بين السنة والعقل - الجزء الثاني
بين السنة والعقل - الجزء الثاني
ملخص الحلقة السابقة:
في اللقاء السابق تحدثنا عن شبهة مفادها أن في السنة الصحيحة ما يتناقض مع العقل والعلم وقد بينا أن الأحكام التي يطلقها العقل ثلاثة (واجب الوجود، جائز الوجود، مستحيل الوجود) وأنك لن تجد في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة شيئاً يحكم العقل باستحالته، ثم تحدثنا عن العقل الفردي وأن كثيراً من الناس يقولون: هذا الخبر يناقض العقل، وهو في الحقيقة يناقض عقلهم لا العقل الصريح، كذلك تحدثنا عن المألوف المعتاد الذي يظنه البعض مسلمات ثم إذا رأى ما يخالفه قال: هذا يناقض العقل. |
نتابع الحديث اليوم: |
الخبر يخالف بيئته التي عاشها:
يقول أحدهم: هذا الخبر يناقض العقل، وفي حقيقة الأمر الخبر يخالف بيئته التي عاشها، فالعقل عموماً يتأثر بالمحيط والثقافة والبيئة والزمن الذي عاش فيه الإنسان. |
قبل أكثر من عشرين سنة كنت في مكتبي أكتب رسالة لإرسالها عبر الفاكس لأستاذي المسافر في أمريكا وهذا قبل اختراع وسائل التواصل الأحدث التي نتعامل بها اليوم، وأثناء كتابة الرسالة دخل إلى مكتبي رجل فاضل في السبعين من عمره، والرجل مثقف قضى عمره في التعليم وكنت إذا رأيته قبلت رأسه احتراماً لعمره وعمله، استأذنت الرجل حتى أنهي كتابة الرسالة لأتفرغ له، قلت له: إنني أكتب رسالة لأستاذي فهل تحب أن أدرج سلامك له فيها فسُرَّ بذلك، وبالفعل أدرجت لأستاذي سلاماً خاصاً منه، ووضعت الرسالة على جهاز الفاكس واتصلت بالرقم وأرسلت الرسالة، ثم التفت إلى الرجل أرحب به فإذا به يسألني: ماذا صنعت؟ قلت له: أرسلت الرسالة، فنهض من مكانه ونظر إلى الفاكس وسألني: كف أرسلتها؟ قلت له: عبر الفاكس، هذا جهاز يرسل الرسائل: قال لي: لكن الرسالة ما زالت هنا في المكتب! بدأت أشرح له عن طريقة عمل الفاكس فظنّ أنني أهزأ به، ثم لم أجد بداً من أن أعتذر له وأغير الموضوع! |
هذا الرجل عليه رحمات ربي لم يعقل عمل الفاكس لأن البيئة التي نشأ بها لا تقبل ذلك. |
ونحن في هذا العصر الذي يخترع فيه جديد كلَّ يوم ربما عقولنا لم تكن لتدرك ما يجري اليوم قبل عشرين سنة فقط، مما يؤكد أن العقل مرتبط بالبيئة وليس مطلقاً يصلح لأن يكون حكماً نحتكم إليه دون نور الوحي. |
حديثٌ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم:
هذا حديث رواه البخاري وغيره ولفظه: |
{ إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً، وَفِي الآخَرِ دَاءً }
(صحيح البخاري)
وهو من أكثر الأحاديث التي واجهت نقداً بدعوى مخالفة الحديث للعقل والعلم والواقع، يقول أحدهم: أيعقل أن يسقط الذباب في إنائي فأغمسه! |
اليوم يعد هذا الحديث دليلاً من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وأن كلامه وحي يوحى، فقد أثبت العلم الحديث بالأبحاث التجريبية المخبرية المحكَّمة والمعتمدة أن الذباب يشتمل على الداء من خلال البكتريا الضارة، كما أنه يشتمل على الدواء المتمثل بالمضادات لتلك البكتريا وهناك أبحاث كثيرة معتمدة منشورة يمكن العودة إليها. |
لا أعجب اليوم إن سكتت الألسنة التي كانت تدعي العلم والعقل ولكن لا ينقضي عجبي من أولئك العلماء الأفذاذ الذين دافعوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يخضعوه للمختبرات العلمية بل لمجرد ثبوت صحته وأنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم |
هذا ابن القيم رحمه الله قبل ما يسمى عصر العلم يقول في تعليقه على الحديث: ( فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السُّمِّيَّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ مِنَ الشِّفَاءِ، فَيُغْمَسُ كُلُّهُ فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ، فَيُقَابِلُ الْمَادَّةَ السُّمِّيَّةَ الْمَادَّةُ النَّافِعَةُ، فَيَزُولُ ضَرَرُهَا، وَهَذَا طِبٌّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ كِبَارُ الْأَطِبَّاءِ وَأَئِمَّتُهُمْ، بَلْ هُوَ خَارِجٌ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَالطَّبِيبُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ الْمُوَفَّقُ يَخْضَعُ لِهَذَا الْعِلَاجِ، وَيُقِرُّ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَنَّهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِوَحْيٍ إِلَهِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْقُوَى الْبَشَرِيَّةِ). |
الخاتمة:
ختاماً: نِعْمَ العقل عندما يكون دوره العقل؛ أي منع الإنسان من الوقوع في الحرام أو الوقوع فيما يشينه عند الله وعند الناس، ونعم العقل عندما يستخدمه الإنسان في اكتشاف أسرار الكون وعمارة الأرض وفهم حقيقة الكون والإنسان والحياة مسترشداً بنور الوحي المطلق حتى لا يصنع الأسلحة المدمرة ويستخدم أسوأ ما يستطيع لإلحاق الضرر بالناس، ولكن بئس العقل عندما يترك مهمته ويُستخدم للاعتراض على خالقه أو على كلام خالقه أو على الوحيين الكتاب والسنة. |