عاقبة طغيان قارون

  • الدرس السابع عشر -شرح الآيات 79-83
  • 2019-11-01

عاقبة طغيان قارون

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، وبعد.
هذا هو اللقاء السابع عشر من لقاءات سورة القصص، ومع الآية التاسعة والسبعين وهي قوله تعالى:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
(سورة القصص: الآية 79)

كما أسلفنا سابقاً سورة القصص فيها قصتان:
1. قصة موسى مع فرعون
2. قصة قارون
* قصة موسى مع فرعون: تمثل قصة موسى كليم الله مع القوة السياسية الطاغية في عصره وهي قوة فرعون.
* قصة قارون: وهو من قوم موسى أيضاً، هذا الربط (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ) كما مر معنا، تمثل القوة المالية أو القوة الإقتصادية الضاربة أيضاً وحال الناس معها وطريقة تعاملهم مع المال ومع الدنيا.

تكبر وغطرسة قارون
فالآن قارون متكبر متغطرس، جمع مالاً كثيراً، ويبدو أنه جمعه مما حَلَّ ومما حَرُم كما أن السياق يوضح ذلك، ثم استعلى به على عباد الله، يعني هو لم يسأل نفسه لا من أين اكتسبه ولا فيما أنفقه، فاستعلى به على عباد الله عز وجل ونسب الفضل إلى نفسه:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي
(سورة القصص: الآية 78)

ثم فوق ذلك هو يتابع استعلاءه فتأتي الآية الآن التاسعة والسبعين قال:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
(سورة القصص: الآية 79)

وهذا دليل على التكبر والتغطرس، والدليل على رغبته في أن يقهر الناس، هناك حالة متقدمة جداً عند من يجمع المال ويكنزه، وقارون أيضاً ممن كنز المال:

وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
(سورة القصص: الآية 76)

قارون قهر الناس بما عنده
فهذا قارون وصل إلى مرحلة متقدمة جداً في قضية كنز المال، وهي مرحلة أنه يريد أن يقهر الآخرين بما عنده من مال بما يظن أنه قد أوتيه على علمٍ عنده، فيريد الآن أن يقهرهم، يعني يخرج عليهم في زينته هذه مرحلة متقدمة جداً في البعد عن الله عز وجل، متقدمة بمعنى أنها تأتي في آخر المطاف، بهذا المعنى، فبعد أن يستعلي ويستكبر ويجمع المال مما حَلَّ وحَرُم وينسب الفضل إلى نفسه، الآن ينتقل إلى قهر الناس بما عنده.

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
(سورة القصص: الآية 79)

متزينٌ بما عنده من مال، سواءً زينة اللباس، كل عصر له زينة، اليوم يمكن أن يخرج بموكب سياراته، هذه (فِي زِينَتِهِ)، اليوم يمكن أن يخرج في موكب من السيارات والخدم والحشم والمرافقة، هذه زينة العصر، فلكل عصرٍ زينته، فقارون (خَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) باللباس، ربما بالعربات، ربما بالناس الذين يحيطون به، ببعض الذهب، (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ).

قارون هو مادة امتحان من الله
الآن قارون هو مادة الامتحان، الله عز وجل يمتحنه ويمتحن به، فالآن عندما خرج على قومه أصبح بعد أن كان ممتحَناً أصبح هو مادة الامتحان.
مادة الامتحان مختلفة
يوجد ممتحِن وممتحَن ومادة، الذي يمتحننا ويبتلينا هو الله جلَّ جلاله، دائماً هو المبتلي والممتحِن جلَّ جلاله، الذي يُمتحَن هو الإنسان لأنه المخلوق المكلَّف، الإنس والجان، مادة الامتحان مختلفة، أنت في كل لحظة عندك مادة للامتحان، أحياناً يغنيك فيمتحنك، وأحياناً يفقرك فيمتحنك، وأحياناً يجمعك بصالحٍ من الصالحين فيمتحنك، وأحياناً يجمعك بطالحٍ من الطالحين فيمتحنك، ففي كل لحظة أنت تتعرض لامتحان، ردُّ فعلك على هذا الامتحان هو موقفك، موقفك تحاسب عليه عند الله، هذه هي حقيقة الحياة الدنيا.
فقارون عندما خرج على قومه في زينته الآن هو مادة امتحان، الناس سينظرون إليه، وكل إنسان سيأخذ موقفاً، وكل إنسانٍ سيحاسب بناءً على هذا الموقف الذي أخذه، طبعاً المواقف كثيرة، كل إنسان أخذ موقف، يعني لو كان موجود عند قارون أو حوله لما خرج؛ لو رآه مئة إنسان فهناك مئة موقف.

