الرغبة من العبد والتثبيت من الله

  • الدرس الثالث - الآيات 10-1
  • 2019-02-01

الرغبة من العبد والتثبيت من الله

الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


رعاية الله عز وجل لسيدنا موسى عليه السلام :
اليوم اللقاء الثالث من لقاءات سورة القصص، اللقاء الثاني لخّصنا فيه بداية القصة، قصة موسى، طبعاً نحن نتحدث عن سورة القصص التي محورها العام هو: بيان رعاية الله عز وجل لأوليائه وأنبيائه وأصفيائه والصالحين من بعدهم إلى يوم القيامة، فمحور السورة يبين هذا الأمر، وهو أن الله تعالى يحمي أولياءه، يدافع عنهم، يتولاهم بالحفظ والرعاية والتأييد، وسنة الله في ذلك، سورة القصص كما أسلفنا بدأت بالفرش التاريخي، بمسرح القصص، القصص التي ستدور في القصة:

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
[ سورة القصص: 4-5]

رغبة فرعون في مقابل إرادة الله، وكيف أن إرادة الله هي المنتصرة في المبدأ والختام، ثم بدأت قصة موسى عليه السلام:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
[ سورة القصص: 7-9]

وبيّنّا أن هذا الوحي هو وحي إلهام ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾، وبدأت القصة من الزاوية التي تناسب محور القصة، أي قصة موسى هنا ستتحدث عن مرحلة من مراحل حياة موسى عليه السلام، تبين أن الله تعالى يرعى أولياءه، ويحفظهم، ويؤيدهم، و ينصرهم، فبدأت من مرحلة الولادة لأنه أكثر ما تجلّت إرادة الله في رعاية موسى عليه السلام في مرحلة الولادة، لأنها كانت أخطر مرحلة، في هذه المرحلة كانت نسبة احتمال الموت إذا ما قلنا مئة بالمئة فهي تسعة وتسعون بالمئة، لأن فرعون وطغيانه وجنوده أي مولود ذكر يُقتل، هذا قانون فرعون، ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، ألقته في اليم ﴿ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾، الآية كان فيها بشارتان ونهيان وأمران، الأمر: أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه، هذان أمران، النهيان: ﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي﴾ البشارتان هما اللتان ستتبينان في تتمة القصة: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ سيعود إليك بعد أن يُلقى في اليم ﴿ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وهي البشارة الثانية التي ستأتي عندما يستوي موسى عليه السلام ويبلغ أشده ﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ كما أسلفنا وهذه لام المآل، كان لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا في المستقبل وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ ﴾ ألقى الله محبة هذا الغلام في قلب امرأة فرعون فأرادت أن تتخذه ولداً.

الوثوق بوعد الله و اليقين بما عنده :
﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا﴾، هنا نبدأ هذا اللقاء:

وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[ سورة القصص: 10]

