنه خشيَ أن تنازعه مشاعر الأبوة، أو مشاعر الزوجية، فيرى حالهما وبكاءهما واستغاثتهما، فربما يعود، فجعل لا يلتفت إلى أن قالت له وهي تتبعه وتركض: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا، ورجعت، ما دام الله قد أمرك فنحن عند أمر الله، إذاً عندما يقول: هؤلاء الذين في مكة، مشركو مكة (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) هذا كلام لا معنى له، أنت عندما تكون في طاعة الله أيخذلك الله؟ مستحيل.

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
[سورة العنكبوت: 67]

سنة الحياة الابتلاء
فالقضية أنك عندما تعتقد يقيناً أن الله تعالى هو الآمر فهو الحافظ والضامن، وعندئذ تنتهي كل مشكلاتك. أنت طالب، الله تعالى أمرك أن تجتهد، وأمرك أن تدرس، وأمرك أن تتخذ الأسباب، وأمرك أن تغض بصرك، وأمرك أن تسعى في الحلال، إذاً لن يضيعك، قد يطول الامتحان، وقد يقصر، وقد تعاني ما تعاني، وسنة الحياة الابتلاء، لكن أن يخذلك الله بعد أن تطيعه ثم لا تجد نتيجةً في الدنيا أو في الآخرة فهذا من المحال، لأن الله تعالى هو الآمر فهو الحافظ والضامن، أنت أيها التاجر في متجرك آلله أمرك أن تبيع للزبائن بأسعار معقولة وبربح معقول وأن تعطيهم بضائع تنصح لهم فيها؟ قل: نعم، إذاً لا يضيعك، أنتِ أيتها الأم آلله أمركِ أن تربي أبناءكِ وأن تحجبي بناتكِ؟ قولي: نعم، إذاً لا يضيعكِ، هذه سنة الله، لا يمكن لله تعالى أن يضيع إنساناً أطاعه حاشاه تعالى، فهنا يَرُدُّ الله عليهم.

الفرق بين القرية و المدينة :
القرية هي مكان اجتماع الناس
نتابع الآيات؛ (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ) القرية هي مكان اجتماع الناس، لأنه في الأصل قرَيَ من الجمع والاجتماع، ويقال: قريتُ الماء في المِقراةِ، أي جمعتهُ في السقاء، أي قُربة الماء الصغيرة، قَريته أي جمعته، فقرَي هي بمعنى جمع أو اجتمع، فالقرية مكان اجتماع الناس، ورد ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعاً، أكثرها مفرد، وجاءت في بعض المواضع جمعاً مثل هنا، هنا جاءت مفرد قريةٍ ثم جاءت بعد قليل:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
[سورة هود: 117]

المدينة في الوسط
فجاءت بلفظ القرية وبلفظ القرى، بالعرف الحديث أن القرية هي أصغر من المدينة، أفقر من المدينة، فالمدينة هي المكان الواسع، والذي فيه مدنيَّة أكثر، وحداثة أكثر، وفيه متطلبات العيش أكثر، بينما القرية أقل غِنى، وأقل سعةً، وأقل عدداً من الناس، هذا بالعرف الحديث، بالعرف القرآني ما نجد هذه التفرقة بين القرية والمدينة، لكن القرية هي مكان تجمع الناس، لعل المدينة هي المكان الذي فيه تحصين أكثر، أسوار، والقرية تكون حول المدينة، بغض النظر عن غناها أو فقرها أو قلة عدد سكانها، لكن المدينة في الوسط، والقرى حولها، وقد تسمى المدينة في القرآن أحياناً أم القرى، أي مدينة وحولها القرى:

لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا
[سورة الشورى: 7]


