أحكام الأسير في الإسلام
أحكام الأسير في الإسلام
إن المعركة بين الحق والباطل حتميةٌ لا مفرَّ منها، والمسلمون يعيشون ضمن هذا العالم، فهم محارِبون كما كانوا في عصور نهضتهم أو محارَبون كما هو الحال اليوم. |
والفرق بين الواقعين أن المسلمين يوم كانوا يحارِبون كانوا يقاتلون لإعلاء كلمة الله والحق والعدل ولنصرة المستضعفين الذين يسامون سوء العذاب وحين تكتب لهم الغلبة لم يكونوا يحيدون عن المبدأ الذي خرجوا من أجله، أما وقد أصبحوا محارَبين فقد حُرم العالم خيراً كثيراً. |
ما أريد قوله: لا يوجد عالم وردي بلا حروب إلا عند الحالمين، والتاريخ والواقع شاهدان فلا بد من وضع أحكام للحرب كما أن هناك أحكاماً للسلم. |
ووجود الأسرى من الطرفين نتيجة حتمية للمعركة، ولقد وضع الإسلام قواعده للتعامل مع الأسرى. |
خياران للتعامل مع الأسير:
إن أمام ولي الأمر خيارين في التعامل مع الأسير، وقد جاء النصُّ القرآني صريحاً بهما، قال تعالى: |
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)(سورة محمد)
وانطلاقاً من هذه الآية فإن الخيارين في التعامل مع الأسير هما: |
1- المنّ: بإطلاق سراحهم تحبيباً لهم بالإسلام. |
2- الفداء: وذلك عن طريق مبادلة الأسرى بين المسلمين وأعدائهم، أو عن طريق افتداء ذوي الأسرى أسراهم بالمال أو بغير ذلك مما يتم الاتفاق عليه. |
الحكم الشرعي للأسير:
وقد يسأل سائل: هل يقتل الأسير في الإسلام؟ |
والجواب: إن الحكم الشرعي للأسير وفق الآية كما مرَّ معنا هو المنُّ عليه وإطلاق سراحه دون مقابل، أو الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين، وأما قتل الأسير فليس مشروعاً في الأصل إلا أن يكون للقتل سببٌ غير الأسر، كأن يكون الأسير قاتلاً يستحق القصاص، أو مجرمَ حرب كما في المصطلح الحديث، أو يقرر الحاكم ذلك من باب المعاملة بالمثل. |
أما قوله تعالى: |
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)(سورة الأنفال)
فقد نزل بعد معركة بدر وفي هذه الآية يبين المولى جل جلاله أن الفداء لا يكون إلا بعد الإثخان أي بعد أن تكون الرفعة والقوة للمسلمين ويهابهم أعداؤهم ويحسبون لهم ألف حساب، أما أن يكون هناك أسرى يفادون بالمال قبل تحقيق النصر فهذا لا يصح. |
ولسائل أن يسأل: هل يسترقّ الأسير أي يجعل رقيقاً عبداً، والجواب: يمكن أن يحصل ذلك من مبدأ المعاملة بالمثل ولكنه استثناء يقرره الحاكم وليس أصلاً، فلقد كان الاسترقاق شائعاً في تلك العصور ولا يعقل أن يأمن الأعداء على أسراهم من الاسترقاق ولا يأمن المسلمون على أسراهم، من هنا كان لولي الأمر أن يقرر استرقاق بعض الأسرى من باب المعاملة بالمثل، أما الأصل فهو مبادلة الأسرى إن كان للمسلمين أسرى عند أعدائهم. |
الإحسان للأسير:
وبغض النظر عن الخيارات السابقة فإن الإسلام يقرر معاملة الأسير بالإحسان بشقيه المادي والمعنوي ففي الإحسان المادي يقول تعالى: |
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)(سورة الإنسان)
وفي التربية النفسية يقول تعالى: |
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)(سورة الأنفال)
فالمجتمع المسلم يستثمر وجود الأسرى عنده لتلمس مكامن الخير والصلاح في نفوسهم ليبني عليها فيتحقق مفهوم الرحمة التي أرسل بها محمد صلى الله عليه وسلم للعالمين، وكأن الأسير خلال أسره يكون في مركز للتأهيل والإصلاح الإيماني. |
قصة تُجسِّد طريقة التعامل مع الأسرى في الإسلام:
وهذه قصة ثمامة بن أُثال تمثّل خير تمثيل طريقة التعامل مع الأسرى خلال مدة أسرهم. |
بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: «مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟» فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ»، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ، وَاللهِ، مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللهِ، مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ. |
والحمد لله رب العالمين. |