• خطبة جمعة
  • 2025-10-03
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

اليوم الموعود

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الكرام: في القرن السادس الميلادي، وقبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمئة عامٍ تقريباً، جرَت فصول القصة، وفي شقٍّ عريض في باطن الأرض يُسمّى الأخدود، حُفِرَ ودُفِنَ هناك فريقٌ من المؤمنين وأُحرقوا، قُل إن شئت هي مقبرةٌ جماعيةٌ، تُشبه المقابر الجماعية التي تُكتشف كل يومٍ على أرض الشام المباركة، والتي قُتِل فيها عددٌ من السوريين وغيرهم، ظلماً وعدواناً وبُهتاناً، أو قُل ذاك الأخدود يُشبه تلك المجازر البشعة، التي يقضي فيها يومياً مئاتٌ من أهلنا في غزَّة المُحاصرة، والأرض ستُحدِّث أخبارها، قال تعالى:

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)
(سورة الزلزلة)


قصة أصحاب الأخدود خلَّدها القرآن الكريم كلاماً إلهياً عظيماً يُتلى إلى يوم القيامة:
وستُروى القصص كلها يوم القيامة، ولكن قصة أصحاب الأخدود، وبعد مئة عامٍ كاملة من وقوعها، خلَّدها القرآن الكريم كلاماً إلهياً عظيماً، يُتلى إلى يوم القيامة، وها نحن اليوم بعد ألفٍ وخمسمئة سنةٍ ميلاديةٍ من وقوعها نقرأ ونُعلِّم أولادنا سورة البروج، ونتذكر قصة تلك الثلة الموحِدة المؤمنة، لنعلم أنَّ كل ما يجري في الكون محفوظٌ عند الله تعالى، وأنَّ هناك يوماً موعوداً سنقف فيه بين يدي ربنا، ليسألنا عن كل صغيرةٍ وكبيرة، إنه اليوم الموعود.
أيُّها الإخوة الكرام: تبدأ سورة البروج بقسَمٍ يبعثُ في النفس الهيبة والجلال، بثلاث آياتٍ مُتتاليات، وقعُها على النفس شديد.

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ(2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ(3)
(سورة البروج)


إذا أقسم الله بشيءٍ من مخلوقاته فإنما يُقسِم ليلفِت نظرنا إلى عظيم المُقسَم به:
وإذا أقسم العظيم جلَّ جلاله بشيءٍ من مخلوقاته، فإنما يُقسِم ليلفِت نظرنا إلى عظيم المُقسَم به، فالله جلَّ جلاله هو العظيم، فلمّا يُقسِم بالسماء لكأنه يقول لك: يا عبدي انظر إلى السماء، ويوم يُقسِم باليوم الموعود كأنه يقول لك: يا عبدي هذا يومٌ عظيم تشيبُ لهوله الولدان، فالقسَم من العظيم للفتِ نظر الإنسان إلى عظمة المُقسَم به (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ(2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ).
في سمائنا اثنا عشر بُرجاً، والبروج هي منازل أو مجموعات نجمية تسير فيها الشمس خلال السنة، برج الحَمَل، برج العقرب، برج السرطان، إلى أخره... يستخدمها الناس اليوم زوراً وبُهتاناً، للتنبؤ بحركة الإنسان بالحياة، وكذَب المنجمون، هذه البروج التي في السماء، يُقسِم الله بالسماء مُشيراً إلى عظمة هذه البروج.
أيُّها الإخوة الأحباب: بين الشمس والأرض التي نعيش عليها، مئةٌ وستةٌ وخمسون مليون كيلو متر، الشمس تكبُر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، بمعنى أنَّ جوف الشمس يتَّسِع لمليون وثلاثمئة ألف أرض تُلقى في جوف الشمس، هناك برجٌ في السماء اسمه برج العقرب، نجومه تتشكل على شكل عقرب، وفي هذا البرج نجمٌ أحمر من ألمع نجوم السماء، يُرى بالعين المجردة صيفاً في نصف الكرة الشمالية، نجمٌ صغيرٌ كما يُرى من الأرض، لامعٌ جداً يُسمّى قلب العقرب.
هل تعلمون أنَّ هذا النجم قلب العقرب يتَّسِع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، الشمس تكبُر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وبين الشمس والأرض مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، وقلب العقرب في برج العقرب، يتَّسِع للشمس و الأرض مع المسافة بينهما (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ) هذا إلهُنا جلَّ جلاله وهذه عظمته، يُقسِم بذات البروج.

ما علاقة السماء ذات البروج باليوم الموعود؟
(وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ) هو يوم القيامة الذي سنقف فيه بين يدي خالقنا جميعاً، وسنُحاسَب عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها، ما علاقة السماء ذات البروج باليوم الموعود؟ لماذا قال المولى: (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ) علاقتها قاعدةٌ نقول فيها إن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، بمعنى أنَّ الله تعالى الذي خلق السماء بهذه العظمة، وتلك البروج التي يَحار المرءُ في أحجامها، وفي المسافات الشاسعة البينية بينها، هذا الإله العظيم لا يمكن أن يترك عباده دون أن يحاسبهم، لا بُدَّ من اليوم الموعود (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ).
هبّ أنك دخلت جامعةً قد بُنيَت على أحدث طراز، ثم تجولت في أروقتها، فوجدت فيها من الوسائل التعليمية الشيء الكثير، ثم نظرت في مُدرّسيها فوجدتهم من أنجح المُدرّسين وأحسنهم، ثم قيل لك ببساطة: إنَّ الجامعة لا تُجري امتحاناً، ولا تُعاقِب مُسيئاً، ولا تُكافئ مُحسناً، لن تُصدق ذلك! لا يمكن لجامعةٍ بهذه العظمة ألّا يكون فيها امتحانٌ وحساب (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ).

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)
(سورة المؤمنون)


لا يليق بعظمة الإله الذي خلق السماوات والأرض ألّا يُحاسِب عباده وأن يتركهم هملاً:
تعالى الله الملِك الحق أن يخلق الناس عبثاً، وألّا يُرجعهم للحساب، لا يليق بعظمة الإله الذي خلق السماوات والأرض بهذه العظمة، لا يليق بجلاله ألّا يُحاسِب عباده، أن يتركهم هملاً، أن يستوي المُحسِن مع المُسيء، والمُسلم مع المُجرم.

أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)
(سورة القلم)

لا يمكن أن يستويان، لا بُدَّ من اليوم الموعود (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ(2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ) الله تعالى هو الشاهد ونحن مشهودٌ علينا.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(9)
(سورة البروج)

فهو يشهد أعمالنا صغيرها وكبيرها، النبي صلى الله عليه وسلم هو الشاهد ونحن المشهود علينا.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)
(سورة الأحزاب)

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا(41)
(سورة النساء)

النبي صلى الله عليه وسلم يشهد على أُمته، ونحن أُمته المشهود علينا، المال شاهد وأنت مشهودٌ عليك، ماذا صنعت بالمال؟ هل أنفقته في الحلال أم في الحرام؟ الصحة شاهد وأنا مشهودٌ عليّ، هل أنفقت صحتي فيما يرضي الله أم فيما يُغضبه؟ الجوارح شاهدة وأنا وأنت مشهودٌ علينا، العين ستشهد، والأُذن ستشهد، والرجل ستشهد.

وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ(22) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ(23)
(سورة فصلت)

(أَرْدَاكُمْ) أي أهلككم، الجوارح شاهد وأنت أيُّها الإنسان مشهودٌ عليك، ستنطق العين وتقول نظر إلى كذا وكذا، وستنطق الرجل وتقول ذهب إلى كذا وكذا، وستنطق اليد، وستنطق الجلود.
أيُّها الإخوة الكرام: هذه أقسامٌ ثلاثة، جمع قسَم أقسام: (وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ(1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ(2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ) كله تحت المراقبة، كله مصوَّر، وستُحدِّث الأرض أخبارها، وما جواب القسم؟

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(4)
(سورة البروج)


إذا قرأت في كتاب الله تعالى قسَماً فابحث عن جوابه دائماً:
أيُّها الكرام: دائماً إذا قرأت في كتاب الله تعالى قسَماً فابحث عن جوابه، ثم اربط بين القسَم وجوابه، فإن علاقةً بينهما تجعلك يقشَّعر جلدك من بلاغة القرآن الكريم، مثلاً قال تعالى:

وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)
(سورة العصر)

العصر هو الزمن الذي يمضي عَليَّ وعليك (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لماذا؟ لأنه يخسر رأس ماله الذي هو الزمن، فأنا وأنت في كل ثانيةٍ تمر نخسر الزمن، هذه الدقائق التي أمضيناها في هذه الخُطبة لم نخسر فيها الزمن لأنها إيمانٌ بالله.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)
(سورة العصر)

هذه لم نخسرها استثمرناها، لكن عندما يمضي الزمن دون أن يُستثمَر في الطاعة فإنه خسارة (وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) .
مثالٌ آخر:

وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا(1) فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحٗا(2) فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا(3) فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا(4) فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا(5)
(سورة العاديات)

يُقسِم بماذا؟ بالخيل، تعدو تتوسط الجموع، تُجالد عن صاحبها، وفيةٌ لصاحبها، تفعل كل ذلك وفاءً لصاحبها، ما جواب القسم؟

إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لِرَبِّهِۦ لَكَنُودٞ(6)
(سورة العاديات)

ليس وفياً يعد المصائب وينسى النِعم، كُن وفياً كالخيل التي خلقها الله، تعلَّم من الخيل غير المُكلَّفة أن تكون وفياً مع ربِّك كما هي الخيل، دائماً ابحث عن جواب القسَم، ثم اربط بين المُقسَم به وجواب القسَم.
نأتي إلى سورة البروج:
(وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلۡبُرُوجِ (1) وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡمَوۡعُودِ (2) وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ) لُعِنَ هؤلاء الذين حفروا الأخدود للمؤمنين، ووضعوهم فيه، وأحرقوهم فيه، فإذا نظرت في السماء ذات البروج، علمت عظمة الله تعالى وعلمت أنه سيُحاسبهم، وإذا نظرت في اليوم الموعود، علمت أنهم سيقفون للحساب يوم القيامة، وإذا نظرت في شاهدٍ ومشهود، علمت أنَّ الذي جرى لم يجرِ، وحاشا أن يجري دون إرادة الله تعالى.
قد كان شاهداً عليه (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهُنا تدرك الارتباط بين المُقسَم به وجواب القسَم، أهل غزَّة محاصرون (وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الصهاينة المُعتدون يمنعون أسطول الصمود أن يصل إليهم، وهُم يحملون معهم الخبز وحليب الأطفال فقط، يحاصرونهم (وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ) لُعِنَ هؤلاء الصهاينة، الذين يحفرون الأخدود الحديث لأهل غزَّة.

وَشَاهِدٖ وَمَشۡهُودٖ(3) قُتِلَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ(4) ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ(5) إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ(6) وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ(7)
(سورة البروج)

جلسوا على حافة الأخدود يستلذون بعذابات المؤمنين، واليوم لا يحتاجون إلى حافات الأخدود، يجلسون خلف الشاشات ليستلذوا بجوع هذه الثُلة المؤمنة المجاهدة.

إِذۡ هُمۡ عَلَيۡهَا قُعُودٞ(6) وَهُمۡ عَلَىٰ مَا يَفۡعَلُونَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ شُهُودٞ(7) وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ(8) ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ(9)
(سورة البروج)

كله بعلم الله تعالى.
أيُّها الإخوة الكرام: (وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ) ما الذنب الذي اقترفه هؤلاء؟ إلا أنهم قالوا ربنا الله، فأحرقهم هذا المَلِك المُتغطرس، ما الذنب الذي اقترفه أهل غزَّة؟ إلا أنهم قالوا نريد أن نأكل ونُطعِم أولادنا، ما الذنب الذي اقترفه السوريون؟ ما الذنب الذي يرتكبه المؤمنون في كل زمانٍ ومكان؟! (وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ) فقط.

الحرب في المرتبة الأولى هي حربٌ دينية:
الحرب حربٌ اقتصادية؟ نعم، على منابع النفط؟ نعم، للسيطرة على الأرض؟ نعم، ولكن تأكد أنها في المرتبة الأولى هي حربٌ دينية، ولا تسمع لمن يقول غير ذلك، هُم يحاربون أي ثُلةٍ مؤمنة تنهض لتقول لمشروعهم لا، ويَسومونها سوء العذاب، والطُغاة في كل عصرٍ ومصر يفعلون الشي ذاته، ويهلكون في النهاية.
انظروا إلى فرعون الطاغية في كتاب الله، واقرؤوا سيرته، تجدون أنَّ ما فعله النظام البائد هو ما فعله فرعون، وأنَّ ما يفعله الصهاينة اليوم هو ما فعله فرعون، لكنهم لا يقرؤون، والنتيجة هي نتيجة فرعون حتماً، وكلما ازدادوا ظلماً وبغياً وعدواناً، اعلم أنهم يقتربون من نهايتهم، ويطلقون النار على أنفسهم، ويصطفي الله تعالى من يشاء من عباده شهداء، ويرفع منزلتهم عنده، ويذل أعداءه ويُعلي مرتبة أوليائه هذه سُنَّة الله في الأرض.
أيُّها الإخوة الكرام:
(وَمَا نَقَمُواْ مِنۡهُمۡ إِلَّآ أَن يُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ(8) ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ) المُلك ليس لهم، ليس لهؤلاء الذين حفروا الأخدود، ولا لهؤلاء الذين حكموا بلدنا بالنار، وقد رأيتم بأعينكم، ولا لهؤلاء الصهاينة الذين يُشرِّعون الآن لخطةٍ استعماريةٍ جديدة، يُسيطرون فيها على الشرق الأوسط والأبعد.

يستحيل أن يجري في مُلك الله ما لا يريده الله تعالى:
ليس لهم المُلك، إيّاك أن تتخيل أنَّ المُلك لهم، لا يجري في مُلك الله شيءٌ خارج إرادة الله، يستحيل أن يجري في مُلك الله ما لا يريده الله، هل تقبل أنت أيَّها العزيز أن يجري في مُلكك شيءٌ لا تريده؟ تقول هذا بيتي لا أسمح، أُدخِل من أشاء وأُخرِج من أشاء، هل يُقبَل أن يجري في مُلك الله شيءٌ لا يريده الجليل جلَّ جلاله؟ مستحيل، ولكنه جلَّ جلاله يُهيئ الأمور، ويُهيئ النفوس، ويُمحّص المؤمنين، ويمحق الكافرين.
أيُّها الإخوة الكرام: نحن في الدنيا نملِك الأشياء، لكن مُلكنا ناقص، هبّ أنك تملِك بيتاً، سأسألك الآن وأسأل نفسي، هل أضمن أو تضمن بعد دقيقةٍ واحدةٍ من الآن، أن يكون البيت الذي تملكه مُلكاً لك؟ ستقول لا، إذا توقفت ضربات القلب لم يعُد البيت مُلكي، كل ما أملكه ذهب عنّي، هل أنت من أنشأ البيت؟ لا، هل تملِك حقّ التصرُّف فيه بشكلٍ كامل؟ تقول لا هناك حدود، الله تعالى جلَّ جلاله ملَكَ الأشياء كلها والكون كله، خلقاً فهو الذي خلقه، وتصرُّفاً فهو يتصرَّف به كيفما يشاء، ومصيراً، خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)
(سورة مريم)

فهذا هو المُلك الحقيقي (ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ).
ثم يأتي المولى جلَّ جلاله بآيتين تقلِبان الآية كلها، في الأصل ثُلةٌ مؤمنة أُحرِقت، وطُغاةٌ متكبرون تغطرسوا أكثر وأكثر، هذا هو المشهَد الذي شاهدته الأعيُن، لكن القرآن الكريم يقول:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)
(سورة البروج)


الجزاء من جنس العمل:
هؤلاء هُم المُحرَقون وليس من وضِعوا في الأخدود (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) وجاءت بكلمة الحريق لأنَّ الجزاء من جنس العمل، هؤلاء هُم المُحرَقون وليس من أُحرِقوا في الدنيا، حريق الدنيا نارٌ ألمها شديد لكنه إلى زوال، مهما امتدَّ الزمن دقائقٌ وينتهي، هذا حريق الدنيا أمّا حريق يوم القيامة:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)
(سورة النساء)

إلى أبد الآبدين هذا حريق الآخرة، نار البشر مهما اشتدَّت قوّتها فكم تبلغ؟ أمّا نار الله الموقدة، فما بالك بنار الله؟
(ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ) الحطب الذي أُشعِل، وفي قراءةٍ: "النار ذات الوقود" أي ذات الاشتعال الشديد، في قراءة حفصٍ: النار ذات الوَقود، يعني ذات الحطب الذي وضع فيها حتى اشتعلت، أمّا نار جهنم:

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)
(سورة البقرة)

فانظُر إلى نار الدنيا ونار الآخرة.
أيُّها الإخوة الكرام: هذه صورةٌ (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) إبراهيم عليه السلام وضِعَ في النار لكن النار لم تحرقه:

قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ(69)
(سورة الأنبياء)


أنت في كل الأحوال مع الله رابح:
أصحاب الأخدود وضِعوا في النار فأحرقتهم النار، وكان جلَّ جلاله قديراً على أن يقول لها كوني برداً وسلاماً عليهم، ليُعلِّمنا المولى جلَّ جلاله، أنه سواءً أذِنَ الله تعالى لك بفرجٍ في الدنيا أو بنجاةٍ أو لم يأذن، فأنت في الحالين مع الله رابح.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)
(سورة آل عمران)

فنحن عملُنا لله، سواءً أحرقَت النار أو لم تُحرِق، سواءً فُلِق البحر كما فُلِق لسيدنا موسى أو شُقَّ الأخدود كما شُقَّ لهذه الثُلة المؤمنة، فالثواب ليس في الدنيا، والعقاب ليس في الدنيا، الثواب والعقاب يوم القيامة، ثم يقول المولى جلَّ جلاله في الصورة المقابلة:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11)
(سورة البروج)

مَن الذي يقول ذلك الفوز الكبير؟ الكبير، أنت إذا قال لك طفلٌ معي مبلغٌ عظيم، فبكم تُقدِّره؟ عشرين ألف ليرة بالنسبة له مبلغٌ عظيم، وإذا قال مَلِكٌ من الملوك: أعددنا للحرب مبلغاً عظيماً، فبكم تُقدِّره؟ بالمليارات، المولى جلَّ جلاله هُنا يقول عن هؤلاء الثُلة المؤمنة الذين مضوا إلى ربهم، يقول: (ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) الكبير جلَّ جلاله يصف الفوز بأنه كبير فما عساه يكون؟
أيُّها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.
اللهم إنَّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم كُن لأهلنا في غزَّة وفي فلسطين، عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم أنزِل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم أنت أعلم بحالهم، قد تخلَّى عنهم البعيد والقريب وأنت على كل شيءٍ قدير، فكُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيداً وأميناً.
اللهم سدِّد رميهم ورأيهم، اللهم سدِّد رميهم ورأيهم، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم عليك بهم وبمَن والاهم وبمن أيدَّهم وبمَن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهم يا أرحم الراحمين.
اللهم كُن لأهلنا في غزَّة، أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوِ غريبهم، واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا، وهيئ لنا سبيلاً لنصرتهم يا أرحم الراحمين.
اجعل بلادنا أمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، ووفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، واصرِف عنّا كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وتآمُر المُتآمرين، والحمد لله ربّ العالمين.