أين الله مما يجري؟ (الجزء الأول)

  • الحلقة الثامنة
  • 2021-05-08

أين الله مما يجري؟ (الجزء الأول)

سؤال يتكرر يسأله بعض الملحدين بقصد إضلال الناس، ويسأله بعض المؤمنين بحثاً عن الحقيقة والتماساً لراحة النفس، ينظر أحدهم حوله فيرى ظلماً، يرى سفكاً للدماء دون وجه حق، يرى اغتصاباً للأرض، وإتلافاً للمتلكات، فيسأل: أين الله؟

أولاً: إن الاستدلال على وجود الله تعالى ليس هذا طريقَه:
لقد رسم الله تعالى طريق الاستدلال على وجوده في قرآنه الكريم وهو طريق النظر في المخلوقات، فالخلق يدل على الخالق، كما أن الصنعة تدلُّ على الصانع، وكمال الخلق واضح لا يخفى على عاقل، ومن خلاله نستدلُّ على وجود الخالق ووحدانيتِه وكمالِه، أما وجود الخالق فنستدل عليه من المخلوقات، وأما وحدانيته فمن دقة الصنعة وإحكامها، وأما كماله فكمال الخلق يدلُّ على كمال التصرف، قال تعالى:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
(سورة الطلاق)

وقال تعالى:

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
(سورة النمل)

عشرات بل مئات الآيات في كتاب الله تبين أنك إن أردت أن تستدلَّ على وجود الله ووحدانيته وكماله فما عليك إلا أن تنظر في مخلوقاته، وبعد أن تؤمن بكمال الخلق ستؤمن بكمال التصرف وستوقن بوجود الحكمة من التصرف حكماً، فلا يُقبل عقلاً أن يكون هناك خلقٌ بهذه العظمة وهذا الإتقان، ثم لا تكون حكمةٌ أو لا يكون عدلٌ أو لا يكون علمٌ! انظر إلى قوله تعالى:

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
(سورة النبإ)

ههنا حديث عن يوم القيامة وعن الوقوف بين يدي الله للحساب ولإحقاق الحق وإبطال الباطل، ولكن الناس مختلفون في الإيمان به، ثم يبين المولى طريق هذا الإيمان الغيبي بعرض عشر آيات كونية تثبت أن من خلق هذا الخلق لا يعقل أن يترك عباده هملاً دون حساب:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
(سورة النبإ)

إلى أن يقول تعالى:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
(سورة النبإ)

فيوم الفصل الذي يُفصل فيه بين الظالم والمظلوم، والحاكم والمحكوم، والقاتل والمقتول آت لا محالة وفي وقته المحدد له وَفق حكمة الخالق الذي آمنت بعظمته من خلال نظرك في عظيم صنعه.
أما أفعال الله فلا يصح الاستدلال من خلالها بشكل منفصل على وجود الله ووحدانيته وكمال تصرفه، إذ أفعاله جل جلاله يحكمها العلم وتحكمها الخبرة، وحتى تفهم حكمة الله في تعجيل الثواب أو تأخيره، وفي تعجيل العقاب أو تأخيره يجب أن تملك علماً كعلمه وهذا مستحيل!

ثانياً: عاملان لا يصح أن ينفصلا في عقيدة المسلم:
إن هناك عالَمين لا يصحُّ أن ينفصلا في فكر المسلم وعقيدته؛ هما عالَم الشهادة وعالَم الغيب، إن النظر إلى الأمور بعالم الشهادة وحده خطأ جسيم، ولا بد أن يخرج الإنسان بعد ذلك بنظرة قاصرة، لقد خلق الله للإنسان عينين ومن خلالهما يدرك البعد الثالث للأشياء بحيث تكون نظرته متكاملة وفي العمق، وكذلك فإن النظر من ثقب الشهادة إلى كل ما يجري في الكون سيعطي نظرة سطحية أما النظر بعين الغيب مع الشهادة فسيعطي الصورة الكاملة.
تدبروا معي هذه الآيات من سورة الروم، قال تعالى:

وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(سورة الروم)

وعدُ الله مِن عالَم الغيب الذي يخبرنا الله تعالى عنه، والذي لا يمكن لحواسنا أن تدركه.
نتابع الآيات:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
(سورة الروم)

ظاهر الحياة الدنيا هو عالم الشهادة وهو مبلغهم من العلم، إنه ما تدركه حواسهم فقط، إلا أنهم غافلون عن الآخرة والتي هي من عالم الغيب.
نتابع الآيات:

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
(سورة الروم)

إن هذا هو الطريق الصحيح للاستدلال على وجود الله ووحدانيته وحكمته وعدله جل جلاله، إنه طريق النظر في خلقك أولاً ثم في خلق الكون من حولك، فالله تعالى خلقه بالحق ومن خلاله تدرك أن هناك عالماً لا تدركه حواسك؛ إنه عالم الغيب، ومن خلال خلقِك وخلق الكون من حولك بالحق لا بد أن تدرك أن يوم الحق سيأتي عند لقائك مع خالقك جل جلاله.

ملخص:
في هذه الحلقة عرضنا لنقطتين مهمتين، الأولى هي أن طريق الإيمان بوجود الله ووحدانيته وكماله هو النظر في خلقه لا في أفعاله التي قد لا تفهم كثيراً منها لأنك لا تملك علماً يؤهلك لذلك.
النقطة الثانية أن عالم الغيب لا ينبغي أن ينفصل عن عالم الشهادة في فكرك وعقيدتك لأن النظرة الكاملة لا تحصل إلا بالربط بين ما تدركه بحواسك وما يغيب عنك.
وللكلام تتمة في الحلقة القادمة..
والحمد لله رب العالمين.