املأ فؤادك باليقين بوعد الله
ربنا عز وجل عندما يتحدث عن أم موسى لا يذكر اسمها لأن اسمها لا يعنينا، وإنما الذي يعنينا أنها أم موسى، فذكر ما يعنينا حتى لا يشغلنا عن أهداف السورة الكبرى ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا﴾ الفؤاد هو القلب، ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا﴾ ما معنى فارغاً؟ أي فارغاً من الأمن، فارغاً من الطمأنينة، فارغاً من الراحة، فارغاً من الأمن على الولد، أصبح فارغاً ليس فيه أمنٌ ولا سكينةٌ ولا طمأنينةٌ، أصبح فؤادها فارغاً، الآن أنت قلبك ينبغي أن يكون ممتلئاً، لا تجعل فؤادك فارغاً، أنت أيها المؤمن لا تجعل فؤادك فارغاً، املأه دائماً بحب الله، املأه باليقين بوعد الله، كأن الآية تشير إشارة ضمنية إلى أن الفؤاد الأصل به ألا يكون فارغاً، طبعاً هو فارغ من المعاصي والآثام والشهوات، لكن هنا جاءت فارغاً من غير قيد لتشير إلى أن الأصل هو الامتلاء بالخير، فإذا فرغ من الخير وامتلأ بغير الخير شيء لا معنى له أبداً، فؤادك إما أنه ممتلئ أو فارغ، إذا كان فيه خير، وحب لله، وطاعة لله، ورغبة بما عند الله، ويقين بما عند الله فهو ممتلئ، فإذا أُفرغ من هؤلاء أصبح فارغاً لا قيمة له، فقال هنا: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا﴾.
جعل الله عز وجل في الأرض أسباباً
﴿إِن كَادَتْ﴾ كاد: فعل من أفعال المقاربة، أي كادت السماء تمطر لكن ما أمطرت لكن اقتربت من الأمطار، كادت السماء تمطر، هنا ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ الهاء تعود على موسى عليه السلام، أي إن كادت لتُظهره من شدة القلق الذي أصبح في قلبها وشدة فراغ قلبها من أي شيء إلا من غلامها، ومحبة هذا الغلام، فأصبح فؤادها فارغاً، فكادت: قاربت، أي لم يبق سوى أن تصرخ يا ويلاه أين ابني؟ ماذا فعلت في نفسي؟ ألقيته في اليم! هل هناك أم تلقي بابنها في اليم! إلا أن تكون موقنة بوعد الله عز وجل، فهي مع كل هذا اليقين لكن بمرحلة معينة ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ سوف تتكلم أحضروا لي ابني، ماذا فعلت بنفسي يا ويلاه؟! ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا﴾ لَوْلَا: حرف امتناع لوجود، لولا الله لساءت حالة المريض، النحويون يقولون: لولا الطبيب لساءت حالة المريض، الصحيح لولا الله لساءت حالة المريض، أي لولا أن الله أراد به شفاءً لساءت حالته أكثر، فوجود إرادة الله في شفائه منعت سوء حالته، فلولا حرف امتناعٍ لوجود، وجود شيء منع الآخر، إذاً هي ما أبدت به ﴿ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِها﴾، فلأن الله ربط على قلبها، ثبّتها فامتنعت من أن تبدي به فتفسد الخطة، طبعاً لا أحد يفسد خطة الإله، أي الخيارات غير محدودة، لكن الله عز وجل جعل في الأرض أسباباً، بمعنى هي مطلوب منها ألا تتكلم حتى تمضي الأمور كما هي الأسباب والمسببات، فلولا إذاً هي حرف امتناع لوجود، وجود الربط على قلبها منع إبداءه، منع أن تبدي بموسى عليه السلام، أي إذا فهمنا الحروف في اللغة العربية فهماً صحيحاً تُحل مشكلات كثيرة في التفسير.

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
[ سورة يوسف: 24 ]

الربط على القلب هو التثبيت
همت امرأة العزيز به تريد أن تراوده عن نفسه وأن يقع معها في الفاحشة، ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ قال بعض المفسرين: وهمّ بدفعها، لكن الأولى من ذلك أن نتابع الآية: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّه﴾، فلأنه رأى برهان ربه ما همّ بها، أي صار الوقف، ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، أي كاد يفعل لولا أن رأى برهان ربه، لكنه لم يفعل لأنه رأى برهان ربه، وبرهان ربه هو عبارة عن محصلة معرفة عظيمة بالله عز وجل حتى وصل إلى أن يمتنع في هذه اللحظة عن مقاربة المعصية رغم وجود كل الأسباب التي تدعوه إليها، ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، فحرف لولا، وحروف المعاني مهمة جداً في اللغة العربية، ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا﴾ الربط على القلب هو التثبيت، الربط هو التثبيت، إذا كان عندك شيئان منفصلان وأردت أن تربطهم مع بعضهم ماذا يحدث؟ يثبتون مع بعض، فأصل الربط: ربطَ، ثبّت شيئاً بشيء بإحكام، فربط الله على قلبها بمعنى أنه ثبتها على إيمانها وعلى يقينها بموعود الله، ألم يقل لها ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ إذا هو راجع بلا ريب، فلما أحسّت بالقلق والخوف الشديد الذي جعل يدفعها للحظة معينة أن تبدي بموسى ما الذي منعها من ذلك؟ أن الله عز وجل زادها يقيناً بوعده جلّ جلاله فربط على قلبها، كأن الآية تشير إلى قانون، قانون إلهي وهو: أنت عليك أن تثق بموعود الله عز وجل وتمضي وأنت واثقٌ به.

