أمثلة على توحيد الربوبية والألوهية

  • الدرس الخامس عشر - شرح الآيات 71-75
  • 2019-10-04

أمثلة على توحيد الربوبية والألوهية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


مفهوم الربوبية واضح لا ينكره إلا ضعاف العقول :
وبعد، مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات سورة القصص، ومع الآية الواحدة والسبعين من السورة وهي قوله تعالى:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ
(سورة القصص: الآية 71)

ما زلنا في التعقيبات على قصة موسى، سورة القصص فيها قصتان: قصة موسى مع فرعون، وقصة قارون مع قومه وهو من قوم موسى، وهذه هي الصلة بين القصتين، بين القصتين هناك تعقيبات على قصة موسى مع فرعون، تقريباً أخذت حجم القصة نفسها، أي عندنا أربع صفحات من التعقيبات، بعد خمس صفحات تقريباً تروي قصة موسى مع فرعون، هذه الصفحات تستنتج دروس القصة وعبرها بطريقة غير مباشرة، لكن توصل الفكرة المطلوبة بالشكل الأمثل، كيف لا وهو كلام الله تعالى!
ففي اللقاء السابق انتهينا إلى الحديث عن مفهوم الألوهية والربوبية، وقلنا للتبسيط: إن كل ما يأتي من السماء إلى الأرض هو من الربوبية، فإنزال المطر ربوبية، الرزق ربوبية، الإمداد بالحاجات ربوبية، الإمداد بالحاجات النفسية وتربية النفس ربوبية، فهو الرب جلّ جلاله، وهذا ما لا يكاد يُختلف عليه، حتى عند المشركين:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
(سورة الزمر : الآية 38)

مفهوم الربوبية واضح لا ينكره إلا ضعاف العقول أو المغرضون أو المغيبون عن الحقيقة، هؤلاء قلة، لكن الألوهية وهي حسن التوجه، ما دام الله هو الذي يرزق، هو الذي يعطي، هو الذي يمنع، هو الذي يخفض، هو الذي يرفع، فلماذا إذا أردت أن تتوجه تتوجه إلى غيره!

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
(سورة الصافات : الآية 154)

فمفهوم الألوهية هو الذي نحتاجه اليوم، أن نحسن التوجه، نحن جميعاً مُقِرُّون بأن الله خلقنا وهو الذي يرزقنا، لكن عندما تُلِمُّ بنا مُلِمَّة بدلاً من أن نتجه إليه بالطلب نطلب من أهل الأرض وهذا أمرٌ عجيب، هذا ما وصلنا إليه في اللقاء السابق .

مثل من واقع الحياة يربط بين مفهوم الربوبية والألوهية :
الجديدان الليل والنهار
الآن ربنا عز وجل يضرب لنا مثلاً منتزعاً من واقع الحياة يربط بين مفهوم الربوبية والألوهية، ما المثل؟ هو الجديدان الليل والنهار، وسمي الليل والنهار بالجديدين لأنه دائماً يستجد الليل والنهار، فهما جديدان دائماً، فيأتي الليل ثم يأتي النهار ثم يأتي الليل ثم يأتي النهار فهما جديدان، فيضرب لنا مثلاً بهاتين الآيتين وهما آيتا الليل والنهار، قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) يخاطب المشركين الذين يُقِرُّون بخلق السموات والأرض من قبل الله لكن يتوجهون إلى غيره، يقول لهم : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) القرآن دائماً يريد أن ينقلك من إلف العادة والتعود، من إلف العادة.
القرآن الكريم يخرجك من إلف العادة
نحن تعودنا أن الليل يأتي والنهار يأتي فلا تكاد تجد إنساناً ينتبه إلى هذه النعمة، لأنه قادم بلا شك، الليل والنهار لا يتغير وقتهما، من الآن بإمكانك أن تعرف في عام ألفين وثلاثين في يوم كذا بتاريخ كذا متى ستغرب الشمس ويأتي الليل، فهو شيء ثابت في الكون لا يتغير، فأنت عندما ألفته واعتدت عليه نسيت شكره، فجاء القرآن الكريم ليخرجك من إلف العادة إلى وجوب أن تكون دائماً في حالة تأمل وذهول من خلق الله عز وجل كالطفل الصغير، الطفل الصغير إذا وضعته على النافذة ورأى عصفوراً في الهواء لماذا يذهل ويبقى يتابعه بعينه ومشدوهاً به وأنت لا تنتبه؟ لأن الطفل يراه للمرة الأولى، فهو يرى شيئاً عجيباً، يرى كتلة من اللحم مغطاة بالريش، بعينين صغيرتين، ومنقار صغير، وألوان زاهية، ويحلق في الجو، الله أكبر، فعلاً شيء مذهل، فعلاً الطفل أعقل من الكبير عندما يذهل بالعصفور لأنه فعلاً شيءٌ مذهل، ليس شيئاً اعتيادياً، موسى عليه السلام لما ألقى العصا:

فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
(سورة الأعراف: الآية 107)

كان شيئاً مذهلاً مخيفاً، العصا لا تتحول إلى ثعبان في العادة، الثعبان نفسه من غير العصا أليس معجزةً تستحق الذهول والتأمل والرهب؟ الثعبان وحده بهذا الخلق العظيم من غير أن يكون عصا ويتحول أليس شيئاً يدعو للتأمل؟ المؤمن ينتقل من إلف العادة إلى إلف الشكر، من التعود على النعمة إلى الوصول إلى المنعم جل جلاله .