مواقف الناس من قارون
لكن هل يمكن أن نمايز بين هذه المواقف في زمرتين كبيرتين؟ نعم، هذا ما فعله جلَّ جلاله، هما في النتيجة موقفان لا ثالث لهما.
الموقف الأول:

قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(سورة القصص: الآية 79)


الموقف الأول هو موقف أشخاص يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
انظروا إلى التعبير القرآني؛ قلت سابقاً وأقول: القرآن الكريم والسنة النبوية والإسلام لا يذمُّون الدنيا بمعنى الترك، بمعنى الاستغناء عنها، وأدلُّ دليلٍ على ذلك (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا }

(رواه البخاري)

الدنيا عندما تُستهدف تنقلب إلى شقاء
فلو كانت الدنيا مذمومة بمعنى الذَّم المطلق فما معنى أن يغرس الفسيلة! لو كانت الدنيا مذمومة ذمَّاً مطلقاً فما معنى أن رايات المسلمين وصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها! فالمسلمون عمروا الأرض، وأقاموا استخلاف الله عزَّ وجل في الأرض حقَّ الإقامة، فليس هناك ذم للدنيا مطلق بمعنى المطلق، لكن لمَّا يقول تعالى: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يريدونها ولا يعملون فيها، يريدونها ولا يعمرون الأرض، يعني جعلوا الدنيا هدفاً لهم، والدنيا عندما تُستهدف تنقلب إلى مبدأ شقاء، كل شيء في الحياة تجعله هدفاً (من اللذائذ) ينقلب إلى شقاء في المحصلة، الإنسان يحب المرأة، أودع الله في داخله حباً للنساء، كما أودع في النساء حباً للرجال، الآن عندما يتزوج في مرضاة الله عز وجل يُنجب ويحقق هذه الشهوة في طاعة الله عز وجل، لكن عندما يجعل اللذة هدفاً له فيبدأ من هنا إلى هنا، إلى إطلاق بصر، إلى لقاءات لا ترضي الله، إلى خلوة لا ترضي الله، إلى مصافحة، إلى كذا، فهو يستهدف اللذة بعينها، هذه اللذة ستنقلب إلى شقاءٍ عليه لأنه استهدفها، أرادها، نحن لا نريد الدنيا، نحن لا نريد الدنيا نريد الآخرة

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
(سورة الإسراء: الآية 19)


العمل في الدنيا وليس للدنيا
العمل يكون للآخرة
نحن لا نريد الدنيا لكننا نعمل في الدنيا، نحن لا نعمل للدنيا نعمل للآخرة، ولكننا نعمل في الدنيا، هذا هو فقط الفهم أو محاولة التوأمة بين أنَّ الإسلام لا يذمُّ الدنيا وفي الوقت نفسه الإسلام لا يريدك أن تعمل للدنيا، اعمل للآخرة، ولكن (لَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) كما مر قبل قليل لأنها مطيَّةٌ إلى الآخرة.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
(سورة القصص: الآية 77)

فقط أن نفهم حقيقتها لا أن نترك العمل فيها.
فهؤلاء (يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) جعلوا هدفهم هو الحياة، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كان من دعائه؟ كان يدعو فيقول: "اللهم لا تَجْعلِ الدُّنْيَا أكبَرَ همِّنا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمٍنَا"

{ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قَلَّمَا كَانَ رسول الله ﷺ يَقُومُ مِنْ مَجْلس حَتَّى يَدعُوَ بهؤلاَءِ الَّدعَوَاتِ الَّلهمَّ اقْسِم لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تحُولُ بِه بَيْنَنَا وبَينَ مَعاصيك، وَمِنْ طَاعَتِكَ ماتُبَلِّغُنَا بِه جَنَّتَكَ، ومِنَ اْليَقيٍن ماتُهِوِّنُ بِه عَلَيْنا مَصَائِبَ الدُّنيَا، الَّلهُمَّ مَتِّعْنا بأسْمَاعِناَ، وأبْصَارناَ، وِقُوّتِنا مَا أحييْتَنَا، واجْعَلْهُ الوَارِثَ منَّا، وِاجعَل ثَأرَنَا عَلى مَنْ ظَلَمَنَا، وانْصُرْنا عَلى مَنْ عادَانَا، وَلا تَجْعلْ مُصِيَبتَنا فِي دينَنا، وَلا تَجْعلِ الدُّنْيَا أكبَرَ همِّنا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمٍنَا، وَلا تُسَلِّط عَلَيَنَا مَنْ لاَ يْرْحَمُناَ }

(رواه الترمذي)

الدنيا هم من الهموم لكنها ليست أكبر هم، أكبرُ همٍّ لدينا ما هو؟ الآخرة، أن نصل إلى رضوان الله، الدنيا همٌّ من الهموم، أمَّا أن تكون الدنيا أكبر همٍّ وأن نسعى لها، وأن نبذل من أجلها، وأن نضحي من أجلها، وأن ننفق الوقت من أجلها، عندها ستنقلب إلى شقاءٍ علينا، نسأل الله السلامة.

