عباد الرحمن

  • الدرس الأول: تفسير الآيات 63-76
  • 2022-01-17

عباد الرحمن

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا الأمين وعلى آله و أصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنَا ما ينفَعُنا، وانفعَنا بما عَلَّمتَنَا وزِدنا عِلمَاً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا رب العالمين.


الفرق بين عباد وعبيد:
هل تُحِبُّ أن تكون من عِباد الرحمن؟ هل تَطمَع أن تكون لك الجنة في الغُرفَة أعالي الجنان؟ هل تَرغَب أن تُلَقَّى في الجنة التَّحيَّة والسلام من ملائكة الله المُقَرَّبين؟
في سورة الفرقان يتحدث ربنا عن عباد الرحمن، و يَصِفُهُم بمواصفات، أشياء ينبغي أن يفعلوها وأشياء أخرى ينبغي أن يتركوها. ويُرَتِّب على ذلك ثواباً عظيماً منه جلَّ جلاله.
على كل إنسان أن يعمل جَرْداً مع نفسه
في هذا اللقاء الطَّيِّب إن شاء الله سنستعرض هذه الصفات بشكل سريع، ليس المقصود من اللقاء تفسير الآيات، فربَّما يأخذ تفسيرها وقتاً طويلاً، لكن المقصود أن نَقيسَ أنفسنا على ما فيها، على كل إنسان أن يعمل جَرْداً مع نفسه، هل تنطبِق عَليَّ صفات عباد الرحمن تلك أم أنني مُقَصِّرٌ ببعضها؟ هل هناك أشياء ينبغي أن أتَجَنَّبها لم أتَجَبَّنها؟ وليحاول كل مِنَّا أن يأتي الذي ينقصه لأنها والله مرتَبَةٌ عظيمة جداً عند الله أن تكون عَبداً له.
كلُّ الناس عِباد، فإمَّا أن يكون الإنسان عَبداً لله فهو في عِزٍّ ما بعده عِز، وإما أن يكون عَبداً لعبدٍ من عباد الله فهو في ذُلٍّ ما بعده ذُلّ، ولا تُصَدِّقوا أنَّ أحداً ليس عَبداً، كل الناس يعبدون، لكن المؤمن يَعبُد خالق السماوات والأرض وغيره قد يَعبُد شهوته، وقد يعبد شُهرته، وقد يَعبُد منصبه، وقد يَعبُد مديره، وقد يَعبُد وزيره، فكلُّ الناس يَعبُدون.
العبادة هي الطَّاعة
أي يُطيعون طاعةً دون بصيرة لغير الله، مع الله الطاعة على بصيرة. يُسَمُّونها طاعة عمياء، أي كما يقال له يفعل، مثل الطَّاعة في صفوف الجيش والقوات المسلحة، الكلمة تُنَفَّذ قبل أن تنتهي يكون قد نَفَّذَها، هذه هي العبادة، فالعبادة هي الطَّاعة، فكلُّ الناس يَعبدون، لكن المؤمن أحَسَن الاختيار، فعَبَد الله، فما يُرضي الله يفعله وما يُغضِب الله يترُكُه، هذا حُسن اختيار، لكن ليس هناك إنسان حُر بالمعنى المُطلَق للكلمة، هذا تحدَّثنا عنه سابقاً.

وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
[ سورة الفرقان ]

عندنا عِبَاد وعندنا عَبيد، غالباً عبيد هو جمعٌ لعَبد القَهر، وعِباد جمع لعَبد الشُّكُر، عِبَاد الرحمن عِبَاد شُكر وليسوا عِبَاد قَهر، ما معنى ذلك؟ لو أن مُلحِداً قال: لا أؤمن بوجود الله أبداً، مُلحِد لكنه مُفَتقِر، مُفتَقِر إلى كل شيءٍ من الله، إذا أوقَفَ ربنا الرِّزق عنه لا يستطيع أن يأكل و يشرب فيموت، إذا أَوقَفَ ربنا له كُليته عن العمل مشكلة، إذا أوقف له الكَبِد سيموت، إذا ضاقَ قُطْرُ شِريانه التَّاجي أي ميليمتر وربع جَلطة يصاب بشَلَل كامل، إذاً هو عَبد، إذا قال: لست عَبداً ولا أُومن، أنت عَبد، لأنك مُحتاج، فهو عبد قَهر، مَقهور شاء أم أَبى. لكن نحن لسنا عبيد قَهر فقط نحن عَباد شُكر، أي نُحسن التَّوجُّه إلى الله، ذاك الأول مقهور بالعبادة، نحن نَتَوَجَّه بإرادتنا:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[ سورة المائدة ]

فلمَّا قال عِباد هؤلاء عِبَاد الشُّكُر، عِباد الرحمن نَسَبَهُم إلى ذاته العَلِيَّة، وحتى يُبَيِّن لك عِبَاد شُكر لم يقل لك: وعِباد القَهَّار، ولم يقل لك: عِباد الجَبَّار، ولا عِباد المُنتَقِم، ولا المُتَكَبِّر، عِبادُ الرحمن، لأن العلاقة به علاقة حُب، وليست علاقة قَهر، (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

صفات عباد الرحمن:
1 ـ يمشون هوناً:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) أول صفاتهم أنهم يمشون على الأرض هَوناً، هَوناً بسكينةٍ ووقار من غير تَكَبُّرٍ ولا استعلاء، بسكينةٍ ووقار من غير تَكَبُّرٍ ولا استعلاء ولا تَطَامُن و تَذَلُّل، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في صفاته في الصحيح:

{ كان إذا مشى كأنَّما يَنحَدِرُ من صَبَبْ }

[ رواه الترمذي ]

أي من عُلُو، بِقُوَّة وعِزَّة المؤمن، سيدنا عمر لمَّا رأى أحدهم يمشي مُتَطامِناً علاه بالدرة على رأسه وقال: يا هذا لا تُمِتْ علينا دينَنَا، ارفع رأسك.
فهَوناً لا تعني أبداً أن يَذِلَّ الإنسان في مَشيَتِه أو أن يَهون، لا، هوناً أي بسكينةٍ ووقار من غير تَكَبُّرٍ ولا استعلاء.

لَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
[ سورة الإسراء ]

يتواضع لعِباد لله، لكن يمشي بِعِزَّة و قُوَّة مع تواضعٍ لعِباد الله وعليه السَّكينة والوقار.
هذه أول صفة، يستغرب الإنسان أول صفة (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا)، لأن السَّمْت الحَسَن دلالة على السلوك الحسن، أول ما تنظُر إلى مُؤمن تجده متواضعاً في مشيته هذا يدفعُك لأن تتحدث معه، لأن تنظر في سلوكه، فأول ما يتبادر إلى ذهنك مَشيَتُه، حركته، (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا).

2 ـ الحلم:
قال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) الصفة الثانية. الجَهل هنا ليس ضد العِلم وإنما ضد الحلم.
الجَهل ضد الحِلم
ما سُمَّيت الجاهلية لأنها لم يكن فيها عِلم، كان عندهم علم في اللغة وحتى عِلم ببعض العلوم، لم يكونوا جُهَّالاً بمعنى صِفر معلومات، لا، كان عندهم سَفَاهة وعدم حِلِم، فالجَهل ضد الحِلم هنا وليس ضد العِلم، فإذا كان هناك شخص يحمل دكتوراه في أعلى اختصاص وشخص آخر بالسيارة من ورائه أطلَقَ بُوق السيارة مرتين أو ثلاث ثم فَقَدَ أعصابه، ونزل لعنده، وضَرَب على السيارة، وصَرَّخَ عليه، وقام بَشتمه، وشَتَم والعياذ بالله أباه، وأمه، و كذا، هذا جاهل، هذه الجَهَالة، ولو معه دكتوراه، هذه جَهَالة، فالجَهَالة ألا تَحلُم على الناس.
أما الحليم فضد الجاهل لذلك قال عمرو بن كلثوم بمُعَلَّقَتِه:
إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ تَخِـرُّ لَــــــــهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـل فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
{ عمرو بن كلثوم }
لا، نحن المسلمين نقول:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فنحلم فوق حلم الحالِمِينا
{ عمرو بن كلثوم }
كلما ازدادوا جَهلاً ازددنا حِلماً.
زيد بن السَّعنَة، كما وَرَدَ في أحاديث صَحَّحَ إسنادها كثير من أهل العِلم، زيد بن السَّعنَة كان يهودياً، وجاء إلى النبي صلى عليه وسلم واستَلَفَ حِنطَة ويُسَمُّونَه: عقد السلم في الشريعة بمعنى أنا أعطيك الثمن الآن وأستلم السِّلعَة فيما بعد، والشَّرع شَرع هذا النوع من العُقود للرِّفق بالناس، أي المُزارِع يريد مالاً، ولكن السِّلعة لا تنضج الآن تحتاج إلى وقت، فيأخذ المبلغ يعمل به، ويُسَلِّمَك السِّلعَة فيما بعد، هذا اسمه عَقد السَّلَم، فهذا صَنَع ذلك:
فلمَّا حان موعد الاستلام جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم، وعَلَا صوته في مجلسه، يا آل محمد ما عَلِمتُكُم إلا مُطْلَاً في الأداء - تُماطِلون في الأداء- فقام إليه سيدنا عمر يتكلَّم مع رسول الله - وسيدنا عمر كان عملاق الإسلام - فقال له: دَعْهُ يا عمر، كان حَرِيَّاً بك أن تأمُرَه بِحُسن المُطالَبَة و أن تأمُرَني بِحُسن الأداء - تأمره بِحُسن الطَّلَب وتأمُرَني بحسن الأداء، تأمُر رسول الله ِبُحسن الأداء - قال: خُذه و أعطِهِ و زِدهُ جزاء ما روَّعتَهُ - أخَفتُه للرجل - فزاده قال: ما حَمَلَكَ على ما صَنَعَت، قال:

{ يَا عُمَرُ كُلُّ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ قَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثنتين لَمْ أَخْتَبِرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا فَقَدِ اخْتَبَرْتُهُمَا فَأُشْهِدُكَ يَا عُمَرُ أَنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا }

[ أخرجه ابن حبان]

ما الذي دعاه إلى الإسلام؟ لا تزيده شِدَّة الجَهَالِة عليه إلا حِلماً.
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) هو يجهُل ونحن نحلُم، لا تُعَرِّض نفسك لِتَرُد على إنسان جاهل سَفيه فتَصَغُر أمامه، لكن عندما تُقابِلَه بالحِلم إن كان غضبه آنيَّاً يَصغُر أمامك ويعتذر، وإن كان جاهلاً ينصرف وهو يُزَمجِر وليكن ما أراد ولا أُصَغِّر نفسي مثله.
(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) قال العلماء هذه يمكن أن تكون سلاماً بمعنى التحية، ويمكن سلاماً بمعنى سأسلَم من أي شيءٍ يَشينني عند الناس وعند الله، أي لن أقول شيئاً لا يُسَلِّمُني، سلاماً، أريد السَّلام بيني و بينك لا أريد الحرب.
أما إذا كان الجَهل الذي صَدَر عنه فيه مُنكَر، هذا يذهب إلى قضية إزالة المُنكر وفق الشروط الشرعية المُعتبَرَة، هذا بحث آخر، كما قُلنا في السيارة حَدَث شيء، كذا من أمور الدنيا. الأمور الشرعية تذهب باتجاه آخر:

{ من رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيدِه - فإن لم يستطعْ فبلسانِه. فإن لم يستطعْ فبقلبِه. وذلك أضعفُ الإيمانِ- }

[ صحيح مسلم ]

وفق الشروط الشرعية، وأحد أهم الشروط الشرعية في إزالة المُنكر ألا يؤدي إلى مُنكرٍ أشدَّ منه، أن يُزيلَه بُمنكَرٍ أشَدَّ منه، حتى هنا ينبغي أن يكون ضمن الضَّوابِط وليس فَوْرَة غضب.