ثلاث طرق ينقل الله بها الإنسان من إلف العادة إلى إلف الشكر الدائم له سبحاته :
1 ـ الشيء وعدمه :
القرآن الكريم الآن ينقلك من إلف العادة، كيف ينقلك؟ عندما يأتيك بالشيء وخلاف ما هو عليه، القرآن ينقلك من إلف العادة إلى إلف الشكر الدائم لله عز وجل بثلاث طرق:
الطريقة الأولى: الشيء وعدمه، يقول تعالى في نهاية سورة الملك:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ
(سورة الملك : الآية 30)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) غار الماء لم يعد هناك ماء (فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ) ؟ كيف نقلك من إلف العادة هنا ؟ خَيَّلَ لك أن الشيء غير موجود، أنت متعود أنّ لديك ماء في البيت، لكن الله تعالى يقول : لو لم يكن هناك ماء، غار الماء وذهب إلى غير رجعة، فأنت كيف ستعيش ؟ انتبهت قلت : يا رب لك الحمد على نعمة الماء، اللهم أدم هذه النعم .

2 ـ الشيء و أصله :
أو ينقلك من إلف العادة إلى إلف الشكر بطريقة ثانية وهي : الشيء وأصله، أنت الآن إنسان قوي تمشي بالأرض، فينقلك الله تعالى إلى أصلك فيقول:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ
(سورة العلق : الآية 1-2)

الشكر عن طريق الشيء وأصله
الإنسان اليوم بكل هذه الأعضاء، والحواس، والقوة البدنية، والعضلات المفتولة، أنت كنت علقةً لا تُرى بالعين المجردة، قد علقت في جدار الرحم لتأخذ غذاءها من الرحم لأنها لا تقوى على أخذ غذائها بنفسها، علقة تعلق بجدار الرحم (خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) فنقلك من إلف العادة إلى إلف الشكر عن طريق الشيء وأصله، وعن طريق إرجاعك إلى أصلك .

3 ـ الشيء وخلاف ما هو عليه :
الطريقة الثالثة هي هذه التي في السورة هنا، وهي الشيء وخلاف ما هو عليه، قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
الشيء وخلاف ما هو عليه
الحالة المألوفة أن هناك ليلاً ونهاراً، لكن لو تحولت الحالة إلى حالة جديدة وهي أن الدنيا كلها ليل، فهذا الشيء وخلاف ما هو عليه فكيف ستكون حياتك ؟ الماء لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، لو أصبح له لون فقط، أي لو أنَّ ربنا أعطاه لوناً فقط كيف تصبح الحياة ؟ تخيل إذا نزل المطر ماذا يحدث في الأرض ؟ لو أعطاه طعماً فأحبه من أحبه، وأبغضه من أبغضه، لو أعطاه رائحةً فاشمأزت منها نفسك، وأنت محتاج إلى الماء في كل لحظة من لحظات حياتك، لو أنبت لك أشعاراً في باطن كفك، على ظاهر الكف يوجد بعض الأشعار، لكن لو أنبت لك الأشعار في المنطقة التي تريد أن تمسك بها، وأن تصافح بها، وأن تأكل بها! هذا الشيء وخلاف ما هو عليه، جعل لك رجلين لو جعلهما رجلاً واحدة كيف تمشي؟ بالقفز! جعل لك جهاز توازن في الأذن الوسطى بحيث تمشي على قدمين وتتوازن، لو لم يكن هذا الجهاز موجوداً، لو صار التهاب في الأذن الوسطى أصبحت بحاجة قاعدة ارتكاز ضخمة حتى تقف عليها وإلا تميل، إذاً الشيء وخلاف ما هو عليه، هنا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (سَرْمَدًا) : أي أبداً، دائماً لا يتوقف، كل الحياة ليل ليس فيها نهار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي تخيلوا، تصوروا، ضعوا في ذهنكم هذا التصور وأبحروا فيه (إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) هذا مفهوم الربوبية لأنه هو خالق الليل والنهار .