الفريق الأول تمنوا أن يكون لديهم ما لدى قارون
فهؤلاء الفريق الأول (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وسمَّاها الله دُنيا لأنَّ هناك حياةً عُليا تكريمية هي الآخرة.

يَا لَيْتَ لَنَا
(سورة القصص: الآية 79)

(يَا لَيْتَ لَنَا)، و(لَيْتَ) للتمني، وكأنهم يعرفون أنهم لن يصلوا إلى قارون مهما فعلوا، لأن قارون استمد قوةً من القوة السياسية الضاربة في وقتها في عصره، وأخذ من الدنيا (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، فكأنهم يعلمون أنهم لن يصلوا إلى ذلك فقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا)، و(لَيْتَ) للتمني، والتمني هو شيء يبعد تحقيقه.

يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ
(سورة القصص: الآية 79)

التساؤلات عن الأصل والنتيجة
تمنوا أن يكون لهم (مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ)، هذه نظرة قاصرة، لأن هذا الرجل الذي خرج في زينته؛ ما سألت نفسك من أين جاء بهذا المال؟! ولا ما الوسائل التي حصَّل بها هذا المال؟! ولا أين سيقوده استعلاؤه بهذا المال؟! يعني لا سألت عن الأصل ولا عن النتيجة! فهذه نظرة قاصرة جداً، سطحية، أنت رأيت إنسان في زينته (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) هذا منتهى الحمق، من أين جاء قارون بماله؟ هل سألت نفسك هذا السؤال؟ ما الوسائل؟ هل هي وسائل مشروعة حتى وصل إلى المال؟ ثم بعد أن وصل إلى المال هل أنفقه في حقه؟ ثم هل سيقوده ماله هذا إلى الخير أم إلى الشر؟، قبل أن تتمنى (مَا أُوتِيَ قَارُونُ) هل تعرف إلى أين سيقود قارون ماله؟ لا تعرف، هذه هي الحقيقة.
المال غير المشروع يقود إلى الهلاك
يعني إذا إنسان رأى تاجر مخدرات، بعرفنا اليوم، تاجر مخدرات ينعم بمال وفير جداً جداً، مَزارع، سيارات، أموال، مرافقة، قوة، الناس يخافونه، هناك بلاد ليس فيها قوانين فهو أصبح مهاب الجانب، فنظر إليه شخص قال: ياليت لي مثل ما أوتي؛ هذا جاهل، هذا حقق هذا المال على إضلال أُسَر، وعلى إفساد أُسَر كثيرة جداً، يبيعهم المخدرات والعياذ بالله، ثم هل تعلم أين مصيره إن في الدنيا أو في الآخرة؟ إن أدركه العقاب في الدنيا فمصيره في سجنٍ أو إلى إعدام، وإن أفلت من عقاب الدنيا فأمامه نارٌ لا يَنفد عذابها، فالإنسان المؤمن عنده رؤية، عندما يرى شيئاً في ظاهره متألق ينظر إلى ما قبله وما بعده، من أين جاء وإلى أين المصير؟ فلو دقق هؤلاء (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وقفوا وقفة متأنِّية قالوا: هذا قارون من أين جاء بالمال؟ جاء به من مصادر غير مشروعة، بنى ثروةً عظيمةً من الحرام، إلى أين سيقوده ماله؟ سيقوده إلى الهلاك والدمار، هكذا يقول العقل، قبل الشرع هكذا يقول العقل فقط، فلو أنهم نظروا هذه النظرة لما قالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ)
تابعوا، فقالوا:

إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
(سورة القصص: الآية 79)

ذو: يعني صاحب، إنه صاحب حظٍّ عظيم.
حظ: يعني له مكان أو نصيب، قيمة عظيمة.
فهؤلاء نظرتهم كانت قاصرة، هذا الفريق الأول، (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
الآن بدأ ربنا جلَّ جلاله بالذين (يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، لماذا بدأ بالذين (يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)؟ لأنه يتوافق مع حالة قارون، لأنَّ قارون ممن (يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، فلما (خَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) بدأ بالذين هم من شاكلة قارون، ثم ختم بالذين (أُوتُوا الْعِلْمَ)

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
(سورة القصص: الآية 80)


موقف الفريق الثاني : الذين أوتوا العلم
(وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ) (وَيْلَكُمْ) الويل يعني الهلاك والثبور، (وَيْلَكُمْ) بمعنى ويحكم، بمعنى ما هذه النظرة القاصرة! ما هذا الفهم السطحي!

