إرادة الله نافذة ولو بعد حين

  • الدرس الثاني- الآيات 6-9
  • 2019-01-25
  • عمان

إرادة الله نافذة ولو بعد حين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

رعاية الله لأوليائه وأصفيائه من خلقه :
اللقاء الثاني من لقاءات سورة القصص.
أسلفنا في اللقاء الماضي أن سورة القصص موضوعها العام هو إبراز رعاية الله عز وجل لرسوله، ولمن يوكِّلهم بحمل الرسالة، ولمن بعدهم من أتباع الرسُل، كيف يرعى الله عز وجل من يقوم على الدعوة إلى الله عز وجل، وقدّمت القصة بما يسمى في القصص الفرش التاريخي، بالعرف الحديث اليوم يسمونه اللوكيشن، ليس اللوكيشن المكاني، اللوكيشن العام، المكان مسرح القصة، فالآيات الستة الأولى هي المقدمة، والقصة جميل أن يُقدّم لها لكن بما يناسب مضمونها، فمادام الحديث عن رعاية الله لأوليائه وأصفيائه من خلقه، فجاءت المقدمة متناسبة مع هذا، أعطتك العصر، أي هذه القصة سوف تجري في هذه الظروف، ما هي الظروف؟

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
[ سورة القصص: 4]

فرعون أول شيءٍ علو في الأرض بغير الحق، وفتن طائفية، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا، قتال بينهم أي فَرِّق تَسُد، هذه مبدأ الفرعونية، مبدأ الطغاة، يَسْتَضْعِفُ، استضعاف للناس، إذلال للناس، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ، إجرام، منتهى الإجرام، ذبح، منتهى الإجرام، إفساد، إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، حتى تسهل السيطرة على أي جهة يجب إفسادها، عندما يكون هناك إفساد في المجتمع ينصرف المجتمع للذَّاته الآنيّة الطارئة، أكله وشربه وللحاجات والمتع الأخرى، فيهبط عن مستوى إنسانيته فتسهل السيطرة عليه، فلذلك فرعون علو في الأرض، لم قال بغير الحق؟ لكن عند تكملة الآية استضعاف وإفساد إذاً بغير الحق، علو في الأرض بغير الحق، شيع، طوائف، فتن طائفية، إجرام، إفساد، استضعاف للناس واستعبادهم، هذا الفرش التاريخي، إنه مسرح القصة الذي ستجري عليها قصة موسى عليه السلام، في هذه الظروف سوف ينشأ موسى، وبما أن القصة تتحدث عن رعاية الله لأوليائه.

تشابه واقع سيدنا موسى مع واقع سيدنا محمد عليهما السلام :
قصة سيدنا موسى تشبه واقعنا اليوم
أنسب شيء هو أن يوضح لك أين نشأ موسى؟ نشأ في هذه البيئة، ورغم ذلك رعته يد العناية الإلهية من لحظة كان جنيناً في بطن أمه إلى أن بلَّغ الرسالة إلى فرعون، وأقام دولةً رعت حقوق البشر، ونقلتهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، هذه السورة أنت تتخيل الآن تتنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، والمسلمون يسامون سوء العذاب من قريش، يقومون بالاستعلاء في الأرض، يستضعِفونهم، يُجرمون بحقهم، بلال بِحَرِّ الصحراء يقول: أحدٌ أحد، يفسدون في الأرض، كل الصفات كانت موجودة في قريش، إذاً الجانبان متشابهان، اليوم تقرأ القصة كأنك اليوم تراها رأيَ العين في واقعنا، أيضاً اليوم هناك من الطغاة من يعلو في الأرض بغير الحق، هناك من يستضعف الناس، هناك من يجرم بحقهم، هناك من يفسد في الأرض، الظروف متشابهَة في كل زمان ومكان والنتيجة ستكون إن شاء الله واحدة كما كانت مع موسى، ومع محمد صلى الله عليه وسلم، ستكون للمسلمين اليوم، هذا المحور العام للقصة، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ﴾ قلنا بمقابل هذه لن نسميها الإرادة الفرعونية بل الرغبة الفرعونية بإضعاف وإذلال وإفساد الناس، هناك إرادة إلهية عظيمة:

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
[ سورة القصص: 5]

﴿أَئِمَّةً﴾ أي يقتدى بهم، ويصبحون هم قادة العالم وليس فرعون، ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ يرثون الأرض.

