معنى توحيد الربوبية و الألوهية

  • الدرس الرابع عشر - شرح الآيات 65-70
  • 2019-09-06

معنى توحيد الربوبية و الألوهية

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


سؤال الله الناس يوم القيامة بغرض توبيخهم وتقريعهم وإقامة الحجة عليهم :
مع اللقاء الرابع عشر من لقاءات سورة القصص ومع الآية الخامسة والستين وهي قوله تعالى:

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ
(سورة القصص: الآية 65-66)

في الآيات السابقة كان الحديث عن التوحيد بشكل عام ، وبيّنا كيف تناولت الآيات التوحيد ، ومعظم السورة المكية في القرآن الكريم تتناول التوحيد ، وتستخدم القصة ، أو المثل ، أو الأفكار المجردة للوصول إلى تثبيت قضية التوحيد في النفوس .
الهدف من السؤال
الآن نتابع الآيات (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) المنادي هو الله ، والمنادَى هم هؤلاء المشركون الذين غفلوا عن الله ، وأشركوا به معه غيره ، والنداء هو (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ؟ السؤال الوحيد (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ؟ وهذا فيه إثباتٌ للرسالة ، فالآية تحدثت عن منادٍ هو الله جل جلاله ، وعن مناَدى وهم هؤلاء المشركون ، وعن رسالة ورسول من الله عز وجل لهؤلاء القوم ، السؤال (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ؟ وهذا السؤال ليس المقصود منه انتظار الجواب ، لأن الله تعالى يعلم بماذا أجابوا المرسلين ، فليس المقصود منه جوابهم ، إنما المقصود توبيخهم ، وتقريعهم ، وإقامة الحجة عليهم ، وزيادة العذاب لهم ، كثيراً ما يُسأل سؤال : يسأل الأب ابنه أو المعلم طالبه فيقول له : ما وضعك الآن وقد رسبت في هذه المادة أو في هذا العام ؟ ولا يقصد من ذلك أن يحدثه عن حاله بعد الرسوب ، فحاله واضح ، وإنما يقصد بذلك أن يقيم الحجة عليه وأن يقرّعه ويوبخه ليعلم سوء صنيعه ، فهنا (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) ؟ ليس عندهم جواب .
الهدف من الخبر اليوم
قال: (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ) الأنباء أي الأخبار ، والأنباء جمع مفرده النبأ هو الخبر العظيم ، النبأ هو الخبر الكبير العظيم ، لذلك يقال : وكالة الأنباء ، ونشرة الأخبار ، فنشرة الأخبار تأتي من وكالات الأنباء ، وكالات الأنباء ينبغي أن تهتم بالأخبار المهمة بخلاف ما هي عليه في الواقع اليوم، فالأهمية تختلف ، أحياناً يأتونك بخبر هدفه جمع الإعجابات ، وكثرة التعليقات، وهو خبر غير مهم ، ولا يقدم ولا يؤخّر ، بل ربما يفسد ولا يصلح ، لكن في الأصل الأنباء هي للأخبار المهمة ، فهنا أي خبرٍ أعظم وأهم من هذا الخبر وهو أن تعلم ماذا أجبت المرسلين ؟ أن تعلم هل كان موقفك من المرسَل أن آمنت واستجبت أم كان موقفك من المرسل أن كذبت وأعرضت ؟
الالتزام بأوامر الله
قبل أن يأتي يوم القيامة تخيل أن الله تعالى سيسألك يوم القيامة : ماذا أجبت المرسلين ؟ محمدٌ صلى الله عليه وسلم هو نبينا المرسل فماذا أجبته ؟ أمرك بالصدق فهل صدقت ؟ أمرك بغض البصر فهل غضضت ؟ أمرك بالبعد عن الغيبة والنميمة فهل ابتعدت ؟ أمرك بالتوحيد فهل وحدت ؟ أمرك بترك الشرك الخفي والجلي فهل ابتعدت عن الشرك الجلي والخفي ؟ إلى آخره ، مئات بل آلاف مؤلفة من البنود ، ماذا أجبت المرسَل ؟ أرسل الله إليك رسولاً فأنت ماذا كان جوابك ؟ اليوم إذا كان الحاكم قوياً ، أو ملكاً ، أو رئيساً ، أرسل رسولاً إلى ملكٍ آخر ، أو إلى حاكمٍ آخر ، أو إلى وزير ، أو إلى فئة من الناس ، وعاد إليه فأول ما يسأله: بماذا أجابوك ؟ هل وجدت منهم قبولاً أم إعراضاً ؟ تصديقاً أم تكذيباً ؟ وافقوا أم لم يوافقوا ؟ هذا السؤال الاعتيادي ، فربنا عز وجل أرسل إليك رسولاً وحمّله برسالة فسيسألك يوم القيامة :

فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
(سورة الأعراف: الآية 6)