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
(سورة الروم: الآية 7)

العلم بالله
يعني أنت لك أن تنظر بعينٍ واحدة أو تنظر بعينين، فإذا نظرت بعينٍ واحدة فقد ترى القوة والفلاح في جمع المال، هذا ظاهر (الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فإذا نظرت بعينين، بعين الدنيا وبعين الآخرة، فإنك ترى أن الهلاك والدمار في جمع المال إن لم يكن من حلالٍ وإن لم يكن إلى حلال.
الآن (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) اختلفت نظرتهم، ما هو العلم الذي أوتيه هؤلاء؟ من آتاهم العلم؟ الله، (أُوتُوا)، ما العلم الذي أوتيهُ هؤلاء؟ هل كان عندهم علم بالفيزياء النووية؟ أم علم بالهندسة؟ أم علم بالطب؟ أبداً، يعني مع كل احترامنا للاختصاصات العلمية، لكن هؤلاء (أُوتُوا الْعِلْمَ) بالله، أُوتُوا الْعِلْمَ بالله، الدليل: يقول تعالى في القرآن الكريم:

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة الزمر: الآية 9)

هذا الذي يقوم بالليل ما العلم الذي عنده؟ عنده علمٌ بالله، خائفٌ من الله

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
(سورة فاطر: الآية 28)

فهنا العلم المقصود به هو العلم بالله، الإيمان بالله، معرفة الله، هؤلاء هذا العلم الذي أوتوه، أوتوا علماً يُبَصِّرُهم بحقائق الأمور، لأن من عرف الله تعالى عرف كل شيء، ومن فاتته معرفة الله فاته معرفة كل شيء.
فهؤلاء (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) اتجهوا فوراً إلى القسم الأول قالوا:

وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ
(سورة القصص: الآية 80)


تعريف الثواب
الثواب هو ما يعود عليك بعد الفعل الصحيح
ما هو الثواب؟ ثابَ إذا رجع، فأنت تقدم عملاً فيرجع جزاؤه إليك من الله.
أنت مُصَلٍّ فيرجع الله عليك بالثواب سكينةً، فيملأ قلبك بالسكينة، فالسكينة ثوابٌ للصلاة، أنت تذهب إلى الحج تبذل مالاً وجهداً ووقتاً، تذهب إلى الحج فيأتي ثواب الله لك بأن يغفر لك ما تقدَّم من ذنبك، ويأتي ثواب الله لك بأن تعود من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، أنت تُقَدِّم زكاة المال، تقديم الزكاة فعل، إنفاق مال، يأتي ثواب الله لك بأنه يطهِّر ويزكي نفسك

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا
(سورة التوبة: الآية 103)

فالثواب هو ما يعود عليك بعد الفعل الصحيح، من الله، يعود عليك من الله.
فقالوا: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ) خيرٌ من قارون، ومن زينة قارون، ومن دنيا قارون، ومن مال قارون.

ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
(سورة القصص: الآية 80)

(لِّمَنْ آمَنَ) الإيمان: هو الجانب العقيدي الفكري.
(وَعَمِلَ صَالِحًا): العملي.
ثوابُ اللَّهِ خيرٌ لِّمن استجمع شيئين:
* إيماناً: الإيمان هو التصديق، هو في أصله جانب إيديولوجي فكري.
* (وَعَمِلَ صَالِحًا) أي عَمِل عَمَلاً يصلح للعرض على الله، يعني عَمَلْ ليس فيه إفسادٌ في الأرض، وليس فيه إيذاءٌ لعباد الله (وَعَمِلَ صَالِحًا).

ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
(سورة القصص: الآية 80)

(وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) يعني ولا يُلَقَّ الخير والثواب من الله إِلَّا الصَّابِرُونَ، وهذا قصرٌ وحصر، ولا يُلَقَّ الآخرة إِلَّا الصَّابِرُونَ.

