• الحلقة السابعة
  • 2021-05-03

حد الردّة

في حلقة سابقة أثبتنا بالأدلة الشرعية والمنطقية أن الإسلام قد انتشر بالكلمة الطيبة والفكرة والنص ولم ينتشر بالسيف، بل إن السيف كان لقتال المعتدين من جهة وحماية الفكرة من جهة ثانية، وكل أمم الأرض إلى يومنا هذا تضع دستوراً وقانوناً ثم تبني قوة لحماية مقدساتها، إلا أن بعضهم يقول: وماذا عن حد الردة! أليس إكراهاً على الدين يناقض قوله تعالى:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
(سورة البقرة)

إليكم الجواب:

1- لا تناقض بين حد الردة وعدم الإكراه:
فعدم الإكراه يكون ابتداء:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
(سورة الكهف)

بينما حد الردة خاص بمن دخل في الدين ثم خرج منه معادياً له معلناً ذلك على الملأ، حتى إن الصغير لو ولد لأبوين مسلمين ثم لما بلغ سن الرشد أبى أن يبقى مسلماً فإنه في الصحيح من أقوال أهل العلم لا يعد مرتداً، وهذا دليل على أنه لا يجوز الإكراه في الدين.
مثال ذلك: أنت مخير في التطوع في جيش بلدك أو ترك ذلك ولكن بعد انتسابك لا يحق لك أن تنزعج مثلاً من قائدك أو من بعض القوانين فتخرج هكذا لأنك حرٌّ! هذا لا يقول به عاقل!

2- لكل أمة مقدسات ومن حقها أن تصون مقدساتها:
كالدستور والعَلَم وحدود الدولة ومن حقها أن تفرض عقوبات صارمة قد تصل للقتل على من يجترىء على مقدساتها، وهذا موجود في قوانين كل الدول ولا يجترىء أحد على الاعتراض عليه
والدولة المسلمة على رأس مقدساتها الدين لأنه يتعلق بسعادة الأبد لكل فرد من أفرادها، ومن حقها أن تفرض لحماية دين الناس ما يحفظه، والإسلام يقرر أن من حق أي إنسان أن يسلم أو لا يسلم ولا يجوز إجباره على الدين بحال، لكن التلاعب بالدين مرفوض فلا يحق لمن أسلم أن يرتد ويجاهر بردته، وقد يقول قائل هنا: أليس الدين حقاً والحق لا يخشى البحث؟ الجواب: بلى، ولكن ليس الناس في مستوى واحد من الإدراك والعلم والفهم والتعمق، فمن الناس من يستمع للشبهات ويملك لكل شبهة رداً، ومنهم من يستمع إليها ولا يعلم لها رداً ولكن قوة إيمانه وقوة حبه تجعله لا يلقي لها بالاً، إلا أن من الناس من يتأثر بالتيار الجارف سواء لضعف الإيمان أو لضعف الإدراك، ومن حق هؤلاء على المجتمع المسلم أن يحمي لهم دينهم، ألا تسمعون اليوم إلى الشبهات التي تثار حول الدين في وسائل الإعلام، نعم هناك الكثيرون ممن بنوا إيمانهم بناء صحيحاً لا تؤثر بهم هذه الشبهات ولا يلقون لها بالاً بل لربما زادتهم تمسكاً بدينهم ودفاعاً عنه، لكن هناك الكثير أيضاً من ضعاف الإيمان أو غير المتخصصين تعبث بفكرهم هذه الشبهات والواجب على أولي الأمر وضع القوانين الرادعة التي تمنع العابثين من الخوض في المقدسات وتشكيك الناس بها والتشويش عليهم.

3- لو ارتد إنسان ما عن دينه ولم يعلن ذلك فإنه لا يقام عليه حدٌّ:
وهذا يؤكد أن الحد إنما شرع لحماية دين الناس وليس لإكراههم، ألم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلم المنافقين فهل أقام عليهم حدَّ الردة وهل قتل ابن سلول زعيم المنافقين لردته! لقد سنَّ لنا الإسلام قاعدة عظيمة مفادها ( نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وفي نص الحديث الذي يشرع حد الردة:

{ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ }

(صحيح ابن حبان)

وفي سنن النسائي بسند صحيح ما يزيد الأمر وضوحاً ونص الحديث:

{ أَوْ رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ يُحَارِبُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ }

(سنن النسائي)

ومن خلال صيغة الحديثين يتضح بجلاء أن الحد لا علاقة له بالإكراه أبداً وإنما هو عقوبة شرعية ينفذها الحاكم حماية للدين ففي الحديث الأول وصف التارك لدينه بأنه مفارق للجماعة، وفي الثاني وُصف الخارج من الإسلام بأنه يحارب الله ورسوله.