التثبيت من الله و السعي من العبد :
الآن إن فعلت ذلك وبدت منك رغبةٌ في هذا اليقين وذاك الثبات فالله عز وجل يربط على قلبك فيزيدك، الرغبة منك والتثبيت من الله:

وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا
[ سورة الإسراء : 74 ]

﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول الخلق رتبةً عند الله، ماذا قال الله تعالى له؟ ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ إذاً التثبيت من الله ﴿لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ﴾ لكن الرغبة في الثبات والسعي للثبات من العبد، والله يربط على قلبك، فأنت إذا وجدت نفسك في لحظة معينة لحظة ضعف طارئ في هذه الحياة كدت تقع في المعصية، أو في الشهوة، أو في الشبهة، فأنت اسع إلى الثبات، واعلم يقيناً بأن الله سوف يثبتك، الله يثبت الذين آمنوا:

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
[ سورة إبراهيم: 27 ]

﴿لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هي مؤمنة، أي هي ما كانت غير مؤمنة، لكن لتكون من المؤمنين أي تثبت على إيمانها، وتزداد إيماناً مع إيمانها، لأنها هي في البداية إن لم تكن مؤمنة هل كانت ألقته في اليم؟ هل يوجد امرأة تلقي ابنها في اليم؟ ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمّ﴾، هل هناك امرأة تقول لها: إذا خفت على ابنك ألقيه في البحر فتلقيه إذا لم يكن عندها إيمان شديد بالله؟ أبداً، فلتكون من المؤمنين بوعد الله، وأشد ثباتاً على يقينها بوعد الله، بهذا المعنى، إذاً أم موسى فؤادها أصبح فارغاً، القلق يعصف به من كل جانب، الفراغ دائماً يوحي بالخوف مثل الآية:

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ
[ سورة إبراهيم: 43 ]

الفراغ و الخوف متلازمان
تخيل ليلة باردة، وفيها عواصف، والغرفة باردة، وفارغة، والنافذة مفتوحة، والهواء يعصف بها، هذا يدعو إلى الخوف بشكل طبيعي، الفراغ مع الخوف متلازمان، ﴿وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾، فارغة من كل شيء، فالخوف يعصف بها، أما المؤمن فقلبه ثابت، ثابت بالله، باليقين بوعد الله.
إذاً أم موسى بهذا الوضع وصل بها الخوف والقلق على ابنها أنها كادت تبدي به، لكن الله عز وجل كافأها على يقينها بوعده بثباتٍ آخر، ثبتها أكثر، وجعلها تؤمن بوعد الله أكثر، فامتنعت عن أن تنادي أو تستصرخ أو تستغيث تريد ابنها الذي جعلته في اليم.

تتبع أخت موسى أثر أخيها و الاطمئنان عليه :
الآن:

وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
[ سورة القصص:11 ]

﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ وقالت أم موسى لأخت موسى: قُصِّيهِ، أي تتبعي أثره، ومنه سورة القصص، لماذا سميت القصة قصة؟ لأننا نتتبع فيها أخبار الأشخاص ثم ينبغي بعد ذلك أن نتتبع فيها العبر:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
[ سورة يوسف: 111]