الصبر قيمة عالية جداً
حاجة المؤمن إلى الصبر
(الصَّابِرُونَ) هنا، طبعاً الصبر معناه واسعٌ جداً، لكن لو جئنا إلى سياق الآيات فالصبر هنا هو الصبر على الحرمان، مثلاً، أنت حُرمت من أشياء في الدنيا لابد أن تصبر، هؤلاء لما رأوا قارون؛ كل إنسان يرى زينة الدنيا قد يشعر بشيء من الحرمان فيصبر على ذلك، الصبر على استعلاء الظالمين يحتاج إلى صبر، عندما يطول الأمد وترى أنَّ الظالم متمكِّن وأن من يملك المال ويملك القوة الإقتصادية والسياسية والاجتماعية متمكن في الأرض يفعل ما يشاء فيظن بعض ضعاف الإيمان أنه قد غلب وانتصر وانتشى وانتهى الأمر، تحتاج أيها المؤمن إلى أن تصبر على هذا الموقف، هذا موقف يحتاج صبراً، فهنا عندما نتحدث في سياق الآيات عن الصابرين نتحدث عن قيمة عالية جداً وهي الصبر.
يقول عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
"وَجَدْنَا ألَذّ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ"
{ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ }
هناك لذّة للصبر عندما تشعر كأنك تقول لله: يارب هذا قرارك أنا راضٍ عنه، هذه حكمتك أنا راضٍ يارب، فهذا يُشعر الإنسان بقيمة عالية، الصبر هو قيمة معنوية عالية جداً، لا يعرفها إلا من ذاق طعم الصبر، الصبر له طعم حلو، عندما يكون الإنسان قريباً من الله فالصبر حالة نفسية عالية جداً.
إذاً في محصلة الأمر نحن أمام فريقين: فريق (يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) في مقابلهم فريق (أُوتُوا الْعِلْمَ)، إذاً الذي أُوتي العلم لا يريد الحياة الدُّنيا، والذي يريد الحياة الدُّنيا لم يُؤتَ العلم، (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا): إذاً هؤلاء لم يُؤتَوا العِلم ولو أُوتُوا العِلم الحق لما أرادوا الحياة الدُّنيا، في القسم المقابل: (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إذاً هؤلاء لم يريدوا الحياة الدُّنيا أرادوا الآخرة، لأن من أُوتي العلم يريد الآخرة ويعمل في الدنيا ولا يعمل لها، يملكها ولا تملكه، تنقاد له ولا ينقاد لها.

قيمة الإنسان بعلمه وعمله
(قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إذاً المشكلة الحقيقية هي في الرؤية، أن ترى الرؤية الصحيحة، الرؤية الصحيحة تأتيك من الوحي، تأتيك من الاتصال بالله تعالى، متى يرى الإنسان رؤيةً صحيحة؟ عندما يكون متصلاً بالله تعالى، لأن الله يعطيه الميزان، المقياس، الذي تزن به الأمور بشكلٍ صحيح.
قيمتا لتفاضل بين الناس العلم والعمل
هؤلاء (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) وزنوا الأمور وزناً خَاطِئاً جداً، وزنوا الأمور وزناً خَاطِئاً، ظَنُّوا أنَّ الإنسان إذا أوتي مالاً فهو ذو حظٍّ عظيم، هذا خطأ كبير، لأن المال ليس قيمةً يتفاضل بها الناس، المؤمن يقول: هناك قيمتان للتفاضل بين الناس اعتمدهما الله: العلم والعمل.

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
(سورة المجادلة: الآية 11)

وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ
(سورة فاطر: الآية 10)

إذاً كيف يرتفع الإنسان بميزان الله تعالى؟ بعلمه وبعمله.
كيف يرتفع بميزان من أرادوا الحياةَ الدُّنيا؟ بماله، بزينته، بقوته، باستعلائه، بعدد ما يملك من حسابات في البنوك، هذه قيم أهل الدنيا وليست قيم السماء.

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
(سورة القصص: الآية 80)

الآن بسرعة خاطفة، بعد ما أعطاك ربنا عزَّ وجل أعطاك الموقفين، بسرعة خاطفة وبكلمات معدودة لأن الأمر بيد الله، كن فيكون، قال:

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ
(سورة القصص: الآية 81)

(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) انتهت، هي لحظة واحدة.
(فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) هو كان يمشي فيطأ الأرض بقوة ويستعلي على عباد الله فبلحظة واحدة أصبح في باطن الأرض التي كان يتكبَّر فوقها، الجزاء من جنس العمل، هو كان يمشي على الأرض بلحظةٍ واحدة أصبح تحت الأرض (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) لحظة واحدة.

العقاب الحقيقي يكون في الآخرة
لماذا يُعَجِّلُ ربُّنا عزَّ وجل أحياناً بالعقوبة في الدنيا لبعض أعدائه؟، قلت لكم سابقاً، العقاب الحقيقي في الآخرة، قال تعالى:

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(سورة آل عمران: الآية 185)

