ذلك يوم التغابن

  • خطبة جمعة
  • 2025-05-23
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

ذلك يوم التغابن

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آل نبينا محمد، وعلى أصحاب نبينا محمد، وعلى أزواج نبينا محمد، وعلى ذريِّة نبينا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الأحباب: باع رجُلٌ أرضه وقبض ثمنها عشرة آلاف، وبعد شهرٍ واحد صدرت قراراتٌ تنظيمية جديدة، فارتفع سعر الأرض إلى مئة ألف، شعر الرجُل بغبنٍ عظيم.
اشترى رجُلٌ سلعةً دفع ثمنها مئة، ثم تبيَّن له أن ثمنها الحقيقي عشرةٌ فقط.
دفع شابٌ ثمانية آلاف بدلاً عن الخدمة العسكرية الإلزامية، وبعد أيامٍ فقط سقط النظام المجرم وأُلغيت الخدمة العسكرية الإلزامية بالكامل، إنه مغبون أليس كذلك؟
حصل طالبٌ في امتحانات الثانوية العامة على سبعٍ وتسعين ونصف بالمئة، كان يحلم أن يدرس الطب، ولمّا صدرت المُفاضلة كانت علامات كلية الطب ثمانين بالمئة، فشعر الرجُل بغبنٍ عظيم.

الغبن هو النقص:
أيُّها الإخوة الكرام: الغبن هو النقص، وفي البيع والشراء يُثبت جمهور الفُقهاء الخيار للمغبون، لو أنَّ إنساناً اشترى سلعةً فغُبن فيها، هناك في الشرع خيار الغبن، إن كان المغبون جاهلاً بالسوق والأسعار، وكان الغبن فاحشاً كبيراً، أمّا يوم القيامة فليس هناك خيار الرجوع للمغبون، مع أنَّ الغبن فاحشٌ جداً عظيم، أتدرون لماذا؟ لأن الأمور كانت واضحةً في الدنيا، ولأن رحمة الله واسعة، والحسنة عنده بعشرة أمثالها ويزيد، والسيئة بمثلها ويعفو، وكما في الحديث الصحيح:

{ عَنْ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما يَرْوِي عن رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالَى، قالَ: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذلكَ، فمَن هَمَّ بحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ عزَّ وجلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَناتٍ إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إلى أضْعافٍ كَثِيرَةٍ، وإنْ هَمَّ بسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْها، كَتَبَها اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كامِلَةً، وإنْ هَمَّ بها فَعَمِلَها، كَتَبَها اللَّهُ سَيِّئَةً واحِدَةً. وفي رواية: وزادَ: ومَحاها اللَّهُ ولا يَهْلِكُ علَى اللهِ إلَّا هالِكٌ. }

(صحيح مسلم)

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)
(سورة المؤمنون)

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ۖ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ(37)
(سورة فاطر)

وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ(10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)
(سورة المنافقون)

ليس هناك رجوع، مهما شعرت بالملل، ومهما شعر العاصي بالغبن، ومهما شعر أهل النار بحرقها وعذابها، ليس هناك رجعةٌ إلى الدنيا، خيار الرجوع مغلق، لأن الطريق كانت واضحة، ولأن المُدَّة كانت كافية، ولأن رحمة الله كانت وما زالت واسعة.

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(28)
(سورة الأنعام)

ولو رُدّوا إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه من المعصية والكفر والنفاق (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

الغبن الحقيقي يكون يوم القيامة:
أيُّها الإخوة الأحباب: الغبن في الدنيا مهما يكن فاحشاً في نظر المغبون، فهو يسيرٌ مؤقَّت، والندَم عليه مهما يكن عظيماً، فإنه ينتهي بعد ساعات، أو أيام، أو أشهُر، أو قُل سنوات، كم ندمنا على أشياءٍ ثم تبيَّن لنا أنَّ الخير فيما حصل، وكم ندمنا على أشياءٍ ثم بعد أن تقدَّم بنا العُمر، ضحكنا من جهلنا و ضيق أُفقنا وضحالة اهتماماتنا.
الندَم مؤقت والغبن مهما كان فاحشاً فهو إلى زوال، الغبن الحقيقي يكون يوم القيامة، والندَم الذي لا ينقضي ولا ينتهي، يوم يبعثنا الله ليوم الجمع لا ريب فيه

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)
(سورة التغابن)

( ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) جملةٌ اسمية، المبتدأ ذَٰلِكَ ، الخبر يَوْمُ التَّغَابُنِ ، المبتدأ معرفة والخبَر معرفة، وإذا كان المبتدأ معرفةً والخبَر معرفةً فهذا أسلوبٌ من أساليب الحصر والقصر، أي ليس هناك غبنٌ في الدنيا، لا تلتفتوا إلى غبن الدنيا، مهما بلغت، لو خسرتَ مليوناً، هذا ليس يوم التغابُن، متى يوم التغابُن؟ يوم القيامة هو يوم التغابُن، هو يوم الغبن الحقيقي الذي يشعر فيه الإنسان الذي فرَّط بعمره من أجل لذةٍ طارئة، فرَّط بآخرته كلها، وخسر الآخرة بعد أن خسر الدنيا ( ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) يقول صلى الله عليه وسلم:

{ لا يدخلُ الجنةَ أحدٌ إلا أُرِي مقعدَه من النارِ لو أساء ليزدادَ شكرًا، ولا يدخلُ النارَ أحدٌ إلا أُرِي مقعدَه من الجنةِ لو أحسنَ ليكونَ عليه حسرةً }

(أخرجه البخاري)

بعد أن يدخل الجنَّة، يُريه الله تعالى مقعده من النار لو أساء ليزدادَ شكراً (لا يدخلُ الجنةَ أحدٌ إلا أُرِي مقعدَه من النارِ لو أساء ليزدادَ شكرًا، ولا يدخلُ النارَ أحدٌ إلا أُرِي مقعدَه من الجنةِ لو أحسنَ ليكونَ عليه حسرةً)، (ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ).
في يوم التغابن لربما يرى العزيز المخدوم، خادمه متوجهاً إلى الجنَّة مُكرَّماً مُعزَّزاً، بينما هو يُساق إلى النار، في يوم القيامة يوم التغابُن ولا يتألّى على الله، سيرى المجرمون، سيرى الصهاينة المعتدون، أهل البلاء والصبر

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ(47)
(سورة الحجر)

يتقلبون في النعيم، بينما هُم يُقادون إلى النار

ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ(49)
(سورة الدخان)

في يوم التغابُن في يوم القيامة

خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ(3)
(سورة الواقعة)

كم سترفع أقواماً كانوا في نظر الناس مخفوضين في الدنيا، وكم ستخفِض أقواماً نظر الناس إليهم على أنهم الأقوياء والأغنياء (خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ).
في يوم التغابُن سيرى المجرمون أَسراهم في سجون الدنيا أحراراً، يتبوؤن من الجنَّة حيث يشاؤون، وهُم من أَسروا الأسرى في السجون سيكونون مُكبَّلين بالقيود

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)
(سورة الحاقة)

(ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ).
في يوم التغابُن:

{ يأتي المقتولُ مُتعلِّقًا رأسُه بإحدى يدَيه، مُتلبِّبًا قاتلَه باليدِ الأخرى، تشخبُ أوداجُه دمًا، حتى يأتيَ به العرشَ، فيقول المقتولُ لربِّ العالمين : هذا قتلَني : فيقول اللهُ للقاتلِ: تعِستَ ويُذْهَبُ به إلى النَّارِ }

(الألباني صحيح الترغيب)

(ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ).

الدرجات في الدنيا متعددة:
أيُّها الإخوة الكرام: الدرجات في الدنيا متعددة

انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)
(سورة الإسراء)

انظر إلى الناس اليوم في الدنيا كيف فضَّل الله بعضهم على بعض، انظر إلى مَن يملِك المليارات ولا يدري ماذا يفعل بها، وانظر إلى عاملٍ بسيطٍ لا يكاد يكفيه دخله قوت يومه (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ).
انظر إلى الوزير في منصبه وفي مكتبه، وانظر إلى الحاجب على باب الوزارة (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ).
انظر إلى مَن يملِك الأسلحة الفتَّاكة، ومن ينتظرها في الخيام لا يردي متى تسقط عليه (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ).
انظر إلى ممرضٍ في قريةٍ بعيدةٍ نائية، وانظر إلى طبيبٍ في أضخم مشفىً جراحيٍ في البلد.
انظر إلى مدرسٍ بسيطٍ في ابتدائيةٍ في قريةٍ بعيدة، ثم انظر إلى بروفيسور في أرقى جامعة (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ).
لماذا أنظُر؟ حتى أعرف ماذا في يوم التغابُن (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).
كل ما رأيته من التصوير في الدنيا بين الخلائق، ليس شيئاً أمام ما سيُفضِّل الله به الخلائق يوم القيامة، لكن بمقاييس مختلفة، بمقاييس الإيمان والتقوى والعمل الصالح.

ليس كل تفضيلٍ يقتضي الأفضلية:
في الدنيا أيُّها الكرام: ليس كل تفضيلٍ يقتضي الأفضلية، أنت أبٌ لديك ولدان، الأول متفوِّقٌ جداً وعلاماته مئةً بالمئة دائماً، والثاني ضعيف لا يكاد يأتي بالخمسين بالمئة، فضَّلت الثاني على الأول فأتيت له بمُدرسٍ خاص، وفرَّغت له غرفةً خاصة، ووضعت له جائزةً إن تحسَّن مستواه إلى السبعين بالمئة، فضَّلته لكن هل هو أفضل عندك من أخيه الأول؟! لا وألف لا، لربما كان الأول المُتفوِّق أفضل عندك، فليس كل تفضيلٍ في الدنيا يقتضي الأفضلية.
هذا قارون فضَّله الله على قومه بالمال:

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)
(سورة القصص)

فضَّله الله لكن هل لأنه يُحبه؟ لا والله، لكن فضَّله بالمال على قومه امتحاناً له وامتحاناً لقومه، ثم خسف به وبداره الأرض، وانتقل حال قومه من قائلٍ يقول:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)
(سورة القصص)

إلى قائلٍ يقول:

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)
(سورة القصص)

(انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

من مشاهد التغابُن يوم القيامة تابِعون ومَتبوعون:
من مشاهد التغابُن يوم القيامة، تابِعون ومَتبوعون، المَتبوعون مُتجبِّرون متغطرسون، أخذهم الكِبر وأخذتهم العزة بالإثم، يتبعهم أقوامٌ كثيرون، يظنون أنَّ عندهم المال والجمال والكمال، عندهم ما يُسعدهم في حياتهم، تَبِعهُم خَلقٌ كثيرون، وكنت إذا قلت لقائلهم كيف تتَّبِعه وهو على باطل؟! قال لك أحدهم: أنتفع منه، وقال لك الآخر: أنا عبدٌ مأمور ماذا أفعل، ليس عليّ إثم الإثم عليه، هو أمَرَني أن أفعل ففعلت، أنا تابع، هُم المتبوعون، في يوم التغابُن:

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(166)
(سورة البقرة)

ومن شدة شعورهم بالغبن:

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(167)
(سورة البقرة)

من مشاهد يوم التغابُن أنَّ أصحاب الجنَّة في الجنَّة، وأصحاب النار في النار يتكلمون مع بعضهم:

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44)
(سورة الأعراف)

وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50)
(سورة الأعراف)

أي غبنٍ هذا؟ أي ندم؟! لو قارنته بندم أهل الدنيا كلهم، بندم واحدٍ من أهل النار، لرجحت كفَّة النادم يوم القيامة، على كل من ندم في الدنيا، على كل ما فاته من الدنيا ( ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ).
من مشاهد التغابُن يوم القيامة:

{ يجيءُ المقتولُ متعلِّقًا بقاتلِهِ يومَ القيامةِ ، آخذًا رأسَهُ بيدِهِ الأُخرى فيقولُ: يا ربُّ، سَل هذا فيمَ قتلَني؟ قال: فيقولُ: قتلتُهُ لتكونَ العزَّةُ لَكَ، فَيقولُ: إنَّها لي، قالَ: ويَجيءُ آخرُ متعلِّقًا بقاتلِهِ فيقولُ: ربِّ سل هذا فيمَ قتلَني؟ قال: فيقولُ قتلتُهُ لتكونَ العزَّةُ لفلانٍ، قالَ: فإنَّها ليسَت لَهُ فيبوءُ بإثمِهِ، قالَ: فيَهْوي في النَّارِ سَبعينَ خريفًا }

(أخرجه النسائي والطبراني )

لتكون العزة لفلان، لطُغاة الأرض ( ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ).

الثلاثية العملية التي نخرج بها من هذه الخطبة:
أيُّها الإخوة الأحباب: الثلاثية العملية التي نخرج بها من هذه الخطبة إن شاء الله:
أولاً: الدنيا زائلة اعمل فيها ولا تعمل لها، لا تترك العمل فيها لكن إياك أن تعمل لها، كلاهما خطأ، ترك العمل فيها خطأ والعمل لها خطأ، ترك العمل فيها يعني أن يأخذها غيرنا، ثم يتحكم بنا من خلالها، والعمل لها يعني ضياع الآخرة وضياع الأبد، من أجل سنواتٍ معدودة.
الدنيا زائلة اعمل فيها ولا تعمل لها، علِّق القلب بالآخرة، لا تندم على شيءٍ فاتك من الدنيا، إلا بقدر ما يُسقِط حالك فيها، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال:

{ اللهمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، و أَصْلِحْ لي دُنْيايَ التي فيها مَعَاشِي، و اجعلِ الموتَ رحمةً لي من كلِّ سوءٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

لا تندم كثيراً على ما فاتك من الدنيا فإنها زائلة، والندم على الزائل عبثٌ لا شيء بعده.
الثانية:

{ قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (اتَّقوا النَّارَ) ثمَّ أعرَض وأشاح حتَّى رأَيْنا أنَّه يراها ثمَّ قال: اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ }

(أخرجه البخاري ومسلم والنسائي)

التغابُن هناك عظيم يا كرام، ما يشعر به أهل النار من الغُبن يوم القيامة عظيمٌ جداً جداً (اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ) ولو بصدقةٍ تدفعها.
الثالثة: يجب أن نعمل في الدنيا لأعلى درجات الجِنان، لأنَّ التغابُن ليس فقط أنه دخل النار فشعر بالغبن الشديد، قد يدخل الجنَّة ويشعر بالغبن كيف؟
دخل فكانت درجته هنا، ونظر فوجد الدرجات العُلا فوقه ما لا حدَّ له ولا حصر فيشعر بالغبن، لكن قال أهل العِلم ليس بعد دخول الجنَّة شعورٌ بالغبن، يشعر بالغبن عند العرض والحساب، يجد الناس أفواجاً، هؤلاء مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وهو في مرتبةٍ أدنى فيشعُر بالغبن.

{ مَن صَلَّى الصَّلَواتِ الخَمسَ، وحَجَّ البَيتَ، وصام رَمضانَ -ولا أدري أذَكَرَ الزَّكاةَ أم لا؟- كان حَقًّا على اللهِ أنْ يَغفِرَ له إنْ هاجَرَ في سَبيلِه، أو مَكَثَ بأرضِه التي وُلِدَ بها، فقال مُعاذٌ: يا رسولَ اللهِ، أفأُخبِرُ النَّاسَ؟ قال: ذَرِ النَّاسَ يا مُعاذُ، في الجنَّةِ مِئةُ دَرَجةٍ، ما بيْنَ كلِّ دَرَجتَينِ مِئةُ سَنةٍ، والفِردَوسُ أعلى الجنَّةِ وأَوسطُها، ومنها تَفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ، فإذا سَأَلتُم اللهَ فاسأَلوه الفِردَوسَ. }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد)

يُعلِّمنا النبي صلى الله عليه وسلم الطموح، لا تقُل أُريد أن أدخُل الجنَّة خلف الباب، لا، أُريد الفردوس الأعلى من الجنَّة، وأن أعمل لهذا الفردوس بالصدقات، بقيام الليل، بالإنفاق في سبيل الله، بمعونة الناس، بالوقوف في بناء دولتك ووطنك، بأي عملٍ اعمل للفردوس الأعلى من الجنَّة.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)
(سورة الملك)


اسألوا الله الفردوس الأعلى من الجنَّة:
ما قال ليبلوكم من ينجح ومن يخسر، لا تضع حساب النار أو حساب الخُسران ضمن حساباتك، أنت خلقت للجنَّة، لكن ما أقول ذلك لا تجعل النار في حسابك بمعنى التهاون عن العمل، لا، بمعنى الطموح، اسألوا الله الفردوس الأعلى من الجنَّة.

{ إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ، كما يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ في الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أوِ المَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ ما بيْنَهُمْ. قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، تِلكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قالَ: بَلَى، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا باللَّهِ وصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ. }

(أخرجه مسلم)

كيف ينظر الإنسان في الأُفُق فيرى عن بُعد الكوكب الدرّي، من المشرق أو المغرب، يتراءى أهل الجنَّة أصحاب الغُرف في أعالي الجنَّة ينظرون إليهم لتفاضُل ما بينهم، كأنه ينظر إلى الكوب الدرّي في السماء، بعيد، المركبة بعيدة جداً بينه وبين أصحاب الغُرف، انظروا إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الطموح عندهم: (قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، تِلكَ مَنَازِلُ الأنْبِيَاءِ لا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قالَ: بَلَى، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا باللَّهِ وصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ) ليس في الأنبياء فحسب، يبلغون هذه المنزلة في الغُرف في أعالي الجنَّة.
الثلاثية العملية:
لا تعمل للدنيا اعمل فيها، ولا تندم على شيءٍ فاتك منها إلا لتدري ما يُصلِح حالك فيها، لتصحيح الخلل دون استمرارٍ في الندم.
الثانية: فلنتَّقي النار ولو بشقِّ تمرة، والثالثة فلنعمل لأعالي درجات الجِنان في الفردوس الأعلى، اللهم اجعلنا من أهل الجنَّة.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاك وأنت راضٍ عنّا، لا إله إلا أنت سبحانك إنَّا كنّا من الظالمين، وأنت أرحم الراحمين.
وارزقنا اللهم حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبنا عليك اتكالنا.
وارزقنا الفردوس الأعلى من الجنَّة، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا.
اللهم أهلنا في غزَّة، كُن لهم عوناً ومُعيناً، حافظاً ومؤيداً ونصيراً.
اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين المجرمين، ومَن أيَّدهم ومَن وقف معهم في سرٍّ أو علَن.
اللهم مُجري السحاب مُنزِل الكتاب هازِم الأحزاب سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين المجرمين وانصرنا عليهم يا أرحم الراحمين.
اللهم إنهم قد طغوا في البلاد فأكثرو فيها الفساد، وقالوا من أشدّ منّا قوة وقد غاب عنهم أنك أشدّ منهم قوة، فأرِنا مكرك فيهم كما أريتنا مكرهم فينا، إنك خير الماكرين.
اللهم إنّا نسألك أن تُطعِم الجوعى من أهل غزَّة، وأن تكسو العُراة، وأن ترحم المُصابين، وأن تأوي الغرباء، وأن تحمي الحُفاة، وأن تجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً، وأن تغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا.
اللهم إنّا نسألك لهذه الأمة أمر رشدٍ، يُعَز فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل عصيانك، ويؤمَر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المُنكر، ونسألك لبلادنا أمناً وسلاماً ورخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأن توفِّق القائمين عليها لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، أستغفر الله، والحمد لله رب العالمين.