الليل و النهار و السمع و البصر من آيات الله الدالة على عظمته :
حسن التوجه إلى الله عز وجل
الآن لفتك إلى الألوهية: إذا أردت أن تتوجه لمن تتوجه ؟ قال: (مَنْ إِلَٰهٌ) الألوهية (مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ)؟ هذا الألوهية، إذا أردت أن تتوجه من أجل أن يأتيك خالق السماوات والأرض، الذي تقر بأنه خلق السماوات والأرض، إذا أردت أن تتوجه فلمن تتوجه ليأتيك بضياء؟ من يستطيع ذلك إلا الله جل جلاله، قال : (مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ) لأن النهار فيه الضياء، فعبر عن النهار بالضوء، لأنه هو الأهم بعد أن صار هناك ليل وتخيلت أن هناك ليلاً مستمراً، فأنت ما الذي تحتاجه الآن ؟ تحتاج ضياءً، النبات حتى يقوم بعملية التركيب الضوئي ما الذي يحتاجه ؟ الضياء، الضياء ليس فقط وسط من أجل أن تبصر، هو أحد مهامه أنه وسطٌ من أجل أن تبصر، لو لم يكن هناك ضياء لاستوى الكفيف مع البصير، الأعمى مع البصير، لاستوى الذي يرى والذي لا يرى بعينه يستويان في حال عدم وجود الضياء، لأن الضياء هو وسيلة نقل الرؤية، البصر، ولو لم يكن هناك هواء لاستوى المتكلم مع الأبكم، لأن الأمواج الصوتية لا تنتقل إلا بالهواء، فنحن مفتقرون في كل لحظة إلى إمداد الله عز وجل، قال: (مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) هنا قال: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) عندما تحدث عن الليل المستمر قال: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) لأنه يناسب الليل السمع، لأن السمع لا يتوقف ليلاً، أي لو كان الليل مستمراً ما دام الهواء موجوداً فالسمع موجود ينتقل وهذا من نعمة الله عز وجل العظيمة، الأم تنام ورضيعها بجانبها فهي لا تراه ليلاً، وقد يكون في غرفة ثانية مستقلة، ما إن يبدأ بالبكاء للحظة الأولى تستيقظ رغم تعبها الشديد وتنهض إليه فوراً، قد يصدر صوتٌ أشد من صوت ابنها في الطريق فلا تستيقظ، لكن بكاء الصغير عن بعد يوقظها، هذه ظاهرة في الدماغ اسمها ظاهرة الانتباه، يثبط الدماغ كل المؤثرات التي لسنا بحاجةٍ لها، ويوقظك على المؤثر الذي تريده فقط، هذا الانتباه.
حسن التوجه إلى الله عز وجل
فهنا قال : (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) لأنه ناسب الليل السمع، ناسب استمرار الليل السمع، (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) ليس معناها سماع الأذن فقط، معناها سماع الفهم والتدبر والعقل، أي (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) سمعاً يؤدي بكم إلى شكر الله، وإلى حسن التوجه إلى الله عز وجل، لأنه وحده جلّ جلاله هو الذي خلق، وهو الذي يتصرف، وهو الذي يدبر، وهو الذي يعطي، وهو الذي يمنع، (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) سماعاً فيه عقلٌ وفهمٌ، هذا معنى السماع هنا .
الآن الجانب المقابل قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أي قل يا محمد صلى الله عليه وسلم مخاطباً هؤلاء المشركين الذين يقرون بالخلق ثم يتوجهون إلى غير الخالق، ذكرهم بهذه الآية وانقلهم من إلف العادة إلى شكر المنعم جل جلاله، قال :

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ
(سورة القصص : الآية 72)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا) دائماً، أبداً، (إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مستمر، ليس هناك ليل أبداً، قال: (مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) هناك قال : (بِضِيَاءٍ) واضحة مفهومة، النهار الأصل فيه هو الضياء للنبات وللحيوان وللإنسان ولكل شيء في الحياة، أصلاً لا تستمر الحياة بغير نهار، أي لا تستمر في الأصل، لا بد من توازن الليل والنهار، وهذا المعنى عبر عنه ربنا جل جلاله في سورةٍ أخرى قال :

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ
(سورة الليل : الآية 1-2-3-4)

تكامل الليل والنهار
فقال : (وَاللَّيْلِ) (وَالنَّهَارِ) فتكامل الليل والنهار، وتكامل الذكر والأنثى، فالحياة لا تستقيم لا بليلٍ وحده ولا بنهارٍ وحده، وكذلك الحياة لا تستقر لا بذكرٍ وحده ولا بأنثى وحدها، فالذكر والأنثى متكاملان كما أن الليل والنهار متكاملان (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ) هنا الكلام نفسه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم) هناك قال : (بِضِيَاءٍ) لأن النهار ضياء هنا قال: (بِلَيْلٍ)، ثم عبر بماذا ؟ (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ)، مهمة النهار الأولى هي الضياء، ومهمة الليل الأولى هي السكن، السكن حتى يسكن الإنسان ويرتاح، وما سمي البيت سكناً إلا لأنّ النفوس تسكن فيه، وترتاح إليه، قال : (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) لأنه ناسب النهار السرمدي الإبصار، فخاطبهم بالإبصار عند النهار، أو عاتبهم بالإبصار عند استمرار النهار، وعاتبهم بالسمع عند استمرار الليل، قال : (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تبصرون بصراً، والبصر يكون في القلب ولا يكون في العين فقط، لأنّ الله تعالى يقول :

فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
(سورة الحج : الآية 46)

البصر في القلب
فالعمى عمى القلوب، وكم من إنسانٍ فقد بصره ولكن بصيرته موجودة، فتجد من فاقدي البصر من عندهم من الإيمان والبصيرة ما لا تجده عند المبصرين أحياناً، ليبين الله لنا بهذه الآية بأن البصر هو في القلب وليس في العين، قال: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) أي أفلا تنظرون نظراً ينتقل إبصاره إلى قلوبكم، فتستشعرون نعم الله عليكم ثم تحسنون التوجه إليه لأنه لا يأتي بالليل إلا الله، ولا يأتي بالنهار إلا الله، إذاً في هاتين الآيتين مفهوم الربوبية والألوهية نموذج واضح يمكن أن تقيس عليه أي شيء في الحياة، أي ممكن أن تقول : من الذي خلق لي البصر ؟ الله، فإذا أردت أن أنظر فكيف أنظر إلى ما حرمه الله ؟ من الذي خلق السمع ؟ الله، فإذا أردت أن أسمع فكيف أسمع ما حرمه الله ؟ هذا هو المفهوم .