نحن لا ننتظر في الدنيا لا ثواباً لمحسن ولا عقاباً لمُسيء، لا تنتظروا، بمعنى لا تُوَطِّن نفسك بأنك تريد أن ترى كل شيء في أمِّ عينك في الدنيا، هذا ضعف إيمان بالآخرة.
العقاب الحقيقي في الآخرة
سامحوني، هذا ضعف إيمان بالآخرة، الإنسان الذي دائماً يسأل: السلام عليكم يا شيخ، وعليكم السلام، شيخي ظلمني فلان منذ ثلاثِ سنوات وحتى الآن لم يحدث شيء معه وأنا أدعو عليه ليل نهار؟ من قال لك أنه ينبغي أن يحدث شيء معه! ربما يحدث، ربما يُعَجِّلُ له العقوبة في الدنيا، لكن أنت تريد حقك في الدنيا أم في الآخرة؟ أنت متى تريد حقك؟ تريده في الدنيا أم في الآخرة؟ عندك إيمان بالآخرة؟!
يا شيخ هؤلاء الطغاة المستكبرون مضت سنوات، قتلوا الناس، شردوا الناس، هجَّروا الناس، متى موعدهم؟ موعدهم الآخرة، ربما ربُّنا عزَّ وجل يُعَجِّلُ للبعض في الدنيا، لكن قد يموت ولا يُعَجِّلُ له شيءٌ من العقوبة لأنَّ الله تعالى قال:

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
(سورة آل عمران: الآية 185)

فالدنيا لا تصلح أن تكون لا ثواباً ولا عقاباً، الدنيا في الأصل لا تصلح أن تكون ثواباً، كيف يثيبُ الله إنساناً في الدنيا؟ وكيف يعاقبُ إنساناً في الدنيا؟ إذا كانت الدنيا تصلح ثواباً وعقاباً فلا داعي للآخرة، لكن الله تعالى جعل الثواب والعقاب في الآخرة.

تعجيل العقوبة والثواب في الدنيا يكون لعلاج ضعف الإيمان
إذا جاءت الآخرة انتهى كل شيء
لكن لماذا ربُّنا عزَّ وجل أحياناً يُعَاجِلُ بالعقوبة في الدنيا لبعض أعدائه؟ ويُعَجِّلُ ببعض الثواب لبعض أوليائه؟ لماذا؟ لأنَّ الله تعالى يريد أن يلفِت نظر هؤلاء ضعاف الإيمان، يعني هؤلاء (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فيهم بقيةُ خير في عهد قارون، لكن ضعف إيمانهم دفعهم أن يقولوا: (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فأراد الله أن يعيدهم إليه، مباشرةً، قبل أن يفوت الأوان، لأنه إذا جاءت الآخرة انتهى كل شيء، فأراد أن يعيدهم إلى الموقف الصحيح، إلى الرؤية الصحيحة، فلاحظ:

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ
(سورة القصص: الآية 81)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
(سورة القصص: الآية 82)

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ) إذاً خسف به وبداره الأرض من أجل هذه الفئة المستضعفة التي دفعها ضعف إيمانها إلى أن تظن أن قارون ذو حظٍّ عظيم عند الله أو عند الناس مما أوتيه من مال، (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ).
(مِن) لاستغراق أفراد النوع.
(فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) يعني ولا أحد نصره.
اتجاه الناس إلى صاحب المال و القوة
كيف كان موقفه وهو فوق الأرض؟ مُستَعلٍ، إذا طلب ربما يشير بيده فيلبيه الآلاف المؤلفة، لأن صاحب المال تتجه الناس إليه لعلهم ينالون من قوته أو من ماله أو من عطائه كما يظنون، فالناس تتجه إلى صاحب المال وإلى صاحب القوة، فلما أصبح في باطن الأرض فمن الذي يستطيع أن ينصره من الله؟ من يمد له يد العون؟ (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ).
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ) قبل بيوم كان يمر فيقولون: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فلما صار في باطن الأرض (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ).

معنى (وَيْكَأَنَّ)
ما معنى (وَيْكَأَنَّ)؟ حقيقةً اختلف المفسرون فيها اختلافاً كبيراً، من الناحية النحوية، بالصناعة النحوية أيضاً هناك بعض الاختلاف، لكن أكثر من قال، قالوا: هذه كلمتان، وقال بعضهم: ثلاثة، الذين قالوا: كلمتان، قالوا: (وَيْ) (كَأَنَّ).
(وَيْ): اسم فعل مضارع بمعنى أتعجَّب، (وَيْ) وفي العامية موجودة، حتى موجودة في العامية العراقية يقولون: وي وي، يعني شيء يتعجبون منه.
ثم الكلمة الثانية (كَأَنَّهُ): كَأَنَّهُ هي للتشبيه، قال بعضهم: هي بمعنى (إنَّهُ)، كَأَنَّ بمعنى إنَّ للتأكيد وليس كَأَنَّ.
وقال بعضهم: بل هم لمَّا كانوا في حالةٍ من الإعجاب بقارون وما أوتي من مال وما أوتي من قوة، فلما حصل ما زالوا في مرحلة كَأَنَّ اللَّهَ، لم يصلوا إلى إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ، يعني بالنظر إلى حالهم هم هذا الكلام، فهذا مجمل.
من الناحية النحوية أيضاً قال البعض هي: (وَيْ) و(كَاف) و(أَنَّ) للتأكيد ليست (كَأَنَّ)،(وَيْ): هي أتعجب، (كَ): الكاف للخطاب، يعني أتعجب منك من هذا الوضع، (أَنَّهُ)، هذا من الناحية النحوية.
معنى ويكأن
والبعض من المفسرين قالوا: هي معناها عند العرب تأتي هكذا (وَيْكَأَنَّ) والدليل أنها في الرسم العثماني لم تأتي (وَيْ) وحدها و(كَأَنَّهُ) وحدها، فقالوا: هي كلمة واحدة بمعنى (ألم تعلم أنَّ)، (ألم ترى أنَّ)، فهي هكذا، وجاؤوا بأمثلة من الشعر على استخداماتها عند العرب، فالشعر ديوان العرب، فقالوا: (وَيْكَأَنَّهُ) خذها مع بعضها، لا تُفَصِّل في إعرابها، (وَيْكَأَنَّهُ) أي (ألم تعلم أنَّ الله)، هي لها كلام كثير لكن هذا مجمله.
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ) جاء بالتمني، لأن (لَيْتَ) للتمني فهم تمنوا شيئاً مستحيلاً.
(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ) يعني ألم تعلم أنَّ الله.
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) إذاً أَرجَعوا الأمر إلى صاحب الأمر.