كفر النعمة أهم سبب من أسباب هلاك الأمم :
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) ما معنى بَطِرَ؟ بطر المعيشة أي كفر بالنعمة، طغى.
المؤمن يشكر المنعم على نعمه
أخواننا الكرام؛ الإنسان إما أن يكون مع النعمة، وإما أن يكون مع المنعم، فعندما يكون مع النعمة يبطر معيشته، وعندما يكون مع المنعم يشكر المنعم على نعمه، ويحافظ على النعمة، وهذا فرق كبير بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن دائماً مع المنعم، لا ينظر إلى النِعم، ينظر إلى من أنعم بها، بينما غير المؤمن ينشغل بالنعمة عن المنعم، وتخيل لو أنك كنت في حفلة أو في دعوةٍ لغداء، ودخلت البيت، وصاحب البيت الداعي يستقبلك على الباب، فما أعطيته نظرة من نظراتك، ودخلت مباشرةً إلى الطعام، وجلست أمام المائدة، وبدأت تلتهم ما فيها، وتنشغل بتفصيلاتها، وبلحمها، ومرقها، ثم قمت عن الطعام، وفتحت الباب، وانصرفت، ثم صُوِّر وعرض عليك هذا المشهد، كم يكون موقفك مخزياً وأنت تنظر وقد انشغلت عن الداعي بالدعوة؟! فإذا كان هذا الداعي و ما دعاك إليه هو حسنة من حسنات ربك، فكيف تدخل إلى الدنيا وتخرج منها وأنت تدقق في النعمة ونسيت المنعم؟ هذه هي المصيبة الكبرى، ابن القيم الجوزية في كتابه الفوائد يقول: " أغلق باب التوفيق عن الخلق في ستة، أولها: اشتغالهم بالنعمة عن المنعم، اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، لو وصلوا إلى المنعم لشكروا النعمة، لكن اشتغلوا بالنعمة عن شكر النعمة، وهذه مصيبة المصائب "، لذلك الإنسانُ يبطر معيشتهُ عندما لا ينظرُ إلى المنعم (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) ومن أسباب هلاك الأمم، ومن أسباب هلاك القرى كفر النعمة:

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
[سورة إبراهيم: 7]

أما عندما يكفر الإنسان بالنعمة والعياذ بالله فهذا مُؤْذِنٌ بالخراب، ومؤذنٌ بالزوال، ومؤذنٌ بهلاك القرى، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا).

ذكر المساكن الخاوية في القرآن الكريم للعبرة و ليس للافتخار :
العبرة من المساكن الخاوية
قال تعالى: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ)، ما قال: هذه، قال: تلك، لأن اللام للبعد، والكاف للخطاب، تـــِ: اسم الإشارة، المساكن مؤنث لأنها جمع، وكل جمعٍ مؤنث، فجاءت تـــِ وليس ذَا، مثل ذلك الكتاب، الآن لماذا جاء بلام البعد وكاف الخطاب؟ كاف الخطاب من أجل أن يلفت نظرك، أي لا يكون اسم الإشارة مجرداً عن الخطاب، تلك، فالخطاب أنت معني به، واللام للبعد للدلالة على طول الأمد، لأنه طال عليهم الأمد، أصبحوا آثاراً وأطلالاً، فقال: (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ) بقيت بلا سكان، مساكن فقط، مساكن لكن لا سكان فيها، (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لم تسكن من بعدهم إلا قليلا) أي بطروا المعيشة، واستمتعوا بالحياة، وأكلوا ما لذَّ وطاب، وغفلوا عن المنعم، وانشغلوا بالنعمة، ثم أهلك الله هذه القرى، بقيَ بعض من فيها من الأحفاد والأبناء إلا قليلاً، ثم أصبحت مساكن وآثاراً وأطلالاً بعد أن أهلكها الله فتنظر فتقول: هذه القرية كان فيها فلان، وهذه القرى كان فيها قوم عاد وثمود وكذا وأصبحت أطلالاً، والعرب يعرفون الأطلال، بل إنهم في أشعارهم يفتتحونها بالوقوف على الأطلال، من محاسن شعر العرب، وهذه تعتبر من المحاسن أنهم يقفون على الأطلال قبل البدء بالغزل أو بالمدح أو بأي شيء آخر، يجعلون الوقوف على الأطلال من براعة الاستهلال، فالآن الله تعالى يخاطب أهل مكة، ويخاطب العرب، ويخاطبنا بشيء يعرفه الناس، كانوا يمرون بالمساكن فيجدونها قد أصبحت خاويةً على عروشها، ليس فيها لا أُنسٌ ولا أنيس، فهذا المنظر اعتبار، وهذا ينبغي أن يكون عبرةً، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :

{ إذا مررتم بديار القوم الذين ظلموا أنفسهم فلا ترتعوا فيها ولا تمروا عليها إلا باكين }

[رواه البخاري]

أي هذا الافتخار بأن هنا كان الفراعنة، وهنا عاش أجدادنا، من أجدادك؟! أجدادك هم الفاتحون، أجدادك هم الصالحون، أجدادك هم الصحابة الكرام، وسلف الأمة، أما عندما تعتز بقوم أهلكهم الله فأي اعتزاز هذا؟ تعتز بقوم بَطِروا معيشتهم فأيُّ اعتزازٍ هذا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا هذه المناطق ليست للسياحة، ولا للجلوس، ولا للاستمتاع، هذه المناطق لأخذ العبرة، تمر عليها فتبكي لما آل إليها الحال، وتتذكر الآخرة، وتتذكر وعد الله.

الملك لله وحده :

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ
[سورة القصص: 58]

الوارث هو الإنسان أو الشخص الذي يرثُ شيئاً من إنسان آخر، فيموت الإنسان ويبقى ماله لغيره، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

{ أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنَّا أحَدٌ إلَّا مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ }

[رواه البخاري]

إن كنت تحب مالك ستُنفق
أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ من منكم يحب ماله أكثر مما يحب مال وارثه؟ فقالوا: يا رسول الله كلنا مالنا أحب إلينا من مال وارثنا، كلنا نحب مالنا الذي لنا، أكثر من مال الوريث الذي سيرثك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن مالك هو ما قدمت، ومال وارثك هو ما أخرت، أنت اليوم بين يديك ألف، أنفقت منها خمسمئة صدقات على المساكين والفقراء، أو تصدقت بها على عيالك، والصدقة على العيال أعظم أجراً من الصدقة على المساكين، أي أعظم دينار تنفقه هو دينار تنفقه على أهلك، فأنفقته ابتغاء وجه الله، سواءً على أهلك وأولادك، أو ما زاد منه على الفقراء والمساكين، فأنفقت خمسمئة وزادت خمسمئة، فالذي أنفقته هو مالك لأنك ستلقى جزاءه يوم القيامة بين يدي الله، والذي لم تنفقه هو مال الورثة، هذا ليس لك، لأنهم سيرثونه منك، فإذا كنت تحب مالك أكثر من مال وارثك فينبغي أن تنفق، لا أن تُقَتِّر، انظروا إلى هذا المعنى: الذي يمسك المال فهو يحب مال وارثه أكثر من ماله، أما الذي ينفق فهو حقاً يحب ماله أكثر من مال وارثه، فالوارث هو الذي يرث، لكن كل من يرث إنما يرثُ إرثاً ناقصاً، لأن الذي ترثه سيورَّث إلى غيرك، فليس هناك إنسان يرث على الحقيقة مئة بالمئة بمعنى أنه يصبح مالكاً حقيقياً، فكل ملكنا ملكٌ ناقص، والملك لله، فهؤلاء عندما أهلكهم الله تعالى، من الوارث الحقيقي؟ هو الله، لذلك الله قال: وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ، والله تعالى قد يعبر عن ذاته العلية بالمفرد، وقد يعبر بالجمع، بالمفرد عند التوحيد:

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِى
[سورة طه: 14]

أما عندما يتحدث عن أفعاله جل جلاله فغالباً ما يتحدث بضمير الجمع، وضمير الجمع فضلاً عن أنه يستخدم للتعظيم، ولكنه هنا يقصد منه هدفٌ آخر وهو بيان اجتماع أسماء الله الحسنى في كل فعلٍ من أفعاله، كل أسمائه تجتمع في كل فعلٍ من أفعاله، فتجد فعله جل جلاله فيه اللطف، وفيه الرحمة، وفيه المغفرة، فيأتي بصيغة الجمع، قال: (وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ).