تعقيب القرآن على موضوع الليل والنهار :
الآن تعقيب القرآن على موضوع الليل والنهار قال :

وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(سورة القصص: الآية 73)

(وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ) في القرآن الكريم كلمة (لَكُمُ) (وَلَهُمُ) :

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ
(سورة النحل : الآية 5)

(لَكُمْ) تفيد التخصيص والإكرام
تفيد التخصيص والإكرام، فأنا قد أقول لك : هذه الهدية لك، أي أنا أتيت بها خصيصاً لك، فهذا من باب التكريم، أحياناً تقوم أنت بدعوة بعض الناس إلى العشاء، تدعوهم إلى العشاء، فتدعو ثلاثةً أو أربعة تقول: هذا العشاء لكم أنتم من أجل نجاح فلان، أي بسبب معين، فيأتون ويأتي معهم شخص لم يكن مدعواً فيدخل ويجلس على الطاولة ويأكل، لكن الدعوة ليست له، فربنا عز وجل عندما يقول (لَكُمْ) يشير إلى التخصيص والإكرام، (جَعَلَ لَكُمُ)، الحيوان يستفيد من وجود الليل والنهار، والنبات يستفيد من وجود الليل والنهار، لكن الله جعل الليل والنهار لمن ؟ لك أيها الإنسان لأنك أنت المكرم، أنت المفضل على سائر المخلوقات، فجعل لك نظام الليل والنهار، وجعل لك هذا الأمر، الأنعام مخلوقة لكم وليست مخلوقةً للنبات ولا للمخلوقات الأخرى، هي لك، عندما تجد أن البقرة :

مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ
(سورة النحل : الآية 66)

أسلوب اللف والنشر في القرآن الكريم
هل تخرج هذا اللبن من أجل أن ترضع وليدها؟ وليدها يحتاج عُشره أو أقل من العشر ويشبع، إذاً لمن هذا الحليب ؟ لكم، (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ) هذا معنى (لَكُمْ)، قال: (وَمِن رَّحْمَتِهِ) جل جلاله (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) هذا أسلوب في البديع، نحن عندنا في البلاغة علم البيان، وعلم البديع، وعلم المعاني، ثلاثة أقسام، علم البلاغة، والبلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال المخاطب، فيها علم البيان والبديع والمعاني، أحد علومه هو البديع، في البديع يوجد أسلوب اسمه: أسلوب اللف والنشر، ما معنى اللف والنشر؟ آتي بعدة كلمات ثم أعيد كلمات تعود على هذه الكلمات، فالصفة الأولى للاسم الأول، والثانية للثاني، والثالثة للثالث، هذا اسمه اللف والنشر، فهنا استخدم القرآن الكريم هذا العلم، أو نحن فهمنا هذا العلم من القرآن الكريم، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) الآن (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) عادت على الليل، على المذكور الأول، (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) عادت على المذكور الثاني، ما قال جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله قال : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) الآن (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) وهذا من بديع القرآن الكريم، فالليل من أجل السكن، والنهار من أجل أن يكون هذا الضياء باعثاً لك لتبتغي من فضل الله، فتنزل إلى الأسواق وتتاجر، وتبيع وتشتري، وتأخذ وتعطي (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) الآن خاتمة الآية قال: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الآن تشكرون النعمتين معاً، الليل الذي كان للسكن، والنهار الذي كان لابتغاء فضلٍ من الله .

أعظم ما نشكر به الله على نعمة الليل والنهار :
1 ـ أن نؤدي الفرائض والنوافل في أوقاتها :
أعظم شكر في الليل والنهار
أعظم شكر في الليل والنهار أن تقيم بهما الصلوات الخمس، لأن الله تعالى جعل الصلوات الخمس مرتبطةً بالليل والنهار، الصلوات الخمس مرتبطة بالليل والنهار، مواقيت الصلوات تعتمد على ماذا ؟ على الليل والنهار، علاماتها ما هي ؟ علاماتها هي الليل والنهار، فأنت تصلي الفجر عند طلوع الفجر، وهو علامة من علامات بدء النهار، والضحى التي هي نافلة من النوافل أيضاً بعد طلوع الشمس حتى تخرج قدر رمحين إلى ما قبيل الزوال، وأعظمها أجراً صلاة الأوابين، ووقتها عندما تَرْمِضُ الْفِصَالُ، الفصال جمع فصيل، والفصيل هو ولد الناقة، ولد الناقة يكون جلده ما يزال رقيقاً، فقبيل الزوال قبل أذان الظهر بقليل من شدة حرارة الشمس في الصحراء أي إذا وضع الفصيل رجله على الأرض تكاد تحترق فيرفعها ولا يجلس على الأرض من شدة الحرارة، هنا تَرْمِضُ الْفِصَالُ، فهذه اسمها صلاة الأوابين تكون عندما تَرْمِضُ الْفِصَالُ وهو قبيل زوال الشمس .