الجواب غير موجود عند أحد
سيسأل المرسَل وسيسأل المرسَل إليه ، السؤال لابد منه ، فهؤلاء وقفوا يوم القيامة (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ) الْأَنبَاءُ كأنها عمياء فلا تستطيع أن تصل إليهم بشيء ، ما عندهم جواب ، أي حاروا جواباً، أي موقفهم موقف الخزي والعار، لا جواب ، وقف موقف الخزي، ما عنده جواب ، قال: (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) فهو يعلم أن زميله في الشرك الذي كان يشرك معه ، والذي كان يخوض معه في الأعراض ، وفي الظلم ، وفي القهر ليس عنده جواب مثله ، ليس عنده جواب ، فلا يتوجه إليه ويسأله بماذا نجيب ؟ أنت في الامتحان إذا كان أمامك طالب نجيب ، وتعلم أنه مجتهد ، وأنه قد أعدّ دراسته جيداً ، فربما تلتفت إليه لعلك تجد عنده جواباً لهذا السؤال المشكِل الذي لا تعرف له جواباً ، فإن كنت تعلم أن حاله مثل حالك أو أسوأ ، وأنه لم يدرس ، هل تلتفت إليه وتقول : ما الجواب ؟ تعلم أنه مثلك ، فيوم القيامة سيقفون جميعاً فلا يتساءلون ، لأنهم كلَّهم ليس عندهم جواب ، لأن الجواب الوحيد الذي ينجي أن يقولوا : قد آمنا وصدقنا ، ويومها ليس هناك كذب ، لا يستطيع أن يكذب ، لأن الحجة قائمة ، في الدنيا الإنسان إذا سُئل ربما يقول: أجبت ، فعلت ، انتهيت ، لكن عندما يقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة فإما أن يجيب الحق ، أو أن يصمت صمت الخزي والعار ، فهؤلاء يصمتون وليس عندهم جواب (فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) أي لا يلتفت بعضهم إلى بعض ليسأله لأنه يعلم أنه يشكو مما منه يشكو، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ) .

الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً وصواباً :
لكن ربنا عز وجل من رحمته عندما تشعر أن الأبواب غلقت ، أي الموقف رهيب ومهيب تقول : يا رب ما هذا الموقف ؟ يأتيك مباشرةً بالجانب المضيء بأن المنفذ موجود ، وأنه كان لك في الدنيا أن تفعل أشياء بسيطة حتى تتقي هذا الموقف ، وحتى تتقي هذا الخزي والعار أمام الله تعالى ، ففوراً ربنا عز وجل قال :

فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
(سورة القصص: الآية 67)

اقتران الإيمان بالعمل في القرآن
كان بوسعك أن تكون من التائبين في الدنيا ، أن تتوب إلى الله من كل ذنب ، وأن تؤمن ، وأن تعمل الأعمال الصالحة ، الإيمان هو الجانب العقيدي ، الجانب الفكري ، الإيديولوجية كما يقال بالعرف الحديث ، آمن أي صدق بما جاء به الأنبياء ، صدق بما جاء به المرسلون ، هذا آمن ، لكن الإيمان وحده من غير حركة يصبح ترفاً فكرياً ، ثقافة ، فدائماً الإيمان في القرآن الكريم يقترن بالعمل ، عشرات الآيات (آمَنُوا وَعَمِلُوا) لكن أيضاً العمل ليس العمل المطلق (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ) يقيد العمل دائماً في القرآن بالصالحات (وَعَمِلَ صَالِحًا) والعمل الصالح هو العمل الذي يصلح للعرض على الله ، ولا يصلح عملٌ للعرض على الله إلا أن يكون خالصاً وصواباً ، خالصاً يُبتغى به وجه الله وحده ، وصواباً فيه اقتداء بمنهج الله تعالى ، بما في كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً وصواباً :

{ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ }

(رواه النسائي)

توبة فبناء فسلوك
إذاً هناك توبة وبدأ بها لأن الحديث هنا عن قوم أعرضوا فمقابل الإعراض هو العودة ، والتوبة هي العودة ، فبدأ بالتوبة ، تاب ثم بنى إيماناً فكرياً ثم سلك سلوكاً يتوافق مع إيمانه ، أولاً : الرجوع إلى الله ، تاب ، آمن ، بنى عقيدةً صحيحةً انطلق من خلالها إلى عملٍ صالح ، وليس إلى عمل فاسد ، (تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ) عسى : هو فعل من أفعال الرجاء ، تقول : عسى أن آتيك ، أي أرجو أن آتيك ، فأنت عازم على الإتيان لكن قد يمنعك شيءٌ فلا تأتي ، فهذا للرجاء ، لكن إذا كان القائل هو الله سبحانه وتعالى فعسى من الله غير (عسى) من البشر ، في حياتك إذا كان هناك شخصان تثق بأحدهما وتعلم أن الآخر يقول ما لا يفعل ، وقال كلٌ منهما : عسى أن أكافئك ، فتأخذ ( عسى ) من الأول على أن المكافأة حاصلةٌ ، ومن الثاني على أنها يغلب ألا تحصل .

