مكارم الأخلاق

  • 2019-06-21
  • عمان- الأردن
  • مسجد عواد النعيمات

مكارم الأخلاق

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض، ومِلء ما بينهما، ومِلء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء و البَشر أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِ منك الجد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نذلُ في عزك؟ وكيف نضام في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كلهُ إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلم تسليماً كثيراً، وبعد عباد الله؛ اتقوا الله فيما أمر، وانتَهوا عما عنه نهى وزجر, يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.


الإيمان هو الخلق :
الإيمان هو الخلق
أيها الأخوة الكرام؛ روى البخاري في صحيحه أن أبا ذرٍ رضي الله عنه لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم آتني، الآن أخو أبي ذر في مهمة وتكليف رسمي من أبي ذر رضي الله عنه قبل إسلامه، بأن يذهب ليأتيه بخبر هذا الرجل الذي يأتيه الوحي من السماء، قال: فانطلق الأخُ حتى قدِمَهُ، أي َقِدمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذرٍ فقال له : انظر الآن، لخص له ما رآه في رحلته الاستكشافية بكلمات معدودة لا تزيد على أربع كلمات، قال: ماذا رأيت؟ قال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، هذا الرجل غريب باختصار، جاء إلى مكة ليسمع عن النبي صلى اللهعليه وسلم ويعود بخبره إلى أخيه أبي ذر، ذو العقل الوافر، فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، إن الدين أيها الكرام هو الخلق فمن زاد عليك بالخلق زاد عليك بالإيمان، كما يقول ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى: الدين هو الخلق، الإيمان هو الخلق، رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وعندما نقول الإيمان هو الخلق فلا يعني ذلك أننا نقلل من شأن العبادات حاشا وكلا، فالصلاة والصيام والزكاة والحج فروضٌ بُنيَ عليها الإسلام، لكن الإسلام في جوهره أخلاق، و ما هذه العبادات إلا لتحقيق الأخلاق.

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
[ سورة العنكبوت : 45]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[ سورة البقرة : 183]


أخلاقنا في الطرقات من الأخلاق الإسلامية الراقية التي دعا إليها الإسلام :
أيها الأخوة الكرام؛ ومن الأخلاق الإسلامية الراقية التي دعا إليها الإسلام وحث عليها أخلاقنا في الطرقات، كل إنسان يحاول جهده أن يحافظ على أخلاقه في عمله وبين الناس، لكن هناك حقوق للطريق، قد يغفل كثير من الناس عنها، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح:

{ إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ }

[متفق عليه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]

إياكم والجلوس في الطرقات
إِيَّاكُم وَالْجُلُوسَ في الطُّرُقاتِ، الإنسان في بيته أو في عمله، أما الجلوس في الطرقات فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا "، قد نحتاج إلى الجلوس في الطرقات لحديث يُدار بيننا، أو لأمر نتناقش فيه، " مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ" أي إن كان لابد من أن يكون الإنسان في الطريق فهذه حالةٌ متكررة، " فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّهُ؟" الآن يرسم لنا النبي صلى الله عليه وسلم، حقوق الطريق الواجبة على كل مسلم، قَالَ: " غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ".

حقوق الطريق :

1 ـ غض البصر :
إذاً للطريق خمسة حقوق هي أولاً: غَضُّ الْبَصَر:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
[ سورة النور : 30]

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
[ سورة النور : 31]

فغض البصر واجب على المسلم وهو في الطريق، ومن أهم الواجبات، فلا ينبغي على المسلم أن يتتبع بعينيه ما لا يحل له النظر إليه، ولا أن يتتبع مفاتن النساء، ولا أن يتتبع عورات الناس، ولا أن يتتبع أحوالهم وهو في الطريق:

{ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه }

[ أخرجه الترمذي ومالك عن أبي هريرة ]


2 ـ كف الأذى :
الحق الثاني؛ وهو الذي أريد أن أؤكد عليه، هو كَفُّ الأَذَى، والأذى أيها الأخوة متنوع، فمن كَفُّ الأَذَى أن يصون الإنسان لسانه عن التلفظ بالألفاظ النابية، و بالألفاظ الخادشة للحياء، و بالألفاظ التي لا تليق بالمسلم، ولا بدينه، ولا بمجتمعه، ولا بوطنه، هذا من ألزم اللزوم أن يصون الإنسان لسانه، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطباً معاذ بن جبل, قال:

{ ....كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ }

[ أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه والحاكم ]

الإسلام حض على فعل الخيرات
فكف الأذى مطلوب في الطرقات، ومطلوبٌ في كل مكان، ومن كف الأذى بعد صون اللسان ألا يرفع الإنسان صوته، لا بمكبرات الصوت العالية جداً في الأفراح، التي تقض مضاجع الناس، ولا بأبواق السيارات التي قد تطلق في مواكب الخريجينَ والخريجات بغير ما سبق، مما يقض مضاجع الناس، ويفسد على الناس حياتهم، ويزيد من مرض مريضهم، فهذا أيضاً من آداب الطريق، وهو من كف الأذى الذي يجب الانتباه إليه.
لكن الإسلام أيها الكرام لم يأمر بكف الأذى في الطرقات بل حض على فعل الخيرات في الطرقات، ففي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم:

{ لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرةٍ قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين }

[ مسلم عن أبي هريرة]

إماطة الأذى عن الطريق صدقة، فالمسلم إيجابياً عليه ألا يكتفي بكف الأذى، ولكن عليه أن ينهض إلى رفع الأذى، وينهض إلى أبعاد الأذى عن طريق الناس.

3 ـ ردّ السلام :
أيها الأخوة الكرام؛ حقوق الطريق خمسة حقوق؛ أَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ، غَضُّ الْبَصَر، وكَفُّ الأَذَى، ورَدُّ السَّلامِ، فمن سلم عليك فسلم عليه بل بادر أنت بالسلام على الناس في مجالسهم، ورَدُّ السَّلامِ.

4 ـ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر :
الأمر بالمعروف هي الفريضة السادسة
وَالأَمْرُ بالْمَعْروفِ، والنَّهْيُ عنِ الْمُنْكَرِ هو الفريضة السادسة التي ما أوتيت الأمة في دينها و ما أوتي عليها من قِبلِ أعدائها إلا عندما تخلت عن هذه الفريضة الأَمْرُ بالْمَعْروفِ، والنَّهْيُ عنِ الْمُنْكَرِ، والمجتمع المسلم أيها الأخوة الكرام يأمر بالمعروف فيما بينه ويتناهى عن المنكر، أما عندما أهلك الله أقواماً ذَكر فقال:

كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
[سورة المائدة: 79]

و لو أن الأمة المسلمة حينما تقع في أخطاء الأمم السابقة لم تترك التناهي عن المنكر فإنها تستحق التأديب، وقد تستحق الهلاك، نسأل الله العافية، فلا بد من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهذه هي الفريضة السادسة في الإسلام.
أيها الأخوة الكرام؛ الطريق له حقوقه، فلا ينبغي قطعهُ، ولا إطلاق أبواق السيارات فيه، ولا أذى الناس، ولا الكلام الفاحش والبذيء، ولا أي شيء يُعكر صفوة طريق المسلم.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و وزنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، و تمنى على الله الأماني، أستغفر الله.

الخطبة الثانية :

على الإنسان أن يتقي دعوة المظلوم :
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أيها الأخوة الأحباب؛ إلى موضوع الساعة، وسأبدأ بقصتين لطيفتين سريعتين، الوزير يحيى بن خالد البرمكي، قال له بعض بنيه و هو في السجن، وهو مقيد: يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذه الحال، كنا في ود، وفي عز، وفي نعمةٍ، وأصبحنا في السجون، وفي القيود، فقال: يا بُنِي دعوة مظلوم سرت بليلٍ ونحنُ عنها غافلون ولم يغفل الله عنها، ثم أنشأ يقول:
رُب قوم قد غدوا في نعمة زمناً والدهــــــــــــــــر ريان غدق سكت الدهر زماناً عنهـــــــــــــــــــم ثم أبكاهم دماً حين نطق ***
{ يحيى بن خالد البرمكي }
هذه قصة القصة الأولى.
القصة الثانية؛ قال يوسف الكوفي: حججت ذات سنة، فإذا برجل عند البيت، وهو يقول أمام الكعبة: اللهم اغفر لي وما أراك تفعل، أي لن تغفر ذلك، فقال يوسف: يا هذا ما أعجب يأسك من عفو الله، في بيته، وأمام كعبته المشرفة، وتقول: ما أراك تغفر لي؟ ما أعجب يأسك من عفو الله، قال: إن لي ذنباً عظيماً، فقلت : أخبرني، قال: كنت في الموصل في العراق، فرج الله عن العراق وأهله، فأمرنا يوم جمعة- كان جندياً- فاعتَرضنا المسجد، فقتلنا من قتلنا، ثم نادى مناد: من علق سوطه على دار فالدار وما فيها له، غنائم حرب لا تستغربوا أيها الكرام، اليوم نحن في القرن الواحد والعشرين ويحدث ذلك في كثير من بلدان المسلمين، نسأل الله أن يحفظ الأمن والأمان على الأردن، قال: من علق سوطه على دار فالدار وما فيها له، فعلقت سوطي على دار ودخلتها، فإذا فيها رجل وامرأة و ابنان لهما، فقدمت الرجل فقتلته، ثم قلت للمرأة: هاتي ما عندك فأعطتني سبعة دنانير، فقتلتُ ابنها، فلما رأتني جاداً في قتل الثاني أخرجت لي درعاً من ذهب ما رأيت أحسن منها، فجعلت أقلبها بين يدي، فإذا مكتوبٌ عليها بالذهب:
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء فويل ثم ويـــلٌ ثم ويــــــلٌ لقاضي الأرض من قاضي السماء ***
{ الشاعر عبد الرحيم محمود }
فقال: فارتجفت و ابتعدت، فسقط السيف من يدي، وخرجت من مكاني إلى حيث ترى.

الاحتباس الحضاري :
الحضارة الغربية لا تقيم وزنأ لآلاف القتلى
أيها الأخوة الكرام؛ أيها الأحباب؛ الأمة والعالم يعاني من ظاهرةٍ اسمها: الاحتباس الحراري، تسمعون بها، لكن العالم اليوم يعاني من ظاهرةٍ أشد من الاحتباس الحراري، إنه الاحتباس الحضاري، ولا أعني بالاحتباس الحضاري تلك المدنية الموجودة، والتي لا أنكر فضائلها، ولا أنكر رذائلها معاً، فما الإعلان الساقط الذي نسمع به، وتلك المسلسلات التافهة التي نسمع بها، إلا بعض من تلك المدنية الحديثة، وفي المقابل ما تلك الدروس التي تسجل، والمحاضرات التي تصور إلا أيضاً من مفردات المدنية، فأنا لا أنكر فضائلها، ولا أنكر رذائِلها، ولكنني في الوقت نفسه أقول: لا أعني أبداً بالحضارة تلك المدنية، فهذه المدنية لم تنتج إنساناً صالحاً، ولم تنتج قيماً ولا أخلاقاً، فنحن نعاني من الاحتباس الحضاري حقيقة، هناك عالم يعج بالظلم، وعالم لا يبالي بالملايين الذين يقتلون، والألوف المؤلفة الذين يعتقلون في سجون الظالمين، ولا يقيمون لذلك وزناً، ولا يتكلم بكلمةً، ولا يندب ندباً، ولا يشجب شجباً، ولا يستنكر استنكاراً حتى, رغم أننا مللنا من استنكارهم، و شجبهم، وتكذيبهم، ولكن حتى تلك قد ضنوا بها علينا، لعل الله تعالى أرادنا أن نكفر بتلك الحضارة المزيفة، التي لم تنتج قيماً ولا أخلاقاً:

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
[سورة التوبة: 32]


ضرورة إدراك الأمور على حقيقتها :
أيها الأخوة الكرام؛ فرعون الذي قال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
[سورة القصص: 38]

أين فرعون الذي قال أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ فأجراها الله من فوقه، وأهلكه شر إهلاك، أين هامان و أين قارون؟ أين عاد و أين ثمود؟ قال تعالى:

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[سورة العنكبوت: 40]

يريدنا الله أن نخرج من حدود الزمان
اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، يرفعهُ الله فوق الزمان، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ "، وفي قوله: وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، أقول إننا بعد أن عانينا من الاحتباس الحراري ثم من الاحتباس الحضاري وهو أقوى، فنحن نعاني من الاحتباس الزماني، فنحن غالباً لا ننظر إلى الزمان نظرةً ضيقة، نريد أن يحق الله الحق بكلمته الآن في هذه الساعة، إلا أن الله تعالى لا يريد منا ذلك، يريدنا أن نخرج من حدود الزمان إلى أبعد من ذلك بكثير، هذا مؤمن آل فرعون:

وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[سورة يس: 20-22]

إلى أن قتلهُ فراعنة مصر، قتلهُ فرعون مصر، فلما قُتل:

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
[سورة يس: 26]

هذا خارج حدود الزمان، في عُقب الزمان والمكان هو رجلٌ قُتل ظلماً، ولكن خارج حدود الزمان والمكان، قَالَ:

يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
[سورة يس: 26-27]

إن الله تعالى يخاطب نبيه وهو أحب الخلق إليه، فيقول له:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
[سورة غافر: 77]

المهم أن نسير على الطريق
فقد لا يتاح لسيد الخلق وحبيب الحق أن يرى آثار دعوته ونتائج عمله، فليس المهم أن نصل إلى نهاية الطريق، ولكن المهم أنك تسير على الطريق، وكفاك بهذا شرفاً.
أيها الأخوة الكرام؛ إننا عندما نخرج من الاحتباس الزماني والمكاني الذي نعيشه، إلى زمان أوسع وأرحم فإننا ندرك الأمور بحقيقتها كلها، ولا نكون من الذين:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
[سورة الروم: 7]


الدعاء :
اللّهم اهدِنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارِك لَنا فيما أَعطيت، وقنا واصرِف عَنا شر ما قَضيت، سبحانك تَقضي ولا يُقضى عَليك. إنه لا يذل مَن والَيت، ولا يعز من عادَيت، تباركت ربنا وتعاليْت، فلك الحَمدُ يا الله عَلى ما قَضَيْت، ولك الشكر عَلى ما أَنْعَمتَ بِهِ عَلَينا وأولَيت، نستغفِرك يا رَبنا مِن جمَيعِ الذُّنوب والخَطايا ونَتوبُ اليك، ونؤمن بِكَ، ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقرينا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، وجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير، يا رب قد عمّ الفساد فنجنا، قلت حيلتنا فتولنا، ارفع مقتك وغضبك عنا، لا تعاملنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارحم شهداءنا، اللهم اشفِ جرحانا، اللهم عاف مبتلانا، اللهم فرج الهم عن أسرانا، اللهم فرج عن المعتقلين في سجون الطغاة والمجرمين يا أرحم الراحمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى، وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يارب العالمين، اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوي غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً يتقبل منا يا أرحم الراحمين، اجعل اللهم هذا البلد آمناً ، سخياً، رخياً، واستضفنا في كتابك وشرع نبيك صلى الله عليه وسلم، وفق اللهم ولي البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ * يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم، يرحمكم الله.