قصة قارون

  • الدرس السادس عشر -شرح الآيات 76-78
  • 2019-10-25

قصة قارون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يارب العالمين، وبعد.
ما زلنا في سورة القصص، ومع اللقاء السادس عشر اليوم من لقاءات هذه السورة، وموضوعه قصة قارون.

الربط بين قصتي موسى مع فرعون وقارون
نحن قلنا سابقاً أن سورة القصص تضمنت قصتين:
* قصة موسى مع فرعون
* وقصة قارون
وبينهما أخذنا السياق القرآني إلى جوٍّ لطيف من العبر والمواعظ والآيات الكونية وغير ذلك مما أنهيناه في اللقاء السابق.
الآن قصة قارون، قال تعالى:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(سورة القصص: الآية 76)

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ) هذا الربط بين القصتين؛ قارون من بني إسرائيل من قوم موسى، هو رجل كان صاحب القوة الإقتصادية في منظومة الفساد، في منظومة الطغيان، أو في منظومة الاستبداد، فرعون كان يمثل القوة الطاغية، الاستبداد السياسي بالمعنى الحديث، يقوم بالتفرقة بين بني إسرائيل (وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)، يظلم (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)، مجرم، يفسد في الأرض (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، هذه صفات الفرعونية.

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 4)

الآن لا بد من شخص يمسك الاقتصاد بالعرف الحديث، العصب الإقتصادي، تتجمع الأموال في يده، هذا من تتمات الفساد السياسي أو الاستبداد المجتمعي أن يكون هناك من يمسك الاقتصاد، لأن الناس إذا استراحت مالياً وتوزع المال في أيدٍ كثيرة فعندها يستطيع الناس أن يفكروا، لأن الإنسان إذا تحققت حاجاته اتجه إلى الحاجات العليا وهي التفكير.

حاجات الإنسان عليا ودنيا
الحاجات الدنيا: طعامه، شرابه، شهواته، سواءً كان ذلك في الحلال أو في الحرام لكن هي حاجات، المؤمن يحققها في الحلال، وغير المؤمن يحققها من ما حلل ومن ما حرّم.
الحاجات العليا تبدأ بعد الحاجات الدنيا
الحاجات العليا: هي التفكير، العقل، المحاكمة، التذكر، التفكّر، الإنسان متى يقرأ كتاباً؟ عندما يكون عنده استراحة داخلية، طعامه مُؤَمَّن، شرابه مُؤَمَّن، عائلته مريحة، يجلس ويفتح كتاباً ويقرأ، فالحاجات العليا تبدأ بعد تحقيق الحاجات الدنيا في الأعمِّ الأغلب.
فلذلك من منظومة الاستبداد والفساد السياسي أن يكون هناك فساد اقتصادي فيتجمع المال في أيدٍ قليلة وتحرم منه الكثرة الكثيرة، وهذا سبب تحريم الربا.

سبب تحريم الربا
الحكمة من تحريم الربا: أنَّ الرِّبا يُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة ويحرم منها الكثرة الكثيرة، ففي منظومة الاقتصاد الإسلامي الأعمال تلد المال، وفي منظومة الاقتصاد الربوي إن صح التعبير المال يلد المال.
لا يجوز للمال أن يلد المال
نحن عندنا شرعاً لا يجوز للمال أن يلد المال، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدَّين، يعني أنت لك دين عند فلان فتقول أبيعك هذا الدَّين، هو الدَّين مئة ألف أعطني ثمانين ألف وحصِّله أنت منه، لا يوجد عمل، لا يوجد واسطة (عمل)، لا يوجد سلعة، فهذا حرام، فالأموال عندما تلد المال تتجمع الأموال بعد حين في أيدٍ قليلة وتحرم منها الكثرة الكثيرة، يصبح هناك فقرٌ مدقع في المجتمع، ونقول: "كاد الفقر أن يكون كفراً" كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، لأنه يخرج الإنسان عن مبادئه وقيمه إلا إن كان ذا إيمانٍ ثابت عميق مؤصّل عندها لا تثنيه سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، ولكن هؤلاء ليسوا الكثرة الكثيرة في المجتمع بشكلٍ عام.
إذاً هذه قصة قارون: قارون يمثل القوة الاقتصادية،

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ
(سورة القصص: الآية 76)

(فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ) البغي هو مجاوزة الحد، الظلم، الظلم هو بغي، بغى عليهم: ظلمهم، قارون ظلمهم بالظلم الاقتصادي، فرعون ظلمهم الظلم السياسي أو الاستبداد.

توصيف كنوز قارون

فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
(سورة القصص: الآية 76)

الكنز هو شيء جُمِّع فوق بعضه
(الْكُنُوزِ): جمع، مفرده كنز، وهو الكنز في الأصل لا يدل إلا على شيء مجموع، يعني هو المفرد يدل في دلالته على جمع، يعني لا يقال لإنسان عنده مئة دينار كنز، يقال لمن عنده آلاف مؤلفة من الدنانير، يعني هو في الأصل الكنز هو شيء جُمِّع فوق بعضه فكنزه الإنسان ولم ينفق منه، فالكنوز غالباً هي الأشياء الفائضة عن حاجاتك الأصلية، لذلك قال تعالى:

وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(سورة التوبة: الآية 34)