4- حد الردة لا يقيمه إلا الحاكم بعد استتابة المرتد وتفنيد ما يدور في رأسه من شبهات:
فلو فرضنا أنه ارتد وأعلن ردته، ووقف موقفاً معادياً للحق وبدأ يثير الشبهات بين ضعاف الإيمان، ثم علم أن الحدَّ سيقام عليه وأن بينه وبين النجاة من العقوبة أن يعلن عودته إلى الإسلام ولو شكلياً فهل يتصور عاقل أن هناك إنساناً واحداً لن يرجع إلى النطق بالشهادة ولو شكلياً وعندها يتحقق الردع الذي شرع من أجله هذا الحد ويتحقق الهدف وهو صيانة دين الناس واستقرار المجتمع.
وقد يقول قائل: ألا يؤدي ذلك إلى النفاق في المجتمع فيعلن عودته للدين وهو كافر به؟ الجواب: بلى، ولكن في حدود ضيقة جداً وحالات نادرة والنادر لا حكم له، ويبقى نفاقه بينه وبين ربه، لكن المطلوب ألا نجعل لهذا ولأمثاله منبراً يعبثون من خلاله بالمقدسات ويجعلون الصد عن دين الله عملاً لهم.
من هنا نفهم لماذا لم تسجل إلا حالات نادرة لتنفيذ حد الردة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العهود الإسلامية بعده.
أما ما كان من سيدنا أبي بكر رضي الله عنه فيما يسميه كتَّاب التاريخ حروب الردة فإنني لا أوافق على تسميتها حروب الردة، فإن سببها في حقيقة الأمر حركة تمرد خاضها بعض المغرضين وتبعهم بعض المغفلين أو ضعاف الإيمان بحيث امتنعوا عن دفع الزكاة لبيت مال المسلمين، وهذا ما يعرف اليوم بالامتناع بشكل منظَّم عن دفع مستحقات الدولة إلى وزارة المالية!
أعطني دولة في العالم كلِّه يستعصي بعض المتمردين عليها ويمتنعون عن دفع المستحقات المترتبة عليهم ثمَّ لا تُسيِّر الجيوشَ لحربهم وإعادتهم إلى رشدهم، وهذا ما فعله أبو بكر رضي الله عنه، فبعد أن ذكَّره عمر رضي الله عنه بأنه لا يحلُّ لك مقاتلة من نطق بالشهادة قال أبو بكر رضي الله عنه: (وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا).
وهذا يدلُّ على أن معظمهم لم يرتدوا عن الدين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنَّهم امتنعوا عن دفع الزكاة المترتبة عليهم مبررين ذلك بأنها قد سقطت عنهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم!

حد الردة ثابت ولا يمكن إنكاره:
ختاماً: حد الردة ثابت بالنص الصحيح ولا يصحُّ أن ننكره إرضاء للآخرين وفي الوقت نفسه نقول: الحدود ومنها حد الردة هي نظام الحماية الذي شرعه الإسلام لحفظ الضروريات وعلى رأسها حفظ دين الناس، وحماية الدين تكون بعد بنائه في النفوس وبناء الأمة وبإشراف مباشر من الحاكم وضمن شروط شرعية، أما أن نبدأ بفهم الحدود قبل فهم الإسلام، فحالنا كحال من يطبق نظام العقوبات في مدرسة ما قبل بناء المدرسة وتعيين المدرسين وتعليم الطلاب!
إن كثيراً من الناس يستهجنون هذا الحد وغيره لعدم وجود الظروف الموضوعية لتطبيقه اليوم لأننا منذ مئات السنوات لم نعش تجربة الإسلام على مستوى جماعي أممي، وإنما نعيشها على شكل تجارب فردية، رجل ملتزم، امرأة ملتزمة، أسرة متمسكة بدينها، عائلة تعيش في كنف الإسلام، أما أمة تحتكم إلى الإسلام في كل شؤونها فهذه تجربة لم نعهدها ولم نرها بل سمعنا بها فقط وليس السماع كالمعاينة، وبالتالي فإننا ننظر إلى كثير من الأحكام المتعلقة بالأمة والدولة نظرة غريبة منطلقة من واقعنا البئيس فنخرج بأحكام مشوشة وصورة مشوهة، بينما لا نسمع في عصور السلف التي كان يطبق فيها الإسلام على مستوى الأمة أي اعتراض على أحكام الشريعة.
والحمد لله رب العالمين.