كل قصة نافعة فيها عبرة
القصة الأدبية مجردة عن العبر ربما، يتتبع الإنسان فيها الأخبار، ماذا حدث مع فلان، هل تزوجها أم لم يتزوجها، هل رزق بمولود أم لم يرزق، شأن القصة أنها تُتَتبعُ أخبارها، الخبر العادي لا يتتبع، أما القصة فأنت دائماً تسعى لتصل إلى نهايتها، فلذلك سميت قصةً، لكن شأن القصة القرآنية، والقصص النبوي، والقصص النافعة أن تتبع بعد أخبارها العبرة منها، فتتقصى آثار هذه القصة في نفسك، ما الذي تركته القصة في نفسي بعد أن قرأتها؟ أنت الآن قرأت قصة موسى عليه السلام في ولادته، هل ازددت يقيناً بموعود الله عز وجل؟ هل أيقنت أن الله يرعى أولياءه وأصفياءه وأحبابه؟ هل أيقنت أن إرادة الله فوق كل إرادة؟ هل أيقنت أن الله تعالى غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يشعرون؟ هل أيقنت أنه كما أهلك فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى سيهلك الطغاة والجبابرة في هذا الزمن الذين يقولون بلسان حالهم أنا ربكم الأعلى؟ هذا تتبع الأثر، ومنه القِصاص، القصاص هو تتبع للأثر حتى نأخذ للمظلوم حقه من الظالم، أو للمقتول حقه من القاتل، فنجازيه على قتله بالقتل فهو قصاص (تَتَبُّعْ)، فسمي قصاصاً.
﴿وقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾، أي تتبعي آثاره، هو في اليم، أين وصل التابوت؟ غرق؟ التقطه أحد؟ أي باب التقطه؟ ماذا صنعوا به؟ ﴿قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ﴾ عن جنب إشارة للبعد مع عدم المواجهة، أي هي تحاول أن تراه دون أن يراها أحد، اليوم في التصوير يصورون أحياناً عن جنب، أي المتكلم يتكلم بهذه الجهة، والتصوير يأتي من الجهة الثانية، حتى لا يكون هناك مباشرة، أو يضعون كاميرات ويتنقلون بينهم حتى يبقى يتابع، هذه الكاميرا عن جنب، تكون الكاميرا هكذا وأنت هكذا تكون، فهي عن جنب، فهي ﴿بَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ﴾ أي هي لم تفعل مواجهة للإبصار به، لم تدخل القصر وقالت: أين هو؟ القصر هنا وهي تمضي بعيداً عنه وتنظر ما الذي حصل، انظر إلى التعبير والتصوير القرآني: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون﴾ أي لا يشعرون بها أو إن شعروا بها لا يعلمون أنها أخته، لو أن أحداً رآها تنظر فهي واحدة تتابع الحدث، تنظر ماذا يحدث حول القصر، ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

على الإنسان أن يأخذ بالأسباب و يترك تدبير العواقب لرب الأسباب :
أنت عليك بالأسباب
الآن التدابير الإلهية متتالية، التدبير الأول: ألقيه في اليم، ولكن هذا لا يكفي، لا تُدَبِّر لك أمراً، أي لا تأخذ بالأسباب، لا، انتبهوا، هناك أشخاص يفكرون أنك أنت لا تدبر، لك مدبر الله جل جلاله، وأنت لا تشتغل شيئاً، الله يدبر الأمور، لا، معاذ الله، لا تدبر أي أنت اسع في الأسباب، واترك تدبير العواقب لرب الأسباب، أنت عليك بالأسباب، ودع التدبير لرب الأسباب، فأنت أحياناً عندما تقول: أُريد أن أصل إلى ذلك ربما لا تصل، ولكن أنت عليك أن تتخذ بالأسباب، فلا تدبر أي لا تنظر في العواقب، لأن الدُّبُرْ هو العاقبة ﴿وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾.

وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا
[ سورة الإسراء : 46 ]

وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
[ سورة الأنفال: 16]