قواعد إهلاك القرى :
الآية التي تليها:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
[سورة القصص: 59]

الأم هي الأساس والمركز
أيضاً ما زال ربنا عز وجل يبن قواعد إهلاك القرى، وَمَا كان ربك مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا، أم القرى هي مكة كما جاءت في آيةٍ أُخرى: لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا، لكن قد يُقصد على وجه الخصوص أم القرى هي مكة، ولكن قد يقصد بها من زاوية العموم أنها العاصمة أو المركز، فأم كل شيء هو أساسه وأصله، وأم الإنسان هي جبهته (فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) أي جبهته، فالأم هي الأساس والمركز، على المعنى الضيق أم القرى هي مكة المكرمة، وعلى المعنى الواسع هي كل مركزٍ أو عاصمةٍ يكون حولها قرى أو مدن تتبع لها مهما اتسعت رقعتها، ومن حِكَم الله تعالى أنه أرسل الرسول في أم القرى من أجل انتشار الدعوة، فلو أُرسل في قريةٍ من القرى التي حول المدينة أو العاصمة لربما لا ينتشر الحق كما ينتشر لو كان من مركز الإشعاع الأساسي، فمكة تمثل مركز الإشعاع والوحي والنور الإلهي، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم في أم القرى، لكنه لم يكن لأم القرى وحدها، وهنا الإشارة قال: (حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ) على القرى كلها وليس على مكة فقط، وهذا يصدِّقهُ قوله تعالى: ( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا):

وَ كَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
[سورة الشورى: 7]

فالإنذار للجميع، وتلاوة الآيات للجميع، ولكن المركز هو مكة المكرمة، أو مدينة بالعموم تجتمع القرى حولها، حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا، الرسول يقتضي رسالة، ويقتضي مرسلاً، الرسول يقتضي مرسلاً هو الله، ورسالةً هي القرآن، فكلمة رسول توحي بالرسالة وبصاحب الرسالة جل جلاله، (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا).

ضرورة تزكية النفوس و تهذيبها قبل تعليمها :
في القرآن الكريم هناك عدة آيات ورد فيها (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، مثل قوله تعالى:

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
[سورة الجمعة: 2]

الحكمة والكتاب
فدائماً يبدأ الرسول بتلاوة الآيات بالمعنى المتبادر إلى الذهن، وهو طبعاً معنى صحيح، يتلو عليهم آيات القرآن الكريم آيات الكتاب، لكن عندما نجد في آياتٍ أُخرى أن الله تعالى يقول: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) فالتعليم بالكتاب جاء بعد التزكية، وبعد تلاوة الآيات، وكأن المنهج الدعوي للرسول أن يبدأ بالآيات، أي بما يدل على وجود الخالق وعظمته سواءً كانت هذه الآياتُ من الكتاب المسطور وهو القرآن، أو كانت من الكتاب المنظور وهو الكون، فيبدأ بتلاوة الآيات فيعظم الناس ربهم، ويلتفتون إليه، يلفت نظرهم إلى آيات الله، الآن لا يعلمهم، الآن ليس هناك تعليم، ما قال: يعلمهم، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) أي يبين لهم آيات الله عز وجل في الخلق، في الأنفس، في الآفاق، في القرآن، (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) جاءت بصيغة الجمع، عندها يلتفتون إلى عظمة الخالق فيخضعون له، فتبدأ مرحلة التزكية وهي تطهير النفس من أدرانها، ومن شوائبها، ومن شهواتها الآثمة، هذه هي التزكية، يُزكي نفوسهم بطاعة الله، يُزكيها يخلصها من شوائبها، فتنمو نفوسهم، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الحكمة هي السنة والكتاب هو القرآن الكريم، فأي إنسانٍ يريد أن يدعو إلى الله ينبغي أن يكون منهجه منهج الرسل، فيبدأ بتلاوة الآيات، فيلتفت الناس إلى عظمة الخالق، فيبدأ بتزكية نفوسهم، وتهذيبها، وترقيتها في مدارج الكمال، ثم يبدأ التعليم، فالتعليم هو المرحلة الثالثة وليست المرحلة الأولى، وهذا ليس انتقاصاً من قضية التعليم، لأن كله تعليم، حتى تلاوة الآيات وحتى التزكية هي نوع من أنواع التعليم، لكن التعليم بمعنى هذا أمر، وهذا نهي، وهذا يجوز، وهذا لا يجوز، هذا ما نفهمه من قول عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري:

