بين السنة والعقل - الجزء الأول

  • الحلقة التاسعة عشرة
  • 2021-07-31

بين السنة والعقل - الجزء الأول


هل هناك في صحيح السنة ما يتناقض مع العقل والعلم؟
بادئ ذي بدء؛ الإنسان يعقل ويتفكر وهذه نعمة ميزه الله تعالى بها عن سائر المخلوقات، ولقد وجه الله تعالى عباده في مئات الآيات إلى ضرورة عقل الأحكام وفهمها وتدبرها والتفكر بها، ولكن لا يصح بحال أن يُتخذ العقل إلهاً من دون الله يحلل ويحرم ويستحسن ويقبّح، وإلا فهو الهوى بعينه إلا أنه يسمى اليوم زوراً وبهتاناً: ( العقل ) قال تعالى:

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
(سورة الجاثية)

أصل العقل في اللغة من الرَّبط والمنع؛ لذلك لما قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن ناقته:

{ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ }

(صحيح الترمذي)

أي اربط ناقتك وتوكل على الله فالتوكل على الله لا يتناقض مع الأخذ بالأسباب.
ومن هذا المعنى فالعاقل هو من يمنع نفسه من الوقوع في المهالك والمحرمات.
أما حين يجعل العقل في مقابل وحي السماء فقد أخرج عن الدائرة التي خلق من أجلها بل أصبح يستغل لنقض ما خلق له.

حقيقة العقل:
من جهة ثانية العقل ليس جهازاً مستقلاً في جسم الإنسان وإنما هو ملكة منحها الباري جل جلاله للإنسان يستخدمها في الاستدلال والتصور والتفكر، فالإنسان يتلقى معلوماته عن طريق الحواس أو عن طريق الخبر ثم يعقلها ثم يخرج حكمه عليه، فالنقل أو الخبر أحد أهم مصادر المعرفة والذي لا يدرك إلا بحواسه أو ينكر دور النقل في المعرفة لا يسمى عاقلاً أصلاً، هذا فيروس لا نراه بأعيننا لكننا جميعاً نؤمن بوجوده ونحتاط خشية الإصابة به، أما الأحكام التي يطلقها العقل فلا يمكن أن تعدو ثلاثة أحكام فأي أمر يعقله الإنسان إما أن يحكم بعد ذلك بوجوبه أو يحكم باستحالته أو يحكم بجوازه.
مثال واجب الوجود أن العقل لا يمكن أن يدرك وقوع فعل بغير فاعل ومن هذه المسلمة التي خلقها الله في العقل نحكم بوجود خالق لهذا الكون.
وأما ما يحكم العقل باستحالته فمثاله وجود النقيضين معاً؛ فلا يقبل العقل أن يكون الشيء متحركاً وساكناً في وقت واحد ولا يقبل أن يكون الرجل موجوداً بجسده في مكانين معاً في وقت واحد.
أما حكم الجواز فهو ما يتصور الإنسان ثبوته ونفيه، وأمثلته لا تكاد تحصى فكل ما يقع في الوجود هو من الجائز عقلاً، وجودك في الحياة جائز، بل كل موجود في الكون فوجوده جائز.

العقل ليس واحداً عند كل البشر:
الآن نسأل المشككين: هل في صحيح السنة كلِّها ما يحكم العقل باستحالته؟ بالتأكيد لا فكل ما في البخاري وغيره من أخبار إما أن يحكم العقل بوجوبه أو بإمكانه، وليس في أخبار السنة أي خبر يحكم العقل باستحالة وقوعه.
إذاً ماذا يقصد من يقول: إن في السنة بل إن بعضهم أصبح يقول: إن في القرآن ما يتناقض مع العقل؟
يمكن أن يقول أحدهم: لم أعقل كيف يمكن لعصا أن تتحول إلى ثعبان مبين، وكذلك لم أفهم كيف يمكن لإنسان أن يلقى في النار ثم يخرج منها سليماً معافى، ولم أفهم كيف يمكن للبحر أن يصبح بضربة من عصا طريقاً يبساً وهكذا!
أيها الكرام من يقول: إن في صحيح السنة ما يتناقض مع العقل، كان الأجدر به أن يقول: إن في صحيح السنة ما يتناقض مع عقلي، أي مع فهمي وتصوراتي ومدركاتي لا أن يقول: مع العقل بهذا الإطلاق، لأنه لا يوجد عقل واحد عند جميع البشر وما تجده أنت بعقلك غير منطقي لربما يراه آخرون في منتهى العقلانية والمنطق.
هذا مثال: من يتعامل بالربا ويعيش عليه وهو مصدر رزقه سيقول لنا: إن كل نص يحرم الربا أو يلعن المرابي فهو متناقض مع العقل، يقصد مع عقله؛ لأن عقله يقنعه بأن هذه العملة الربوية منتهى المنطق والحكمة فهو يقرض مالاً لشخص محتاج للمال فينفعه وينتفع منه، والطرفان راضيان فأين المشكلة؟
والزاني الذي ينتهك الأعراض لربما يقول له عقله: إن هذه الفاحشة التي تحرمها جميع الشرائع السماوية وكثير من القوانين الوضعية لا شيء فيها، إذ هي حل لمشكلة شاب وفتاة وبالتراضي وفعلاً هذا العقل قاد بعض الحكومات الغربية إلى تشريع الزنا بالتراضي!
فلو أطلقنا لكل إنسان أن يحكم عقله في الخير والشر وفق رؤيته لصرنا في غابة لا يحكمها شرع ولا قانون.
إن كل الدول اليوم تفرض قوانينها وتطبقها وقد يكون كثير من المواطنين يعتقدون أن هذه القوانين تخالف عقولهم.

تناقض الخير مع العقل:
من جهة ثانية هناك من يقول: هذا الخبر يناقض العقل، والصحيح أنه يناقض المألوف والمعتاد، لأن العادة عندما تتغلغل في أعماق النفس يظن الإنسان أنها قد أصبحت من المسلمات.
مما ورد في صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع نخلة، فلما تركها وارتقى المنبر.

{ صَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّن }

(صحيح البخاري)

هذا الحديث الشريف قال بعضهم: إنه يناقض العقل.كيف ذاك؟ وهل ذكر الحديث شيئاً يحيل العقل وقوعه؟ إن أنين الجذع من الممكنات وهو بلا شك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة لا تستحيل عقلاً إلا أنها لم تؤلف عادة، وأوضح مثال على ذلك أن انتقال إنسان ما من مكة إلى بيت المقدس وعودتَه إلى مكة في ليلة واحدة لم يكن من المألوفات في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معجزة تخالف العادة لكنها لا تخالف العقل، إلا أن هذا الحدث أصبح مألوفاً اليوم فمن السهل جداً أن يسافر إنسان بالطائرة ويعود في ثلاث ساعات مثلاً وربما تطورت وسائط النقل أكثر واختصرت الزمن أكثر.
إذاً حتى المعجزات التي لا يألفها الناس عادة غير مستحيلة عقلاً بل إن عصرنا هذا أصبح الناس فيه أكثر قدرة على قبول غير المألوف لما رأوا من تطور هائل في وسائل التواصل والمدنية جعل ما كان أقرب إلى المستحيل في عقول الناس واقعاً على الأرض.