هل الإمام البخاري معصوم؟

  • الحلقة السادسة عشرة
  • 2021-07-10

هل الإمام البخاري معصوم؟


الحملات الممهنجة التي تستهدف صحيح البخاري:
حملة ممنهجة ظاهرها استهداف صحيح البخاري، وحقيقتها استهداف الإسلام، عن طريق التشكيك بأهم كتاب في ثاني مصدر تشريعي في الإسلام وهو السنة، والسنة بإجماع المسلمين هي المصدر التشريعي الثاني الذي يوازي القرآن الكريم من حيث وجوب العمل به، لقوله تعالى:

مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
(سورة الحشر)

إلا أن قدسية القرآن هي الأعلى بلا شك.
والقائمون بهذه الحملات لا يخرجون عن صنفين؛ الأول منهما يعمل وفق أجندات أعدت له تمولها جهات ترمي إلى تمييع الدين وتفجيره من داخله بعد أن باءت كل المحاولات للقضاء عليه بشكل معلن بالفشل، وهؤلاء لا يعنيهم كلامي هنا ولا أظن أنهم يتابعون هذه الحلقة أصلاً، وإن كان منهم أحد يتابع الآن فبإمكانه الانصراف لأن الكلام هنا لن يروق له ألبتة!
أما الصنف الثاني فمجموعة من طلاب العلم ودارسيه انساقوا من غير شعور منهم إلى هذا الأمر، والسبب الرئيس في ظني وراء هذا الانسياق حالة فرضها الواقع الافتراضي ووسائل التواصل بحيث تجد نفسك دائماً في موضع الاتهام ، والمتهم ضعيف وقد يرى أن خروجه من دائرة الاتهام يستلزم تقديم بعض التنازلات التي تخرج تحت مسمى (المراجعات) والحقيقة أن المراجعات مطلوبة إلا أن دائرتها في النصوص ضعيفة جداً لأن النصوص مقدسة باعتبارها وحي السماء.

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا (36)
(سورة الأحزاب)

والمراجعات مهمة عندما تكون في فهم النصوص وفي إسقاطها على الواقع وفي تلمس مكامن الخلل الذي أوصل الأمة إلى هذه الحال البئيسة، ولا يمكن بحال أن تكون المراجعات التي تهدف لخروجنا من محنتنا أن تكون هذه المراجعات قضاء على أساس نهضتنا، فيوم كانت كلمة المسلمين هي العليا وكانوا ينشرون في الأرض كلها العدل والتسامح والخير لم يكونوا على سبيل المثال يتنكرون لسنة نبيهم وكان من إفرازات حضارتهم عنايتُهم الفائقة بكتب السنة ومنها صحيح البخاري، فالمنطق يقول: إننا إن أردنا استعادة مجدنا وقوتنا والخروج من حالة الضعف فالمطلوب مزيد من التمسك بديننا وسنة نبينا دون إهمال لمتطلبات العصر التي لا تتعارض مع ثوابتنا، وليس بالقضاء على ما كان أساساً لوحدتنا واجتماع كلمتنا.
الصنفان باختلاف بواعثهما يكرران بعبارات مختلفة هذه الأسئلة:
هل البخاري معصوم؟
أين كان الحديث قبل البخاري؟
كتاب البخاري كبير جداً وهل يعقل أن كل هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم؟
بعض أحاديث البخاري تتناقض مع العقل والعلم!
بعض أحاديث البخاري تتناقض مع القرآن الكريم!

هل البخاري معصوم؟
نبدأ بالسؤال الأول: هل البخاري معصوم والجواب: لا، البخاري ليس معصوماً، بل إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بمعصومين، إلا أن هذا السؤال لا علاقة له ببحثنا، نعم البخاري ليس نبياً، إنه بشر يصيب ويخطئ، إلا أن موضع البحث هو كتاب البخاري، ومنهج البخاري في كتابه، وليس البخاري نفسه!
البشر يصيبون ويخطئون ولكن هذا لا يعني أن كل نتاج بشري لا بد أن يكون فيه خطأ، لا سيما إذا علمنا أن البخاري ليس مؤلف كتاب ولا مبتدع أفكار أو نظريات ، وإنما هو جامع لأحاديث عن رسول الله أو قل: هو ناقل يتحرى الصحة ويضع منهجاً لذلك، فإن أردت مناقشة منهجه فعليك بدراسة علم الحديث أولاً وهو من أبدع ما أنتجته البشرية في إثبات الخبر، ثم تدرس منهج البخاري في صحيحه ثم تناقش به وهذا ما حصل فعلاً وقام به علماء أجلاء تتبعوا البخاري في بعض مروياته، ومنهم الإمام الدارقطني يقول ابن الصلاح في مقدمته: (مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَبِيلِ مَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابَيْهِمَا بِالْقَبُولِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ مِنْ حَالِهِمَا فِيمَا سَبَقَ، سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّقْدِ مِنَ الْحُفَّاظِ، كَالدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ).
وهذا ابن حجر رحمه الله تعالى يذكر التعقبات على الإمام البخاري في صحيحه وهي مئة وعشرة أحاديث فيقول: (هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف).
ومعنى كلام ابن حجر أن هذه الأحاديث التي تعقَّب بعض العلماء فيها البخاري معظمها لها جواب علمي رصين، وهناك بعضها لها جواب ولكن لا نسلم به مطلقاً فهناك وجه للاعتراض ووجه لرده، واليسير فقط والذي هو بضعة أحاديث الاعتراض على تصحيحها قوي الحجة.
يقول الإمام العقيلي: (لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرِهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة).
ولكنهم جميعاً في محصلة الأمر شهدوا له بالدقة العلمية والمنهج السليم في إثبات الأخبار ولم يدع أحد منهم إلى نبذ الكتاب بالكلية أو رفض أحاديثه أو بعضها بالهوى دون منهج.
أقول هذا الكلام ليعلم أهل الأهواء أننا لسنا متعصبين للبخاري رحمه الله، وإنما ننكر على من يعبث بثوابتنا دون ضابط من علم أو فقه ويتجرأ على سنة نبينا دون دراية.

الخاتمة:
هل يَقبل منك اليوم دكتور في مجال معين قدم رسالة علمية شهدت له الجامعة بصحتها وشهدت له لجنة المناقشة بموضوعيتها هل يقبل منك أن تقول له باختصار وأنت متكىء على أريكتك: أنت لست معصوماً، وهل ادعى العصمة أصلاً!
إننا أمام سفر عظيم تلقته الأمة بالقبول على وجه العموم بعد اطلاع وافٍ على منهجيته، وعدَّ هذا الكتاب الأولَ في كتب السنة لما كان فيه من تشدد في قبول الرواية، واليوم من يريد البحث ومن يسعى إلى الحق فعليه أولاً أن يدرس منهج البخاري في صحيحه وإن أراد مناقشة فليكن ذلك مع أهل الاختصاص وضمن الدائرة العلمية، أما أن يخرج إلينا كل يوم على وسائل التواصل متنطع لا علم له بعلوم الشريعة لينقد الكتاب بغير علم فهذا لا يقبل شرعاً ولا منطقاً.