{ أوتينا الإيمان قبل القرآن }

[رواه البخاري]

هذه تلاوة الآيات، فلما جاء القرآن قال: افعل ولا تفعل، بادَروا إلى التنفيذ:

{ تقول عائشة رضي الله عنها: إن أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام.... }

[رواه البخاري]

ثاب: أي رجعوا، زكت نفوسهم، نزل الآن التعليم، بدأ التعليم، نزل لا تزنوا، ولا تشربوا الخمر، تقول:

{ لو نزل أول الأمر لا تزنوا، لقلنا: لا ندع الزنا أبداً، ولو نزل أول الأمر: لا تشربوا الخمر، لقلنا: لا ندع شرب الخمر أبداً }

[رواه البخاري]

صعوبات التعليم بدون تزكية
عندما يبدأ التعليم دون أن يكون هناك تزكية، ودون أن يكون هناك تلاوة للآيات، فقد يواجه التعليم صعوبات كثيرة جداً من الناس، وصدوداً وامتناعاً، فهنا عندما نقرأ: (حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) بدأ بمهمة الرسول الأولى وهي أن (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) فتزكو نفوسهم، فيعلمهم الكتاب والحكمة، (حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ) أي على الجميع على القرى ومن حولها (آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) سنة الإهلاك أن يظلم الناس جميعاً، ولا تجد فيهم من يكف الظالم عن ظلمه، فيأتي إهلاك القرى.

الله تعالى لا يهلك قرية وأهلُها عادلون :
(وَمَا كُنَّا) أي ليس من شأننا، وليست من سنتنا، وليست من قوانيننا، بالعرف الحديث الرياضي قانون، هذا قانون (وَمَا كُنَّا) هذا ليس شأن الإله أن يهلك قريةً وأهلُها عادلون، شأن الإله أنه يهلك القرى عندما يكون أهلُها ظالمين، يظلمون الناس، ويظلمون أنفسهم، ويعيثون فساداً، في آيةٍ أُخرى يقول:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
[سورة هود:117]

عندما تتوقف عجلة الإصلاح يحق العذاب
أي عندما يكون هناك ظلم لكن يكون هناك أُناس يصلحون لا تهلك القرى، ما دام هناك إصلاح، أما عندما تتوقف عجلة الإصلاح، ويكون هناك أُناس ولو كانوا صالحين بين قوم سوء كثير من الظلمة، فيحق العذاب على هذه القرية، وقد ورد في بعض الكتب أن الله تعالى أرسل ملائكته ليهلكوا قريةً، قالوا: يا رب إن فيها رجلاً صالحاً، قال: بهِ فابدؤوا بالإهلاك، قالوا لم يا رب؟ قال: لأن وجهه كان لا يَتَمَعَّرُ إذا رأى منكراً، هو سِماهُ الصلاح لكن هو في حقيقته يعيش مع المفسدين، فلا ينكر المنكر حتى بقسمات وجهه، يَتَمَعَّر أي يغضب، على الأقل في قسمات الوجه إن كنت لست قادراً على إصلاح الفعل فالإنكار مطلوب:

{ عن زينب أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ }

[رواه مسلم]

فهنا (إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) أي لا يستحق الهلاك إلا الظالمون، ولا يستحق الهلاك إلا الكافرون بنعم الله تعالى، فهنا لدينا سببان من أسباب هلاك الأمم: كفر النعمة، والظلم.
هناك أسباب أُخرى وردت في آيات أُخرى.