الدُّبُرْ هو العاقبة، فأنت لا تنظر في التدبير، الأمر في عاقبته، أنت اتخذ أسبابك في الدنيا، ودع تدبيرك لرب العباد، لا تدبر لك أمراً، هو المدبر جل جلاله (يدبر الأمر) كما جاء في القرآن الكريم.
القرآن يعلمك أن الحياة تمشي وفق خطة
الفكرة التي أريد أن أقولها: أنت عندما تمضي في شيء دع التدبير لرب الأسباب جل جلاله، فقال: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ﴾ انظر تدبير الإله، أول شيء: ألقيه في اليم، ألقته في اليم، هذا التابوت كان من الممكن أن يغرق، تأتيه موجة عاتية كبيرة فيغرق مثلاً، أو يرتطم بشيء، أو يموت الغلام لسبب أو لآخر، كان من الممكن أن يقف عند باب منزل، أهله خائفون من فرعون أكثر من خوف الجميع فيسلمونه لجنود فرعون من غير علم زوجة فرعون فيُقتل، وكان من الممكن أن يمضي إلى مكان لا يعلمه إلا الله، ولا أحد يعلم أين ذهب، أي كل الاحتمالات كانت قائمة، دبّر الله الأمر فوصل موسى إلى قصر فرعون، الآن إذا ربوه فإن أمه حرمت منه، أي إذا هم أخذوه وأرضعوه وتربى في قصرهم، ولكن هنا قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ كيف تتم البشارة؟ ألم يكن بإمكان ربنا عز وجل أن يحقق البشارة من غير أن يعطيك الأسباب التي حصلت؟ أي بمعنى هم أخذوه وذهبوا وسلموها طفلها، فرُدّ إليها، أي معجزة من غير سبب، ممكن، لكن ربنا عز وجل دائماً في القرآن الكريم يعلمك أن الحياة تمشي وفق خطة: واحد، اثنان، ثلاثة، فهو يجعل أسباباً لما يريده، فلماذا أنت تريد شيئاً بلا سبب؟! هو يقدر جل جلاله على أن يحقق إرادته المطلقة بلا أسباب، لكنه رغم ذلك يجعل لها سبباً ليعلمك أنك أيها المخلوق الضعيف، لماذا تريد أن تحقق أشياءك في الحياة بلا أسباب إذا كان ربك يجعل للأشياء أسباباً؟؟

إرادة الله نافذة في كل شيء :
فكيف الأسباب الآن؟

وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ
[ سورة القصص: 12]

المَرَاضِع: جمع مُرضعة أو مُرضع، المرضعة أنثى فيجوز فيها مُرضع ومُرضعة ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ﴾ أي إرادة الله نافذة، فلما وضعوه لتُرضعه مثلاً زوجة فرعون فلم يقبل ثديها، جاؤوا بالثانية، بالثالثة في القصر من ترضع لكي ترضعه، لا أحد يستطيع، لا يقبل ثدياً، ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ﴾ من قالت؟ أخته، هي تتابع الحدث من بُعد، فلمّا صار دورها تدخّلت ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ الكفالة هي الرعاية والعناية، أي هم يأخذونه، يكفلونه، ﴿يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ نصحَ تتعدى باللام، فأقول: نصح له وشكر له، ولا أقول نصحه أو شكره وإن كانت صحيحة لكن الأفصح له، والقرآن:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
[ سورة البقرة: 172]

النصح أن أُعطيك من خبرتي شيئاً
النصح أن أنصح لك، بمعنى أن أُعطيك من خبرتي شيئاً، أن أُعاونك في شيء، فأنا أنصح لك، هنا ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ قال المفسرون: هنا النصح بمعنى الحفظ، أي ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ النصيحة هنا معناها الحفظ، أي وهم يحفظونه لكم، وتحمل المعاني الثانية: أي هذا الغلام سيربى في بيتٍ؛ أهله ينصحون لهذا الغلام أي لا يأتون بشيءٍ فيه مضرةٌ له، وهذا معنى الحفظ والتأييد ﴿وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾.

من نما عقله آمن بعقله وليس بعينه :
الآن تحقق الوعد:

فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
[ سورة القصص: 13]

