أمرت أن أقاتل الناس حتى..

  • الحلقة السادسة
  • 2021-04-24

أمرت أن أقاتل الناس حتى..

بينا في اللقاء السابق بأدلة شرعية وأخرى منطقية واقعية أنه لا يشرع إجبار الناس على الدخول في الدين وأن الجهاد لم يشرع إلا لرد العدوان، أو لإفساح المجال للناس باعتناق الدين إن شاؤوا بعيداً عن تأثيرات الطواغيت ..
إلا أن بعضهم يقول: وأين أنت من الحديث الشريف والذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم:

{ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ }

(صحيح ابن ماجه)

ثُمَّ قَرَأَ:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)
(سورة الغاشية)

أليس قوله صلى الله عليه وسلم: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ...) واضحاً في أن هدف القتال هو إجبار الناس على الدخول في الدين، ثم ألا يتعارض ذلك مع قوله تعالى:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(سورة البقرة)

للإجابة عن هذا التساؤل أقول:

مفاتيح مهمة في شرح الحديث:
إن مفتاح فهم هذا الحديث بشكل صحيح في ثلاث كلمات متى فهمناها وفق قواعد اللغة العربية وفي ضوء النصوص الشرعية المحكمة التي ذكرتها في اللقاء السابق، فقد فهمنا معنى الحديث بشكل صحيح، الكلمات هي (أُقَاتِلَ، النَّاسَ، حَتَّى).

المقاتلة وليس القتل:
قال: ( أُقَاتِلَ) ولم يقل: أقتل، وهذا الفعل من أفعال المشاركة، فهو من المقاتلة وليس القتل، فالمقاتلة حاصلة من الطرفين، وهذا يدلُّ على أن الحديث ميدانه أرضَ المعركة، فالمقاتلة لا تكون إلا في أرض المعركة، أما في أرض السلم فالميدان للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يصح أن نخلط بين ميدان المعركة وميدان السلم فلكل أحكامه الخاصة.
إن الحق والباطل يتصارعان في كل عصر ومصر، وغلبة أحدهما تلغي الآخر حكماً، فالهدف من الحديث ليس إكراه الناس على الدخول في الدين، ولكيلا يتوهم متوهم ذلك فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديث قوله تعالى:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)
(سورة الغاشية)

إلا أن الكثيرين يقرؤون الحديث دون الآية، مع أن الآية ورد ذكرها في نص الحديث نفسِه دفعاً للتوهم!
إنَّ معنى الحديث بيانُ عدم جواز قتال من يقول: لا إله إلا الله حتى لو قالها لينجو بنفسه، فالقتال في الإسلام هدفه إعلاء كلمة الله ومنع استبداد الطواغيت بالعباد، ولذلك فهو لا يتوجه إلا ضد المقاتلين والصادين عن سبيل الله كما أسلفنا، إلا أنَّ كون المسلم مأموراً بعدم إكراه الناس على الدخول في دين الله لا يعني ألا يستنفد الجهد في إيصال الدين للناس ومنع الطغاة من التحكم بهم وإجبارهم على ما لا يحبون.
وهذا يشبه إلى حد ما من يعلن عن منتج ذي مواصفات جيدة وسعر معتدل فإن قيل له: إنك تجبر الناس على شراء منتجك لكان جوابه: إنني أعمل على إيصال المنتج لهم لكنني لا أملك أن أجبرهم على شرائه!
أما أن يكون هدف القتال إكراهَ الناس على الدخول في الدين فهذا فهم سقيم، ولو كان صحيحاً لكان في الغزوات والمعارك شواهد على هذا الإكراه.

معنى كلمة الناس في الحديث:
الكلمة المفتاحية الثانية في الحديث ( النَّاسَ)فهل معناها كلُّ الناس؟
حتى نفهم المقصود بالناس نقرأ قوله تعالى في سورة آل عمران، يقول تعالى:

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
(سورة آل عمران)

وردت كلمة الناس في الآية مرتين فمن المقصود بها في كل مرة؟
الناس الأولى (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) يُقصد بها رجلٌ واحد وهو نُعيم بن مسعود، وقيل: هم أربعة رجال منهم نُعيم.
أما كلمة (النَّاسُ) الثانية في قوله تعالى: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فالمقصود بها أبو سفيان ومن معه الذين أعدوا العدة لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب.
فما المقصود بالناس في الحديث ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)؟ هل هم كل الناس؟ الجواب: لا، فالمعاهَد لا يقاتَل، والذميُّ لا يُقاتل، والمستأمَن لا يقاتل، فمن الناس الذين أُمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمقاتلتهم؟ إنهم المقاتِلون المعتدون أو الذين يصدون الناس عن دين الله ويمنعونهم من عبادة الله وتوحيده.

حتى تأتي بمعنى انتهاء الغاية:
الكلمة المفتاحية الثالثة هي (حَتَّى) في قوله صلى الله عليه وسلم: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا) فمن فهمها للتعليل بمعنى أن ما قبلها سبب لما بعدها توهم أن هدف القتال هو إدخال الناس في الدين وحملُهم بالقوة على النطق بشهادة التوحيد! وهذا لا يصح بحال ولا تؤيده الوقائع ولا النصوص، إن كلمة ( حَتَّى) معناها هنا انتهاءُ الغاية، كقوله تعالى:

قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ (91)
(سورة طه)

فهل كان قوم موسى يعكفون عابدين للعجل وهدفهم من تلك العبادة أن يرجع إليهم موسى؟! بالتأكيد لا.
أوضح بمثال آخر، لو قال لك أحدهم: درست حتى أنجح، فالمقصود أن هدف الدراسة هو النجاح، أما لو قال لك: أمرني والدي أن أدرس حتى يحين المساء، فهل هدف الدراسة أن يحين المساء! أم أن المقصود أن الدراسة ستستمر حتى المساء، هذا هو معنى انتهاء الغاية، والحديث لا يعني أبداً أن هدف المقاتلة إجبار الناس على الدخول في الدين، وإنما المقصود أن القتال يتوقف إن دخل المقاتَلون في دين الله.
فالمقصود بالحديث أن القتال إنما شُرع ليتيح للناس حرية الاعتقاد وليمنع الطغاة من التحكم بالناس، فمتى شهدوا شهادة الإسلام فلم يعد هناك أيُّ مبررٍ لقتالهم، فالقتال لم يشرع للقتال وإنما شرع ليكون الدين لله، قال تعالى:

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
(سورة الأنفال)

ولكيلا يفهم أحد أن القتال هدفه إكراه الناس قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديث: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)).

الملخص:
دعني أقرأ لك شرح الحديث بعد هذه التوضيحات: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمقاتلة المعتدين المحاربين والصادين عن سببيل الله فإن هم قالوا: لا إله إلا الله فإن القتال ينبغي أن يتوقف فوراً ولو قالوها بلسانهم لأننا نحكم بالظاهر وحسابهم على الله تعالى، ومهمة النبي صلى الله عليه وسلم هي التذكير بعد ذلك ولا يملك إجبار إنسان على التوحيد فالإنسان مخير.
إلا أن هناك من سيقول بعد ذلك: وما قولك بحدّ الرّدّة!
في الحلقة القادمة وفي تنور الفكر نتحدث عن حد الردة.
والحمد لله رب العالمين.