المتاع هو الشيء الذي تتمتع به ثم تنصرف عنه أو ينصرف عنك :
ثم يقول تعالى كما في الآية الستين:

وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
[سورة القصص: 60]

أي شيءٍ أوتيته من الدنيا فهو متاع
(وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ) أولاً: أُوتِيتُم فعل مبني للمجهول، إذاً هناك من آتاك ما أوتيته، أي أنت لا تأخذ شيئاً إلا أن تؤتاه في الدنيا، لأن المؤتي الذي يؤتيك هو الله جل جلاله، فعندما قال: (وَمَا أُوتِيتُم) أشار ضِمناً إلى أن هناك من أتاك، ولكنه لم يقل (وما آتاكم الله) إنما قال (وَمَا أُوتِيتُم) لأن الفاعل واضح معلوم لا داعي لذكره فتركه لك، (وَمَا أُوتِيتُم) ثم قال: (مِّن شَيْءٍ) هذه مِّن شَيْءٍ في سياق النفي مِّن شَيْءٍ (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ) تَعُمْ، ما معنى تعم؟ أي تستغرق أفراد النوع، ثم ما قال: وَمَا أُوتِيتُم من نعمةٍ، وإنما قال: من شَيْءٍ، لأن شيئاً أعم، أي هي كلفظ أعم، وجاءت في سياق من، فأي شيءٍ أوتيته من علمٍ، من جاهٍ، من مالٍ، من قوةٍ، أي من شيء أوتيته من الدنيا فهو متاع، أي إذا أوتي الإنسان مئة مليار فهي متاع، وإذا بلغ إنسان أعلى شهادة في الأرض في الفيزياء النووية فهي متاع، وإذا كان بلغ إنسان أعلى منصب وتقلد رئيس أكبر بلد في العالم فهذا متاع، (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ثم إن المتاع هو الشيء الذي تتمتع به ثم تنصرف عنه أو ينصرف عنك.
أبو هريرة رضي الله عنه دخلوا بيته، قالوا: أين متاعكم؟ كأنك مسافر؟ لا يوجد أرائك، ولا يوجد سرير، قالوا: أين متاعكم؟ قال: لنا بيتٌ هناك، نرسل له صالح متاعنا، نحن نرسل متاعنا إلى بيتنا الذي سيبقى ويدوم، لنا بيتٌ هناك نرسل له صالح متاعنا، فالإنسان يتمتع بالمتاع، لكن أن يشغله هذا المتاع عمن آتاه المتاع فهنا المصيبة الكبرى، فقال: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ثم وصف الحياة بأنها دنيا، وفي المقابل هناك حياة عليا هي الآخرة، (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فالدنيا أدنى مرتبة، الدُّنْيَا وليست العليا، يقابلها الحياة العليا وهي الآخرة.

الحياة الدنيا متاع زائل سينتهي وسيواجه الإنسانُ فيها مصيره :
الزينة تزول
قال: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) الزينة توحي بشيئين، الشيء الأول أن الشيء المزين قد لا يكون على حقيقته، فقد يبدو بسبب الزينة في وضعٍ غير الوضع الذي هو عليه، الآن أنت عفواً لو جئت بقمامة، ووضعتها في علبة من أفخم العلب، وربطتها بشريط من أفخم الأشرطة، ووضعت عليها ألماسةً صغيرة صناعية على وجهها، لكن هي في حقيقتها قمامة، أنت زينت القمامة، فالزينة أولاً توحي بأن الشيء الذي تراه بعينك مزيناً، قد تكون حقيقته غير ذلك، هذا أولاً، ثم الشيء الثاني أن الزينة تزول، أي أنت اليوم في البيت جاء رمضان فزينت البيت، قضي رمضان تُزيل الزينة، فالزينة ليست باقية، (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا) أولاً: أن تعتقد أنَ الحياة الدنيا على شكل ليس بالحقيقة التي هو عليها، ثم إنه زائل لأنه زينة، فليس جوهراً وإنما هو عَرَض، فرق بين الجوهر والعَرَض، هذا الجوال جوهره هو الجهاز، الآن غلفته بغلاف مزخرف، هذا زينة، هذا عَرَض جاء إلى الجوال، لكن الجوال في الحقيقة هو الجوهر، فالْحَيَاةِ الدُّنْيَا لها حقيقة، فزينتها هي ما يراه الناس منها من بهارج، وأكل، وشرب، ومسكن فخم، وسيارة فخمة، ونساء ...إلخ، لكن الحقيقة أنها حياةٌ دُنيا ستنتهي وسيواجه الإنسانُ فيها بعد ذلك مصيره، إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها، أجارنا الله وإياكم.

ما عند الله خير و أبقى :
الآخرة حقيقة
قال: (فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ) في الآخرة، هذا متاع للدنيا، أما ما عند الله فليس متاعاً (مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) أي خيرٌ في طبيعته، وأبقى في مدته، فالآخرة في طبيعتها ليست زينةً، الآخرة حقيقة، الآخرةُ حقيقة ليست وهماً، فهي في طبيعتها خير، أي الفاكهة في الدنيا (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) أنت عندك تفاحة في الدنيا، وعندك تفاحة في الآخرة، كلاهما تفاحة، لكن ما أخذت التفاحة التي في الدنيا من تفاحة الآخرة إلا الاسم، أما الطعم واللون والحجم والسعادة التي تنتابك وأنت تأكل فواكه الجنة فلا تقارن أبداً في الدنيا، فما عند الله خير في الطبيعة، وأبقى في المدة، لأنه أبد لا ينتهي، أما ما هو في الدنيا فطبيعته أنه زينة، وطبيعته ومدته أنها مؤقتة ستزول.

العاقل من يدرك الفرق بين الدنيا و الآخرة :
(وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الأمر لا يحتاج شيئاً إلا العقل، وعَقَل الشيء رَبَطَه، وهذه الناقة التي كانت جرباء:

{ قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل؟ قال: بل اعقلها وتوكل }

[رواه الترمذي]

الأمر فقط يحتاج إلى عقل
اعقلها أي اربطها، ثم توكل على الله لا تتركها وتقول: أنا متوكل وتذهب، اعقلها وتوكل، فالعقل هو الربط في الأصل، والعقل سمي عقلاً لأنه يحجز صاحبه عن الوقوع في المهالك، فهؤلاء لو كانوا يعقلون حقاً لأدركوا الفرق بين ما في الدنيا وما في الآخرة، أي الأمر لا يحتاج بياناً، يحتاج إلى عقل فقط، اليوم إذا قلت لك: أنت فكر بعقلك، لا تنتبه أبداً إلى أي نصوص، بعقلك فقط، قلت لك: هل أعطيك هذا القلم لدقيقة أم هذا القلم لساعة أم هذا القلم دائماً هو لك فماذا تختار؟ تختار القلم الثالث، هذا دقيقة، هذا ساعة، هذا لي دائماً، إذا كان قلم الدقيقة ثمنه يقدر بدينارين، والقلم الذي سيبقى ملكاً لك ثمنه حوالي دينار واحد، ماذا تختار؟ الذي سيبقى دائماً، رغم أنه أقل، لكن لو قلت لك: هل تأخذ هذا القلم لدقيقة أم تأخذ ذاك القصر مدى العمر؟ ثم قُلتَ لي: آخذ القلم، إذاً لا يوجد بك عقل، الأمر لا يحتاج إلى نصوص (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) شيء فان، ومحدود، وقيمته أقل بكثير، وذاك مستمر، وطبيعته خير من هذا بكثير، ثم تختار الفاني المحدود البسيط الرخيص، وتترك الثمين الغالي الأبدي، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الأمر يحتاج إلى عقل، أي أن تفكر فقط، لا يحتاج إلى نصوص، يحتاج إلى عقل، قال: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، إذاً:

وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
[سورة القصص: 60]

والحمد لله رب العالمين