3 ـ السجود والقيام:

وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
[ سورة الفرقان ]

لآن علاقتهم مع الله. يبيتون: باتَ الرجل أي رجع إلى بيته ليلاً سواء بَاتَ أو لم يَبت بعد، المَبيت هنا ليس النوم لكن باتَ إلى البيت رَجَع.
التنويع في السجود والقيام
(يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) إما أن حالَهم في السُّجود أو في القِيام لله تعالى، ولعلَّ التَّنويع هنا سُجَّداً وقِياماً أي قد يكون عند الإنسان ما يمنعُه من السُّجود أو هو مُتعَب فيقوم، عند السُّجود يفعل هكذا وهناك إنسان يسجُد ويُطيل السُّجود، لكن بالقيام يجلس، يقول لك: أنا مُتعَب أو مريض، فَنَوَّع حتى يُبَيِّن أن هذا الأمر مُختَص بالصلاة إلى الله بغض النظر عن الحالة التي تقوم فيها، لأن النَّفل يمكن للإنسان أن يؤديه جالساً ولو استطاع القيام، النَّفل يجوز للإنسان أن يؤديه جالساً ولو استطاع القيام وله نصف الأجر إذا كان قادراً على القيام، أما إذا كان غير قادر على القيام وجلس فله الأجر كاملاً.
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) من أجمل ما قرأته في تفسير الآية. ابن عباس رضي الله عنهما قال:
من صلَّى لله ركعتين بعد العشاء الآخرة فقد باتَ لله ساجداً قائِماً
{ تفسير القرطبي] }
أدنى شيء بعد العشاء الآخرة ركعتان، لم يقم في الليل ولم يقل لا أستطيع أن أستيقظ، بعد العشاء صلى السُّنَّة ركعتين لله، قال: فقد باتَ لله ساجداً قائِماً، وقال بعض أهل العِلم إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ }

[ صحيح مسلم ]

فرحمة الله واسعة فلو أدَّى العشاء والفجر في جماعة انطبَق عليه: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا).

4 ـ يخافون ربهم ويدعونه ليدخلوا الجنة:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
[ سورة الفرقان ]

الغَرام هو المُلازَمَة
الغَرام نقوله على العِشق والهُيام والمحبة الزائدة، مُغرَمٌ به. الغَرام هو المُلازَمَة، فلمَّا كان المُغرَم بشخصٍ يُلازِمُه أو يُلازِم ذِكرَه إذا كان بعيداً عنه سُمَّي الغَرام غَرَاماً، الغَرَام هو المُلازَمَة، ولمَّا كان الغَريم يُلازِمُه دَينُه فسُمِّي غَريماً، يقول لك: لا يذهب عن بالي الدَّيْن فهو غريم، من هنا غَرِمَ.
(إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) أي مُلازِماً، العذاب يُلازِم الإنسان في نار جهنم، فهؤلاء بين أنهم يَبيتون لرَبِّهم سُجَّداً وقِياماً وأنهم رغم ذلك يخافون ربهم، أي لا يأمنون عذاب الله، وهذا ليس من أجل أن تكون في حالة خوف دائمة، الأصل أنك في حالة حُب دائمة مع الله، لكن الخوف طارئ، لأن الإنسان إذا لم يخف قد يعصي، الحُب وحده لا يكفي أحبابنا الكرام، صدِّقوا أنه لا يكفي، أي بتربيتك مع أبنائك الحُب 90 % ولا أبالِغ، 90% تريد حُباً، ولكن يوجد خوف 10%، هناك أشياء الطفل لا يتركها إذا لم يكن خائفاً، فقط حُب لا يفعلها، شَهوته تُغلِبُه، وبعلاقتك مع الله هناك شيء آخر، شيء تقول: نفسي تُنازِعُني ولكني خائف من الله، وهناك مئة شيء تقول: أُحِبُّ الله، لكن هناك شيئاً أخاف منه. فلذلك: (يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) مُلازِمَاً للإنسان لِمَن استَحَقَّ طبعاً.

إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
[ سورة الفرقان ]

(إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا) لِمَن قَرَّ بها، (وَمُقَامًا) لمن أقام بها.
(مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) مُسَتَقر: المكان الذي يقرُّ به الإنسان، والمُقام: الذي يُقيم به، ولعلَّ الإقامة أكثر من الاستقرار، الاستقرار قد يكون آنياً، أنا مُسَتَقِر بهذا البلد سنة ومن ثم سأغادر، المُقام دائم، وهناك في النار من يَستَحِق النار إلى أبد الآبدين من لم يكن في قلبه مِثقَال ذَرَّةٍ من إيمان، أو هناك من يَستَقِر بها شيئاً ثم يخرج منها، لكن في الحالتين: (إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا).