الفرق بين الفلاح و النجاح :
النجاحات متعددة
فإذا قال ملك الملوك جل جلاله : (فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) فعسى من الله هي للتأكيد ، أي سيكون هذا التائب المؤمن العامل للصالحات من المفلحين في الآخرة ، يتوب ويؤمن ويعمل صالحاً في الدنيا فيفلح في الآخرة ، هذا اللفظ القرآني؛ أما اللفظ الدنيوي الذي نتعامل معه دائماً نقول : نجح فلان ، القرآن لا يقول : نحج ، يقول : أفلح ، لا يقول: ناجح ، يقول : مفلح ، لا يقول : الناجحون ، بل يقول : المفلحون ، ما الفرق بين الفلاح والنجاح ؟ النجاح جزئي ومرحلي وقد يعقبه فشل ، فقد يقول إنسان : نجحت في هذا الزواج ، أي استطعت أن أخطب امرأةً صالحةً ، أو وفق ما يجد النجاح في الزواج من منظوره ، لأن النجاح يتبع لرؤية الإنسان ، فالإنسان قد يجد النجاح بأن يتزوج امرأةً جميلةً مثلاً ، والآخر يرى النجاح في أن يتزوج امرأةً حسيبةً ، والثالث يرى أن النجاح في أن يتزوج امرأةً غنيةً ، والرابع يرى في أن النجاح أن يتزوج امرأةً تقيةً ، فهو يقول : نجحت بناءً على ما يظن أنه هو النجاح ، في ظنه ، فقد ينجح الإنسان في أمر أو يظن أنه نجح في أمر ، قد ينجح فيأخذ شهادةً عليا ، قد ينجح فيسافر سفرةً يحقق منها أرباحاً طائلة ، قد ينجح فيعمل عملاً يدرُّ عليه أموالاً كثيرةً ، هذه نجاحات ، لكنه ليس مفلحاً ، متى يفلح الإنسان ؟ حينما يحقق الهدف من وجوده ، هذا المفلح ، فأنت تكون مفلحاً بقدر استقامتك على منهج الله ، وتكون مفلحاً بقدر طاعتك لله ، وتكون مفلحاً بقدر صلتك بالله ، فالفلاح ليس نجاحاً ، ليس من النجاح في شيء ، النجاحات جزئية ، أما الفلاح فشمولي ، كلي ، تحقق الهدف من وجودك ، ليس بعده فشلٌ أبداً ، فربنا عز وجل في القرآن الكريم يتحدث عن المفلحين وليس عن الناجحين ، قال : ( فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) .

الخلق و الخيرة لله تعالى :

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
(سورة القصص: الآية 68)

لله الخَلق والخيرة
(وَرَبُّكَ) يخاطب نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، أي ربك يا محمد صلى الله عليه وسلم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) الخلق له والخيرة له ، فيخلق بمشيئته ، ويختار بمشيئته ، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نبياً ، وهذا ردٌّ على دعوة من بعض من كان في المدينة ممن قالوا : لماذا أنزل القرآن على محمد ؟ (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) هذا ردٌّ عليهم :

لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ
(سورة الزخرف : الآية 31-32)

النبي صلى الله عليه وسلم رحمةٌ من الله ، أرسله الله رحمةً للعالمين ، فهو الذي خلقه ، وهو الذي اختاره ، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) هذا بالمعنى السياقي ، أما لو تحدثنا عن الآية بشكل عمومي شمولي فنقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) كل شيءٍ في الحياة ربك هو الخالق ثم ربك هو الذي يختار منه ما يريد ، فربنا عز وجل خلق الأشهر واختار منها رمضان ، وخلق الأشخاص واختار منهم الأنبياء ، واختار من الأنبياء محمداً صلى الله عليه وسلم ، وخلق الأمكنة واختار منها بيوت الله ، واختار من بيوته ثلاثاً بيت الله الحرام ، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، فجعل الرحال لا تشدُّ إلا إليها :

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :‏ "‏ لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِ الأَقْصَى }

(رواه مسلم)

الاستجابة لاختيار الله
(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) فالخلق له والاختيار له جل جلاله ، إذاً أنت أيها الإنسان ما مهمتك ؟ أنت مهمتك أن تستجيب لاختيار الله عز وجل لك ، أنت ليس لك أن تختار ، يختار الله لك فأنت تستجيب لاختيار الله لك فقط ، إذا أحببت أن تختار وحدك فهذا شأنك ، ما معنى صلاة الاستخارة ؟

{ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه ، قال: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعلِّمُ أصحابَه الاستخارةَ في الأمورِ كلِّها ، كما يُعلِّم السورةَ من القرآنِ ؛ يقول: إذا همَّ أحدُكم بالأمرِ فلْيركَعْ ركعتينِ من غيرِ الفريضةِ ، ثم لْيقُل: اللهمَّ إني أستخيرُك بعِلمك ، وأستقْدِرُكَ بقُدرتك ، وأسألُك من فَضلِك ؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ ، وتَعلمُ ولا أَعلمُ ، وأنت علَّامُ الغيوب ، اللهمَّ فإنْ كنتَ تَعلَمُ هذا الأمْرَ ثم تُسمِّيه بعَينِه خيرًا لي في عاجلِ أمْري وآجلِه قال : أو في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمري فاقْدُرْه لي ، ويَسِّره لي ، ثم بارِكْ لي فيه ، اللهمَّ وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّه شرٌّ لي في دِيني ومعاشي وعاقبةِ أمْري أو قال : في عاجِلِ أمْري وآجِلِه فاصْرِفني عنه ، واقدُرْ لي الخيرَ حيثُ كانَ ثمَّ رضِّني به }

(رواه البخاري)

أي اجعلني أرضى بهذا الحكم الذي جاء منك يا رب ، فالمؤمن يضع خياره عند الله ، وهذا لا يعني أنه يترك الأخذ بالأسباب لكن الخيار في النهاية لمن ؟ لله ، يقول : يا رب أنا لا أختار لنفسي .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
(سورة الأحزاب : الآية 36)

فهنا (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) خاطب رسوله والمؤمنين بالربوبية .

الفرق بين الربوبية والألوهية :
هناك ربوبية وألوهية ، أكثر الخلق مشتركون في فهم مفهوم الربوبية حتى إن المشركين في قريش الذين يخاطبهم الله تعالى في قرآنه في هذه الآيات كانوا يعلمون أن الله هو الرب جل جلاله ، والدليل :

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
(سورة الزمر: الآية 38)

الله هو الرزاق
فهم ما كانوا ينكرون مفهوم الربوبية ، أي أنهم يعلمون أنه جلّ جلاله هو الخالق ، وهو الرازق ، أي كل شيء ينزل من السماء إلى الأرض يفهمونه ، أي يتلقون العطاء ، يتلقون المنح ، يتلقون المطر ، يتلقون الخير ، الولد ، الزوجة ، كله من الله ، لكن عندما أرادوا أن يتوجهوا لم يحسنوا التوجه فتوجهوا إلى غير الله، هذه الألوهية ، لذلك كلمة الإسلام لا إله إلا الله ، أي لا معبود إلا الله ، لا يوجد إنسان عاقل ينكر أن الفضل من الله تعالى ، لكن كثيرٌ من الناس يأتي الفضل من الله فيشكرون غير الله ! إذاً نحن نشترك في مفهوم الربوبية لكننا نتفاوت في مفهوم الألوهية ، فالمؤمن ينبغي أن يركز على التوجه ، المشركون عندهم مشكلة في التوجه فقالوا: :

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ
(سورة الزمر : الآية 3)

فأقرّوا بفضل الله عليهم ثم توجهوا إلى غير الله بالشكر ، وبالدعاء ، وبالحمد ، وبالثناء ، هذه المشكلة الرئيسة .

الإنسان صاحب اختيار مما يأتي من الله أما ما ينبعث هو إليه فله الخيرة فيه :
نفي الشان
ربنا عز وجل يقول : (وَرَبُّكَ) يا محمد (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ) ليس لهم الاختيار (مَا كَانَ لَهُمُ) هنا ما نافية في أصح أقوال العلماء وهو الصحيح لأن البعض قال : هي موصولية ، بمعنى ويختاروا ما كان لهم الخيرة فيه ، أي ربنا عز وجل يختار لك ما كان لك الخيرة فيه ، لكن الصحيح والأوضح والمتبادر إلى الذهن (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ليس للعباد الخيرة ، (ما) نافية مثل قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ) (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) وهذا النفي من أشد أنواع النفي في اللغة العربية يسميه بعض اللغويين : نفي الشأن ، أي ليس من شأن الإنسان أن يختار، ومثاله : أن يُسأل إنسانٌ له سوابق، ليس مستقيماً فيُقال له : لقد سُرق الهاتف فهل سرقته ؟ فيقول : لا ، لم أسرقه ، ينفي أنه سرق الهاتف ، لكن هو في الحقيقة سارق يسرق أشياء أخرى لكنه ينفي ، ولعله ينفي كذباً ، هذا نفي ، لكن لو جئت إلى إنسانٍ مهذبٍ مستقيمٍ ملتزمٍ له مكانة في المجتمع وقلت له : هل سرقت الهاتف ؟ فهذا الرجل إن أجابك : لم أسرقه ، كأنه ينفي الوقوع ، ومع نفي الوقوع تحتمل أنت في ذهنك أنه يمكن أن يقع منه، فيقول لك : ما كان لي أن أسرق ، هذا ليس من شأني ، هذا ليس من طبعي ، ولا من عادتي ، ولا يتوافق مع التزامي ، ولا مع تديني ، ما كان لي أن أسرق ، تماماً ما كان لي ، ليس هذا شأناً لي ، أنا أسرق ! مستحيل ، سؤالك لي هو إهانة ، هذا معنى النفي هنا ، فهنا عندما يقول تعالى : (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ليس من شأن الإنسان أن يختار لأنه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، ولا حياةً ولا نشوراً ، فكيف يملك اختياراً ؟

وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا
(سورة الفرقان: الآية 3)

لكن انتبهوا لا أقصد ليس يملك اختياراً بمعنى أنه مجبرٌ على أعماله ، حاشا لله، لا ، ( مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) لا يعني أنهم ليسوا مختارين في أن يأخذوا طريق الحق أو الباطل ، طريق الصدق أو الكذب ، وإلا لو لم يكن للإنسان خيرةٌ في اختيار طريق الحق أو الباطل فكيف يحاسبه الله ؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ( مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) أي في أن يختاروا هم شيئاً في الحياة ليس من أمور التكليف ، في التكليف لهم الخيرة ، لكن أنت هل كان لك الخيرة في أن تولد عام ألف وتسعمئة وسبعين ؟ أو سبعمئة وثمانين ؟ ليس لك الخيرة في ذلك ، ثم هل لك الخيرة في أن تفرض على الله تعالى- حاشاه- أن يكون نبيه فلاناً أو فلاناً ؟ ليس لك الخيار ، ثم هل لك الخيرة في أن تعتمد على الله أو على غيره ؟ ليس لك الخيرة ، فهنا المقصود بما كان لهم الخيرة، وليس في التكليف ، لأن الله يقول :

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
(سورة الإنسان : الآية 3)

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا
(سورة الأنعام : الآية 148)

يقول تعالى :

قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
(سورة الأنعام : الآية 148)

الإنسان مخَّير
(إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) أنتم كاذبون ، فالذي يقول : أنا ليس لي الخيرة في أن اختار الخير أو الشر ، الحق أو الباطل ، فهو كاذب ، فالإنسان مخير ، لكن ليس لي الخيرة بعد اختيار الله فهو صادقٌ فيما يقول ، إن اختار الله لي هذا فأنا راضٍ به ، فيما يأتيك من الله ليس لك الخيرة فيه ، أما فيما ينبعث منك فلك الخيار ، فيما تتلقاه من الله ليس لك خيارٌ فيه ، قدر الله كذا على العين والرأس هذا خيار الله لي ، لكن فيما أنبعث أنا له فجعل الله لي فيه الخيار ، ولو شاء لما جعل ، لأن الله تعالى يقول :

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
(سورة يونس : الآية 99)

أي لو أراد الله أن يمنع عنك الخِيَار لقال لك : أنت مؤمن وكفى ، كما منع الخيار عن الملائكة فكانوا :

لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
(سورة التحريم: الآية 6)

فالله تعالى حرم الخيار للملائكة ، لم يحرمه للإنسان ، لذلك حمّله الأمانة لأنه صاحب اختيار (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) مما يأتي من الله ، أما ما ينبعثون هم إليه فلهم الخيرة فيه ، ولو لم يكن لهم الخيرة فيه لما كان عليهم من حسابٍ ولا عقابٍ ولا ثواب ، لكن اختيارهم هو الذي جعل الله يكافئهم على حسن انبعاثهم ، أو يعاقبهم على سوء انبعاثهم ، فقال: (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) .

الله تعالى منزهٌ عن كل ما يشرك به :
أي شيء دون الله
ثم قال : ( سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه التسبيح هو التنزيه ، وسبحان هو مصدر من سَبَّحَ ، سبحانه وتعالى أي تعالى الله وتنزه وتقدس عَمَّا يُشْرِكُونَ، فالله تعالى أعلى وأجل وأعظم وأقدس، وهو منزَّهٌ عن كل ما يشرك به ، سواءً كان ذلك حجراً، أو صنماً ، أو مدراً ، أو طاغيةً ، أو قوياً ، أو مالاً ، أو درهماً ، أو ديناراً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فأين الخالق من المخلوق ؟ وأين الرازق من المرزوق ؟ لذلك في القرآن الكريم عندما يتحدث الله عن المشركين يقول :

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
(سورة الزمر: الآية 3 )

(مِن دُونِهِ) أي شيء في الوجود هو دون الله ، فمن يتخذ شيئاً أو آلهةً فهو يتخذها من دون الله تعالى ، (سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .

الله تعالى رب العالمين يربي النفوس و الأجسام :
معنى الرب
( وَرَبُّكَ ) مازال يخاطب بالربوبية جلّ جلاله قال : ( وَرَبُّكَ ) ، في القرآن الكريم يتكرر مفهوم الربوبية بشكل كبير جداً ، لاسيما في الآيات المكية ، ما معنى الرب ؟ ما معنى رب الأسرة ؟ القائم على شؤونها ، من رب العالمين ؟ الله ، يجوز أن يقول الإنسان : رب ويضيف لها شيئاً ، رب العمل ، رب الأسرة ، يجوز من باب أنه من يقوم على هذه الأسرة ، أو من يقوم على هذا العمل ، يجوز ، لكن الرب بأل التعريف لا تجوز إلا لرب العالمين وحده ، لا يجوز أن تقول : هذا الإنسان هو الرب! هذا الإنسان هو رب الأسرة ، رب العمل ، رب هذه القضية ، مضاف له شيء ، أما رب العالمين فهو الله تعالى وحده ، العالمين : كل العوالم ، فهو الذي يربيها جلّ جلاله ، إذاً هو الرب جلّ جلاله بمعنى أنه يقوم ويربي ، هو رب العالمين لأنه يقوم على تربية العوالم كلها ، ما الذي يربيه ربنا عز وجل ؟ ( وَرَبُّكَ ) كلمة ربُّك : يربي الأجسام ويربي النفوس ، كيف يربي الأجسام ؟ بالطعام والشراب ، فرضاً يوجد بالأرض سبعة مليارات ، إذا كان كلُّ واحدٍ منهم يحتاج أن يأكل في اليوم رغيف خبزٍ واحدٍ فقط فكل يوم هناك سبعة مليارات رغيف خبز ، كم تحتاج هذه المليارات من الأرغفة لقمح ينبت من الأرض ويحصد ؟ الأطفال الذين يشربون الحليب ، البقرة تنتج ستين كيلو من الحليب ، وليدها يحتاج خمسة كيلو حليب ، الباقي لمن ؟

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(سورة النحل : الآية 5 )

أوجه تربية النفس
يربي البقرة ، ويربي وليدها ، والفائض الأكثر هو لك من أجل أن يربي جسمك، فربنا عز وجل يربينا ، يربي أجسادنا ، كل يوم نأكل ونشرب ونتحرك ، والكلية تعمل بانتظام، والكبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة ، والأشعار تنمو ، والأظفار تنمو ، والقلب يضخ ويوزع دماء على الجسم كله ، فربنا جل جلاله يربي أجسامنا لكن لا يربي الأجسام فقط ، يربي النفوس ، يربي النفوس كيف ؟ يربيها بالإنعام تارةً فتشكر ، وبالبلاء تارةً فتصبر ، وبالمصائب تارةً فتعود إلى بارئها وخالقها ، تشعر بتربية للنفس ، قد تسيء فتأتيك عقوبة ، فهو يربي نفسك بهذه العقوبة ، وقد تحسن فيملأ قلبك أمناً ، وطمأنينةً ، وسكينةً ، فهو يربي نفسك على الخير والحب وفعل الخيرات والأعمال الصالحة ، تُسعِد الناس فيسعدك ، هذه تربية ، ترعى يتيماً فيرعاك ، تبر والديك فيبعث لك من يبرك ، هذه تربية ، فالمربي لا يكتفي بأن تنمو الأجسام لكنه يعالج النفوس ويربيها ، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ ) .

الله تعالى عالم كل شيء ويعلم ما تُكِنُّ صدورنا :
الآن الآية التي بعدها :

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
(سورة القصص: الآية 69)

المربي يجب أن يعلم
(وَرَبُّكَ): الرب جلّ جلاله من مقتضيات ربوبيته أنه يعلم ، في حياتنا الدنيا إذا كان المعلم ، المربي الذي نسميه المعلم نحن واسمه الأجمل هو المربي ، مربي الصف ، كل صف له مربّ ، أي كل أستاذ يعطي معلومات ، لكن مربي الصف أو مربية الصف لها مهمة أعمق من المادة ، عليها متابعة شؤون الطلاب ، يجب أن تتابع شؤون الطلاب بشكل كامل أو الطالبات ، تحفظ عنهم كل شيء ، أحوالهم ، هذه أمها مطلقة ، ذاك والده متوفى ، الثالث عنده مشكلة في البيت ، فقر شديد ، هي مربية للصف فتعلم كل شيء عن الصف ، المربي لا بد أن يعلم ، فإذا قال: أنا مربي الصف ، وسألته : ما اسم هذا الطالب ؟ يقول : والله نسيت ، هل عندك حالات خاصة وصعوبات تعلم في الصف ؟ يقول : والله ما درستها ، كيف أنت مربي الصف إذاً ؟! كيف ستربيه و أنت لا تعلم ؟! فمن مقتضيات الربوبية العلم ، فربنا جلّ جلاله يربي هذا الكون كلَّه ، إذاً هو يعلم كل صغيرةٍ ودقيقةٍ فيه ، ( وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ) جلّ جلاله :

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
(سورة الأنعام : الآية 59)

يعلم كل شيء ، علم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، علم كل شيء جلّ جلاله ، فقال : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) الآن مربي الصف يعلم ما يعلنون ، ويعلم ما يأتيه من أخبار من هنا ، أو من هنا ، لكن إذا أسرَّ طالب سريرةً هل يعلمها؟ لا يعلمها ، لكن ربنا عز وجل يربينا ويعلم ما تُكِنُّ صدورنا أي ما نخفيه في داخلنا الله تعالى يعلمه :

يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
(سورة غافر: الآية 19)

لا يحاسب الإنسان على ما يكنه
(مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ) أي ما تخفي صدورهم ( وَمَا يُعْلِنُونَ) من باب أولى ، وبدأ بما تكن صدورهم لأنه الأهم هنا فعِلمُه جل جلاله بما يعلن العبد بدهيٌّ ، الإنسان إذا أعلن شيئاً فقد عُلِمَ هذا الشيء ، فإذا كان رب العالمين فهو من باب أولى ، لكن بدأ بالشيء الذي قد يغيب عنك وهو أن الله تعالى (يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) لكن من رحمة الله تعالى أنه لا يحاسبك على ما يكن صدرك ، ولو حاسبنا على ما تكن صدورنا نسأل الله العافية والسلامة ، أي قد يسر الإنسان سريرةً لكن لا يفعلها ، فالله تعالى يعفو عنه ، لكن إذا فعلها كتبت له ، فإن كانت سيئةً كتبت واحدةً ، وإن كانت حسنةً كتبت بعشرة أمثالها ، وهذا من رحمة الله :

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(سورة القصص: الآية 69-70)


مفهوم الألوهية والربوبية معاً في كل آيةٍ من آيات القرآن الكريم :
الشكر في الأصل يكون لله
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ) الآن انتقل من (وَرَبُّكَ) إلى الإِلَه جل جلاله (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) ، أي انتقل من الربوبية إلى الألوهية ، من العطاء من الأعلى إلى التوجه من الأدنى إلى الأعلى ، أي بعد أن علمت أنه الرب جلّ جلاله هو الخالق (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) هو الذي يصطفي ويختار جل جلاله (تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهو العالم (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ) لأن من مقتضيات ربوبيته أن يعلم كل ما يجري في الكون ، سواءً ما أسررته أو ما أعلنته (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ) ، الآن بعد الربوبية ماذا هناك؟ الألوهية (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) ما دام كذلك فلا معبود إلا هو جل جلاله ، هل يصلح أن تقول : فلان أعطاني ثم تشكر فلاناً آخر غير الذي أعطاك؟! هل يصلح أن تقول : الأمر لفلان ثم تطلبه من فلانٍ آخر ؟! هذا يتناقض عقلاً ، يتناقض عقلياً مع الإنسان قبل أن يتناقض شرعياً ، لذلك ربنا عز وجل في القرآن الكريم دائماً مفهوم الألوهية والربوبية معاً في كل آيةٍ من آيات القرآن الكريم ، أي قال بعضهم في الفاتحة - عندما نقرأ الفاتحة ، والفاتحة هي أم الكتاب ، و لا تصح الصلاة إلا بها - الفاتحة كلها تتحدث عن مفهوم الألوهية والربوبية ، فأنت عندما تبدأ تقول:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفاتحة : الآية 1)

(بِسْمِ اللَّهِ) (اللَّهِ) هو اسم الذات الأعظم: (الرَّحْمَٰنِ) هو الرحمن في ذاته فتتوجه إليه ، (الرَّحِيمِ) الرحيم بك فيما يفعله بك فهو من مفهوم الربوبية ، فالرحمن ألوهية لأنه رحمنٌ في ذاته ، والرحيم ربوبية لأنه رحيمٌ في أفعاله ، ثم تقول :

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة الفاتحة : الآية 2)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تتوجه له بالحمد هذه الألوهية ، (رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه الربوبية

الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(سورة الفاتحة : الآية 3)

(الرَّحْمَٰنِ) ألوهية ، (الرَّحِيمِ) ربوبية :

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
(سورة الفاتحة : الآية 4)

(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ألوهية وربوبية ، لأن الدين دان إلى الشيء : رجع إليه ، فأنت إلى من ترجع ؟ إليه ، وهو المالك لأنه الرب ، من مقتضيات الربوبية .

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
(سورة الفاتحة : الآية 5)

فالعبادة له والاستعانة به جلّ جلاله ، ثم الطلب منه :

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(سورة الفاتحة : الآية 6)

التوجه لله لوحده
ففي القرآن الكريم دائماً هذه الثنائية ، وهو أنه ما دام هو الرب الخالق الممد الذي يعطيك ما تحتاجه فكيف بعد كل ذلك يصح ألا تتوجه إليه وحده ؟ هذا هو التوحيد ، وهذا هو مفهوم الألوهية ، فقال : (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو ، ولا يصح التوجه إلا إليه ، ولا تصح العبادة إلا له ، ولا يصح التوكل إلا عليه ، ولا الاستعانة إلا به ، (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ) أي في الدنيا ، (وَالْآخِرَةِ) وفي الآخرة، لَهُ الْحَمْدُ على ما أنعم وتفضل وأعطى ، وله الحمد في الآخرة على عدله ومثوبته وعطائه .