حاجة الاستخلاف في الأرض إلى الطاعة :
الآن نصل إلى لقاء اليوم:

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ
[ سورة القصص: 6]

الاستخلاف يحتاج إلى طاعة
هذه الآية الختامية بالمسرح، بالفرش التاريخي، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أي نمكن للذين استضعفوا في الأرض فننقلهم من حالة الاستضعاف إلى حالة التمكين، التمكين في الأرض والاستخلاف في الأرض لم يرد في القرآن مأموراً به، وإنما ورد موعوداً به، لم يرد في القرآن التمكين أو الاستخلاف مأموراً به، لم يقل ربنا في أي آية في القرآن كونوا مستخلفين في الأرض، كونوا ممكنين، لا، هو يعدنا دائماً بالاستخلاف والتمكين، لكنه يأمرنا بالطاعة، مثلاً: إذا قال أستاذ لطلابه: انجحوا جميعاً، لا يوجد معنى للأمر، ادرسوا جميعاً، يتحقق النجاح بشكل أوتوماتيكي، فالقرآن لا يقول لك: كن مستخلفاً في الأرض، لأن الاستخلاف يحتاج إلى طاعة، بمعنى أنه يأمرك بما قبله وبما بعده، بما بعده:

الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
[ سورة الحج: 41]

نحن مكناهم بإرادة إلهية، ماذا فعلوا هم؟ ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ وتركوا الأمور لله، ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ الله يحميهم ويتولاهم، أي التمكين في الأرض هو وعدٌ من الله عز وجل، مشروط ومتبوع، مشروط بالطاعة ومتبوع بإقامة أمر الله في الأرض عندما يحصل التمكين، لكن هو بحدّ ذاته غير مأمور به، لا أقصد غير مأمور به أي غير مطلوب شرعاً، لا، أقصد لا يوجد معنى ليأمرك أن تكون مستخلفاً، الاستخلاف هو إرادة إلهية ليست إرادة بشرية، طبعاً هو كله إرادة إلهية بالنتيجة، لكن السبب من العَبْد هو فقط الطاعة، أن يقيم شرع الله فيما يملك فيمكّنه الله فيما لا يملك فيقيم شرع الله عز وجل في الأرض.

حاجة كل طاغية لمن يغطي له جرائمه :
كل طاغية يريد من يوفر له الغطاء لجرائمه
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ فرعون هو المجرم الحقيقي، وهامان هو المبرر للجرائم، أي هو الذي يغطي جرائم فرعون، كل طاغية يريد أحداً أن يغطي له جرائمه، أي يوفر له الغطاء، سواءً الغطاء الشرعي، أو الغطاء الاجتماعي:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَاب
[ سورة القصص: 36-37]

هامان هو الوزير الملازم لفرعون الذي يمده بأسباب بقائه، ﴿وَجُنُودَهُمَا﴾ لأن الجنود تبدأ من أن تعينه بكلمة، وتنتهي بأن تكون مأموراً بأمره، فتقول: أنا عبد مأمور، فإذا أمر بالقتل قتلت، وإذا أمر بالاستضعاف استضعفت، فالمجرم هو وجنوده مجرمون عند الله عز وجل، سُئِلَ الإمام أحمد قال: أنا أخيط الثوب للسلطان الظالم فهل أنا شريكه في الإثم؟ قال : أنت معه في الإثم، شريكه في الإثم من يبيعك القماش، من يبيعك القماش هو شريكك، أنت تعمل هذا الثوب لِيلبسه سلطان ظالم جائر يستضعف ويقتل، فأنت كيف تصنع له الثوب؟ الذي باعك القماش والذي يعرف أنه ذاهب له هذا هو الشريك، هذا يعني الشكل الغير المباشر، أما الشكل المباشر فأن تكون أنت معه، أنت جند من جنوده.

من نال حقه الكريم بالحياة تجرد لعبادة الله عز وجل :
عندما تعطي الإنسان حقه بالحياة سيتجرد لله
إذاً: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ ﴾ منهم أي من هؤلاء المستضعفين في الأرض ﴿ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾، ماذا كانوا يَحْذَرُونَ؟ كانوا يَحْذَرُونَ شخصاً يقضي على ملكهم، يَحْذَرُونَ شخصاً ينقل الناس من عبادتهم إلى عبادة ربهم، يَحْذَرُونَ شخصاً يزيل عنهم الظلم فقط، دعك من الطاعة والدين، افتراضياً للحظة، مجرد أنك تنقل الناس من الاستبداد إلى الحرية، أو أن يكون قرارهم بيدهم، فهذه وحدها يحذرها فرعون، لأن الناس عندما تأخذ حقها في الحياة ستتجرد بشكل طبيعي لعبادة الله عز وجل، بشكل طبيعي أنت عندما تعطي الإنسان حقه الكريم بالحياة هو بشكل طبيعي سيتجرد لله عز وجل.

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
[ سورة الأنفال: 39]

اتركوا الدين لله، لا تحجزوا الدين عن أحد، أما هو فحر في اختياره، يختار الحق أو يختار الباطل، لكن لا يحق له أن يستضعف الناس، ويمنعهم من اختيار الحق، وهذا هدف القتال الثاني في الإسلام، قتال الهجوم ليس الدفع، الدفع واضح.

الجهاد في الإسلام :

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
[ سورة البقرة: 190]

هل هناك شريعة بالأرض ترفض أن أُقاتل من يقاتلني؟ أتعرض للضرب وأدير وجهي للطرف الأخر وأتعرض للضرب من الجهة الأخرى، لا ، كل الشرائع الوضعية والشرائع السماوية والقوانين الأرضية كلها تقر بأن من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، هذا القسم الأول من الجهاد.
الجهاد يفتح الطريق أمام الآخرين
القسم الثاني للجهاد جهاد الهجوم، هذا الجهاد تمثله هذه المعاني، لا ينبغي لإنسان أن يستعبد الناس، أن يمنع عنهم الحق، أن يستضعفهم، أنا شرعاً لا أسمح لإنسان أن يمنع الناس من الدين، فإذا وجدت إنساناً يحول بين الناس وبين عبادة الله لي سبل معه وفق المقاييس الشرعية، المهم أن يخلّي بيني وبين الناس، وإن وصلت إلى طريق مسدود معه فالحرب، هذا هو الجهاد في الإسلام باختصار، هذا دون التفصيلات الفقهية والعقدية، هذا باختصار شديد، الجهاد في الإسلام هو إما أن أقاتل من يقاتلني، أو أقاتل حتى يكون الدين لله، أي حتى يدين الناس بما يعتقدون، فقط، أما أن الجهاد لإجبار الناس على الدخول في دين الله فهذا ما سمعنا به في الإسلام أبداً، إلا من أدعياء الإسلام، أي أنا أقاتله ليدخل في دين الله، من أمرك بذلك؟! ليس إجباراً له لكن هو فتح الطريق أمامه فقط، الآن يريد أن يدخل، لا يريد أن يدخل، هذا اختياره:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
[ سورة البقرة: 256]

الأمور واضحة دعه يذهب أينما يريد، لكن لا أسمح لأحد أن يمنعه أن يسلك الطريق الذي يريد، هذا هو مفهوم جهاد الطلب، والأول جهاد الدفع، القتال لمن يقاتلني.

أنواع الوحي :
الآن انتهى الفرش التاريخي، بدأت القصة، انظروا إلى المقدمة، انظروا الآن إلى القصة، القصة تبدأ من لحظة الولادة، لأنه يبين لك الرعاية، قصة موسى جاءت في ثلاثين موضعاً في كتاب الله، لكن كل موضع مختلف عن الآخر، حتى إذا جاءت القصة نفسها مثلاً:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً
[ سورة البقرة: 67]

أول السورة عن ذبح البقرة ما جاءت بأي موضع آخر، الآن الولادة جاءت هنا، وجاءت ببعض المواضع الأخرى، لكن بكل موضع تروى بالطريقة التي تخدم هدف القصة، سوف نلاحظ هذا الأمر.
﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ الوحي لغةً هو الهمس، الكلام الخافت، أي أوحى له، ممكن أن نقول لغةً: أنا أريد أن أحضر ضيافة فرضاً، أي أريد أن أحضر ضيافة، فأوحي لشخص من الجالسين، فقط أوحي له أي أعطيه إشارة ليس كلاماً من أجل أن يحضر الضيافة، نوع من أنواع التواصل منخفض المستوى، وإِنّ اللّبيبَ مِنَ الإشارةِ يَفهمُ، الآن الوحي في القرآن الكريم جاء للنحل قال:

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
[ سورة النحل: 68]

الوحي في القرآن الكريم
﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ هذه غريزة، جعل في داخلها أن تبني بيوتاً، ما الذي اضطر النحل أن يصنع لك العسل؟ ﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾، هذه أنواع الوحي في القرآن، أي كيف جاء الوحي في القرآن، وهناك وحي الأنبياء، الوحي إلى رسول الله:

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ
[ سورة الشعراء: 193-194]

هذا وحي واضح، ليس مناماً:

{ يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ }

[رواه البخاري]

الصحابة كانوا يشعرون بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يأتيه الوحي، فاشتد الثقل على فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: حتى خشيت على نفسي، مرةً رأوا جبريل، قالَ:

{ هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ }

[رواه البخاري]

الوحي الديني الشرعي وحي السماء، لا يوجد عليه خلاف، واضح مثل الشمس، هو ليس مناماً، الآن الوحي الثالث: وحي الإلهام:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ
[ سورة القصص: 7]

أم موسى ليست نبيةً، لا يوحى إليها، ما جاءتها رسالة، لكن أوحي إليها، معنى هذا أنها أُلهمت، المؤمن بِهذا المعنى يُلهم، لكن نحن لا نقول: أوحي إلينا من أجل ألا يتخيل الشخص أننا ندّعي النبوة، ألهمني الله، ألا نقولها كثيراً؟! أقول: ألهمني الله عز وجل فذهبت إلى المكان الفلاني، ولو لم أذهب لحدثت مشكلة، ألهمني الله أني كنت في هذا المكان، ويسر لي مساعدة إنسان، هذا إلهام، هذا نوع من أنواع الوحي، وحي الإلهام.

القصص في القرآن هدفها الهداية :
هنا قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ﴾ لم يسمِّها، ما هو اسم أم موسى؟ ليس لنا عمل بالاسم، لا يعنينا الاسم بالقصة، ليس إغفالاً لذكرها لأنها امرأة، لا أبداً، مريم ذكرها الله، لأن عيسى إذا أردنا أن نقول عيسى ابن أمه، وهم يقولون إنه ابن الله، تختلط الأمور بدون اسم، لذلك قال ربنا عز وجل: عيسى بن مريم، لأنه ليس لديه أب، فنسبهُ إلى أمهِ باسمها الصريح لأنهُ عندما يكون هنالك ضرورة تُذكر، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ على رسلكما هذه زوجتي صفية، قالوا: وهل نشكُ بك يا رسول الله؟ قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقذف في قلوبكما سوءاً }

[متفق عليه، واللفظ للبخاري]

هدف قصص القرآن ليس المتعة بل الهداية
أُريد أن أوضح، البيان يطرد الشيطان، لكن هنا الذي يعنينا من أم موسى أنها أم موسى فقط، لأننا نحن نتكلم على موسى كيف نشأ، فهي ارتباطها بالقصة أنها أمه فقط ، كيف كانت حياتها؟ ما هي تفصيلاتها؟ ليس لها علاقة بالقصة ، إذا دخلنا فيها دخلنا في متاهات أبعدتنا عن جو القصة، لأن القصة الأدبية ممكن أن يكون هدفها الإمتاع فقط، أي ممكن أن تقرأ رواية لفلان من الناس، وهناك روايات جميلة جداً، مئتان أو ثلاثمئة صفحة تقرؤها وتأخذ معك أحياناً ساعتين أو ثلاث، وأنت تقرأ مستمتعاً، يأتي ويصف لك في أربع صفحات أو خمس موضوعاً ليس له علاقة بالقصة أبداً، يصل إلى موضع، ويبدأ يصف لك المكان، ويصف لك ماذا كانت تلبس، وماذا فعلت، وكيف وقفت، وكيف جلست، فَتستمتع أنت بالأدب، القرآن قصصه ليس الهدف الرئيس منها هو الإمتاع، هي ممتعة، لكن ليس الهدف الرئيس الإمتاع، الهدف هو الهداية، فلن أصرفك عن موضوع الهداية لأشياء لا تمت للقصة بصلة، حتى لا تضيع الفائدة.

في الآية التالية أمران ونهيان وبِشارتان :
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ وحي إلهام، هذه الآية كما قال العلماء فيها أمران ونهيان وبِشارتان.
الأمران: أَرْضِعِيهِ - أَلْقِيهِ، النهيان: وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي، البشارتان: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ، وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
أمران، ونهيان، وبشرتان، نبدأ بالأوامر: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الأمر الأول هو الإرضاع، وفي القرآن الكريم كثيراً ما تأتي قضية الرضاعة، وهي موجودة في القرآن الكريم:

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
[ سورة البقرة: 233]

اليم نهر كبير متلاطم الأمواج
﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ﴾ وجاءت بصيغة الخبر، ما قال: أرضعن أولادكن، كأن من شأن الأمهات أن يرضعن أولادهن فلا داعي للأمر أصلاً، الأصل هو الإرضاع الطبيعي، والإرضاع الطبيعي اليوم ثابت علمياً بما لا يدع مجالاً للشك أنه الأساس في إرضاع الصبية أو البنات، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ أنتِ ابدئي بما عليك وهو إرضاعهُ، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ الآن كل واحد يتخيل فإذا خفتِ عليه خبئيه، فإذا خفتِ عليه أغلقي الأبواب، فإذا خفت عليه ضعي حرساً على الباب يُقاتلون من يأتي ليأخذه، فإذا خفتِ عليه أخبري القوابل ألا يخبرن فرعون بأن مولوداً قد ولد من الذكور وهو يقتل الذكور، أي جدي حلاً، فجاء الأمر الإلهي ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ هي إذا خافت عليه من فرعون نسبة النجاة من فرعون موجودة، قد يأخذه وقد لا يأخذه، قد يقتله أو قد لا يقتله، مع أنها قائمة، يجوز بنسبة ثمانين بالمئة أن يُقتل، لكن ألقيه في اليم، كأني أرسلته بيدي، بمعنى إذا جاء فرعون وجنوده وأخذه من عندي، فأنا عملت ما يتوجب علي، أما ألقيه في اليم فأنا بيدي أرسلته إلى التهلكة، هكذا ممكن أن تفكر أي أم أخرى، صحيح؟! لكن ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ الله أكبر، تخاف على ابنها فتلقيه في اليم، هذه العناية الإلهية، هذا محور القصة، ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ اليم: نهر لكن كبير، متلاطم الأمواج، ربما نهر النيل في مصر، ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾ هذان أمران، ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ﴾.
النهي المتعلق بالمشاعر يعتمد على الآمر
الآن: ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ هذان نهيان، هنا الذي يخطر في البال أنه أنت عندما يقول لك إنسان: لا تخف، هل الخوف شعور أم فعل؟ شعور، الخوف هو شعور، أما الحزن فهو شعور قد يعبر عنه بمظاهر، تنظر إلى وجهه أصفر، هذا خائف مثلاً، أو أحياناً يكون غير خائف فيكون معه مرض في الكبد مثلاً، نسأل الله العافية، ليس بالضرورة التلازم، لكن الخوف ناحية شعورية، أنا إذا قلت لك: لا تخف، تقول لي: الموضوع ليس بيدي، أمامي ثعبان ويهجم علي وأنت تقول لي: لا تخف، كيف لا أخاف؟ لكن إذا قلت لك: لا تخف، وأنت تعرف من يقول لك، أي أنا أستطيع أن أحل لك مشكلتك فتطمئن ولا تخاف، من أجل ماذا؟ من أجل النهي نفسه أم من أجل من نهى؟ لنفترض أنك طفل صغير اقتربت من مكان وخائف وأتى والدك، ووالدك أنت تثق به كثيراً، يقول لك: لا تخف، فأنت لن تخاف لأن أباك قال لك ذلك، أما إذا أتى أخوك الصغير وقال لك: لا تخف، فتقول له: اتركني، أنت لا تستطيع فعل شيء، فالأمر المتعلق أو النهي المتعلق بالمشاعر والعواطف يعتمد على الآمر وليس على الأمر نفسه، لأن ربنا يقول لها: ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ من أجل هذا لا يوجد خوف ولا حزن، الخوف من المستقبل والحزن على الماضي غطى لها الزمان كله، لا تحزني على ما فات، ولا تخافي مما هو آت، ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ لا يدخل قلبك لا خوف ولا حزن، الآن جاءت البشارة لتؤكد لها عدم الخوف والحزن، الآن سيأتي بعد قليل معنا ربما في اللقاء القادم:

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[ سورة القصص: 10]

﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا﴾ فربنا عز وجل ربط على قلبها، وإلا هي ﴿ كَادَتْ لَتُبْدِي﴾، أي كانت سوف تحكي القصة لم تعد تستطع، امرأة، الرجل في مثل هذه المواقف يخاف فكيف بطبيعة المرأة العاطفية المتعلقة بابنها؟ فقال: ﴿ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ﴾ البشارتان: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾، سيعود لكِ أنتِ ألقيه في اليم، بطريق العودة لعندك سيصل إليك، ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، رَادُّوهُ أولاً، وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثانياً، لكن هل البشارة غداً ستحدث؟ لا، رَادُّوهُ إِلَيْكِ: ممكن بعد عدة أيام، وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، بعد ثلاثين سنة أو أربعين سنة كما في بعض الروايات:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
[ سورة القصص: 14]

فبشارة الله محققة لا تستعجلها، بشارة الله آتية:

أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
[ سورة النحل: 1]

لا تستعجل، ما دام الذي يبشرك هو الله فاصبر:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ
[ سورة الروم: 60]

الذين ليس لديهم يقين يستخفون بك، أي يجعلونك خفيفاً، يستَخفونك، الذي ليس لديه يقين بالوعد، وليس لديه يقين بالبشارة يستخفك.

إرادة الله نافذة بكل أمر :
الآن قال:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ
[ سورة القصص: 8]

آل أي أهل فرعون، أو من يحيط بفرعون، التقطوه، لماذا أتى بتعبير التقطوه؟ لأنه من اليم، من النهر، يروى أن غصناً سخره الله فعلق عند قصر فرعون، فشاهدوا طفلاً في تابوت، فتحوا التابوت فوجدوا طفلاً غلاماً، فالتقطه آل فرعون.
إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لُبٍّ لُبَّهُ
الآن: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾، هل التقطوه لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا بمعنى لام التعليل؟ لا، ما من أحد يلتقط شيئاً ليكون له عدواً وحزناً، لو كان يعلم أنه سيقضي على ملكه لما التقطه، كان ذبحه مثل الآخرين، أو تركه بأقل تقدير، لكن هذه لام العاقبة أو لام المآل كما يقول النحويون، وإن كانت في عملها هي لام التعليل، أي تنصب الفعل المضارع بعدها بأن مضمرة، أو باللام نفسها على خلاف بين المدرستين البصرية والكوفية، لكن فالتقطه آل فرعون ليكون لهم، هم التقطوه لا ليكون لهم عدواً وحزناً، لكنه كان لهم عدواً وحزناً، وهذه منتهى السخرية من عملهم، أي أنت الذي تقتل كل غلام ذكر حتى لا يقضي على ملكك، أنت ستربيه في قصرك، كان من الممكن أن يربيه ربنا عز وجل في مكان آخر، أو يرسل اليم إلى مكان آخر، يجلس عند جماعة، والله يخفيه عن الأعين، لا، بقصرك ستربيه، إذا أراد الله إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لُبٍّ لُبَّهُ، مع الله لا يوجد عقل، لا يوجد قلب، مع الله يوجد إرادة سوف تَنْفُذْ، مشيئة الله نافذة.