{ عَنْ الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنْ الضُّحَى فَقَالَ أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ }

(صحيح مسلم)

الآن إذا زالت الشمس صار وقت الظهر، ظِلُّ كل شيءٍ مثله أو مثليه صار العصر، المغرب بدأ الليل، العشاء الآخرة في الليل، فكل الصلوات الخمس وحتى النوافل وحتى قيام الليل كله مرتبط بالأوقات، فلما قال : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فأعظم ما نشكر به نعمة الليل والنهار أن نؤدي الفرائض والنوافل في أوقاتها المرتبطة بالليل والنهار، قال تعالى :

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
(سورة ق : الآية 39-40)


2 ـ ربط التسبيح بطلوع الشمس وغروبها :
أثر عمل الليل والنهار
أيضاً ربط التسبيح وهو نوع من أنواع الصلة بالله عز وجل بطلوع الشمس وغروبها، فتغير الليل والنهار من شكرهما أن نؤدي فيهما الفرائض والنوافل التي ربطها الله بالليل وبالنهار، أيضاً من آيات الليل والنهار ما يقوله عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه، يقول : " اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا "، لو أخذت صورة لي قبل عشرين سنة، وصورة الآن، ووضعتهما أمام بعضهما أجد أثر عمل الليل والنهار بشكل واضح، عَمِلَ الليل والنهار بي بشيب الشعر، بقلة الشعر، ببعض التجاعيد في الوجه، وكلما تقدم العمر يكثر عمل الليل والنهار فهما يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا، فاعمل فيهما عملاً ينفعك بعد مضي الليل والنهار، إذاً (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أيضاً من شكر الليل والنهار أن يعمل الإنسان في الليل والنهار أعمالاً يُقبِل بها على الله تعالى .

3 ـ أداء حقوق الناس وحقوق الله معاً كلٌّ في وقته :
الجديدان الليل والنهار
الأمر الثالث في شكر الليل والنهار، انظروا إلى المعاني كيف ييسرها القرآن الكريم، أيضاً من شكر الليل والنهار ما يقوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول : " إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل "، كيف ؟ أي إذا إنسان بالنهار ترك العمل، وترك قضاء حاجات الناس، ووقف، وقال لك : أنا أريد أن أصلي اثنتي عشرة ركعة نفلاً، والناس تقف على بابه تنتظر منه حاجاتها، وهو يملك أن يعطيهم فهذا عملٌ بالنهار لكنه غير مقبول، لأن الوقت هو وقت خدمة الناس، ولو أن إنساناً بالليل قام بأمور أخرى غير العبادة وغير الطاعة ربما لا تقبل منه، فعمل الليل شيء وعمل النهار شيء، من هنا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول : " إني إن نمت الليل كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري كله أضعت رعيتي، ففي النهار لا أنام لأني أضيع الرعية، هذا وقت الرعية، وفي الليل إن قضيته كله نائماً فأنا أضيع نفسي أمام ربي، لأنني أحتاج إلى ركيعات في جوف الليل، فالليل والنهار كلٌ منهما له عمل، والإنسان ينبغي أن ينتبه إلى ذلك .
عناية الأم بأولادها عبادة
أضرب مثلاً منتزعاً من واقع الحياة: امرأة، أولادها عندهم مدارس، ولا بد أن تستيقظ مبكرةً لإيقاظهم، والعناية بهم، والتأكد من أنهم قد أخذوا دفاترهم، وواجباتهم، وما يحتاجونه إلى المدرسة، وتودعهم إلى الباب، هذا عملها الذي هو عبادة تقوم بها، فلو أن هذه المرأة تركت هذا العمل، وقامت الليل كله تصلي، وتبكي، وتتقرب إلى الله، فلما صار الفجر صلت ركعتين ثم أيقظت الأولاد، وقالت لهم : إلى المدارس أسرعوا، وأخذها التعب، أخذ منها كل مأخذ فخلدت إلى النوم وتركت أولادها دون عناية، لا أقول : إن الله لا يقبل عبادتها، هذا القبول من الله عز وجل، لكن أقول : إنها جانبت الصواب لأن الله عز وجل أمرها بأمر وهو رعاية الزوج والأولاد، ففي وقت الأولاد الوقت للأولاد، هذا كله بعد أداء الفرائض، نتحدث عن النوافل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يقوم ليصلي الليل، قيام الليل هل هناك أعظم من هذا ! يقول لعائشة رضي الله عنها وهو في ليلتها يقول لها : يا عائشة تأذنين لي أتعبد لربي ؟ الله أكبر، مَن مِن الأزواج يفعل ذلك ؟ إن لزوجك عليك حقاً، هذا حقها، هذه ليلتها تنتظرها، تنتظر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانبها يسامرها وتسامره، فلما أراد أن يقوم لصلاة الليل استأذنها، فانظر إلى هذا التوازن قال : يا عائشة أتأذنين لي أتعبد لربي ؟ انظروا إلى جوابها، لو قالت له : آذن لك جفته، أي قم وأنا أنام، ولو قالت له : لا آذن لك منعته من العبادة والطاعة، قالت له : إني لأحب قربك ولكنني أؤثر ما يسرك، أحب قربك ولكنني أؤثر ما يسرك، هذا جواب جميل .
فقال : (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شكر الليل والنهار بأداء العبادات والطاعات وكلٌّ في وقته، وأداء حقوق الناس، وأداء حقوق الله معاً كلٌّ في وقته، والليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما .

ديننا يأمرنا أن يكون عمل الليل لليل وعمل النهار للنهار :
في القرآن الكريم في سورة ص ربنا جلّ جلاله ضرب مثلين مهمين جداً جداً لنا، لسليمان وداود، سيدنا داود :

إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ
(سورة ص : الآية 23-24)

استعجل في الحكم سيدنا داود، لماذا استعجل في الحكم ؟ كان مستغرقاً في العبادة تسوّروا عليه المحراب، هو مستمتع بمناجاة الله عز وجل :

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ
(سورة ص : الآية 21)

عاتبه ربه :

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
(سورة ص : الآية 26)

عتاب قاس، إذاً ماذا كان يفعل ؟ كان يعبد الله، والله يعاتبه، لأنه الآن موكل بالحكم بين الناس، وقوفك في المحراب في هذا الوقت ليس صحيحاً، وإن كان العمل في حقيقته أقدس عمل وهو الوقوف بين يدي الله، لكنه في هذا الوقت كان ينبغي أن تترك المحراب، وأن تتوجه إليهما، وأن تستمع القضية من أولها إلى آخرها، وأن تستمع إلى الطرف الآخر ثم تحكم بالحق، سليمان بالعكس تماماً:

فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي
(سورة ص : الآية 32)

التوازن مطلوب
أيضاً عاتبه جل جلاله، ينبغي أن يكون هناك توازن، الوقت الذي لله يعطى لله، والوقت الذي لعباد الله يعطى لعباد الله، وهو في حقيقته في المحصلة لله، حتى الذي لعباد الله هو لله، بل إن نفعه أعظم، بل إن وقوفك بين يدي الله من أجل أن تصل إلى خدمة عباد الله، فهذه الصلة بالله تحقق لك مفهوم الإخلاص في خدمة عباد الله .
ابن عباس رضي الله عنهما كان معتكفاً في مسجد رسول الله، أعظم عمل، جاءه رجل قال : لو تكلم لي فلاناً في دينٍ عليّ، دين ركبني وأنت تذهب إليه وتكلمه عساه يؤخرني، فنهض من معتكفه فوراً وخرج معه، قال له أحدهم : يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ في الاعتكاف لا يجوز الخروج من المسجد، فقال : لا والله ما نسيت، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب وبكى - هو في مسجد رسول الله، والقبر قريبٌ منه، قال : والعهد به قريب وبكى - لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ خيرٌ لي من صيام شهرٍ، واعتكافه في مسجدي هذا، فانظر إلى الأولويات كيف سيدنا ابن عباس رتب الأولويات بسرعة، هذا رجل عنده همّ ودين وضاقت عليه الدنيا، وأنا أملك أن أكلم له فلاناً، ما قال له : أجِّل الآن أنا في اعتكاف إن شاء الله أول يوم العيد أكلمه لك، الرجل في رمضان أيضاً يريد أن يتفرغ للعبادة والطاعة، يريد أن يرتاح نفسياً، فنهض معه فوراً وذهب ليكلمه وخرج من معتكفه.
فقه الأولويات
هذا الفقه نحتاج إليه اليوم، فقه الأولويات، فقه أن نفهم، لا أتحدث عن فقه الأولويات بمعنى أننا نحن نرتب الأولويات، لا، الله تعالى هو الذي رتبها، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رتبها، نحن فقط نفهم ديننا بالشكل الصحيح، لا أتحدث عن فقه جديد، ولا عن تجديد، أتحدث فقط عن فهم الموجود عندنا، نحن ديننا هكذا يأمر، يأمر أن يكون عمل الليل لليل، وعمل النهار للنهار، وألا يشغلنا عمل الليل عن عمل النهار، ولا العكس، والأمثلة كثيرة جداً، (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) :

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
(سورة القصص: الآية 74)


الملك لله وحده و هذا يتجلى واضحاً يوم القيامة :
مازلنا في مفهوم الألوهية، نحن طبعاً بآخر آيتين قبل القصة الثانية، ستبدأ القصة الثانية، ما زلنا نتحدث عن هذا المفهوم الألوهية والربوبية (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) هؤلاء المشركون (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)؟ يوم القيامة:

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ
(سورة الحج : الآية 56)

هل كان المُلْكُ في الدنيا لغير الله ؟ فلماذا قال (يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) ؟ لأنه في الدنيا غاب عن كثيرٍ من الناس أن الملك لله، ظنوا أن الملك بيد فلان وفلان من الناس، لكن يوم القيامة يتجلى هذا الأمر واضحاً :

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
(سورة الفاتحة : الآية 4)

ضعف الفهم مشكلة في النقاش
في الدنيا قد أجلس مع إنسان مشرك شركاً أكبر أو أصغر، فأحاول أن أبين له أن الملك بيد الله عز وجل، لكن قد لا أستطيع، ليس لضعفٍ في المضمون الذي عندي، لكن لضعفٍ في فهمه، هو اتجه إلى الشركاء يقول لك: والله أنا أرى اليوم الأمر بيد أمريكا، الأمر بيدها هي تحرك العالم، وإذا تعمق أكثر يقول لك: الأمر بيد الصهيونية العالمية التي تدير أمريكا، فهو يفهم أن الأمر بيدها، أنا من وجهة نظر توحيدية أعلم أنهم وحوش بحبال محكمة بيد الله تعالى :

فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
(سورة هود : الآية 55-56)

هذا فهمي وتوحيدي بناءً على إيمانيات، أنا وأنت وغيرنا، لكن هذا الرجل الذي أناقشه قد ينكر ذلك وأنا لا أملك إلا دليلاً توحيدياً، هو يمكن أن يقول لي: هم يفعلون ما يريدون، مثل الذي قابله إبراهيم عليه السلام :

قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
(سورة البقرة : الآية 258)

الاختيار في الدنيا فقط
فقد يناقشك الإنسان في ذلك، لكن يوم القيامة هل يبقى هناك مجال لنقاش في هذه القضية ؟ لا، ائت بهؤلاء الشركاء، دعهم يحكموا اليوم ويدخلوك النار أو الجنة، انتهى الأمر، الخيار توقف، لماذا نحن في الدنيا قد يظهر للبعض أن الملك أو الأمر بيد غير الله تعالى ؟ لماذا ؟ لأننا مخيرون، فأنت بإمكانك أن ترى ذلك وأن ترى غيره، لكن يوم القيامة التغى الاختيار، انتهى، الآن الحساب، فعند الحساب (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) بيده كل شيء جل جلاله :

لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
(سورة غافر : الآية 16-17)

فالملك الذي لا يغيب عن أحد بأنه لله هو يوم القيامة، فهنا قال : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ) انظر إلى هذا النداء ثم إلى هذا العتاب المخزي (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) (تَزْعُمُونَ) أي تدعون، يزعم، والزعم مطية الكذب، زعموا، يزعمون ذلك، (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا، كنت ترى أن فلاناً شريك لله عز وجل سواءً ما يفعله عباد الأصنام لأنهم كانوا يدعون اللات والعزى شركاء لله عز وجل، أو ما يدعيه البعض أنهم يظنون أن هذه الجهة القوية أو أن هذه الدولة القوية هي تشارك الله تعالى في حكم الأرض :

وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
(سورة الإسراء : الآية 43)


وجود شهيد على كل أمة يوم القيامة و النبي شهيد علينا :
(أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)، قال :

وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(سورة القصص : الآية 75)

(وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) ما معنى الشهيد؟ الشهيد ربما يكون شخصاً يشهد عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم :

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا
(سورة النساء : الآية 41)

فالنبي صلى الله عليه وسلم شهيد علينا :

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
(سورة البقرة : الآية 143)

فالرسول يشهد على أمته يوم القيامة، فهنا (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ) الأمة هي المجموعة :

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ
(سورة الأعراف: الآية 34)

الشهيد من صلحاء القوم
هذه المجموعة أمة، الإسلام أمة، أو أصغر من ذلك، أمة العرب أمة مثلاً، أمة اليهود أمة، أمة النصارى أمة، أو ضمن النصارى أمم وأمم، تجمعات، فهي أمم، مجموعات من البشر (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) من يشهد عليهم بما فعلوا، وقال البعض : الشهيد هنا هو شهيد الأعمال، أي شهيداً من أعمالهم، شهيداً إما من أنفسهم بشراً منهم عاش معهم، ويشهد عليهم، يكون من صلحائهم، كيف يكون شهيداً من أنفسهم؟ بكل عصر وبكل مصر، أي تجمع، سبحان الله ! ربنا عز وجل يترك شهيداً فيهم، يشهد، ما خلا عصرٌ، أي بعصرنا هذا الذي هو أصعب العصور إذا تحدثت عن الحكم تجد من يشهد على الحكام المفسدين، وإذا تحدثت عن العلماء تجد من العلماء المخلصين من يشهد على العلماء المفسدين والمنافقين، وإذا تحدثت عن صداقة بين عشرة شباب تجد منهم من يشهد عليهم، يقول لك الشباب أخي اليوم صعب، صعب تقول لي: استقامة بهذا العصر، تجد شاباً مؤمناً يعيش معك على أرض واحدة، وفي بلد واحد، وبالظروف نفسها، وهو يرتاد المساجد، ويؤدي الطاعات، ويغض البصر، وينتهي عما نهى الله عنه وزجر، فهذا شهيد على رفاقه يوم القيامة، أنه أنتم في جامعة كذا من جامعات الأرض، كان كل الطلاب يقولون: إن الاستقامة صعبة اليوم، لكن بينكم كان هناك عشرة مستقيمون بالظروف نفسِها كانوا مستقيمين، فهم شهداء عليكم بأنّ الاستقامة ممكنة لكن أنتم لم تريدوا سبيل الاستقامة، فمن كل أمةٍ شهيد يشهد عليهم، (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) هاتوا هذا الشهيد، عندنا بينة وعندنا شهود، عندما يأتي للقاضي مسألة يريد أن يحكم بها، أنت تدّعي على رفيقك أنّ لك عنده مبلغاً من المال، أقول لك : عندك بينة أو شهود ؟ الإقرار هو سيد الأدلة، لكن إذا لم يقرّ نقول له: أين شهودك أنك أقرضته ؟ فإن لم يأت بالشهود نقول له: هل عندك بينة ؟ كتبتم شيئاً ؟ فإن لم يكتب لا بينة ولا شهود بقي إما أن يقر لك بالدين، وإما أن يحلف وينكر، واليمين على من أنكر، هذا أساسيات القضاء الإسلامي، والتي تأخذ بها اليوم كل محاكم الأرض، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وحتى الشهود لهم شروط، سيدنا علي عندما أحضر ابنه شاهداً له، قال له القاضي : الابن لا يشهد لأبيه، حتى الشهود لهم شروط، فهنا عندما يقول تعالى : (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) البرهان : البينة - الدليل، الله عز وجل أتاكم بالشهود عليكم وعلى أعمالكم، فأنتم ما البرهان الذي عندكم ؟ بينةً أو شهوداً، البرهان، الدليل، البرهان هو الضوء أول الضوء فيكون واضحاً جداً على وجود النهار، هذا هو البرهان في الأصل ثم أطلق على الدليل بشكل عام، الدليل على كل شيء، فأين برهانكم ؟ (فَعَلِمُوا) ما أجابوا لكن علموا، وعلمهم أغنى عن إجابتهم (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ)، وقلنا باللقاء السابق أو الذي قبله : حَقَّ الشيء يَحِقُّ حَقَّاً : ثبت (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبت عليهم القول .

حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
(سورة الأحقاف : الآية 18)

الباطل إلى زوال
بينما بَطَلَ يَبْطَلُ، زَهِقَ يَزْهَقُ، زَاْلَ يَزُوْلُ، فالباطل زهوق أي سريع الزوال، ليس له أثر، ليس له مفعول، بينما الحق شيء ثابت (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) الحق ليس لفلان ولا لفلان من البشر هذا علموه يوم القيامة، أما المؤمنون فيعلمون أن الحقَّ لله في الدنيا، نحن نعلم أن الحق لله قبل أن يأتي يوم القيامة علماً يقينياً، الحق لمن ؟ لله تعالى، (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (ضَلَّ عَنْهُم) : تهاوى مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا، الفِرَى: هي الاختلاقات الكاذبة التي لا أصل لها، ما معنى افتراء ؟ تقول : إنسان كذب، قد يكون أصل الموضوع صحيح لكنه أضاف عليه وغيّر فيه، فهذا كذب، أما الفِريَة أو الافتراء فأن يأتي بشيءٍ لا أصل له، لم يحدث أبداً، يفتريه افتراءً من عنده، فعندما يدّعي شخصٌ أنّ لله شريكاً فهذا ليس كذباً فحسب هذه فرية، هذا افتراء على الله، وأعظم الآثام :

وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة : الآية 169)


الافتراء على الله من أعظم الآثام :
اليوم الافتراءات كثيرة
لما رتب الله تعالى المعاصي ترتيباً تصاعدياً قال في نهايتها : (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وقال بعضهم : لأن يرتكب العوام الكبائر خيرٌ من أن يقولوا على اللَّهِ ما لا يعلمون، فهؤلاء كانوا يفترون الكذب، يفترون الكذب على الله، فلما جاء يوم القيامة، واتضحت الأمور أمام الناس جميعاً، وعلموا أن الحق لله تعالى ضلّت عنهم كل الحجج الواهية التي كانوا يستعينون بها، ويقيمون لها وزناً، ضلت عنهم، لم يعودوا يستطيعون التمسك بها، ولا الاحتجاج بها، لأن الحق أصبح واضحاً للعيان، وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الفِرى الكاذبة، هذا للمشركين في مكة، اليوم عندنا من الافتراءات والنظريات والاحتجاجات الباطلة الكثير، فلما يقف الخلق بين يدي الله عز وجل يوم القيامة، ويعلم الجميع أن الحق لله عندها (ضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) .
الآن بعد نهاية التعقيبات على قصة موسى وفرعون ستبدأ إن شاء الله قصة قارون :

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ
(سورة القصص : الآية 76)

وهذه القصة نرجئ الحديث عنها إن شاء الله إلى اللقاء القادم .
والحمد لله رب العالمين