العلم الشهودي أن ترى بعينك
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ﴾ جاءت بالفاء أي إذا أخذناها بالعطف فَرَدَدْنَاهُ سريعة بالتعقيب، أخذناها بالاستئناف ﴿فَرَدَدْنَاهُ﴾، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ﴾ ألم يقل: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ تحقق الوعد الأول، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ قرار العين هو هدوءها وسكونها بعد أن تحقق ما تريد ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ على فراق ابنها ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾، ﴿ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ العلم نوعان: هناك علم قد يصل إلى اليقين لكنه ليس شهودياً، وهناك علم شُهودي، العلم الشهودي أن ترى بعينك، الآن أم موسى عندما قال الله لها: ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ هل علمت أم لم تعلم؟ علمت، ولو لم تعلم لما ألقته، لأنها لو احتفظت به يمكن أن تتنعم به يومين أو ثلاثة إلى أن يكتشفوا وجوده، وممكن أن يغيروا رأيهم، وممكن أن يحصل شيء غير متوقع، أما إذا ألقته في اليم فأصبحت نسبة النجاة فأصبح فعلها هذا يتناقض مع العقل ومع المنطق، لولا أنه وحي من الله، فهذه كانت عالمة بحق لو لم تعلم أن الله سيرده لما ألقته، فلماذا قال الله: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ لأنها انتقلت من العلم اليقيني أو العلم الذي سيحصل إلى العلم الذي تشهده بعينها، أصبح بين يديها، فعلمت أن وعد الله حق شهوداً، ذاك العلم الأول ربما يصل إلى اليقين لكنه ليس علماً شهودياً، أي أنت تقف خلف جدار، وهناك دخان يصعد من خلف الجدار، ورائحة احتراق، تقول يقيناً مئة بالمئة هناك نار، التفت وأصبحت خلف الجدار ورأيت النار ورأيت الحريق بعينك، الآن علمت أن الاحتراق حق، وقبل عندما كنت خلف الجدار ما علمت، إذا كنت عاقلاً يجب أن تعرف وأنت خلف الجدار أيضاً، لأن الأثر يدل على المؤثر، والبَعْرَة تدل على البعير، فالعاقل يعلم قبل أن يعلم، متى يعلم الإنسان يقيناً أن الموت حق؟ وهو يغرغر، فقال فرعون: آمنتُ بالذي آمنت به بنو إسرائيل:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
[ سورة يونس: 90 ]

لأنه أصبح بالعلم الشهودي، أما العاقل من اليوم فيعلم أنه سيموت يقيناً، فإذا قلنا إنه عَلِم أن الموت حق لحظة الموت، فهذا يعني أنه انتقل من العلم الأول إلى العلم الثاني وهو شهود الحادثة بعينه، لكن لا تعني أنه لم يكن يعلم إذا كان عاقلاً، فهي كانت تعلم لكن الآن تحقق علمها اليقيني، نظير ذلك قصة إبراهيم عليه السلام، بعض الناس يستغربون أنه كيف قال:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[ سورة البقرة: 260 ]

كلما نما عقل الإنسان يؤمن بعقله وليس بعينه
هو كان يريد الانتقال إلى العلم الشهودي، إبراهيم عليه السلام كان يريد أن ينتقل من العلم اليقيني بوجود الله عز وجل إلى شيء يراه بعينه، ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ﴾ إلى آخر الآية، فأنت لا تطلب العلم الشهودي، كلما نما عقل الإنسان يؤمن بعقله وليس بعينه، يؤمن بعقله وليس بعينه، آمن بعقلك، الإيمان بالعين دعه، إن آتى فهو شهود ويزيد يقينك، لكن إيمانك بالعقل، فهنا قال: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ وعد الله حق وهي تعلم ذلك سابقاً، وأكبر دليل على أنها تعلم أنها ألقته في اليم، لكن لما رأت ابنها بين يديها علمت الآن أن وعد الله حق شهوداً، بعد أن علمته يقيناً دون شهود، ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ وهذا موطن مهم جداً في القصة، وفي السورة، أن تعلم أن وعد الله حق، لأن الله يحمي أولياءه وأصفياءه كما قلنا، ﴿وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أولاً: ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ الكثرة في القرآن مذمومة:

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ
[ سورة يوسف: 106 ]

وكثيراً ما يتكرر في القرآن: ﴿وَلكن أَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ﴾ ﴿لاَ يَعلَمُونَ﴾:

وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
[ سورة الأنعام: 116]

فلا تغتر بالأكثرية، لا تقل: نحن كثرة:

وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
[ سورة الزخرف: 39]