5 ـ ابتعادهم عن الإسراف والتقتير:

وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا (67)
[ سورة الفرقان ]

الإسراف مُجاوزة الحَد
الآن انتقل إلى العلاقة مع الآخرين، العلاقة مع الله انتهت، الآن إذا أنفقوا للآخرين، العطاء، (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) الإسراف مُجاوزة الحَد، والإقتار مُجاوزة الحَد بالطرف الآخر إلى البُخل، فلا إسراف في إنفاقهم ولا تقتير، فهم وسط: (وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) أي مُعتدلاً وسَطَاً، تقوم به الحياة، لأن الحياة لا تقوم بإسراف ولا تقوم ببُخل، لأن الإسراف قد يصل إلى التَّبذير وهو الإنفاق في الحرام والعياذ بالله، وقد لا يصل إلى التَّبذير لكن الإسراف الشديد في الدنيا بمعنى أن يحتاج الإنسان طعاماً بكمية معينة فيأتي بعشرة أضعاف، يقول لك: نأكل منهم غداً، حسناً غداً أكلت وثالث يوم لم يعد بالإمكان أكلهم، أي الكمية كثيرة باتَت، صارت في القمامة، هذا إسراف، أنه جاوز الحَد، ولم يقتروا لا على أهلهم ولا حتى في النَّفَقَة الواجبة والمُسَتَحَبَّة، في النَّفَقَة الواجبة النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه الرجل بماله يقول له دائماً: ماذا أبقيت لعيالك؟

{ عن عمرَ بنَ الخطَّابِ أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا، قالَ: فَجِئْتُ بنِصفِ مالي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأَهْلِكَ؟ قلتُ: مثلَهُ، وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟ فقالَ: أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا }

[ رواه الترمذي و أبو داود ]

قل لي: ماذا أبقَيْتَ لأهلك؟ لا تُسرِف حتى في الإنفاق، قال:

{ كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ }

[ أخرجه ابن ماجة ]

يجب أن يُبقِيَ الإنسان شيئاً لنفسه
ولا مَخيَلة أي كِبر، قد تكون هناك ملمّة بأحوال بالمسلمين ليس هناك إسراف مهما أنفَقت، لكن المقصود أن يُبقِيَ الإنسان شيئاً لنفسه، فالإسراف لا ينبغي في البيت ولا مع الأهل، طبعاً قد تقول لي: الإسراف مُتَباين بين الناس، طبعاً، الذي دَخْلُهُ خمسة آلاف وأنفق ثلاثة آلاف و تَصَدَّق بألف، هذا لا يُسَمَّى مُسرِفَاً مثلاً عند قُرَنَائِه، أما الذي دَخلُه خمسمئة ويُنفِق ستمئة ويستدين، صار مُسرِفاً مع أنه أنفق أقل. طبعاً الحالة الاجتماعية لها مكانها، يوجد أغنياء ويوجد فقراء، الله ابتلى الفقير بالغني والغني بالفقير، لكن عموماً كان سيدنا عمر يقول: (أو كلَّما اشتهيت اشتريت).
يوجد رجل تركي عَمَّر مسجداً أَسماه: (كأنِّي أَكلت)، باللغة التركية، كان كلما أراد أن يشتري شيئاً يقول: غير ضروري ويُبقي بالحَصَّالة قيمة ما أراد أن يشتري أو مما لا يحتاجه، فيُبقيه فَتَراكَم معه مبلغ، عمَّرَ مسجداً صغيراً سمَّاه: (كأنِّني أَكلت)، لأنه كان يقول: كأني أكلت ويضع هذه المدَّخَرَات في الحصالة، كأنني أكلت.
مرَّة دخلت امرأة السوق قالت: يا الله ما أكثر الأشياء التي لا نحتاجها؟! لأن المجتمع الاستهلاكي يعرض لك كل شيء، فأنت تشتري الأشياء التي لا تحتاجها كثيراً، وأحياناً تشتري الأشياء لأنها عَرض مع أنك لا تحتاجها ولكنها بعَرض فتقول: دعنا نشتريها، حسناً بعَرض أو بغير عَرض إذا كانت بتخفيضات 25 % أو بغير ذلك هذه الحاجة كلها لا أحتاجها، هذا المجتمع الاستهلاكي، نَقَع في هذا المَطَب كلنا، فالإنسان يحاول قدر الإمكان ألا يُسرِف، أمَّا أن يُنفِق على عياله فهذا أعظم دينار تُنفِقه على عيالك كما قال صلى الله عليه وسلم، والإنسان إيَّاه أن يقتر على عياله، لأن الله يُوسِّع عليه ثم يُقَتِّر على عياله، هذه لا وهذه لا، الإنفاق على العيال من أعظم القُرُبَات عند الله، لم يُسرِفوا ولم يَقتُروا، لا بُخل ولا تجاوز للحَدّ، وكان بين ذلك أي بين الإسراف والتَّقتير قَواماً.
بالمناسبة معظم الفَضائِل التي يُشَرِّعُهَا الإسلام وتكون وَفق الشَّرع هي وسطٌ بين فضيلتين، قالوا:
الفضيلة هي وسطٌ بين رذيلتين
{ أرسطو }
فالشجاعة هي وسط بين الجُبُن والتَّهور، الشُّجاع ليس مُتَهَوِّراً ولكنَّه ليس جَبَاناً، والكرم وسط بين البُخل والإسراف وهكذا، فالفضيلة غالباً وسطٌ بين رذيلتين فلها طَرَفان حادَّان غير مقبولين ولها وسطٌ قَوامٌ يريده الله، (وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ }

[ رواه أحمد والبخاري ]

ما قال: لأُنشِئ مَكارِم الأخلاق، كان يُشَذِّبُهَا، صلى الله عليه وسلم، لديك شجاعة؟ الشجاعة بأرض المعركة في سبيل الله، وليست تَهَوُّراً من أجل ناقَة، داحِس والغَبراء، تُقيم حرباً سنوات مع أهل وطنك، لا، رشَّدَهَا، هَذَّبَهَا، لديك كرَم حاتم، الكرم يُحِبُّه الله، لديك مصادر الإنفاق هنا وهنا، فكان يُتَمِّم المَكارِم، ولمَّا جاء إلى أُمَّة العرب جاء إلى أُمَّة عندها مَكارِم، أخلاق عظيمة، والذين دائماً يُحِبُّون أن يُذُمُّوا العرب أنا لا أُحِبُهم، العرب أصحاب مَكارِم، أصحاب أخلاق، نعم كان عندهم مَثالِب لكن هل نظرنا إلى مَثالِب الفُرس والروم؟ كان عنترة يقول:
وأغض طَرفي ما بَدَت لي جارتي حتى يُواري جارتي مأواها
{ عنترة بن شداد }
العربي كان شَهماً، صاحب مُروءَة، صاحب نخوة، كريم يترك أولاده ويذبح للضيف، عنده أخلاق لكن كانت تحتاج إلى ترشيد، شهامة ومروءة وكرم لكن لا يوجد منهج، دون منهج الأخلاق تتضخَّم بشكل غير صحيح، فجاء الإسلام ليؤَطِّرَها وفق الطرق الصحيحة، وفق الضوابط. (وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا).

6 ـ الابتعاد عن الشرك وقتل النفس والزِّنى:
الآن:

َالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
[ سورة الفرقان ]

الشِّرك الخَفي أن يَعبُدَ شيئاً لا يقول لك إني أعبدُه
هذه الأشياء الثلاث مع بعضها، (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ): لأن الشِّرك فيه هَلاكُ الأديان، (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) لأن القتل فيه هَلاكُ الأبدان، (وَلَا يَزْنُونَ) لأن الزِّنى فيه هلاكُ الأعراض، فمن ترك هذه الثلاث بَرِئَ دينه، وبَرِئَ بَدَنه، وبَرِئَ عِرضُه، لأنه لم يعتد على الآخرين. فهي ثلاثة أشياء: لا يدعون مع الله إلهاً أخر، بهذا التَّنكير حتى تَشمَل الشِّرك الجَلي والشِّرك الخَفي، فالشِّرك الجَلي أن يَعبُد صَنَمَاً أو حَجَراً كما كان يفعل العرب في الجاهلية، والشِّرك الخَفي أن يَعبُدَ شيئاً لا يقول لك إني أعبدُه، ولكن يُطيعه ولو كان ذلك فيما يُغضِب الله، له شريك والشَّريك قال له: نريد أن نأتي بصفقة فيها خمور، وقال لك: لا أستطيع أن أُخالِفَه، هذا شريكي، لا تستطيع أن تُخالِفَه ولكن تستطيع أن تُغضِب الله! هذا: (يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ) ليس الشِّرك الأكبر المُخرِج من المِلَّة، لا، ما قُلنا ذلك، هذا مسلم، لكن هذا شِرك خفي:

{ أخفى من دَبيب النَملِة السوداء على الصخرة الصَمَّاء في الليلة الظلماء - وقال العلماء - وأدناهُ أن تُحبَّ علَى شيءٍ منَ الجَورِ، أو تُبْغِضَ علَى شيءٍ منَ العَدلِ }

[ عائشة رضي الله عنها ]

شخص تُحبُّه رغم أنه جائِر لأنه يأتيك منه منافِع، وهو ظالم يظلم الآخرين لكن تُحبُّه، كما نرى البعض الذين يتَمَسَّكون ويتَعَلَّقون بالسلاطين والملوك على جَورِهِم، بعض البعيدين عن الله نسأل الله السلامة. وأن تُبغِض على عَدِل، اي هو عادل معك لكن نَصَحَ لك نصيحة لله فأبَغَضّتَه:

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
[ سورة البقرة ]

فهذا كله من الشِّرك الخَفِي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:

{ اليسيرُ من الرياءِ شركٌ، ومن عادى أولياءَ اللهِ فقد بارز اللهَ بالمحاربةِ، إنَّ اللهَ يحبُ الأبرارَ الأتقياءَ الأخفياءَ، الذين إن غابوا لم يُفقَدوا، وإن حضَروا لم يُعرَفوا، قلوبُهم مصابيحُ الهدى، يخرجون من كلِّ غبراءَ مُظلِمةٍ }

[ رواه ابن ماجة والبهيقي ]

{ إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ، قالوا: وما الشِّركُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الرِّياءُ ؛ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟! }

[ رواه أحمد ]

الرِّياء من الشِّرك الخَفِي
أي أن يُرائِيَ الإنسان بأعماله للآخرين، لا ينظر إلى الله، ينظر إلى ما يرى من نَظر رجلٍ إليه، فإذا كان في حَضرَة الناس صَلَّى فأحسَنَ صلاته، و إذا كان في بيته نَقَرَها كَنَقرِ الدِّيَكَة أو ترَكَها، فيُصَلِّي في حَضرِة الناس ويتركها بعيداً عن الناس فهذا يُراقِب الناس ولا يُراقِب خالق الناس، فالرِّياء من الشِّرك الخَفِي.
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) النَّفْس مُصانَة في الإسلام، وقَتلُها بالحق بإحدى ثلاث: الثَّيِّبُ الزَّاني، والتَّارِك لدينه المُفارِق للجماعة، والنَّفسُ بالنَّفس، الِقصَاص.

{ لا يحِلُّ دمُ امرئ مسلمٍ إلَّا بإحدَى ثلاثٍ , الزِّنَى , والنَّفسُ بالنَّفسِ , والتَّاركُ لدينِه المفارقُ للجماعةِ }

[ صحيح البخاري ومسلم ]

وهذه الثلاثة يُقيمُها الحاكم وليس الأفراد، هذا هو الحق، إلا بالحق.
(وَلَا يَزْنُونَ) البُعُد عن الزِّنى الذي فيه هلاك الأعراض، وكل ما من مُقدِّمات الزِّنى ينبغي لعباد الرحمن أن يبتعدوا عنه، أن يُنَزِّهوا أنفسهم عنه، فالخَلوة بالأجنبية مُحَرَّمَة، والنَّظَر بالشَّهوة إلى ما حَرَّم الله، وغير ذلك من كل شيء مُقَدِّمَات، لذلك الله قال في آية أخرى:

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
[ سورة الإسراء ]

ما قال: ولا تزنوا، قال: ولا تَقرَبُوا الزِّنى، لأن هناك أشياء تُقَرِّب من الزنى، تَدفُع الإنسان، المَجالِس المُختلطة الماجِنة بغير ضوابط إلى آخره مما يُغضِبُ الله، فيؤدي بالإنسان إلى الزِّنى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ العينُ تَزني، والقلبُ يَزني، فزِنا العينِ النظَرُ، وزِنا القلبِ التمَنِّي، والفَرجُ يُصَدِّقُ ما هُنالِكَ أو يُكَذِّبُه }

[ مسلم ]

إما أن يُتابِع فيما بعد فيقَع في الزِّنى الشرعي الذي يستوجب عُقوبة الله الكبيرة والحَدّ، أو أن يُكَذِّبَه الفَرْج، لكن يبقى له هذه الصغائر التي ينبغي أن يتوب منها.

الابتعاد عن الكبائر لأن عقوبتها شديدة عند الله عز وجل:
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) من يفعل واحدة من هذه الثلاث يلقى أثاماً أي عقوبةً شديدةً من الله عز وجل، لكل سيئة عقاب، قال:

يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
[ سورة الفرقان ]

فيه لا تُمَد في الأصل في التجويد، لأن هذه الهاء قبلها ساكن، فليست هاء صِلَة كقوله تعالى:

يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
[ سورة الهمزة ]

تُمَد لأن قبل الهاء مُتَحَرِّك وبعدها مُتَحَرِّك، لكن فيه ومنه لا تُمَد، لأن ما قبلها ساكن، فالأصل في غير هذه الآية أن يقال: (فِيهِ مُهَانًا) بغير مد لكن هنا على خلاف القاعدة، جاء اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم يخلُد فيه مُهاناً للدلالة على التأكيد على خُلودِه فيها، أي ليَلفِتَ نظرك أن هناك شيئاً يستدعي الانتباه.
(فِيهِ مُهَانًا) ثم قال مُهَاناً لأنه الهَوان شديد على النفس، خصوصاً عند النُّفوس الكرام:

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
[ سورة الدخان ]

الهَوان شديد على النفس
الهَوان صعب على الإنسان، في القرآن هناك عذاب أليم، وعذاب عظيم، وعذاب مُهين. الأليم: بالنسبة لِمَا يُحدِثه من ألم على الأجساد، أثره العظيم: لأنه من العظيم، نسبةً إلى كمية العذاب إن صَحَّ التعبير، عظيم.
والمُهين: نسبةً إلى أثره النفسي والمعنوي وليس المادي، هناك شخص مُستَعِد ليسمع مئة كلمة سيئة ولا أحد يضرِبه يُؤلمُه، وهناك أشخاص يقول لك: تكلَّم معي كلمة صِدقاً لو ضَربَني بالعَصا عشر ضربات ما عادَلَت هذه الكلمة التي قالها لي، أي بالنسبة له الإهانة بالكلام.
فالعذاب هنا قال: (يَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) لأنه كان مُتَكَبِّراً في الأرض فناسَبَه العذاب المُهين الذي يُهينُ كرَامته، نسأل الله السلامة.

عذاب الله للإنسان عذاب طارئ ليعود إلى جادة الصواب:
ربنا عز وجل لا يَتَكَلَّم على العذاب إلا ويفتح باب الرحمة فوراً، أبداً، لا يوجد في القرآن حديث عن العذاب إلا ويفتح باب رحمته لك فوراً، قال:

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
[ سورة الفرقان ]

عندما تسمع: (يَخْلُدْ فِيهِ) لا يوجد باب، فهو أُغلِق، قال: (إِلَّا مَنْ تَابَ) الموضوع ليس كذلك، لأن ربنا يُريدُنا إلى رحمته، هو لا يُريدُ عذابنا، العذاب طارئ من أجل أن نعود إلى الجَادَّة، فقال:

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70
[ سورة الفرقان ]

(تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) تاب: رَجِع إلى الله وأقلَعَ عن الذَّنْب ونَدِمَ على ما كان منه واستغفر، شروط التوبة النَّصوح، وآمن: أي كانت تَوبَتُه مَبنِيَّة على خوفه من الله وإيمانه بوجود الله، وعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً: لِيُكَفِّر عن السيئات التي كانت منه، هذه إضافة للتوبة، التَّوبَة النَّصُّوح استَغفَر، نَدِمَ، أقلَع، عَقَدَ العَزم على عدم العودة إلى الذَّنْب، صَحَّت التوبة إن شاء الله.
من مرتكزاتِها ومؤكِّداتها ليثبُتَ عليها عمل صالح بعدها، صدقة، عمل صالح هذا يؤكُّد التوبة.
فهنا قال: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) العمل الصالح صَواب يُوافِق الكتاب والسُّنَّة ويجب أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى.

من تاب وآمن بدل الله سيئاته حسنات:
(فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) كيف ذلك؟ مثلاً كان عنده 100 سيئة صار عنده 100 حسنة؟
المعنى الأول يُبَدِّل سيئاتهم حسنات: كان يكذب صَارَ صاَدِقاً، أي ذهبت السيئة صارت حسنة، كان يتكلم بالغِيبَة صار يَكفُّ لسانه عن الغِيبَة، بَدَّل الله سيَّئاته حسنات.
الاستغفار والإنابَة والتوبة حسنة عند الله
المعنى الثاني: هو كان لديه سَيِّئَة استغفر وتاب وأناب، هذا الاستغفار والإنابَة والتوبة حسنة عند الله، فكُتِبَت له حسنة، إنسان كان يأخذ رَشوة، تاب، وإذا كان يعرف أصحاب الحقوق يعيد لهم حقوقهم فَرَضَاً وبعد ذلك قال: يا رب سامحني، يا رب اغفر لي، هذا العمل الذي يقوم به حسنة، فبُدِّلَت سيَّئاتُه حسنات.
استقامته هي الحسنة، يُبَدِّل سيِّئَاتهم حسنات.
(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يغفر الذنوب ويَستُرُها ويرحُم صاحبها، المغفرة هي تَخليَة والرحمة هي تحليَة، كيف ذلك تخلية وتحلية؟ كأس كريستال من أفخم نوع لكنه مُلوَّث من داخله بمياه آسِنَة، هل يقبل إنسان أن أَصُبَّ له عصير الورد ماء الورد فيه وأُقَدِّمه له؟ لا، أنظفه قبل كل شيء، فالتنظيف هو التَّخلية، وماء الورد بداخله هو التَّحلِيَة، فغفوراً هي التَّخلِيَة، أزال الذنوب، والرحمة تَحلية من الله، يُزيل الذُّنوب وبعد ذلك يعطيك الرحمة والسكينة.

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)

هناك تابَ في الدنيا، الآن لمَّا تابَ وعَمِل صالحاً، فإنه يتوب إلى الله مَتاباً يوم القيامة، يرجع إلى الله رجوعاً حسناً، يستقبِلُه الله يوم القيامة خالياً من الذنوب:

{ التَّائبُ من الذَّنبِ كَمَن لا ذنبَ له }

[ ابن ماجة والطبراني ]

(فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) يتوب إلى الله أي يرجع إلى الله مَتابَاً حسناً، المَتَاب هو الرُّجوع، ما معنى تَابَ؟ رَجِعَ:

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
[ سورة البقرة ]

أي رجوعاً، كيف البيت مَثابَة؟ تقوم بالحج وتتعب وترجع بعد أسبوع صوتك غائب ومتعب ثم تقول: أسأل الله أن يرزقنا الحج مرات ومرات، لم تكن في سويسرا!
لأن الله عَلَّقَكَ بهذا البيت، فجعله مثابةً لك، تريد أن تعود رغم أنه لا يوجد شيء مادي يُرجِعُك إلا أنك فرحتَ بالصَّلة بالله، (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) فالتوبة و الثوبة هي الرجوع إلى الله والأَوبَة. تاب وثاب وآب.

7 ـ لا يشهدون الزور ويبتعدون عن اللغو:

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
[ سورة الفرقان ]

كل ما فيه ميلٌ عن الحق فهو زُور
لا يشهدون الزُّور، لا يقولونه ولا يحضرون مَجالِسَه. والزُّور: الازوِرار هو المَيل، ازْوَرَّ مَالَ، فكل ما فيه ميلٌ عن الحق فهو زُور، غيبة، نَميمة، وأعلاه والعياذ بالله شهادة الزُّور، أن يشهَد الإنسان زُوراً بأنه رأى فلُاناً يفعل وهو لم يره، أو أعلم أن فلاناً سرق وهو لا يعلم، والنبي صلى الله عليه وسلم:

{ أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، يقول راوي الحديث وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - عَدَّلَ جلسته – فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، حتى قال الصحابة أشفقَن عليه فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ }

[ صحيح البخاري ]

خوفاً عليه، من كثرة احمرار وجهه وهو يقول ألا وقول الزُّور، يُنَبِّه، وهو أثناء حديثه عن الشِّرك كان مُتَّكِئَاً وهو من أعظم الكبائر والعياذ بالله، لكن لمَّا الأمر صار بِمَسَاس لحقوق الناس جَلَسَ فانتبهوا جميعهم، فالنبي جلس، ثم أصبح يقول: (ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ حتَّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ) خوفاً عليه، أشفقوا عليه صلى الله عليه وسلم.
(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) اللَغو الكلام الذي لا طائل وراءه، حديث بالعَورات، حديث غيبة، نميمة.
(مَرُّوا كِرَامًا) أي يُكرِمُون أنفسهم أن يخوضوا في مجالِس فيها ذِكْر الأعراض أو ذِكر الغيبة أو النميمة، (مَرُّوا كِرَامًا) أي يُكرِمُون أنفسهم أن يجلسوا فيها، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) بمعنى أنهم لم يقصدوها، و إنما مروا بها مروراً، أي لا يذهب المؤمن إلى مجلس يعلم أن فيه لَغواً.
(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) حديث نُكتة صالحة، إدخال السرور على قلوب الناس، فرح، ضحك، تَبَسُّم، لا يوجد مانع، ليس في الإسلام كَهَنُوت، لكن ألا يكون فيه مَساس بالناس أو بأعراض الناس، أو هذا المجلس لو كان مُباحاً لا يُذكَرُ فيه اسم الله أو لا تُقَام فيه الصلاة إن حان وقتها، فتذهب الصلاة على الناس، أو، أو إلخ...

8 ـ يسمعون آيات الله ويخشعون لها:

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
[ سورة الفرقان ]

خرَّ عليهم السَّقف أي سَقَطَ بغير انتظام، السَّقف لا يسقط هكذا بالترتيب، فالخَرّ هو السقوط بغير انتظام، فلمَّا ذكر الصالحين قال:

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ (109)
[ سورة الإسراء ]

خرُّوا سجداً من عظمة الله تعالى
من عَظَمَة الله شبَّه فعله لما ينزل للسُّجود كأنه لم يَعُد يَعِي ماذا يفعل، فَخَرَّ خَرَّاً، لأنه أمام عَظَمِة الله، وأمام حُبِّ الله، خَرَّ خَرَّاً، فلذلك هم لم يَخِرُّوا عليها هنا بالعكس، (صُمًّا وَعُمْيَانًا) أي لا يَسمَعون ولا يُبصِرون، وإنما المؤمن إذا ذكر بآيات الله سواء آياته بالكون بما خلَق، أو آياته في القرآن بما تَكلَّم، أو آياته في الكون بما فعل جل جلاله من أفعال بإهلاك الظالمين، أو بنصر المؤمنين، كما في القرآن:

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[ سورة الفجر ]

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
[ سورة الفيل ]

إلى آخره.
(لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) لا يتجاوزون الآيات وإنما يَخِرُّون عليها، يَسمُعَها ويُبصِرُ آيات الله في الكون.

9 ـ يدعون الله أن يهبهم ذرية صالحة وأن يكونوا قدوة للآخرين:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
[ سورة الفرقان ]

تَقُر العين أي تَسكُن، ولا تَقُرّ العين إلا بالولد الصالح، (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) فلا تَقُرّ عين الإنسان إلا أن يرى ولده صالحاً يَخاف الله، مُصَلّياً، فَتَقُرّ عينه وتَسكُن.
سخونة العين تعبيرٌ عن الحزن
والقَرّ هو البَرد، والعين عندما تَقَرّ تكون باردة، قال لي بعض الأطباء: إن حرارة العين لا تتجاوز تسع درجات، بينما حرارة الكبد ترتفع أكثر من ذلك بكثير، فالعين في الأصل فيها بُرود، لكن عندما تَسخُن يُعَبِّر فيها الشعراء عن الحزن، العين الساخنة، فالقَرار يكون بالسُّكون و البَرد، تبرُد العين عندما ترى أمامها من ذُرِّيَتِها من يدعو لها:

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
[ سورة الفرقان ]

(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي يقتدي بهم الناس، أنت لا تَقبَل أن تكون فقط مُقتَدِياً، كن أنت قدوة للآخرين، اقتدِ بالصالحين وكن قُدوة للآخرين، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) أي يا رب اجعل المُتَّقي إذا رآنا يَأتَمُّ بنا، المُتَّقي، أي هو من أعظم الدَّرجات، يقول: ما شاء الله، والله التَّاجِر الفُلاني لا يأكل قِرشاً حراماً، أينما ذهبت إليه يُعطيكَ حَقَّك للآخر، فأنا قُدوتي بالحياة بالتجارة بالتَّاجِر الفُلاني، والله هذا الطبيب قُدوة لي بالمعاملة الحسنة، والله إذا رأى فقيراً يُعالِجُه مجاناً، جَلستُ معه نصف ساعة يُجاوِبُك ولا يَضجَر منك ولا يَمَل، أنا قدوتي فُلان، فُيصبِحَ إماماً للمتقين. (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

الجنة ثمن من صبر في الدنيا:

أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
[ سورة الفرقان ]

الباء هنا باء السبب، أي بسبب صبرهم (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) والغُرفَة هي مكان في أعلى الجِنان، وهنا جاءت مُفردَة، والغرفة فيها غُرُفات، في آيات أخرى:

وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
[ سورة سبأ ]

فهي غُرُفات، لكن المَرتَبَة اسمها الغُرفَة، وفي الغُرفَة غُرُفَات لكل إنسان، فالغُرفَة في أعالي الجنة، فلمَّا كانت أخلاقهم بهذا العُلو والسُّمُو كان جزاؤهم بهذا العُلو والسُّمُو.
الدِّين هو الصَّبِر
(يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا) الصَّبِر هو الدِّين، الدِّين هو الصَّبِر، صَبَروا ما زَنوا، صَبَروا ما أشركوا، صَبَروا ما قَتَلوا النفس، خَاطَبَهُم الجاهلون فصَبَروا، تحتاج إلى صَبر، تقول: شَعِرتُ كأني سأخرج من جلدي ولكن صَبَرتُ، وقلت له: كما تريد اذهب مُسامَح. كل الدِّين صَبر، ليس الصَّبر فقط أنك فَقَدتَ قريباً فصَبَرت، هذا نوع من الصَّبر، لكن الصَّبر على المعصية أهم أنواع الصَّبر والصَّبر على الطاعة:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[ سورة طه ]

فقال:
(أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا)
صَبَروا في الدنيا فكان جزاؤهم في الجنة الغرفة.
الغُرفَة مرتبة في الجنة في أعالي الجنة، الغُرفَة التي نجلس بها اسمها غُرفَة، هذه غُرفَة، مكان يجتمع فيه الناس، لكن المرتَبَة في أعالي الجنة اسمها الغُرفَة.

أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
[ سورة الفرقان ]

أما قلتُ لكم في البداية: ألا تُحب أن تُجزى الغُرفة؟ (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) أي من أجمل المجالِس أن تمرّ عليك الملائكة وتسلم عليك، تَحِيَّةً وَسَلَامًا.

خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
[ سورة الفرقان ]

بمقابل هناك ساءت مُستَقرَّاً ومُقاماً، لكن هناك كما قلنا ليست خُلُوداً دائماً للكل، لكن في الجنة خُلُود دائم، مُسَتَقِرٌ دائم، ومُقام دائم لا انقطاع له، حَسُنَت مُستَقَرّاً لِمَن أَقَرَّ بها ومُقامَاً لمن أقاَمَ بها، أسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.
والحمد لله رب العالمين