الأمر كله بيد الله
الموضوع ليس ذو حظ عظيم، وليس في زينته، وليس في قوته، الموضوع أنَّ الله تعالى لحكمةٍ بالغة، ليتحقق الامتحان (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ).
(يَقْدِرُ) يُضَيِّقْ، (يَقْدِرُ) أي يُضَيِّقْ، وهذا من معاني قوله تعالى:

فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
(سورة الأنبياء: الآية 87)

يُونُس لما ذهب في بطن الحوت، قال بعض المفسرين: (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) يونس مستحيل أن يظن أنَّ الله لا يَقدِر عليه بمعنى القُدْرَة، (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي أن لن نُضَيِّقَ عليه في هذا الأمر، يعني أنه لك الخِيار إن شئت فادعهم وإن شئت فاتركهم وامضِ، هذه (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) من هذا المعنى. فهنا قال: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ) يُضَيِّقُ ويوسِّع، وتوسيعه بحكمة، وتضييقه بحكمة، فالأمر ليس بيد فلان أو عِلَّان من الناس.
(لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) حرف امتناع لوجود، لولا الله لساءت حالة المريض، فوجود الله منع أن تسوء حالة المريض.
(لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) يعني لولا أنَّ الله وقع منه منٌّ وفضلٌ وكرمٌ بنا لأصبحنا بمكانه الآن، كانوا أمس يريدون مكانه في الدنيا، فأصبحوا الآن يخافون من مكانه وقد أصبح تحت الأرض، هم كانوا يريدون مكانه، اليوم (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) و(الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هل هناك أحدٌ يتمنى أن يكون مكان قارون بعد أن أصبح في باطن الأرض؟!، أراهم الله مكانه الحقيقي.

المؤمن يؤمن بالغيب
المؤمن يؤمن بالغيب، قبل أن يقع الذي وقع لقارون، لا تنتظر أن يصبح في باطن الأرض، وهو فوق الأرض لا تتمنى مكانه، هذه هي العبرة في القصة، أنت مؤمن أنت تؤمن بالغيب، أنت لا تنتظر أن ترى بعينك حتى تؤمن، سامحوني هذه صفة كل المخلوقات، هذه صفة جميع المخلوقات، أنت ضع يدك هنا، نملة أضعف مخلوق تمشي، أين ستقف النملة؟ عند يدك، تلف وتمشي بغير طريق، النملة عندما ترى الشيء تؤمن بوجوده وتعمل بمقتضاه، النملة، وأكبر منها وما شئت.
المؤمن ينظر بنور الله
أمَّا الإنسان إذا كان واقفاً هناك والطريق مسدود لا يشمي ليصل لعنده، يلف من الطرف الآخر ويغير طريقه، فقط، فالمؤمن الذي أوتيَ العلم ينظر بنور الله فلا ينتظر الأحداث حتى تقع وإنما يصل إليها قبل أن يصل إليها، يصل إليها بعقله وبوحي الله، قبل أن يصل إليها بجسده، لا تنتظر الأحداث حتى تقع، قارون منذ أن رأيته يظلم ويُفسد ويستعلي ويخرج على قومه في زينته، قل لا أريد مكانه، لأنَّ مكانه ليس على الأرض، مكانه في باطن الأرض، يعني لو أنَّ قارون لم يخسف به وبداره الأرض وعاش عمراً مديداً ثم مات على فراشه أين سيدفن بعد ذلك؟ في باطن الأرض، فالنتيجة واحدة، إذاً أنت أيها المؤمن تعرف مكان قارون قبل أن يصل قارون إليه، لا تحتاج إلى أن يخسف الله به حتى تؤمن، لكنَّ الله رغم ذلك وضع لنا أحداث في التاريخ ينتصر لضعاف الإيمان ليفيقوا من سكرتهم، يعني بعض الناس لا بد لها من أن ترى شيئاً، فالله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) حتى يروا مكانه، لكن لا تنتظر من كل طاغية أن يخسف الله به وبداره الأرض، قد يعيش حياةً مديدة ولا يخسف به وبداره الأرض، لكن بعد ذلك يموت ويدفن في باطن الأرض ويلقى جزاء عمله عند ربه، فأنت وطِّن نفسك من الآن ألا تتمنى أن تكون مكان أحدٍ لا من الظالمين ولا من الأغنياء ولا من الأقوياء إلا من كان منهم في رضا الله تعالى، فتمنَ القوة وتمنَ الغنى لكن عندما يكون في مرضاة الله، لا استعلاءً ولا فخراً على عباد الله.
(لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ) يعني نعلم أنَّه، كما قلنا.