عدل الله المطلق في الآخرة :
الدنيا دار ابتلاء
عدل الله متى يظهر مطلقاً في الدنيا أم في الآخرة ؟ (فِي الْأُولَىٰ) قد ترى عدل الله في بعض المواقف، وقد يغيب عنك في مواقفٍ أخرى ، لأن الدنيا دار ابتلاء ، والله تعالى ما جعلها دار جزاء ، أصلاً قبل ذلك هل يصح أن يكافئ الله مكافأةً عادلةً تامةً في الدنيا ؟ رجل كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم هدى الله به الأمة كلها فما مكافأته ؟ إذا أراد الله أن يكافئه في الدنيا هل يعطيه مالاً ؟ ملكاً ؟ منصباً ؟ هل تصح هذه المكافأة مقابل هذا العمل ؟ لا يوجد مكافأة في الدنيا ، الآن إذا قتل إنسان مليون شخص وأراد الله أن يعاقبه في الدنيا كيف سيعاقبه ؟ يُقتل ، هل يصح هذا مقابل هذا؟! المكافأة والعقوبة لا تكون في الدنيا:

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ
(سورة إبراهيم : الآية 42)

قد يعاقبهم في الدنيا لحكمة أرادها، وقد لا يعاقبهم ، أصحاب الأخدود حُفر لهم الأخدود ووضعوا فيه :

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
(سورة البروج : الآية 4-5-6-7)

ما نصرهم الله في الدنيا،ماتوا،لكن ماتوا على المبدأ ثابتين ، لكن متى المكافأة؟ يوم القيامة، لذلك في سورة البروج بعدها مباشرةً :

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ
(سورة البروج: الآية 10)

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) فما الذي لهم ؟ لهم الأخدود ؟ الأخدود كان للذين آمنوا ، قال : (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) هناك الجزاء (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) :

كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ
(سورة النساء: الآية 56)

بالطرف المقابل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ما الذي لهم ؟ هل قال لهم مكافأة في الدنيا ؟ لا :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
(سورة البروج: الآية 11)

اُحرِقوا في الدنيا ، أُلقوا في الأخدود وأُشعلت بهم النار وما فعلوا شيئاً .

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(سورة البروج: الآية 8)

العدل المطلق يوم القيامة
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فقط لم يفعلوا شيئاً ، لم يؤذوا مخلوقاً ، لم يواجهوا بشيء ، قالوا : آمنا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، فحُفر لهم أخدود ، وأُلقوا فيه، وأُشعلت بهم النيران ، لكن لما تحدث عن جزائهم ، متى الجزاء ؟ في الآخرة ، قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) هذا هو الفوز ، أما فوز الدنيا فبماذا سيفوزون بالدنيا ؟ ماذا سيعطيهم ؟ لكل شخص بيت وسيارة! هذا ليس جزاءً ، الدنيا لا تصلح أن تكون جزاءً ولا تصلح أن تكون عقاباً ، لا تصلح ، عطاء الله أعظم من أن يعطيك شيئاً في الدنيا ويقول لك : كافأتك ، وعقوبة الله أعظم من أن يعاقبك في الدنيا و يقول لك : انتهى الأمر ، الموضوع أعظم من ذلك بكثير هذا هو العدل ، العدل المطلق يوم القيامة ، لذلك (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ) في الآخرة على عدله ومثوبته لأنه سيسوي الحسابات فلما يقضى الأمر يوم القيامة :

وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(سورة الزمر: الآية 75)

جميع الخلائق بصوت واحد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لأنه يُحمد على مثوبته وعدله وجزائه .

الله تعالى إليه المصير و هو سيفصل بين عباده يوم القيامة :
الله يفصل بين عباده
(وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ) قدَّم الجار والمجرور (له) على (الحمد) للحصر والقصر ، أي لا يحمد إلا هو جل جلاله (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ) أي في الدنيا (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ) يوم القيامة (وَلَهُ الْحُكْمُ) فهو جل جلاله يفصل بين عباده ، ما معنى الحكم ؟ أخذ قرار فصل ، حكم بينهما ، فالله تعالى له الحكم ، فهو جل جلاله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون :

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(سورة الحج : الآية 69)

فهو الذي يفصل ويحكم جل جلاله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالمصير إليه جل جلاله ، وهذه مقتضيات الألوهية ، والآيات التي قبلها مقتضيات الربوبية ، وهنا سنتوقف إن شاء الله.
الآن في الآيات التي تليها ربنا جل جلاله سيتحدث عن هذا المفهوم مفهوم الربوبية ثم الألوهية معاً من خلال أمثلة واضحة من حياتك ، وهي الليل والنهار ، اختار لك الليل والنهار فقط ، ففي الليل والنهار يتضح لك أنه هو الرب الذي يأتي بالليل والنهار ، وهو الإله جل جلاله الذي ينبغي أن تتوجه إليه على نعمائه وفضله ، فهذا إن شاء الله موضوع اللقاء القادم .
والحمد لله رب العالمين