أين كان الحديث قبل البخاري؟

  • الحلقة السابعة عشرة
  • 2021-07-17

أين كان الحديث قبل البخاري؟

شبهة كثيراً ما تطرح عبر وسائل الإعلام: لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة، وتوفي الإمام البخاري سنة 256 للهجرة وبينهما قرنان من الزمان تقريباً فكيف عاش الناس بغير البخاري قبل ذلك، ثم ما الذي يضمن صحة هذا النقل مع وجود هذه المدة الطويلة بين عصر البخاري وعصر النبوة؟

البخاري ليس أول من دوّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من يطرح هذه الشبهة يبدو أنه لا يعرف أن البخاري ليس أول من دوّن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ذاع صيت كتابه وتلقته الأمة بالقبول لكونه جامعاً أولاً ولذلك سماه (الجامع الصحيح...) ولكونه اشترط لقبول الحديث شروطاً إضافية عما اشترطه غيره، فهو بعد أن يشترط الشروط الخمسة المعروفة لصحة الحديث وهي عدالة الرواة وضبطُهم، واتصال السند بين الرواة وخلو الحديث من الشذوذ أو العلة، فهو بعد ذلك كله يشترط في الراوي أن يجمع بين الحفظ والإتقان وطول الملازمة عندما يكون الراوي مكثراً، حتى يخرج له في الأصول كما يشترط اتصال السند المعنعن والذي يروى عن فلان عن فلان فلا يكتفي بالمعاصرة وإمكانية اللقاء فقط.
ثم إن السنة كانت حاضرة في حياة الناس في عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين يعيشونها واقعاً ويحفظونها في الصدور قبل أن يحفظوا جزءاً منها في السطور.
وهذه بعض المدونات والأجزاء الحديثية التي كتبت في السنة المطهرة قبل صحيح البخاري، ونبدأ بالصحابة الكرام:
1- الصحيفة الصادقة في الحديث التي كتبها الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص.
2- صحيفة الصحابي سمرة بن جندب رضي الله عنه.
3- صحيفة الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
4- صحيفة الصحابي نبيط بن شريط الأشجعي الكوفي رضي الله عنه وهي مخطوطة في المكتبة الظاهرية وجزء منها في مسند الإمام أحمد.
أما من التابعين الأجلاء: فهناك صحيفة الأشج، وصحيفة التابعي خراش بن عبد الله موجودة في مخطوطات برلين. وصحيفة الزبير بن عدي وغيرهم كثير من التابعين.
وفي العهد العباسي لدينا كتاب السنن والتفسير لابن جريج المتوفى 150 هجرية وشعبة بن الحجاج المتوفى 160 هجرية. وكتاب ( الموطأ ) للإمام مالك المتوفى 179 هجرية وجامع معمر بن راشد الأزدي المتوفى 153 هجرية وهذا غيض من فيض من المرويات والتدوينات ولعل هناك الكثير مما لم يصل إلينا فالدعوى بأن البخاري هو أول من دون أو جمع الحديث دعوى باطلة
ثم إن مثيري هذه الشبه لم يسمعوا فيما يبدو عن علم السند، هذا العلم العظيم الذي لا تملك أمة في الأرض نظيراً له والذي لو طبقه المسلمون اليوم في واقع حياتهم كما يطبقه العلماء في علم الحديث لانتفت الشائعات التي تجتاح مواقع التواصل ووسائل الإعلام والتي تنقل قيلاً عن قال دون سند متصل، وتؤدي إلى مشكلات لا حصر لها.

ثلاثيات البخاري:
هل تعلمون أن في صحيح البخاري ثلاثيات وتسمى ثلاثيات البخاري، وتعني أن البخاري نقل الحديث عن رجل من تابعي التابعين وهذا الرجل نقله عن تابعي وهذا التابعي نقل الحديث عن الصحابي الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي إن بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة فقط من الثقات العدول الضابطين والعدالة صفة نفسية تمنع الكذب والضبط صفة عقلية تمنع النسيان.
مثال ثلاثيات البخاري وهو أول حديث ورد في البخاري من الثلاثيات: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

{ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ }

(صحيح البخاري)


من العجائب في صحيح البخاري:
وإنك لتعجب أشد العجب عندما تفتح صحيح البخاري فتجد في حديث أبي موسى رضي الله عنه قوله:

{ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ يَسْتَأْذِنُ فَسَكَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى سَتُصِيبُهُ»، فَإِذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ }

(صحيح البخاري)

نعم سكت هنيهة لقد حفظ أبو موسى والصحابة الكرام سكتات رسول الله فضلاً عن أقواله، وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يروي كما في البخاري أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته فقال:

{ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَفَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ بمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءهُ رَجُلٌ فَقالَ: لَمْ أشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ؟ فَقالَ: اذْبَحْ ولَا حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقالَ: لَمْ أشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ؟ قالَ: ارْمِ ولَا حَرَجَ فَما سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شيءٍ قُدِّمَ ولَا أُخِّرَ إلَّا قالَ: افْعَلْ ولَا حَرَجَ }

(صحيح البخاري)

ابن عباس ينقل لنا إشارة أشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
وهذا ابن عمر رضي الله عنهما يحفظ لنا اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ عَلَى القَصْوَاءِ»
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:

{ كَانَتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ إِذَا هَبَّتْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }

(صحيح البخاري)

نعم إنه ينقل لنا تعابير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها لغة الجسد أيها السادة
وهذا أبو سعيد الخدري يقول:

{ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ }

(صحيح البخاري)

إنه ينقل لنا هيئة ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا زيد بن خالد الجهني يروي حديث اللقطة وفي نص الحديث:

{ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ }

(صحيح البخاري)

يستدرك الراوي لعله وهم فقال احمرت وجنتاه ولعل الصواب: احمرّ وجهه.
وكم من راوٍ قال: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحكي لنا عن بسمة افتر عنها ثغره الشريف صلى الله عليه وسلم يوماً، فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:

{ فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا }

(صحيح البخاري)

وهذا أبو بكرةَ رضي الله عنه يقول:

{ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ }

(صحيح البخاري)

يحدثنا عن جلسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت كان ينطق بكلامه.
وهذا غيض من فيض من العجائب التي تجدها في صحيح البخاري بل في السنة الشريفة عموماً.

الخاتمة:
إن قراءة بقلب ممتلىء بالحب لساعة واحدة في صحيح السنة ومنها صحيح البخاري كفيل أن يجعلك أيها المسلم ترفع رأسك عالياً بدينك وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم التي سخَّر الله لها رجالاً على مدى التاريخ حفظوها ونقلوها بأمانة، وعندها ستلقي في التنور كل رسالة تقرؤها عبر وسائل الإعلام والتواصل تريد أن تشككك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.