الفلاح مرتبة عالية جداً لا يصل إليها إلا المؤمن
(لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) الآن أصبح عندهم علم شهودي يقيني أنَّ الكافر لا يفلح، هل ينجح في الدنيا؟ ربما، لكن يفلح مستحيل.

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
(سورة المؤمنون: الآية1)

الكافرون لا يفلحون، الفلاح هو مرتبة عالية جداً لا يصل إليها إلا المؤمن (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)

إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
(سورة المؤمنون:الآية 117)

الفلاح هو أن تحقق الهدف من وجودك
والفلاح هو أن تحقق الهدف من وجودك، فهل الكافر حقق الهدف من وجوده؟ لا، أطلِق عليه إن شئت نجح في جمع المال، نجح في أن يعتلي منصباً رفيعاً، نجح في الظاهر، لكن هل أفلح؟ لم يفلح.
(وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) يفلح المؤمنون فقط.

الدنيا قد لا تكون للمتقين
الآن أظن هذه الآية هي الآية المفصلية في السورة، وهي الآية التي تنثني على أختها في بداية السورة فتفسرها، تذكرون في بداية السورة:

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
(سورة القصص: الآية 4-5)

هذا محور السورة ومحور القصتين، الآن ختمت القصتان:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(سورة القصص: الآية 83)

فرعون أراد في الأرض عُلُوَّاً وأراد في الأرض فساداً، (عَلَا فِي الْأَرْضِ) (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) هذا حال فرعون في الدنيا.
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) (تِلْكَ): (تِ) اسم إشارة، (لْ) اللام للبعد، (كَ) الكاف للخطاب، الآخرة ليست بعيدة :

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا
(سورة المعارج: الآية 6-7)

لكنها بعيدة المنال، لكنها عظيمة، بُعد معنوي أكثر منه بُعد مادي، ستأتي وكلُّ آتٍ قريب،
"كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ"
{ علي بن أبي طالب }
لكن (تِلْكَ) لرفع، لرفع مكانتها

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
(سورة الحجر: الآية 1)

(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) لرفع مكانتها، هذا البعد المعنوي، فقال : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ)
1- (لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ)
2- (وَلَا فَسَادًا)
لا يريد أن يستعلي على الناس ولا يريد أن يفسد في الأرض، كما كان حال فرعون، كما في بداية القصة.
الدنيا قد لا تكون للمتقين
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) إذاً الدنيا قد لا تكون للمتقين، انتبه (الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) يعني النهاية، يعني في الدنيا هناك بدايات لكن أنت تحتاج إلى كمالات النهايات، تحتاج إلى كمالات النهايات، العوام لهم كلمة جميلة يقولون: " الآخرة يا فاخرة " يعني انتظر لنرى الآخرة، فالعبرة بالخواتيم وليست فيما يجري الآن على الأرض.
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) هذه الآية قرأها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم غادر الدنيا، كانت آخر كلامه من الدنيا.
كان كلما دخل عمر بن عبد العزيز دار الخلافة قرأ قوله تعالى:

أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ
(سورة الشعراء: الآية 205- 206-207 )

تَرَبَّى على هذه الآيات، جعلها عنواناً له كلما دخل دار الخلافة حتى لا تغرَّه الدنيا فيتمتع بها (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) فلما تربى على هذه الآيات؛ يوم كان على فراش الموت أنطقه الله بهذه الآيات، قال: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
كأني كما قلت لكم هذه الآية هي المفصلية التي تتجاوب مع أختها في بداية السورة:

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 4)

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(سورة القصص: الآية 83)

وإن شاء الله في اللقاء القادم بقي لدينا بعض الآيات تُخْتَمُ بها السورة.
والحمد لله رب العالمين