الكثرة في القرآن مذمومة :
الحق هو ما وافق الشرع ولو كان واحداً
قلت لكم مرةً إذا دخل المعلم الصف وقال: من لم يكتب الواجب؟ وهناك شخص مقصر، أو قال: ضعوا الواجبات أمامكم لنتابعها، ويوجد في الصف طالب مقصر لم يكتب واجبه، فوراً يضع رأسه خلف ظهر زميله ويعلو صوته قليلاً: لم نكتبها أستاذ، لا يقول: لم أكتبها، يقول: لم نكتبها، لأنه بعقله الباطن يتوهم أن المدرس إذا وجد الكثرة الكثيرة لم يكتبوها فلا يعاقب، وهذا يحدث أحياناً مع الأسف، إذا فعلها المدرس مرةً يصبح الجميع لا يكتبون الوظيفة، أما المدرس العاقل إذا كان هناك تسعة وعشرون طالباً لم يكتبوها وكتبها طالب واحد، إما أن يكافئ الواحد أو يعاقب التسعة والعشرين، لأنه إذا لم يكن هناك حساب استوى المحسن والمسيء، والله لا يريد أن يستوي المحسن والمسيء، يجب أن تكافئه وتعززه وتقول لهم: صديقكم كتب الوظيفة وتعطيه علامة زائدة، وتقول للطلاب: صفقوا له حسب عمر الطلاب، أو تعاقب التسعة والعشرين تقول لهم: كلكم بناءً على ترك هذا الواجب سأعطيكم كذا وكذا، تعطيهم واجباً آخر مثلاً، إذاً الكثرة لا تنفع أمام الله عز وجل فقال: ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ لا تظنوا أنكم كثرة فهذا سوف ينفعكم، فالكثرة في القرآن الكريم مذمومة، فإذا كنت في الطريق وحدك فلا تغتر بكثرة الهالكين، والحق هو ما وافق الشرع ولو كان واحداً، والباطل هو ما عارض الشرع ولو كان مليوناً، والكثرة هي الحق، والقلة هي الباطل، ولو كثر أهل الباطل، أي مقياس الكثرة والقلة، من الكثير؟ الكثير بإيمانه وبموافقته للحق، وذاك ولو كثر قليل لأنه:

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
[ سورة الرعد: 17]

فهنا ﴿ولكن أكثرهم﴾ أكثر الناس ﴿لا يعلمون﴾ لا يعلمون أن وعد الله حق، اليوم في الأرض إذا كان فيها ألف إنسان، كم واحد منهم يعلمون أن وعد الله حق؟! أنا أريد أن أضع نسبة، مع أن النسب مهما قلت لن تكون دقيقةً، لكني أفترض افتراضاً حتى يذهب ذهنك لشيء، حسب مشاهداتنا اليومية كثرةٌ من الناس لا يعلمون أن وعد الله حق، لا يعلمون يقيناً، أي ممكن باللسان يقول لك: وعد الله حق لكن هو في وعيه الباطن أو في شعوره اللاواعي في الداخل هو ينظر إلى أن وعد فلان من الأقوياء هو الحق، وأن وعد الدولة القوية تلك هو الحق، وأن هذه الدولة إذا قالت فعلت، وأن تلك الدولة إذا أرادت التدمير دمرت، وكأن لها إرادة مستقلة عن إرادة الله جل جلاله! أكثر الناس مع الأسف لا يعلمون أن وعد الله حق، يكون وعيد الطبيب أشد في نفسه أثراً من وعيد الله، فما أجهله، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله: (يا نفس لو أن طبيباً منعك من طعام تحبينه ألا تمتنعين؟ قالت: بلى، - نفسه قالت: بلى- قال: أيكون وعيد الطبيب أشد عندك من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلك) ما أجهل الإنسان عندما يعلم أن وعد الطبيب حق، ولا يعلم أن وعد الله حق، عندما يعلم أن وعد ملك من ملوك الأرض حق، ولا يعلم أن وعد الملك الذي يملك ملوك الأرض كلهم حقٌّ.

قرار العين دليل على الاستقرار والسكون وذهاب القلق والخوف :

فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا
[ سورة القصص: 13]

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
[ سورة الفرقان: 74]