(يَكْنِزُونَ)، فمتى يكون الإنسان عنده كنز؟ عندما لا ينفق منه في أقل الأحوال زكاته، يكنزه، يخبِّئه، وهذا شأن الإنسان عندما:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ
(سورة العلق: الآية 6-7)

يبدأ الإنسان بالكنز في مرحلة الترف
متى يبدأ الإنسان بالكَنز؟ عندما يدخل في مرحلة الترف، (أُتْرِفُوا)، الفائض، يؤدي حاجاته، الضروريات والكماليات والتحسينيات والترف ويزيد عنده ما يكنزه.
فقال: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ) هنا (وَآتَيْنَاهُ) لأنَّ الله هو المؤتي، الله عز وجل هو الذي يؤتي وهو الذي ينزع، فهذه الكنوز إيتاءٌ من الله تعالى.
قال: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ) مفتاح جمعها مفاتيح ومفاتح، وهي التي يُفتح بها الخُزن أو الغرف التي تتجمع فيها تلك الكنوز.
(وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ) (لَتَنُوءُ) أي لتعجز وتتعب.
(بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) العصبة: هم المجموعة من الناس، قد تكون سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، عصبة من الناس، والعصبة تطلق في الخير وتطلق في الشر، إلا أنه في مصطلحاتنا الحديثة نقول عن القوم الأشرار عصابة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ناجى ربَّه في بدر قال:

{ اللهمَّ إن تَهلِكْ هذه العِصابةُ فلن تُعبَدَ في الأرضِ }

(صحيح مسلم)

العصابة تطلق على الخير والشر
فالعصابة مجموعة تطلق على الخير وتطلق على الشر، لكن أحياناً المصطلحات تتوجه باتجاه معين وفق استخدامات الناس.
(بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) ليست العصبة من الناس العاديين وإنما الأشدّاء، الذين آتاهم الله بسطةً في الجسم، قوة، ما الذي ينوء بهم؟ ليست الكنوز وإنما مفاتح الكنوز، يعني أن تحمل المفاتح، فإذا كانت المفاتح يعجز عن حملها ويتعب بحملها الرجال الأشدّاء المجتمعون، فكم هي الكنوز؟!
انظر إلى السياق القرآني :

وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
(سورة القصص: الآية 76)

مفاتحه تتعب الرجال الأشدّاء الأقوياء مجتمعين، فكيف هي الكنوز؟! إذاً هذا الرجل أصبح مُترَفاً إلى حد يفوق الخيال، الآن:

إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(سورة القصص: الآية 76)

(قَوْمُهُ) قومه بنو إسرائيل.

الإسلام وسلوك الإنسان
أي منهج يتدخل في سلوك الإنسان
الإسلام العظيم يتدخل في سلوك الإنسان وهذا شأن أي منهج في الأرض، سواءً كان منهجاً سماوياً أو وضعياً، الآن المنهج الوضعي ألا يتدخل في سلوكك؟ المناهج الوضعية، القوانين، ألا تتدخل في سلوكنا؟ ألا تمنعنا من تجاوز الإشارة الحمراء؟ ألا تمنعك المناهج الوضعية من أن تخرج وتبني مثلاً غرفةً على الشرفة؟ تأتي البلدية فوراً وتوقف البناء، فالمناهج الوضعية تتحكم في سلوك الناس، فمن باب أولى أن تتحكم المناهج السماوية، الشرائع السماوية تتحكم في سلوك الناس، يقول لك: لا ينبغي أن تذهب إلى هذا المكان، لا تقل إلا حقاً، لا تتجسس على الناس، لا تتتبّع عوراتهم، لا تؤذهم بلسانك، لا تغتبِ الناس، لا تنمَّ بين الناس، هذا كله تدخل بالسلوك البشري من أجل أن يرسم لك طريق النجاة.
القوانين الإلهية ترسم للإنسان طريق النجاة، في الدنيا وفي الآخرة، طريق السلامة وطريق السعادة، السلامة بالإمتناع عما يؤذيه من الأعمال والأقوال والأفعال، والسعادة بفعل الصالحات وإسعاد الآخرين، هذه مناهج القرآن الكريم ومنهج أي تشريع سماوي، لكن عندما ننظر في قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ) هناك كلام على لسان قوم قارون، هل يتدخل الإسلام في مشاعر الإنسان أيضاً؟ نعم الإسلام يتدخل في مشاعرنا، الله تعالى يقول:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
(سورة يونس: الآية 58)


الفرح والحزن في الإسلام
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) هناك مكانٌ ينبغي أن تفرح فيه، الله تعالى يأمرك أن تفرح،

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
(سورة الرعد: الآية 36)

متى يأمرك الإسلام بالفرح؟
يأمرك أن تفرح بالوحي، عندما تقرأ آيةً قرآنية وتفهمها فهماً عميقاً مؤصّلاً تفرح بذلك وهذا فرح مشروع، فالإسلام في مكانٍ ما يأمرك بالفرح، ينبغي أن تفرح، عندما يأتي عيد الفطر وعيد الأضحى يجب أن تفرح، يأمرك الإسلام بالفرح، والفرح ليس سلوكاً وإنما شعور قد يُعبَّر عنه بالسلوك.

{ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

هذا فرح، ولكن بالوقت نفسه هناك أمور يجب أن لا تفرح بها، هو الإسلام في الأصل يحث على الفرح وينهى عن الحزن، والحزن لم يأتِ في القرآن إلّا منهيّاً عنه.

لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)

الحزن منهي عنه، الحزن الذي يجعل القلب كَمِداً مليئاً بالمشاعر السلبية التي تقعد الإنسان عن العمل هذا حزن منهي عنه، أو الذي يقود الإنسان إلى كلامٍ لا يرضي الله أو إلى فعلٍ لا يرضي الله، الحزن في القلب يحصل مع كل إنسان لكن أن يدوم الحزن إلى درجة أن يقعد الإنسان عن الأعمال وعن الخيرات فهذا حزن غير مشروع، لا تُمت قلبك همّاً، دائماً كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.

النهي عن الفرح في مواقف محددة
لكن الإسلام أيضاً ينهى عن الفرح في مناطق محددة

لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(سورة القصص: الآية 76)

الذي يفرح بمصيبةٍ نزلت بأخيه المؤمن (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) هؤلاء المنافقون.

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا
(سورة آل عمران: الآية 120)

المحرم من الفرح
يعني هناك منطقة بالفرح محرّمة، تأتي مصيبةٌ لأخيك فتفرح أنت لهذه المصيبة التي حلت به هذه علامة نفاق، إذاً هناك فرح مذموم وهناك فرح ممدوح ومحمود عند الله تعالى.
الفرح بالدنيا عندما يقود إلى معصية الله فرحٌ مذموم، لماذا أقول عندما يقود إلى معصية الله؟، في الصحيح:

{ لمَّا نزل قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)-(سورة آل عمران: الآية 14)-قال عمر رضي اللهُ عنه: «اللَّهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللَّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه» }

(صحيح البخاري)

(الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) يعني اليوم السّيارات الحديثة.
انظروا إلى فقه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "اللَّهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا" يعني أنت يارب زيَّنت لنا البنين والنساء والقناطير المقنطرة، في الحلال طبعاً، يعني يفرح بالحلال، فقال: "اللَّهم إني أسألك أن أنفقه في حقه". يعني أنا سأفرح بهذه السيارة الجديدة لكنها لن تقودني إلى معصية الله، ولن يركب معي فيها إنسانٌ في غضب الله، وإنما في طاعة الله، فهذا فرح لكن فرح لم يعد مذموماً مع أنه فرح بالدنيا لأنه ما قاد إلى معصية، أما قارون فعندما قال له قومه (لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وأثبتها الله في قرآنه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي لا يحب الفرحين الذين يفرحون بالمال فيكنزونه، أو يفرحون بالمال فيمنعونه عن عباد الله، أو يفرحون بالمال فيستعلون به على عباد الله، لذلك:

{ كلوا ، واشرَبوا ، وتصدَّقوا ، والبَسوا في غيرِ إسرافٍ و لا مَخِيلةٍ }

(رواه البخاري)

لا تسرف ولا تستعلي على عباد الله تعالى.
فهنا (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) إذاً صنفٌ من الناس لا يحبهم الله يفرحون بالدنيا

وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ
(سورة الرعد: الآية 26)

بماذا يفرح المؤمن؟
(وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ذمَّهم الله تعالى، المؤمن يفرح بالآخرة، المؤمن يفرح بخيرٍ أجراه الله على يديه، المؤمن يفرح برزقٍ ساقه الله له في الدنيا من أجل أن يستخدمه في الطاعات وأن يتقرب به إلى رب الأرض والسماوات، لكنه لا يفرح بالدنيا فرحاً بحيث تملكه الدنيا وتسيطر عليه (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).
(إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) انظر إلى القوم الناصحين، قومه ناصحون بنو إسرائيل، هذا قارون من بقايا فرعون لكن بعد أن آمن بنو إسرائيل بموسى عليه السلام، القصة لا تذكر المكان والزمان بالتفصيل لأن المقصود منها هو نموذج بشري متكرر في كل مكان وزمان، في كل زمان يوجد فرعون وفي كل زمان يوجد قارون، في كل زمان يوجد إنسان يستعلي على الناس بقوته الحُكميَّة أو الاستبدادية، ويوجد إنسان يستعلي على الناس بقوته المالية، فقارون وفرعون نماذج متكررة لذلك لم يأتِ تفصيل مكانها ولا زمانها، لكن يبدو أن هؤلاء من خلال حديثهم هم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام، واضح من يقول هذا الكلام: (لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)؟!

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 77)


لم يأمر الإسلام بترك الدنيا بل أمرنا ألا نخدم الدنيا
الآن قال: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) يوجهونه لا تستغني عما آتاك الله أياه، يعني ليس المطلوب منك أن تتخلى عن الدنيا، لو أراد قارون أن يتوب الآن ما الذي يفعله؟ نقول له: ألقِ بمفاتح كنوزك في البحر؟ لا، نقول له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أبقِ ما عندك من مال ولكن اجعله مطيَّةً لك إلى الآخرة، اجعله في ملكك ولا تجعله يملكك، المال عندما تملكه تتحكم فيه لكنه عندما يملكك يتحكم بك، الدنيا كلها من يملكها يتحكم بها.
وقد ورد في بعض الآثار:
"أوحى الله إلى الدنيا أن من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه"
(من خدمني) عن طريق خدمة عباد الله، كيف تخدم الله؟ وهل الله بحاجة لنا؟ لكن أنت عندما تعلي كلمة الله، وعندما تساعد عباد الله فهذه كأنها خدمةٌ لله.
(من خدمني فاخدميه) يجعل الله تعالى الدنيا في خدمتك تأتيك وهي راغمة.
(ومن خدمكِ) جعل نفسه في خدمة الدنيا.
(فاستخدميه) تجعله الدنيا خادماً لها، تستخدمه الدنيا.
أمرنا الإسلام أن نتحكم في الدنيا
فأنت بين أن تكون الدنيا في خدمتك أو أن تكون أنت في خدمة الدنيا، توجيه خطير ومصيبة كبيرة في التوجيه الإسلامي خاصةً في بعض العصور المتأخرة عندما قيل: استغنوا عن الدنيا، لا، أبداً، أبداً، الإسلام لم يحثَّنا على ترك الدنيا، لكن الإسلام أمرنا ألا نخدم الدنيا، لكن الإسلام أمرنا أن نتحكم في الدنيا.

هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
(سورة هود: الآية 61)

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) بمعنى الاستعمار الحقيقي لا بمعنى الاستدمار، الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي هذا استدمار وليس استعمار، لكن الاستعمار الإسلامي هو أن تعمر الأرض بالخير،

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
(سورة ص: الآية 26)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
(سورة البقرة: الآية 30)

فالله تعالى لما أمرنا أن نكون في الدنيا لم يأمرنا أن نترك الدنيا، المسلمون أو بعضهم فهموا أنهم ينبغي أن يتركوا الدنيا، هذا فهم مغلوط، الدنيا لا تُترك، لأننا إن تركناها أخذها غيرنا وتحكم بنا من خلالها، هذه مصيبة، أنت عندما تترك الدنيا هل ستُترَك بدون أن يأخذها أحد؟ هناك غيرك سوف يأخذها وعندما يأخذها غيرك ستصبح أنت خادماً عنده.
الدنيا لا تُترك
مرَّ عمر بن الخطاب بقومٍ قد تركوا العمل، لا يعملون، فنظر في أهم الحرف، أهم الصناعات، أهم التجارات، فوجدها في أيدي غير المسلمين، فقال لهم: ما هذا؟ فتعلَّلوا له، قالوا: سخرهم الله لخدمتنا، قال: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟
ففهِم عملاق الإسلام أن المنتِج هو القوي وأن المستهلك هو الضعيف، فالذي ينتج سلاحه قوي، والذي ينتج لباسه قوي، أما عندما نلبِس شيئاً لا ننسجه، ونأكل شيئاً لا نزرعه، ونقاتل بسلاحٍ لم نصنعه، فهذه وصمة عار بحق الأمة.
إذاً انظر إلى قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) فقط، (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ) لا تتركه، لكن ابتغِ به الدار الآخرة، أي اعمل به لإعمار الأرض، اعمل به لخدمة الناس، اعمل به لمساعدة الفقراء، اعمل به ليوصلك إلى الجنة بسلام، (وَابْتَغِ) أي واطلب بهذا الذي (آتَاكَ اللَّهُ) إيَّاه (الدَّارَ الْآخِرَةَ)، ثم قال:

وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
(سورة القصص: الآية 77)


نصيب الإنسان من الدنيا
(وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) هنا يوجد معنيين:
المعنى الأول: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) يعني لا تترك الحلال من الدنيا، هناك متع في الدنيا حلال لا تنسَ نصيبك منها، هذا يوافق المعنى الذي قلناه أن الله تعالى لم يأمر بترك الدنيا، تاجر: اكسب مالاً، اركب سيارةً دون أن تستعلي على عباد الله، حقق دخلاً يكفي طعامك وشرابك وكفافك، يكفيك وأهلك لا يحيجك ولا يحيجهم إلى السؤال والطلب من الآخرين، (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، تزوج، أنجب، ادرس، حصّل شهادةً عليا، كن شيئاً مذكوراً في الحياة، (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).
المعنى الثاني: أي ولا تنسَ أن الدنيا فيها من الأعمال الصالحة ما يكون نصيبك في ابتغاء الدار الآخرة، لك نصيب في الحياة الدنيا، ما هذا النصيب؟ النصيب أن تعمل الصالحات، النصيب أن تطعم الفقراء، النصيب أن تسعد الآخرين، (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) الذي يعينك على أن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة، هذان معنيان.

المبادرة بالإحسان دون انتظار
النصيب هو العمل الصالح
(وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) هنا يوجد تشبيه: يعني أحسن إحساناً يشابه إحسان الله إليك، بالمعنى المتبادر إلى الذهن فوراً: أحسن الله إليك فأحسن إلى عباده، جميل جداً، الله تعالى أحسن إليك، الآن لو أعددت إحسان الله إليك لما وسعته المجلدات،
إحسان الله إليك
أما أعطاك أُمَّاً وأباً؟ أما يكفيك الآن من طعامك وشرابك؟ أليست الكليتان تعملان بانتظام؟ أليس الكبد يقوم بوظائفه من غير حول منك ولا قوة؟ أليس القلب يضخ وينبض ويوزع الدم إلى أنحاء جسمك؟ ألست تمشي على قدمين لا تحتاج إلى أحدٍ ليعينك؟ ألست مسلماً؟ هذا كله من إحسان الله إليك، لو عددت نعم الله عليك لما وسعتها الكتب.
المبادرة بالإحسان
فأنت أحسن، أحسن إلى الناس، أعطِ مما أعطاك الله، أعطهم من المال من العلم من الخبرة من القوة من الجاه، أنفق في سبيل الله، لكن لو غصنا في الأعماق قليلاً (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) يعني ينبغي أن يكون إحسانك شبيهاً بطريقة إحسان الله إليك، الله تعالى بدأك بالإحسان، بادرك بالإحسان من قبل أن يكون منك أي بادرة، لما خلقك الله هل قدمت شيئاً في مقابل ما أعطاك الله؟ أبداً، بدأك بالإحسان، فأنت ابدأ الناس بالإحسان ولو لم يبدأوك بالإحسان، يعني فليكن إحسانك مشتقاً من إحسان الله تعالى، تعلم من إحسان الله، الله تعالى أحسن إليك ابتداءً دون طلب ودون مبادرة، فإذا أردت أن تحسن إلى الناس فلا تنتظر حتى يأتوا إليك ويتذللوا على بابك، ابدأهم بالإحسان، تعلم من إحسان الله تعالى، الله تعالى عندما يسيء العبد يقابله بالإحسان أم بالإساءة؟ بالإحسان جل جلاله يقابل العبد، مرة ومرتين وثلاثة وعشرة، فإذا قابله ربنا جل جلاله بالتأديب فلمصلحته وهذا نوعٌ من الإحسان من الله أيضاً، فأنت لو أساء إليك مخلوق فلا يكن منك ردٌّ بالإساءة وإنما قابل إساءته بالإحسان.
الآن الله تعالى حين يحسن إلى عباده هل يميز بين مؤمنهم وكافرهم؟، قال:

وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا
(سورة البقرة: الآية 126)

قال سيدنا إبراهيم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ماذا قال تعالى؟ (قَالَ وَمَن كَفَرَ) لا تحجِّر واسعاً يا إبراهيم، لا تحجِّر، (قَالَ وَمَن كَفَرَ) لكن (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) هذا متاع الدنيا للجميع.

كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ
(سورة الإسراء: الآية 20)

فأنت عندما تحسن إلى الناس أيضاً أحسن كما أحسن الله إليك، فلا تعامل شخصاً دون شخص، لا تقل هذا أُحسن إليه لأن هذا من قبيلتي أو من جماعتي أو من عشيرتي، وهذا لا أحسن إليه لأنه من بلدٍ آخر، ليكن إحسانك عامَّاً شاملاً إنسانياً، هذا من معاني (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) يعني لو قضيت فيها وقت اليوم في قوله تعالى: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) تأمل في إحسان الله واجعل إحسانك كإحسان الله.

وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ
(سورة القصص: الآية 77)


الفساد في الأرض مفهومه وأنواعه
(وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) ما هو الفساد؟ الفساد هو إخراج الشيء عن طبيعته، الحكمة: وضع الشيء في موضعه، الفساد: إخراج الشيء عن طبيعته، غير مفهوم الحكمة.
يعني؛ أنت إذا وضعت كمية من اللبن فترة طويلة من الزمن دون شروط الحفظ ما الذي يحصل باللبن؟ يفسُد، الآن هل اللبن في الأصل طبيعته هذه أم هذا فسادٌ لحق به؟ هذا فساد، فلما خرج اللبن عن طبيعته فإنما فسد، فالفساد هو أن يخرج الشيء عن طبيعته.
المرأة مصدر خير في المجتمع
الآن كيف يكون الفساد في الأرض؟ الله تعالى خلق المرأة لتكون أُمَّاً أو زوجةً أو أختاً، خلقها لتكون مصدر خير في المجتمع، مصدر حنان، فلما جاء أهل الأهواء أرادوا أن يسوقوا لمنتجاتهم فجعلوا المرأة سلعةً فأفسدوها لأنهم أخرجوها عن طبيعتها، المرأة خرجت عن طبيعتها، الله أرادها أن تكون أُمَّاً في بيتها تقوم بأعظم مهمة، فجاؤوا وقالوا لها لماذا تبقين في البيت؟ أنتِ مساويةٌ للرجل تماماً قومي واعملي معه، فخرجت إلى الطريق فتركت الأولاد في البيت للخادمة، فضلَّ الأولاد الطريق، وأُنشِئ جيلٌ فاسد لا يرضي الله، وهي أُغريت بالدنيا، فخرجت ثم تبرجت، ثم، ثم، ثم، فأُفسِدت المرأة، هذا هو الفساد هو إخراج الشيء عن طبيعته، هذا في المعنويات. طبعاً ليس الإفساد للمرأة فقط، الرجل له إفساد، ربنا عز وجل خلق الابن ليكون باراً بأبويه، ليكون ضمن أسرة، فلما قيل له أنت رجل تستطيع أن تفعل ماشئت لا تحتاج أماَ ولا تحتاج أباً، أُفسد، فالإفساد لا أقصد بالمرأة فقط هي مصدر الفساد، لا.
لكن هناك شيئان عظيمان في حياتنا خرجا عن طبيعتهم فأفسدا الحياة : المرأة، والمال عندما أخرج عن طبيعته.
المال وجد في الأصل ليكون قوام الحياة، فأُخرج المال عن طبيعته وأصبح مصدراً للكنز، كما حصل مع قارون عندما بغى الفساد في الأرض، المال لم يُخلق ليوضع في البنوك وليُنمو وفق القوانين الربوية ويُثمَّر ويُكنَز، المال قوام الحياة :

وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
(سورة النور: الآية 33)

له وصف في القرآن، فالمال عندما أُخرج عن طبيعته، والمرأة عندما أُخرجت عن طبيعتها، وقعنا في مطبّات كبيرة، فهذان أعظم مصدرين للفساد: المال والمرأة، لكن ليس مقصوراً الفساد بهما، كل شيء يُفسِد يخرج عن طبيعته.
الفساد في الأمور المادية
الآن لو أخذنا الفساد في الأمور المادية: الله تعالى خلق البقر ليأكل العشب، هذه طبيعة الحياة، البقرة حيوان عاشب، يأكل الأعشاب وينتج الحليب، فجاؤوا وجمعوا لها طعاماً من مخلفات الحيوانات ومن العظام ومن كذا وأطعموها إياه ليُسمّن البقرة، فجُنَّ البقر، فاضطروا أن يطلقوا عليها النار ويقتلوها، فهم أفسدوا في الأرض،

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
(سورة البقرة: الآية 205)

ارجع إلى التاريخ قبل أن تكون هناك هذه المدنيَّة الحديثة، الأمراض كانت العشر، وأقل من العشر، لأن الأشياء كانت على طبيعتها، الأغذية على طبيعتها، الطعام على طبيعته، القمح على طبيعته، لا يوجد هرمونات ولا يوجد إضافات ولا يوجد ما يُبخ به النبات، تأخذ التفاحة من الشجرة تأكلها فوراً، الحجم صغير، اللون ليس أحمر كثيراً، لكن الطعم رائع، عندما أردنا اللون والطعم أخرجنا الشيء عن طبيعته، فصار هناك أمراض ومشكلات.
إذاً (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ) لا فساداً مادياً ولا فساداً معنوياً.
المصالح والأهواء وراء محاربتهم للإسلام
لماذا يبغون الفساد في الأرض؟ لأن دخلهم يقوم على الفساد في الأرض، اليوم لو توقف إفساد المرأة في الأرض، تقول الدراسات يلغى 60% من الدخل لكبريات الدول والشركات، 60% يتوقف دخلهم، فهم عندما يحاربون الإسلام إنما يحاربون لمصالحهم وأهوائهم، ستون بالمئة من الدخل في الأرض من إفساد المرأة.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 77)

(الْمُفْسِدِينَ) المفسدين وليس الفاسدين، طبعاً الله لا يحب الفاسدين، لكن هنا يتحدث ليس عن الفساد الشخصي، الفساد الشخصي مشكلة لكنها محصورة، أما المُفسد مشكلته كبيرة، كما أن الله تعالى لا يهلك قريةً وفيها مصلحون وليس صالحين، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، كذلك الله لا يحب المفسدين وليس الفاسدين فحسب، المفسدين الذين يعم فسادهم في الأرض، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
(سورة هود: الآية 117)


إنكار قارون لفضل الله عليه
الآن ما ردُّ قارون؟ قارون تحدثوا معه الآن، العاقل بعد هذا الحديث يتوب، يؤوب، يرجع، كلام منطقي، كلام جميل جداً، لم يأمروه أن يتنازل عن ماله، ولم يأمره الله أن يتنازل عن ماله، ولم يأمروه أن يلقي به ويصبح فقيراً يتوسل الناس، أبداً، فقط أحسِن استخدام المال، لا تفسد به، اجعله وسيلة إصلاحٍ لا وسيلة إفساد، لكن عندما يطغى الإنسان في الأرض ويتحكم في الأرض ويستعلي على عباد الله وينسى ربه، انظروا إلى الموقف:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي
(سورة القصص: الآية 78)

(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) هذا المال من خبرتي، من جمعي، من تحصيلي، من قوتي، من معارفي، من مصالحي، من علاقاتي بالشركات، هذا المال جمعته من خلال عُمرٍ، أنفقت فيه وقتاً وجهداً، ماذا تقول (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ)!، هم يقولون: (آتَاكَ اللَّهُ) هو يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ).
إنكار فضل الله تعالى
انظروا الآن هو (أُوتِيتُهُ) مبني للمجهول، ما قال: إنما آتاني الله تعالى إياه عن علم، حتى إنه لم يتنازل أن يقول: إنما آتاني الله إياه، لكن بسبب علمٍ مني، وإن كان هذا الكلام فيه بعد عن الحقيقة لكن إلى حد ما أفضل من هذا الكلام، أنَّ الله آتاني المال لكن السبب مني، هذا يُأوَّل حسب قائله وحسب معطيات، لكن هو يقول: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ) هو يعرف أنه قد أوتيه، لكنه بنى للمجهول من أجل أن لا يأتي بفضل الله عليه والعياذ بالله، وهذا من أعظم نكران الجميل، من أعظم صور الخيانة.
روى البخاري في صحيحه:

{ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فأتَى الأبْرَصَ، فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عنْه، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: الإبِلُ، - أَوْ قالَ: البَقَرُ، هو شَكَّ في ذلكَ: إنَّ الأبْرَصَ، وَالأقْرَعَ، قالَ أَحَدُهُما الإبِلُ، وَقالَ الآخَرُ: البَقَرُ -، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا وَأَتَى الأقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هذا، قدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: البَقَرُ، قالَ: فأعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقالَ: يُبَارَكُ لكَ فِيهَا، وَأَتَى الأعْمَى فَقالَ: أَيُّ شيءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ به النَّاسَ، قالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قالَ: فأيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قالَ الغَنَمُ: فأعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هذانِ وَوَلَّدَ هذا، فَكانَ لِهذا وَادٍ مِن إِبِلٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن بَقَرٍ، وَلِهذا وَادٍ مِن غَنَمٍ، ثُمَّ إنَّه أَتَى الأبْرَصَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عليه في سَفَرِي، فَقالَ له: إنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقالَ له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فقِيرًا فأعْطَاكَ اللَّهُ؟ فَقالَ: لقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عن كَابِرٍ، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأقْرَعَ في صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ له: مِثْلَ ما قالَ لِهذا، فَرَدَّ عليه مِثْلَ ما رَدَّ عليه هذا، فَقالَ: إنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إلى ما كُنْتَ، وَأَتَى الأعْمَى في صُورَتِهِ، فَقالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بيَ الحِبَالُ في سَفَرِي، فلا بَلَاغَ اليومَ إِلَّا باللَّهِ ثُمَّ بكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بهَا في سَفَرِي، فَقالَ: قدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفقِيرًا فقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ ما شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ اليومَ بشيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقالَ أَمْسِكْ مَالَكَ، فإنَّما ابْتُلِيتُمْ، فقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ علَى صَاحِبَيْكَ }

(صحيح البخاري)

(ثَلَاثَةً في بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى) ثَلَاثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى.
(أَرَادَ اللهُ تعالى أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ) يعني أن يمتحنهم، أن ينظر في أعمالهم، والله تعالى يعلم ولكن الابتلاء يكون لتقام الحجة عليهم، ولكن الله يعلم ما في النفوس.
(أَرَادَ اللهُ تعالى أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا من الملائكة، فجاء الْأَبْرَصَ فقال: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: جِلْدٌ حَسَنٌ قد قَذِرَنِي الناس) البرص مرض جلدي.
(أريد جِلْداً حَسَن قد قَذِرَنِي الناس، فَمَسَحَهُ فَأُعْطِيَ جِلْداً حَسَناً، فقال: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الْغَنَمُ، فَأَعْطَاهُ شاةً وَالِدًا) غنماً وَالِدًا جاهزة للتثمير.
(ثم ذهب إلى الْأَقْرَعَ فقال: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: شَعَرٌ حَسَنٌ قد قَذِرَنِي الناس، قال: فَمَسَحَهُ فأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا. قال: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الْبَقَرُ، قال: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا) أُعطِي بَقَرَةً منتجاً وجاهزة للإثمار.
(فذهب إلى الْأَعْمَى، فقال: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ، قال: بصراً أُبْصِرُ بِهِ الناس، قال: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ الله إليه بَصَرَهُ، قال: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الجمل، النوق، فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ) أيضاً جاهزة للإنتاج.
(فكان لهذا وادٍ من الغنم، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الإبل) وسَّع الله عليهم وأعطاهم الدنيا.
(ثم أرسل الله المَلَك إلى الأبرص بصورة رجلٍ أبرص) جاءه على هيئة رجل أبرص ليذكره بماضيه.
(قال له: عبدٌ فقير تقطعت بي السبل، لا بَلَاغَ لي إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ) لا أستطيع، ابن سبيل، مقطوع.
(لا بَلَاغَ لي إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ الجِلْدَ الْحَسَنَ) أنا أبرص وأنت جلدك حسن.
(أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ الجِلْدَ الْحَسَنَ، شاةً واحدة) شاةً واحدة وليس الوادي.
(شاة واحدة أَتَبَلَّغُ بها في سَفَرِي، قال له: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ) عندنا ديون وعندنا طلبات والحالة صعبة، لا بيع ولا شراء في السوق.
(قال له: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فقال له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ الناس فعافاك الله وفقيراً فأغناك الله؟ قال: إنما أوتيته كابراً عن كابر) هذا قارون، هذا إنما أوتيته كابراً عن كابر، هذا أبي عن جدي ليس لأحدٍ فضل فيه.
(قال: إن كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ الله إلى ما كُنْتَ إليه)
(ثم ذهب إلى الْأَقْرَعَ بصورة رجلٍ أقرع قال له: عبدٌ فقير تقطعت بي السبل، لا بَلَاغَ لي إلا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالله الَّذِي أَعْطَاكَ هذا الشعر الحسن، بقرةً واحدة أَتَبَلَّغُ بها في سَفَرِي، قال: الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فقال له: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ أقرع يقذرك الناس فقيراً فأغناك الله؟ قال: إنما أوتيته كابرٌ عن كابر، قال: إن كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ الله إلى ما كُنْتَ إليه)
(ثم ذهب إلى الْأَعْمَى قال: رجلٌ فقير تقطعت بي السبل) جاءه بصورة رجل أعمى.
(أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أعطاك بصراً تبصر به الناس، جملاً واحداً أَتَبَلَّغُ به في سَفَرِي، فقال الرجل: والله لقد كنت أَعْمَى فَرَدَّ الله إلي بَصَرِي، وَفَقِيرًا فأَغْنَانِي الله، فَخُذْ ما شِئْتَ) ليس جملاً واحداً، خُذْ ما شِئْتَ.
(فَوَاللَّهِ لا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ) ما أمنعك من شيء، هذا مال الله ليس لي فيه شيء.
(فقال: أَمْسِكْ عليك مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ) هذا امتحان.
(فَقَدْ رضي الله عَنْكَ وَسَخِطَ على صَاحِبَيْكَ) والعياذ بالله، إذاً هذا هو الامتحان.
فقارون مثل كابرٍ عن كابر (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي).

المهلكات الأربع
قالوا أربعٌ مهلكات: أنا، ولي، وعندي، وما الرابعة؟ ونحن.
- أنا: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) إبليس، فأُخرِج من الجنة (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
(سورة الأعراف: الآية 12)

- نحن: قوم مملكة سبأ، قوم بلقيس: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ)

نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ
(سورة النمل: الآية 33)

أنا ونحن مهلكة، لا تقل: أنا ونحن، قل: الله.
- ولِي: فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)

أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي
(سورة الزخرف: الآية 51)

- وعندي: قارون: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) لا تقل: عندي، من أنت؟
يقولون هذا عندنا غيرُ جائزٍ قل فمَنْ أنتمُ حتى يكونَ لكم عِندُ؟
{ الإمام ابن دقيق العيد }
عندي، من أنت؟ أين كنت حتى تقول عندي؟ من أين عندك؟ (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي) ليس عندك شيء كله من الله.

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
(سورة القصص: الآية 78)

(أَوَلَمْ يَعْلَمْ) استنكاراً عليه.
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) و(الْقُرُونِ): القرن مئة عام ويشير إلى الأجيال المتعاقبة.
المهلكات الأربع
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) تقول (عِلْمٍ عِندِي) انظر إلى من كان أكثر قوةً منك وأكثر جمعاً، يعني قارون (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) لكن ربنا عز وجل يشير في الآية إلى أن هناك من أُهلِك قبله كان أكثر منه جمعاً، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولوكانت تساوي عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ.

{ عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ السَّاعديِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ }

(رواه الترمذي)

ليس هناك قيمة للدنيا، اجمع ما شئت فعند الله لا قيمة لذلك.

المجرم لا يُسأل عن ذنبه بينما المؤمن يُسأل
قال: (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) لماذا لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم؟ لأنهم يدخلون النار بغير حساب.
السؤال عن الذنب دليل حياة
مثال: شخص محكوم بالإعدام لأنه مجرم ارتكب جريمة قتل، وُضِع على حبل المشنقة فنادى وزير الداخلية لحظة، خيراً يا وزير الداخلية؟ قال: يوجد عليه عشر دنانير مخالفة سير، هذا إعدام، الإعدام يجُبُّ ما قبله، لم يبقَ هناك مخالفة سير هذا سيُعدم وانتهى.
فالذنوب هي الهفوات، الذنوب بالخلوات، المؤمنون يسألون عن ذنوبهم، عندما تُسأل هذا دليل على أنه فيك حياة، يعني يُسأل عن ذنبه.
ورد في الحديث الصحيح:

{ إنَّ اللهَ يُدني المؤمنَ فيضعُ كنَفَه عليه ويسترَهُ فيقولُ : أتعرفُ ذنبَ كذا فيقولُ نعم أي ربِّ حتَّى إذا قرَّرَه بذنوبِه ورأى في نفسِه أنه قد هلكَ قال سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفِرُها لك اليومَ }

(صحيح البخاري)

(إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ) إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة في كنفه ويستره، ولله المثل الأعلى، يدنيه، يستره.
(فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟) يذكره بالذنوب.
(فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ) أذكره.
(حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ) يعني أقرَّ بذنوبه كلها.
الإعتراف سيد الأدلة
(وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ) كيف رأى أنه قد هلك؟ مثال: أنت ذهبت لعند القاضي، ولله المثل الأعلى، قال لك: أنت ألم تفعل ذلك؟ قلت له: نعم، بلى، ألم تفعل ذلك؟ بلى، ألم تفعل ذلك؟ بلى، وقِّع على أقوالك، بعدما وقّعت، أتظن نفسك ستذهب إلى القضاء أم إلى السجن؟! أقريت، الإعتراف سيد الأدلة.
(وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: عبدي، سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ) هذا يُسأل عن ذنوبه، لكنه مؤمن موحد، فالله تعالى يسأله عن ذنوبه ثم يعفو عنها جل جلاله، نسأل الله أن يجعلنا منهم، لكن المجرم يُسأل عن ذنوبه؟! هذه إهانة، هذا إكرام له إذا سئل على ذنوبه، يعني إذا هو مجرم وقاتل مليون شخص وقلت له: لماذا اغتبت فلاناً؟! لأنه مجرم، فقال تعالى:

وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
(سورة القصص: الآية 78)

تهكماً بهم، فإنهم سيدخلون النار مباشرةً دون سؤالٍ عن الذنوب، هذا معنى (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) كما ذكر أهل العلم.
ونكتفي بهذا القدر، ونتابع قصة قارون إن شاء الله في لقاءٍ قادم.
والحمد لله رب العالمين