إن وعد الله حق

  • خطبة جمعة
  • 2025-08-01
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

إن وعد الله حق

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد أيُّها الإخوة الكرام: يروى أنَّ رجُلاً سُجِنَ وضاقَ بسجنه ذرعاً، وما عاد يُطيق صبراً، يُصبح ويُمسي جزعاً، عن طريق سجَّانيه وصلته رسالةٌ غيَّرت حياته، رغم أنه ما زال أسيراً في سجنه، أصبح يستيقظ نشيطاً، أصبح مُبتسماً، ملأ النور قلبه قبل أن يراه بعينيه، لعلَّكم عرفتم ما مضمون الرسالة، كانت وعداً بأنَّ هذا الأسبوع هو الأسبوع الأخير في سجنه، وأنَّ موعده مع الفرح أصبح وشيكاً، ولقد كان الواعد صادقاً وقادراً، صاحبُ مكانةٍ في البلد، فوثق بوعده وفرح منتظراً الفرج القريب.
قصتنا في الحياة تُشبه تلك القصة كثيراً، ألم يقُل صلى الله عليه وسلم:

الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الْكافرِ
(أخرجه مسلم)

سجنٌ يمنعنا من الشهوات المُحرَّمة، سجنٌ يُلزمنا بالتكاليف التي قد تكون شاقَّة، سجنٌ يُلزِمُنا بالصبر على الأذى (الدُّنيا سجنُ المؤمنِ).
وما يُصبِّرنا على هذا السجن، بل قد يُسعدنا ونحن فيه، في سجن الدنيا، رسالةٌ وصلتنا من الله في قرآنه:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)


فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ:
ومن أقدر من الله على تنفيذ وعوده، هذه الرسالة مضمونها، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أيُّها الإخوة الأحباب: لقد ورَدَ الصبر ومشتقاته في القرآن الكريم في أكثر من مئة آية، ولقد جاء قوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ثلاث مراتٍ في كتاب الله، الأولى في سورة الروم قال تعالى:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ(60)
(سورة الروم)

الثانية: في غافر:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ(55)
(سورة غافر)

الثالثة: في غافر أيضاً:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(77)
(سورة غافر)


من يقفون في طريق صبرنا هُم أولئك الذين لا يوقنون بوعد الله:
الآية الأولى في سورة الروم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) تُبيِّن لنا أنَّ من يقفون في طريق صبرنا، ويدخلوننا في دائرة الجزَع والخوف والقَلَق، هُم أولئك الذين لا يوقنون بوعد الله.
قد يقول لك بلسانه إنه مؤمنٌ بالوعد، لكن عنده ضعفٌ في اليقين (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) تُبيِّن الآية أنَّ من يقفون في طريق صبرنا، هُم أولئك المُرجفون الذين يجعلونك خفيفاً، يستخفُّونك يمنعونك من أهدافك، يقفون حائلاً بينك وبين الثقة بوعد الله تعالى، كُن مع الموقنين بالوعد، وإيّاك والاستجابة لهؤلاء، إنه وعد الله.
لو قيل لك: هذا وعد المَلِك - المُضاف إليه المَلِك - لوثقت به، وعد المَلِك، فكيف بوعد مَلِك الملوك؟! هذا وعد الله، مَلِكٌ لا يُخلِف وعده في الأعمّ الأغلب من ملوك الدنيا، أفيُخلِف الله وعده؟! إذاً اصبِر (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ).
سورة الروم بالمناسبة افتُتِحَت بقوله تعالى:

الم(1) غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)
(سورة الروم)

واختُتِمَت (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) فناسب المبدأ الختام، وعد الله بالنصر، وعد الله بالجنَّة، وعد الله بالحياة الطيَّبة، وعد الله تعالى بإهلاك الظالمين، وعده حقّ.

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)
(سورة آل عمران)


اثبتوا على الاستقامة فإن ابتعدتم عن الطريق فعليكم بالاستغفار:
الآية الثانية في غافر: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) تقول لنا: اثبتوا على الاستقامة، فإن ابتعدتم عن الطريق فعليكم بالاستغفار، وداوموا على الصلة بالله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) كأنَّ الآية تُبيِّن طُرق الصبر (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
يقول قائل: كيف أصبر؟ بمَ أستعين؟ الطريق صعبة، بمَ أستعين على الصبر؟ قال له: استعِن بالاستغفار، لا تدُم على ذنبٍ، واستعِن بالتسبيح والحمد صباحاً ومساءً، لا تترك الصِلة بالله، هذا ما يُعينك على الصبر.
الآية الثالثة: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) تقول الآية: لا يُشترَط أن ترى النتائج في الدنيا، قد تصبر وتصبر وتقضي إلى الله تعالى ولا ترى نتيجةً، لكنك مؤمنٌ بوعد الله في الآخرة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) وليس كل، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل أن ترى الوعد في الدنيا، لكنك ستراه في الآخرة لأنَّ مرجعهم إلى الله (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي في الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فلا تراه في الدنيا، فستراه في الآخرة لأنَّ مرجعهم إلينا (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).
هذه الآيات الثلاث أيُّها الكرام في كتاب الله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) مطلعُها وفي كل خاتمةٍ منها، درسٌ وعِبرةٌ وعِظة.

لو أنَّ الجزاء كان في الدنيا دائماً لما كان من معنى لقولنا اصبِر:
أيُّها الإخوة الكرام: لو أنَّ الجزاء كان في الدنيا دائماً، لما كان من معنى لقولنا اصبِر، لو أنَّ الناس تعودوا، أنَّ كل ما يحدث في الدنيا سيرون نتائجه، إذاً لا داعي للصبر، الصبر هو أنك تحبس نفسك عن الجَزَع رغم اشتداد الآلام، وتحبس نفسك على طاعة الله رغم اشتداد المُغريات، لأنك تنتظر موعود الله في الآخرة.
أيُّها الإخوة الكرام: الصلاة صبر:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ(132)
(سورة طه)

الصيام صبر، أما قال صلى الله عليه وسلم يصف شهر رمضان:

{ صُمْ شهرَ الصبرِ رمضانَ، صمْ شهرَ الصبرِ وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهرٍ }

(الألباني ضعيف الجامع)

والزكاة صبر، يصبر الإنسان نفسه عن بعض ماله فينفقه في سبيل الله.
والحج كله صبر، كل العبادات صبر، غض البصر صبر، حفظ اللسان صبر، الاستقامة كلها صبر، بل إنَّ الله تعالى جعل هوى الإنسان في العَجَل، قال تعالى:

خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(37)
(سورة الأنبياء)

هذا هوى النفس، يستعجل يريد النتائج فوراً، يريد أن يرى جائزته فوراً، ويريد أن يرى جزاء الظالمين حالاً، يستعجل (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) كما أنه خُلق يهوى النظر إلى المُحرَّمات، وكما أنه خُلق يهوى النطق بكل ما يريد دون ضابط، بالغيبة والنميمة، هكذا جُبِل هوى نفسه، والتكليف بعكس الهوى والنتيجة الجنَّة.

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ(41)

هو يُحب العَجَلة، والتكليف (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) التكليف: (فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) لا تستعجل كل شيءٍ سيأتي، انتظر حتى يأتي موعده لا تستعجل.
نرى اليوم أهلنا في غزَّة، يُجوَّعون، يُحاصرون، يُبادون، من قضى إلى الله قضى شهيداً إن شاء الله، وترك هذه الدنيا الفانية وراءه، ومن يصبِر على الأذى، ويصبر على ما يجده اليوم في الدنيا، موقنٌ إن شاء الله بأنَّ وعد الله حقّ، ولا يستعجل.

لماذا يصبِر المؤمن؟ ولماذا لا يصبِر غير المؤمن؟
أيُّها الإخوة الكرام: لماذا يصبِر المؤمن؟ ولماذا لا يصبِر غير المؤمن؟ أنت قد تأخذ ولدك إلى الطبيب وتذهب معه إلى طبيب الأسنان مثلاً، عندك مشكلةٌ في أسنانك وعند ابنك مشكلةٌ أيضاً، تجلس أنت على كرسي الطبيب، وتصبِر على العلاج الصعب حتى يُنهي الطبيب مهمته، ثم تشكُر له وتعطيه أَجره، يجلس ابنك الصغير ذو خمس سنوات على كرسي الطبيب، فيملأ العيادة صياحاً، ويحرِّك يديه بشكلٍ عشوائي، وقد يضرب الطبيب ويتلفَّظ بألفاظٍ عجيبةٍ غريبة، ولا يصبِر، ما الفرق بين الأب والابن؟
الأب أحاط خُبراً بعِلم الطبيب فصبر على العلاج، الابن لا يعلم ما الذي يفعله الطبيب، لماذا يعبث بأسناني؟ لماذا يؤذيني؟ ما شأنه بفمي؟ فأصبح يصيح لأنه لم يُحِط خُبراً بعِلم الطبيب، يصبِر المؤمن لأنه يُحيط خُبراً بالمستقبل، يعلم ما سيكون لا عِلماً بالغيب حاشا، لكن بإخبار الله له، فيصبِر على مُرّ الدنيا، وعلى مُرّ الدواء فيها، وعلى مُرّ العلاج فيها لأنه قد أحاط خُبراً.

رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح دورةٌ مُكثَّفة في الصبر:
في رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، كانت هذه الرحلة تعليماً فريداً من نوعٍ خاص، دورةٌ مُكثَّفة في الصبر، الذي هو زاد الأنبياء والدعاة والمصلحين، بل زاد كل المؤمنين في كل زمانٍ ومكان، من اللحظة الأولى قال العبد الصالح لموسى عليهما السلام:

قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا(67)
(سورة الكهف)

لن تصبِر، وبيَّن له سبب عدم صبره، قال له مُستنكراً:

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا(68)
(سورة الكهف)

أنت لا تعرف أنا أعرف، أنت لا تعرف لن تصبِر، موسى عليه السلام يُحب أن يتعلَّم:

قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا(69)
(سورة الكهف)

الرحلة كلها رحلة صبر، موسى عليه السلام نبيٌ من أُولي العزم، من كبار الصابرين، يصبِر على عبادة الله، يصبِر على الاستقامة، يصبِر على أذى قومه، صبر كثيراً لكن هُنا الأمر مختلف، هُنا أقدارٌ من نوعٍ خاص، يقوم بها رجُلٌ صالح لم يدرك موسى أسبابها ولا دوافعها، ولم تهدأ نفسه إلا عندما قال له العبد الصالح في نهاية الرحلة كلمة السر، ما كلمة السر؟

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا(82)
(سورة الكهف)

موسى يعرف الله، لمّا قال له: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) هدأت نفسه، ما دام التصرُّف من الحكيم الخبير، ما دام التصرُّف من القدير، من اللطيف، فقد فهمته، كلمة السر في الرحلة كلها: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).

موسى عليه السلام احتجَّ ولم يصبر لأنه لم يُحِط خُبراً:
أيُّها الإخوة الكرام: العبد الصالح قام بتصرفاتٍ غير مفهومة، خرَقَ السفينة، وبنى جداراً دون أجرٍ لقومٍ لم يُضيِّفوهم، وقَتَل الغُلام، وأصعبها قتل الغُلام، احتجَّ موسى ولم يصبر، لأنَّ ما يحدث في معظمه مخالفٌ للشريعة، فاحتجَّ ولم يصبر لأنه لم يُحط خُبراً، ماذا كان احتجاجه؟

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا(71)
(سورة الكهف)

فَهِمَ خرق السفينة إغراقاً لأهلها في البحر.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا(77)
(سورة الكهف)

لماذا لم تأخذ أجراً؟ ونحن جياع ولم يُضيّفونا.

فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا(74)
(سورة الكهف)

احتجَّ موسى عليه السلام، بالمناسبة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وقعت معه أقدارٌ مشابهةٌ لهذه الأقدار، لكنه لم ينتبه لها وهو في داخلها، لكنه انتبه لمّا أصبح مراقباً خارجياً، لكن لمّا كان داخلها لم ينتبه، لمّا وضِعَ في التابوت، هل وضِعَ ليغرق أم لينجو؟ نجا، ثم يقول له: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) لمّا سقى للفتاتين هل أخذ أجراً؟

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)
(سورة القصص)

فعلها ولم يأخذ أجراً، لمّا وكز القبطي ألم يقضي عليه؟ ثم يقول له: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ).
لمّا كانت الأقدار تحدث معه ما كان ينتبه إليها، لكن لمّا حصلت أمامه وهو مراقبٌ خارجي احتجَّ عليها، رحلةٌ عجيبة في تعليم الصبر على قضاء الله وقدره.

أنواعٌ ثلاثة من أقدار الله يجب أن نصبِر عليها:
أيُّها الإخوة الكرام: موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، بهذه الرحلة مع العبد الصالح، وضَّح لنا أنواعً ثلاثةً من أقدار الله، التي يجب أن نصبِر عليها.

النوع الأول قَدَرٌ تفهم حكمته قريباً:
النوع الأول: قَدَرٌ تفهم حكمته قريباً، أقدارٌ حصلت ثم فهمنا حكمتها، مثلاً: أُريد أن أدرس الاختصاص الفلاني، لم يُتح لي درست غيره، تبيَّن لي أنَّ هذا الاختصاص هو خيرٌ لي، تأخرت عن موعد الطائرة، فلم أصعد إلى الطائرة، ثم تبيَّن لي أنَّ الطائرة هبطت هبوطاً اضطرارياً في مطارٍ آخر، وصعُبَ على الرُكَّاب وواجهوا مشكلاتٍ فيها، فحمدت الله، قَدَرٌ تفهم حكمته بعد حينٍ، قريب، هذا يشبه أصحاب السفينة.
أصحاب السفينة خُرِقَت سفينتهم، والمَلِك كان يأخذ كل سفينةٍ غصبا، لمّا خُرِقَت سفينتهم لم يخرجوا لرزقهم، وهُم بالمعنى الحديث عمال مياومة، أي في اليوم الذي يعملون يأكلون، فجلسوا يندبون حظهم كما يقال، لأنهم لم يخرجوا اليوم، لمّا عاد أصحاب السفُن مساءً، قالوا لهم: أنتم من نجا ونحن من هلكنا، فأصبحوا يحمدون الله تعالى، اكتُشِفت الحكمة فوراً.

النوع الثاني من الأقدار تفهم حكمته في الدنيا لكن يطول الانتظار أحياناً:
النوع الثاني من الأقدار: تفهم حكمته في الدنيا، لكن يطول الانتظار أحياناً، هذا يشبه بناء الجدار، بنى الجدار ولا يعلم موسى لماذا بُنيَ الجدار، ولا يعلم أصحاب البيت لماذا بُنيَ الجدار، شبَّ الغُلامان اليتيمان، واستخرجا كنزهما من تحت الجدار، وعلِما لماذا جاء العبد الصالح قبل عشر سنواتٍ أو أكثر، وبنى الجدار، فهناك أقدارٌ نفهم حكمتها لكن بعد حين.

النوع الثالث من الأقدار تنقضي الدنيا ولا نفهم حكمتها:
النوع الثالث من الأقدار: تنقضي الدنيا ولا نفهم حكمتها، يُشبه قتل الغُلام، لماذا قُتِل الغُلام؟ لا أحد يعرف، والداه حزِنا حُزناً شديداً، والناس حوله حزنوا على وفاته، وكانت حادثةً مؤلمةً للقرية كلها، لكن يوم القيامة ستُكتَشف الحِكم جميعاً، وعندها سينطِق الخلائق من أعماق قلوبهم:

وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(75)
(سورة الزمر)

أيُّها الإخوة الكرام: نحن في الدنيا صابرون لأنَّ وعد الله حقّ، ولأننا أحطنا خُبراً في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنبأنا الله بالثواب والعقاب، وأنبأنا بالجنَّة والنار، فنحن صابرون على ما في الدنيا، ننتظر وعد الله الحقّ لا يُخلِف الله وعده.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمَّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً يا أرحم الراحمين، واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا.
اللهم قد تآمر عليهم القريب والبعيد وليس لهم إلاكَ يا أرحم الراحمين.
اللهم انصُر من نصرهم، واخذُل من خذلهم، اللهم عليك باليهود المجرمين الظالمين، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر فيهم منهم أحداً.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم، وأنجِ المُستضعفين من المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل بلادنا أمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله ربّ العالمين.