الطمأنينة والسلام الداخلي
فالتعبير بقرار العين هو الدليل على استقرارها، وسكونها، وذهاب القلق والخوف، فهي أصبح فؤادها فارغاً، لكن في محصلة الأمر قرّت عينها وذهب الحزن عنها ﴿وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، ورد أنه عندما حرم الله عليه المراضع وجعلوا يبحثون عمن يرضعه فلم يجدوا، داروا به في الأسواق وقالوا: من يرضعه؟ ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ فلما جيء بموسى إليها طلبوا منها أن ترضعه، أو أن تأتي للقصر لترضعه فقالت: بل أرضعه عندي، أنا عندي زوج وأولاد، وكذا، فرده الله إليها، وعندما نقول: رباه فرعون في قصره فهذا من باب المجاز والله أعلم، هو رُبيّ في بيته لكن على عين فرعون، لأنها الآن هي سترضع له، فانظروا الآن كيف أصبحت حياتها؟ الخير جاءها من كل حدب وصوب لأنها هي كانت سترضع ابنها الطريد الذي هو في قانون فرعون للذبح، الآن أصبحت تربيه لفرعون، هو يقول لها: اعتني به، واطلبي كل ما تحتاجين.
وهذا ورد في حديث وإن كان ليس صحيحاً هو حديث ضعيف: (رحم الله أم موسى ترضع وليدها وتأخذ أجرها) حديث فيه ضعف، لكن متنه صحيح، تأخذ أجرها على إرضاع ابنها، مع أن الأم لا تأخذ أجرها على إرضاع ابنها، تأخذ أجرها على إرضاع ابن غيرها، فهي كان وليدها ولكن لا أحد يعلم، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾، كي تقر عينها ولا تحزنَ، ﴿ولتعلم﴾ هذه الثالثة ، أصبح قرار عين، لا تحزن، ولتعلم أن وعد الله حق.

ملمح مهم ولطيف في قوله تعالى ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ﴾ :
الهدف المعنوي أثمن من الهدف المادي
يوجد ملمح مهم ولطيف في الآية: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ﴾ ربما يكون الهدف المعنوي أثمن من الهدف المادي، وهو كي تعلم أن وعد الله حق، لكن ربنا عز وجل تماشياً مع حاجتها بدأ بالهدف المادي الذي كان قريباً جداً من الذي كانت تريده هي، هي خائفة فما قال: رددناه إلى أمه لتعلم أن وعد الله حق وكي تقر عينها، لا، بدأ بقرارة عينها وهدوء نفسها، أي هو ملمح، عندما تجد إنساناً جائعاً يكاد يموت من الجوع ادخل عليه وأنت معك دجاجة مشوية، خبأتها في الخارج، ودخلت إليه، وبدأت الروائح تفوح، وأنت تقول له: أريد أن أحدثك عن فوائد الصبر على الجوع، وكم يجب علينا أن نصبر على الجوع، صحيح أنت جائع الآن لكن الله عز وجل سيثيبك على صبرك، أخي أولاً أحضر الدجاجة وأطعمه، وبعد أن يشبع قل له: الحمد لله على نعم الله، الآن سأحدثك عن فوائد الصبر، لكن حقق له حاجته، فالملمح اللطيف أن الله تعالى قال: ﴿كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق﴾ فجاء بالهدف الكبير بعد الهدف الذي يبدو صغيراً لكن بالنسبة لها كان كبيراً جداً.
يخطر ببالي بالمقابل أمر آخر عن سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما دعا، قال:

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
[ سورة إبراهيم: 37]

الصلاة هي الهدف الكبير
بدأ بالهدف الكبير الصَّلَاةَ، هنا دعاء ليس تحقيق حاجات، هو تركهم وبدأ يدعو لوحده، فلما دعا ماذا قال؟ نرى الأنبياء وعظمة منهجهم، وعظمة أفقهم، كنت تتخيل أنت أن أول شيء: ربنا ارزقهم، لكن هو قال: ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ بدأ بالهدف الكبير، ثم ثنى بهدف ليس صغيراً ولكنه أصغر بقليل من الأول ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ الناحية الاجتماعية، آخر دعاء ﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ﴾ أي آخر هدف هو هدف الطعام الذي هو هدف بسيط جداً أمام أن تكون في مجتمع، لأنه إذا كان عندك طعام وتعيش وحيداً الهدف الأكبر هو الاجتماع ثم الأكبر والأكبر والأعظم هو إقامة الصلاة، ففي الدعاء بدأ بإقامة الصلاة ثم ثنى بالناحية الاجتماعية، ثم ثلّث بالناحية الفيزيولوجية بأنهم يأكلون ويشربون، ﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾، هنا ربنا عز وجل تلبيةً لحاجتها بدأ لنا ليعلمنا درساً قال: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ﴾ الآن اطمأنت وابنها أصبح بين يديها ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يعلمون أن وعد الله حق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته